مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 4482 - 2014 / 6 / 14 - 13:15
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
شهادة حية من الداخل السوري : الروائية سمر يزبك – 2
الضمير الأنثوي الصادق يتكلم ويبوح ويوثّق ..
لا بد للحقائق أن تُكشف مهما تأخرّت
مقدمة
لقد قرأت بألم ودمعة حارقة للكاتبة سمريزبك قبل الثورة بوقت , روايتها : رائحة القرفة – حيث سردت فيها ونقلت لنا عالمين في دمشق وسوريا عامة , العالم أو المجتمع المُخملي البرجوازي الثري الضائع في القشور واللهو وعلاقات الشذوذ لدى نساء وشابات الجيل , والعالم النقيض عالم الصفيح وأولاد القُمامة والفقروالبطالة وكل ما يفرز نظام الإستبداد والفساد والقمع .
واليوم توثّق لنا عن قرب أحداث ثورة فريدة في انطلاقتها وشعبيتها , عفويتها واستمرارها , وفدائييها وأبطالها نساءًا ورجالاً , لنرى معاً اصدقائي زملائي القرّاء بعض الصور والحقائق التي باحت وتكلمت عنها كاتبتنا المحترمة سمر يزبك ..
نواصل في هذه الحلقة الثانية عن حوادث شخصية مهمة جرت معها , هي نموذج لما حصل ويحصل مع شعبنا منذ حوالي نصف قرن في باستيل الأسد ونظامه النازي :
- ( ....ينتهي هنا حديث الصديقة ووصفها لما حدث وأعود لقلقي , أفكر بخيوط حياتي الغريبة والمتشابكة , وفي القدر الغريب الذي وضعني على تماس مباشر مع حالة انفجار , وفي الجنون الذي مشت فيه حياتي , منذ أن بلغت الرابعة عشرة من عمري وحتى الاّن , والغريب والطريف أني كنت أفكر أني في مكان لا يشبه أي مكان ولا حتى الرغبة بالتغيير , أو الإنحياز لطرف ما . أنا في مكان يشبه سخرية القدر , او تهكم الموت بالحياة , أنا في مكان مضحك وغارق في سوداويته , فلو عرفت أجهزة الأمن السورية قبل أن تفبرك عني في مواقعها الالكترونية المسماة بعدة تسميات , عن قرابتي باسمة بن لادن ربما لاستخدمته ضدي ! ) .
- كل مواطن سوري يخرج عن جلباب و معطف الطائفية المذهبية والسياسية الضيقة البغيضة يُشهّر به ويُحارب ,
هكذا سياسة النظام الإستبدادي , أو الأحزاب الشوفينية غير الديمقراطية تدفع بالمرء للإصطفاف الأعمى وراء التعصب والإحتماء بالطائفة أو الحزب والقائد غير الشرعي , بدل المواطنة والقانون ,, أجل , نحن في أوطان تحتقر الفكر ووجود المعارضة وحرية الإختيار وقناعة الموقف الحر - لكن العنيدين لا يتجاوبوا لهذه التهديدات وسياسة الإغراءات الفاشلة ..!
- ----
( أضحك وأنا أشرب قهوتي , أنا الاّن هنا في بيتي المعلق على سطح مواجه للحمرا . أعيش بقلق وخوف وألاحق ابنتي خوفاً عليها من التهديدات التي كانت تصلني عبر الإيميل وعبر التلفونات , رغم أني التزمت الصمت الظاهر, لكني خائفة فانا ابنة عائلة علوية معروفة , وهي عائلة موالية للنظام بشكل مطلق , وتعتبرني الاّن خائنة وعاراً عليها , حتى أن البعض من العائلة كتبوا على الفيس بوك معلنين في جبلة , أنني لا أنتمي إليهم وتبرأوا علانية مني . لم يكن هذا هو أول إعلان لهم . فأنا تركت بيتي عندما كنت في السادسة عشرة , وسببت لهم حسب أعرافهم الإجتماعية الفضائح المتكررة , انا المنذورة للحرية غامضة في الحياة , لم أهتم يومًا لهم . كانت عائلتي الصغيرة تعنيني وأمي وأبي وإخوتي رغم خلافي المستمر معهم , فقد كنت أرتبط بهم بشكل عاطفي كبير , كان يكفيني أن أذكر هذه الأيام عينا أمي تبكيان لأغرق في نوبة بكاء هستيرية .
كان يكفي أن أفكر بأن النظام جعل من العلويين دروعاً بشرية له , حتى أعود وأغرق في نوبة كاّبة لا اّخر لها , كان ما يحدث في سوريا كلها بحدودها الأربعة يحدث ضدّي !
في كل ما حدث كنت الخاسرة الكبرى بين أهلي وأصدقاء طفولتي , وبين الحق والعدل , كنت الميتة الأكثر حضوراً . كانت حياتي تنشق ودفعة واحدة الى الأبد , كنت وحدي أنا الراوية الأكثر حقيقة التي سأكتب عنها في يوم من الأيام إذ قدّر لي العيش , أنا من سأحتفظ بكثير من الأسرار عن العوائل العلوية التي انحرفت عن مسارها الديني وخرّبت الطائفة العلوية .
-----
الضمير الانثوي يتكلم
الضمير الوطني يحرّر الحقائق مرحى لك يا ابنتي وهذا نصر للأحرار والمناضلين الوطنيين والثورة وشهداء الحرية .
فصل مثير ودامع لمعاملة أجهزة القمع الوحشية - لمن يفضح سياستهم ولا يسير في ركبهم - خاصة من منطقتهم - التي اختبرناها شخصياً عن قرب منذ عقود مضت كما اختبرتها كاتبتنا هي أيضاً .
------
تواصل الكاتبة سمر في سردها :
(... كتبت منذ أسبوع تقريباً على صفحتي في الفيس بوك : " كان جدّنا عزيز بك هواش , هو الزعيم الذي رفض إقامة الدولة العلوية بطلب من فرنسا , حفاظاً على وحدة سورية . وكان جدي عثمان من جهة أمي من قام بمقاومة العثمانيين , وله بطولات يعرفها أهل الجبل والساحل , أما جدي ابراهيم صالح يزبك, فقد تخلى عن ممتلكاته وأراضيه للفلاحين , كان هذا قبل الستينيات نعم , أنا حفيدة هؤلاء الرجال وحفيدة المكزون السنجاري والخصيبي وأخوان الصفا والمتنبي , أنتم أحفاد حق ولستم أحفاد باطل " .
كان هذا التعليق هو الذي فجّر الأمور أكثر لدى العائلة ولدى رجال الأمن أيضا وأعلنوا مرة ثانية البراءة مني , أنا المهرطقة الخائنة .
لم تكن عائلتي فقط من أعلنت ذلك , العديد من عوائل القرية أعلنت براءتها مني , وانهالت علي رسائل التهديد والإتصالات البذيئة . وتم استدعائي من جديد من قبل ضابط الأمن الكبير .
أردت من هذا التعليق التذكير مرة أخرى بواقع العلويين الفعلي , وهذا ما فعلته عندما كتبت من قبل : عندما خيّر الإمام علي بن ابي طالب بين الحق والسلطة اختار الحق ودفع حياته ثمناً .
كنت أرسل هذه الرسائل إلى البعثيين ورجال الأمن من العلويين , الذين قاموا بتوزيع المنشورات عني في جبلة والقرى المحيطة بها لتحريض الناس على قتلي ونبذي . كنت أرسل رسائل أيضا عبر الحوارات واللقاءات مع بعض رجال الدين العلويين , ولكن عبثاً كان الوضع يزداد سوءاً .
في اللقاء الأول مع الضابط الكبير , وصلتُ هناك وأنا شبه منهارة , لأن الرجلين الإثنين اللذين اصطحباني في السيارة البيضاء من البيت قاما بعصب عينيّ , وهو أمر استغربته .
فكرّت أني لم أخبر أحداً , وكانت إبنتي ما تزال في القرية و وقلت لا بد من اعتقالي سيكون وشيكاً , وسيكون طويلاً .
وصلت إلى مكان غريب , وربما كان المكان في المزّة , لم أعرف . لكني وجدت نفسي في مكتب عريض , وكان الضابط الكبير و نظر إليّ بازدراء , وتفحّصني بقرف , وكأنه أمام حشرة مفعوسة . أو ربما هو أمام جثة متحللة .
ثم اقترب مني , وأمسكني من معصمي , يدي تنسحق , وصار جلدي يحرقني , وفجأة هوى بصفعة على وجهي , أوقعتني أرضاً , ثم بصق علي , وقال يا " جربانة " . كانت عيناي مغمضتين , وأسمع دوياً حاداً في أذني من أثر الضربة , وشعرت أني افقد توازني , شعور يشبه الرجفة . لم أنهض , لم أستطع . صرخ بي لأقف , لكني فعلاً لم أستطع , جسدي هش , فقدت توازني . يا للسخرية , صفعة واحدة تجعلني أقع أرضاً . صرخ : انهضي , لم أتحرّك , ورميت رأسي إلى الوراء , وأغمضت عيني , قلت لنفسي , لن أقوم , وليفعل ما يفعل , كانت السكين التي أحملها في حقيبتي تحت صدريتي , السكين الكبّاس الصغيرة نفسها , وفكرت أنه إذا أراد إهانتي هو أو اي شخص , لن أنتظر وسأغرس السكين في قلبي . كنت حتى تلك اللحظة أعتقد أني سأعتقل لوقت طويل , فقد عرفت أن غضبهم مني كان يفوق كل غضب . سمعت أصوات قدميه , وشعرت بيده تمتد وتنهضني , لم أشعر كيف أجلسني على الكرسي لكن رأسي وقف , وعندما اعتدلت توقفت الأرجحة داخل راسي ضحك : " يا سلام على هيك بطلة من كف واحد رحتي " . وضحك و فتحت عيني , لم أبكِ , كنت أريد أن أبكي , فالصفعة كانت مُهينة و لن أدعه يرى دموعي , حدّقت فيه . قال , بعد أن مرّر إصبعه على خدي , : " مو حرام هيك وجه ملائكي ينضرب " . صفعني ثانية , ثم رجع إلى كرسيه , وبدأ حديثه الطويل عن صلة الدم والقربى وعن العائلة وعن الخيانة , والموشّح نفسه الذي أسمعه منذ سنوات عن خيانتي وعن العار الذي اسببه لمن حولي , عندما انتهى كنت أحدّق بكفّه وأصابعه التي أشعر أنها تركت اّثاراً على خدي , اّثاراً حمراء ستتحول إلى زرقاء خلال يومين .
قال : " القط أكل لسانك ؟ لسانك الطويل اللي بدّي شيلو " .
صفعني ايضاً الصفعة كانت أخف , وقفت وأخرجت سكيني , وأشهرتها بوجهه , وقلت له إن كان سيستمر بضربي فسأغرس هذه السكين في قلبي , ولن أسمح له أو لغيره بإهانة كرامتي . وقف مصعوقاً ينظر إلى السكين السوداء , إبتعد عني خطوات , وأنا كنت قد ضغطت الزر وأخرجت السكين من مخبئها , ووضعتها ملامسة منتصف قلبي الذي بدأت أسمع ضرباته .
صمت ثقيل , وهو ينظر مدهوشاً و اقترب ثانية فتراجعت خطوة وقلت : " لا تقترب " , فتوقف
كان ينظر بذهول وأنا أنظر اليه وعيناي لا ترفّان صرختُ : شو بدّك ؟ قال نحن خايفين عليك أنت لاحقة ناس إسلاميين سلفيين وتصدقين ما يحكونه قلت له لم يكونوا سلفيين وانا وأنت تعرف ذلك , قال : إذا بقيتي تكتبي رح اخفيكي عن وجه الارض , قلت : اخفيني , كان صوتي قد ارتفع قال : لست أنت فقط , بل ابنتك أيضا , حينها توقف قلبي عن الخفقان , قال : بعد أن جلس وراء كرسيه اتركي هالسكين يا مجنونة , فنحن ناس شرفاء ولا نؤذي دمنا , لسنا مثلك خونة , أنت عار على العلويين .
المهم الاّن أن لديك ما تقومين به , لم أجب , قال : تظهرين على الفضائية السورية , وسنتفق على ما تتحدثين عنه ---- , صرختُ قبل أن يكمل , لن أفعل حتى لو قتلتني بيديك أجبت وأنا أحدّق بعينيه , وصوتي الحاد جعله يغضب , لا تكمل , لن أفعل , أتركوني في حالي , صرخ , وأنت اتركينا في حالنا .
صمتُّ , قال : وهذه المقالات , والفيسبوك , وحركاتك والتظاهرات , قلت : أنا أنحاز للحق , ضحك ضحكة مجلجلة ونظر إليّ بشفقة : ظز, ظز , قال .
أعدت سكيني إلى مكانها , عرفت أنه لن يؤذيني هذه المرة على الأقل , ساعرف لاحقاً أنني كنت مدلّلة عندهم , عندما أبدأ بتجميع شهادات المعتقلين والمعتقلات , رنّ هاتفه , خرج ولم يتحدث أمامي , عاد بعد دقائق كنت خائفة , قال : هذا اّخر تحذير وبعد الّان أنت في صف الأعداء .
قلت : أنا لست في صف أحد , انا في صف الحقّ , ضحك ساخراً , وقال : والله رح خلي الناس تبصق عليك في الشوارع , رح خلي المعارضة أصحابك يبصقوا عليك , وخليكي تبلعطي مثل السمكة برّا الميّ , قبل ما أسجنك روحي يلاّ . )
( دخل رجلان ضخمان الغرفة . كانا واقفين باستعداد . يرتديان ثياباً مدنية , أحدهما يقف إلى اليمين والاّخر غلى اليسار . اشار الضابط الكبير إليّ , فأنهضني الرجلان , لم يفعلا ذلك بعنف . أمسكاني وكأني شئ ما , يسهل تحريكه . عندما قاما برفعي من كتفي عن الكرسي , لم أقاوم , وقفت ايضاً , واستغربت ما يحصل , هل سيقومون باعتقالي أخيرا وأنتهي من هذا الكابوس ؟ سيكون ذلك أسهل علي من هذا الجنون . نظر إليّ الضابط باستخفاف , وأنا نظرت إليه لأ عرف ما سيحصل . كنت أحاول قراءة البشر من أعينهم ومن حركات أجسامهم وسلوكهم . كان حيادياً ويراقب نقطة ما في الغرفة الفسيحة , وضع الرجلان عصبة على عيني , وهكذا افترضت لأن سواداً غطى عالمي فجاة .
كنت معصوبة العينين , وأشم رائحة غريبة من قطعة القماش , ثم أمسكتني يد قوية , يد محكمة القبضة من مرفقي , وسحبتني , تحركت بتثاقل , ثم وقفت وصرخت : لوين اّخذيني ؟
رد ّبهدوء, وكأني سمعت أزيزاً ما , مشوار صغير حتى تكتبي أفضل .) .
------
هكذا تعامل الناشطات والناشطون والكتاب الصادقون والمثقفون والفنانون .. والمناضلون الوطنيون في بلادي !
لقد نقلتُ للقراء الأعزاء صورة وشهادة حية ومؤثرة في منتهى الشفافية والصدق عن بداية الثورة ونظافتها وأحرارها , صورة ناطقة عن سلوك النظام الهمجي الكاذب ضدها , ضد الثورة والثوار وتشويه وجهها الحضاري ومطالبها المشروعة كرامة حرية عدل –
أيها الصامتون عن إدانة سياسة الأسد مع الإنتفاضة والثوار وإبعاد مسؤوليته المباشرة عن سبب البلاوي الذي مرّ ويمر بها شعبنا وثورتنا , كفاكم تجريحاً وتشويهاً والسكوت عن سبب عسكرة الثورة , والنظام الإستبدادي الفاسد هو أُسّ الإرهاب وصانعه وتفريخه ليس في سوريا وحدها , بل في المنطقة كلها !
يجب أن أتابع لإنهاء هذا الفصل ,,
مع التحية للكاتبة والقراء
مريم نجمه / هولندة
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟