|
وماذا عن الثقافة السينمائية؟
حسان عباس
الحوار المتمدن-العدد: 1267 - 2005 / 7 / 26 - 11:04
المحور:
الادب والفن
بمناسبة الحديث عن واقع السينما السورية، لا ضير من التوقف برهة أمام سؤال الثقافة السينمائية. ولا نقصد من الثقافة هنا معناها الضيّق، الموروث من عصر الأنوار والذي يلخصّه قول فولتير– إن الثقافة هي ما يبقى عندما ننسى كل شيء- وإنما نقصد الثقافة بمعناها الأوسع، المعنى الأناسي (الانتروبولوجي)، الذي صاغه(إدوار تايلور)، وهو لا يقلص الثقافة إلى معرفة يكتسبها "المثقف"، وإنما يضيف إليها القيم والعادات والتقاليد والممارسات التي يعيشها الإنسان (أي إنسان) كعضو في مجتمع. من هنا ترانا عندما نتكلم عن الثقافة السينمائية لا نقصد تلك الحالة الببغاوية التي تميّز بعض المدمنين على المشاهدة السينمائية فتجعلهم يتباهون بمخزوناتهم الفيلمية الثرّة، وبمعرفتهم عن نتاج تلك الممثلة أو ذاك المخرج. هذا المخزون قد يكون مهما للتأسيس لثقافةٍ لكن هذه تتجاوزه، وإن اقتصرت عليه تحوّل هاوي السينما أو المشاهد العادي إلى مستقبلٍ سلبي منفعل لا يتجاوز انفعاله مستوى الغريزة الطبيعية. كائن عاجز عن قراءة ما يشاهد وفك طلاسمه. وكائن مستعد ليكون (موضوعا) لأي عملية غسيل دماغ مباشرة، أو عن بعد. الثقافة السينمائية التي نقصدها هنا يبدأ تعريفها من ممارسة المشاهد لحقه (أجل حق) في المتعة والتسلية أولاً، ومن ممارسته لواجبه (أجل واجب) كعضو في مجموعة اختيارية (لم يشكلها أحد بالقوة)، التقت بالمصادفة داخل صالة السينما، أو اجتمعت بالاتفاق لمشاهدة فيلم انتخبته (ناد سينمائي) ولا ينتهي التعريف بالمقدرة على قراءة الفيلم الذي يشاهده والاستمتاع به استمتاعا معرفيا و"علميا" يخرجه من حال المنفعل إلى حال الفاعل، القادر على إعادة إنتاج فيلمه بدءا من الفيلم المعروض أمامه. لا بد من الإقرار بداية أن هذا المفهوم الواسع للثقافة السينمائية لم يكن مستقرا أو على الأقل وارداً في الخلفية الذهنية لواضعي المرسوم رقم 258 لعام 1963 القاضي بإنشاء مؤسسة عامة للسينما في سورية، والمرسوم رقم 2543 لعام 1969 القاضي بحصر استيراد الأفلام السينمائية وتوزيعها بالمؤسسة إياها. لأن الثقافة السينمائية المقصودة بهذه المقالة أساسها وروحها وأفقها الحرية والتعامل الديمقراطي الحر مع النتاج الثقافي في حين أن المرسومين المذكورين كانا يرسمان لحياة أو ثقافة سينمائية مقيّدة من بابها لمحرابها (لكي لا يصيد أحد بالماء العكر نقول من البداية إن بعض الضوابط للنتاجات الفكرية والثقافية لازمة، شرط أن يحددها الشعب عبر مندوبيه المنتخبين ديمقراطياً)؛ والثقافة المقصودة هنا لا تقوم وتنمو وتتطور إلا في مجتمع مدني ديمقراطي يشارك كل المواطنين في بنائه وتحمل مسؤولياته بإرادتهم الحرة الواعية، في حين كان جوهر تفكير واضعي المرسومين إغلاق المجتمع بأسره في نطاق ثقافتهم الخاصة التي أرادوا تعميمها على المجتمع، واعتبروا كل من يحاول الخروج عنها مارقا على المجتمع ومفسدا لسلامته. تبدأ مساءلة الثقافة السينمائية من مرحلة الحضور، حين يختار المواطن فيلما معروضا في صالة ويختار الوقت الذي يناسبه. ثم يدفع ثمن البطاقة ويدلف إلى جوف الصالة الذي يضمه ويمنحه شيئا من الطمأنينة الطفلية التي يوفرّها كل فضاء مغلق تم اختياره بحرية. ما أن يجلس المواطن على الكرسي (غير المريح) في غالبية الحالات حتى تبدأ الأحاديث بصوت عال مشفوعة برنين الهواتف المحمولة تملأ الأجواء. وتنطفئ الأنوار ويبدأ العرض و لا تنتهي الأحاديث ولا يتوقف رنين الهواتف. بل وغالبا ما ينتقل الفيلم من الشاشة إلى الصالة حيث يأخذ بعض من شاهد الفيلم أكثر من مرة يستظهرون السيناريو ويستبقون الممثلين بإلقاء أدوارهم. ولا يجد هذا البعض أية غضاضة في احتكار فضاء الصالة بأصواتهم وتعليقاتهم ورنين هواتفهم دون أدنى إحساس بأن هذه المتعة العدوانية الخاصة بهم قد تكون، وهي بالفعل كذلك، انتهاكا لحق لمشاهد آخر في مشاهدة "سينما". إن سبب هذا التصرف عائد إلى غياب ثقافة المواطنة عند عدد كبير من الشباب. فالمبدأ الأساسي في المواطنة هو الكياسة الاجتماعية التي تعني في الواقع العملي اعتبار حقي في الفضاء العام هو حق استعمال وليس حق تملّك. وتعني بالتالي أن أضع من تلقاء نفسي حدودا على مُتعي، على حقوقي المستحقة، مادامت تمنع حق غيري في التمتع بمثلها. وهذه الثقافة لا تأتي بالطبيعة وإنما هي ابنة المجتمع ومؤسساته الاجتماعية وخاصة المدرسة. وبما أن سياسة التعليم في بلادنا قررت منذ عهود التخلي عن التربية الوطنية لصالح التربية القومية بشكل أولي، وبما أن المسلك الاجتماعي المهيمن في الوعي الجمعي السوري هو مسلك (الحق للقادر): القادر بماله أو بحجم وساطته أو بدرجة قرابته أو بتملكه للمفاتيح، لم يبق لدى الشباب إطار مؤسساتي قويم يعلمهم الكياسة الاجتماعية وواجبات المواطنة الصالحة. ليس في صالة السينما فحسب بل في وسائل النقل العام وفي احترام ساعات الراحة واحترام الملكية العامة وغيرها وغيرها. (كنت مرة في سينما الشام أجلس قرب سيدة ورجل تجاوزا السبعين، وجلس وراءنا شابان في العقد الثاني من عمرهما. وبدأا بالحديث عن أشيائهما الخاصة بصوت عال وضحكات ماجنة واستمرا بذلك حتى بعد مرور نصف ساعة على بداية الفيلم. عندها التفت السيدة وقالت لهما بكثير من التهذيب: أرجوكما أن تخفضا صوتيكما فأنا وزوجي نحب سماع الفيلم بلغته الأصلية، وسرعان ما أتاها الجواب صريحا: "إذن غيري مكانك يا مدام". وثمة إطار مؤسساتي مدني مؤثر جدا في نشر الثقافة السينمائية وتكريسها ألا وهو النوادي السينمائية. لكن هنا أيضا تجد الثقافة السينمائية نفسها ضحية السياسة ذاتها. فهذا الإطار لا يكون و لا يعيش ولا ينتعش ولا يستمر إلا في أحضان مجتمع مدني مستقل عن الدولة (وليس خصما لها بالضرورة). وليست النوادي السينمائية ترفا ثقافويا يقيمه أهل الاختصاص تباهياً و محبة بإظهار معارفهم. إنها مخابر عملية لاكتساب ثقافة سينمائية حقيقية وللتدريب على الحوار الجدي وعلى احترام رأي الآخر وذائقته وللتعلم أيضا. وقد كان لنا في دمشق ناد سينمائي في مقر المنتدى الاجتماعي شكل خلال سنوات طويلة واحة ثقافية رائعة تعلم فيها الكثيرون دروسهم الأولى في السينما. وكان للنقاشات التي تدور في أعقاب العروض وللأوراق التعريفية البسيطة التي توزع قبلها دور كبير في قدح ذهن المشاهدين في عملية كشف الأبعاد الجمالية للأفلام المعروضة. وقد انتهت هذه التجربة ولم تفلح كل محاولات إنعاشها. وظهرت نواد سينمائية أخرى في الجامعة وكلية الهندسة وكلية الآداب وفي مدينة طرطوس وغيرها لكن أغلبها أجبر على الإغلاق بطريقة أو أخرى. أذكر مثلا أننا كنا نعرض ذات يوم من عام 1980، في النادي السينمائي لقسم اللغة الفرنسية، و كنا نقدم فيه أفلاما مقتبسة عن الأعمال الأدبية الشهيرة، فيلما مقتبسا من قصة للكاتب(غي موباسان) بعنوان (حياة)، وفجأة فتح باب (قاعة الفن) وهي القاعة التي كان يجري فيها عرض الأفلام التي كنا نحصل عليها من السفارة الفرنسية غالبا وهي مما كان يعرض في المركز الثقافي الفرنسي أي مما نال تأشيرة السماح بالعرض، ودخل أحد الأساتذة المتنفذين، وكان بالمناسبة يفتخر (رحمه الله) علنا أنه بقي اثنتي عشرة سنة في فرنسا لم يذهب فيها مرة واحدة إلى السينما، وبالصدفة كان المشهد الذي يظهر على الشاشة للبطلة وهي تمشي على الشاطئ بثياب البحر، فأغلق الباب بنزق. وفي اليوم التالي دعي العاملون في النادي إلى غرفة في الجامعة لم تكن مخصصة للإدارة ولا للأساتذة ولا لإتحاد الطلبة (؟؟؟)، ووجهت لنا اتهامات وتهديدات متنوعة وكانت تلك نهاية النادي السينمائي. هذه الحادثة تشير إلى نمط التفكير الذي كان يتم حسبه التعامل مع النوادي السينمائية. وهو فكر جاهل بالسينما وبالثقافة ورافض ليس لحق الإنسان بالثقافة السينمائية فقط بل لحقوق الإنسان الأساسية في التعلم والاستفادة من التقدم الثقافي والفني والتقني في العالم، ولحقه في التعبير وفي الاستمتاع الثقافي والفكري. هذا النمط في التفكير هو السبب الأول والأخير في قتل الثقافة السينمائية إما بالشكل المباشر أو بشكل غير مباشر. ولا بد من تصحيح هذا النمط وإعادة الأطر التربوية والثقافية والاجتماعية التي تسمح بتربية وعي ثقافي سينمائي ينبه المواطنين إلى جدية المشاهدة السينمائية و يجعلهم قادرين على مناقشة ما يشاهدونه وفهمه وفك طلاسمه ويخرجهم من حال المشاهدة الغريزية التي يوفّرها نوع من السينما الرائجة في هذه لأيام. أي تلك الأفلام التي تكتفي بدغدغة الانفعالات الطبيعية الأولى لدى المشاهدين وتقودهم كالقطيع نحو القيم التي تريد المؤسسات المنتجة لهذا النوع من السينما نشرها في العالم، والتي تجسد قناة (شانيل تو) المثال الصارخ لها. إن مجابهة الغزو الثقافي بالخطابات لا تجدي نفعا، ولابد من مساعدة الوعي الثقافي على تطوير نفسه ليصبح قادرا على هذه المجابهة.
#حسان_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنف العائلي ضد المرأة ....
المزيد.....
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|