|
النبوءة(19/6/1989...8/6/2014 . )
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن-العدد: 4476 - 2014 / 6 / 8 - 09:29
المحور:
الادب والفن
عندما استبد به العجز، والضيق، نصحه- من يعرف أكثر- باستشارة عرافة " أون " التى لم تخطىء لها نبوءة أبداً . فاستيقظ، بمجرد أن أعلنت الديكة عن ظهور القارب الالهى ، حامل القرص الوليد فى الأفق.. وبدأ رحلته عندما طفا القارب فوق المياه المقدسة للمحيط الأزلى " نو " .. الضباب يحيطه من كل جانب، يمنع رؤيته للطريق.. وهمهمات المتوجهين لمدينة الآلهة، توشى بمدى ضخامة عددهم.. وهو يجدّ فى السير، ليصل محرابها مبكراً عسى أن يفوز بلقائها فتبدد له أوهامه. عندما استطاعت أشعة الاله الفتى قهر آخر فلول جيوش الضباب كانت جموع الحجيج تملأ كل شبر، من الفراغ المحيط ببيت الرب.. وكان قد نجح أخيراً – بعد نضال – فى أن يخترق الحشود، ويقف ببابها منتظراً الاذن. شحب وجهها .. ارتعشت .. توقفت عن البيان أدارت رأسها.. غمغمت.. تجنبت مواجهته.. فتصبب العرق غزيراً من مسامه، وتعلق بصره بشفتيها، متعجلاً استقراء ما خطه له القدر. قالت وهى تحاول إخفاء انفعالاتها: تجلد بنى. صمتت قليلاً ، ثم أعادت قولها: تجلد. انهار.. عجزت ساقاه عن حمله .. جف حلقه.. وشعر بالألم يعتصر جوفه. تساءل محاولا رد القضاء : وما ذنبى؟. ردت باقتضاب: لادخل لك بهذا !!. ثم أكملت كمن تحدث نفسها: إنها حكمتهم.. هذه إرادتهم.. ولا راد لما ارادوا. فى ذلك الوقت كانت الجموع المحتشدة يتضاعف عددها ، كلما زادت قوة أشعة القرص الوليد ، حتى ليخيل للمشاهد أن كل من بالمدينة قد هجرها، وتجمع حول بيت الاله.. كان الكاهن الأكبر يتحرك بينهم مهموماً مكتئباً مكروباً ينطق بكلمات مقدسة لأيزيس ربة السحر، وينثر على رعيته بعضاً من ماء النيل الطاهر .. الذى يقال أنه قد جلبه من منابعه بجزيرة الفنتين فور خروجه من أسفل صندل رع .. فيتحول كل من تلمسه قطرة الى ورقة صبار ضخمة، ذات طرف مدبب وأشواك رفيعة. كبر رع أصبح شيخاً.. بردت أطرافه.. وضعفت قوتها ولم تعد قادرة على بعث الدفء.. كانت المدينة قد خلت من سكانها بعد أن تحول معظمهم الى صبار .. هبت رياح باردة.. تحركت بين النباتات البرية الصامدة ، التى غطت كل الفراغات المحيط بالمعبد..ثم عادت تحمل معها نغمات حزينة، وأنات متوجعة، ظلت تتضاعف.. تتضاعف.. تتضاعف.. حتى لم يعد يسمع إلا تنويعات مختلفة على كلمة " آه " تتردد فى كل مكان. عندما انزلق قارب الاله " الميت " داخل غياهب الظلمات، ثارت زوبعة عاتية قادمة من الشرق حملت رمالاً صفراء دقيقة ، غطت المدينة بغمامة كالحة.. كان يسير منكسر القلب ، عائداً الى منزله وحيداً.. عندما تمخضت الغمامة عن عدد من العربات السوداء ، التى تجر كلا منها مجموعتان من آكلات الرمم المرهقة. من عربة المقدمة المذهبة جاء صاحب السعادة ، والفضل، والاحسان المعظم..لازمته الصحة ، والقوة ، والحياة.. يخطو فى زهو ممسكاً بصولجانه. تأمل المكان ، ثم سأل تابعية الذين كانوا يخرون ساجدين ، بمجرد هبوطهم من عرباتهم: ماذا ترون؟. قالوا: نحن لانرى ياصاحب الفضل!! أنت الذى ترى. ابتسم سعادته بسعادة وسأل: ولكن.. أين الرعية؟.. أين ذهبوا؟. رد كبيرهم محنياً هامته حتى ركبتيه: لا تبال أيها القبس.. سأستبدلهم لك.. بما يليق بعظمتك وسموك وجلالك. ثم أشار بيده فتقدم من الخلف صفان من الاقزام المنحنين، يحمل كل منهم بحرص شديد حقيبة جلدية ضخمة ، ظلوا ينثرون منها فى شقوق الآرض المحروثة " أسنان آبيب " فأنبتت فى التو واللحظة كائنات دقيقة.. دقيقة.. دقيقة ظلت تكبر، وتكبر وتكبر، وتتميز ملامحها ، حتى أصبحت دمى ضخمة ، يرتدى كل منها زياً خاصاً ، ويحمل آلة حرب تختلف عن آلات الآخرين. عندما اكتمل نموها.. اصطفت فى طوابير متوازية ثم انحنت، اقترب منها صاحب السعادة ، والفضل ، والاحسان.. لازمته الصحة، والقوة والحياة.. فحصها جيداً .. بعين خبيرة .. ثم ابتسم برضا.. وباركها.. فانتفضت ترقص رقصة وحشية عنيفة، وتصيح بصيحات القتال. بالغ كبيرهم من انحناء هامته وقال: مر خادمك ، يزرع لك منها ما تريد. ابتسم ابتسامة صفراء وقال : إذا كانوا جميعا من هذا النوع ، فلا حدود لما تزرع قبل الأرض بين قدميه .. ثم استدار لتابعيه قائلاً : فلتمتلىء المعمورة بعبيد المفدَى.. يارجال العصر السعيد، تناسلوا.. توالدوا ليكون منكم شعب ، يليق بأن يقوده صاحب السعادة ، والفضل والاحسان المعظم لازمته الصحة والقوة والحياة، فامتلأت المدينة.. والمدن المجاورة.. والقرى.. والعزب.. والنجوع والكفور بجند السلطان يتحركون جماعات وفرادى يقتلعون كل ما تلمسه أكفهم.. يبتلعونه دون تمييز.. يمحونه من الوجود، ويتركون بدلاً منه فضلاتهم الكريهة. أصابه الذعر .. أسلم ساقيه للريح يجرى فى اتجاهات عشوائية ، باحثاً عن ملجأ .. وفى كل مكان كانت تواجهه هذه الكائنات البغيضة ، فتجعله يغير من مساره.. حتى وجد فى النهاية جحراً منزوياً يختفى بين الصخور، فركن إليه.. خف رعبه .. هدأت نفسه .. وعندما عضه الجوع خرج ليلاً متسللاً يبحث عما يتقوت به.. وهكذا.. اعتاد هذه الحياة.. فغفل عما يحيطه من أخطار. حتى ذلك اليوم الذى امتد فيه ساعد بنىّ ضخم ، مغطى بشعر أسود كثيف فى نهايته كف مشوه ذو أصابع ثلاثة غير متناسقة ، الى داخل جحره. تراجع الى أقصى نهاية ممكنة ، مبتعداً عن الكف الأعمى. سمع أحدهم ، يحاور آخر قائلاً : باه.. راه.. موساه.. هندستوب. فامتد ساعد آخر رمادى، ليساعد الأول ثم سمع : رواه.. رورر.. حنتس.. مالوش. والرد - ما.. ماه.. ريف.. سحتون.. مالى مون. التصق بالجدار الأصم، يريد أن يخترقه محاولاً الافلات.. الجحر يمتلىء بماء آسن ودخان مجلب للدموع، فخرج من مكمنه مستسلماً رافعاً ساعديه لأعلى. أصيب بعمى مؤقت ، بعد أن بهره نور الاله المكتمل.. عندما اعتاد النظر، تبينهم لأول مرة عن قرب.. أجساد ضخمة قوية ، جماجم صغيرة مشوهة.. وعين واحدة فى منتصف الرأس ، كانو يصخبون ويضحكون بلا مبالاة متناهية. عندما اقترب منه احدهم بزيه الرسمى وعجرفته البادية، لم يستطع أن يتحكم فى نفسه فبال واقفاً. قال له : هم .. حم.. لوف بوف رد : الصحة، والقوة ، الحياة لك.. لم أفعل ما يغضب. تدخل آخر قائلا : سبسب.. لوب.. هم.. سفوف. - يا صاحب السعادة ، والفضل، والاحسان.. لقد أديت كل الشعائر واهتديت بالمزامير،والسيرة، والبرهان. قال الأول : تينا.. لتينا.. بوخ.. سوخ. لا : أيها العظيم ، لقد وقرتهم أيما توفير واتبعت التعليمات واللوائح والقانون. قال كبيرهم : مجريموا.. هابيشوا.. مخرب. سقط على وجهه ، راكعاً.. ساجداً يقبل الأرض، بين قدميه، وقال : أنا لا أخرب.. أنا ازرع ، وأعمر. فرد كبيرهم : آه .. فلاح .. رمة.وهنا عرف لماذا شحب لون الكاهنة ، التى لم تخطىء لها نبوءة أبداً فتوقف عن الرد ، فاقداً للنطق.. وتجمد فى مكانه متحولاً الى شوكة صبار ضخمة حجرية ، لازالت باقية فى مكانها حتى يومنا هذا يصدر عنها صفير حزين، كلما انزلق قارب إلاله فى الأفق الغربى.. ويخرج من أسفلها ماء أصفر لزج ، كلما اقترب منها شخص يرتدى زياً رسمياً .
#محمد_حسين_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل إنتهت الغمة ..هل بدأ زمن جديد؟
-
بعد إنتهاء الرقص في مولد سيدى إنتخابات
-
الوفد - السيسي عن الفاسدين: -ماقدرشى أمشّيهم-
-
إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما .
-
في النهاية ،فساد السمكة بدأ بالرأس
-
صعود الطبقة الوسطي المصرية.
-
نفارين ثم إحتلال بريطاني لسبعة عقود
-
القرن التاسع عشر والاستعمار الاوروبي.
-
مصر يحكمها كابوس الانكشارية
-
الانجاس المناكيد يحكمون مصر لثلاثة قرون
-
قرنين خارج عباءة الخلافة العباسية.
-
البدو يعيثون فسادا علي ضفاف النيل
-
مقدمات الغزو البدوى لمصر
-
الاقباط هم اولادك المضطهدين دوما يا مصر
-
يومنا في إكتيوما من دفتر إنكسار أهلك يا مصر (2)
-
من دفتر إنكسار أهلك يا مصر
-
خطوات علي الارض المحبوسة التي لم تقرأها بعد
-
أحزان مسن ضاع عمره هباء.
-
خدعة تميزنا العربي كعرق وثقافة وعقيدة .
-
الخلط في اوراق علاقة مصر بجيرانها
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|