توما حميد
كاتب وناشط سياسي
الحوار المتمدن-العدد: 1267 - 2005 / 7 / 26 - 11:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الجزء الاول
منذ فشل ثورة اكتوبر في العشرينيات من القرن الماضي لم تتمكن القوى الشيوعية من تقديم اجابة على معظم المعضلات التى واجهت المجتمع البشري من وجهه نظر الطبقة العملة وتخلفت عن عصرها بعقود من الزمن الى ان ظهرت الشيوعية العمالية في العقدين الى الثلاثة عقود الاخيرة كتيار سياسي قدم اجوبة لمعظم هذه المعضلات و المسائل.
من المواضيع التي تمكنت الشيوعية العمالية تشخيصها واعطاء جواب لها مسالة اوضاع "السيناريو الاسود" التي حدثت في العديد من البلدان مثل البوسنة والصومال ورواندا والشيشان و افغانستان والعراق.
ماذا نعني بالسيناريو الاسود
كان منصور حكمت اول من قام بتشخيص وتحليل هذه الظاهرة التي يقصد بها وضع شاهدناه بعد انتهاء الحرب الباردة في العديد من الدول والذي يمكن ان يحدث في اي من الدول المتخلفة والتي تحكمها انظمة برجوازية غير راسخة. فهو ليس وضع خاص بدولة معينة. نشهد في هذا الوضع حروب وصراعات دموية واعمال وحشية وتدمير تؤدي الى الكثير من الكوارث الانسانية والى مأسي هائلة وعلى نطاق واسع ليس نتيجة لثورة او عمل يهدف الى تغير الواقع ومن خلال تدخل الجماهير بل نتيجة تدخل قوى دينية وقومية وقبلية في منتهى الرجعية منفلتة العقال ومن فوق ارادة الجماهير واحيانا يبدأ نتيجة تدخل قوى خارجية. في وضع السيناريو الاسود تتداعى الدولة وتنحل الحكومة لتخلف فراغ حكومي واداري كامل او شبه كامل ويكون هناك تفكك وانهيار كامل لنسيج المجتمع واركان المدنية ، فيتوقف المجتمع ومؤسساته المدنية عن العمل وتختفي الخدمات الاساسية مثل الماء والكهرباء والخبز والمأوى والامن وتسود الفوضى. في السيناريو الاسود تتراجع القوى العلمانية المدنية وتصبح القوى الرجعية الطائفية والعرقية والقومية والعشائرية والمافيا قوى اساسية في الساحة السياسية تتصارع فيما بينها.
ولان هذه الاوضاع تحدث كما قلنا ليس نتيجة تدخل الجماهير بل تخلق من قبل قوى رجعية وبالضد من ارادة الجماهير وتسود فوضى عارمة ويداس ليس فقط على حقوق وحريات الجماهير بل حتى على حياتها و مضمون الحياة الاجتماعية و نسيج المجتمع المدني والمدنية يسود شعور على الجماهير بعجز تام من القيام باي شيئ لمواجهة هذه الوضعية و تغير مجرى الاحداث وتحسين حياتهم وتقرير مصيرهم،و تسود افاق مظلمة.
ان تلك الاوضاع لاتحفز البشرية والاحرار في العالم على القيام بشيء يذكر لانهم لايجدون طريقة تمكنهم من التدخل. هناك الكثير من الامثلة التي تؤكد ان عدم تدخل الانسان العصري في اوضاع السيناريو الاسود او حتى الاهتمام بها هي لسيت نتيجة خصوصية الانسان المعاصر بل تنيجة شعور بالعجز لعدم وجود الية للمساعدة مثل فقدان الحكومة و الشعور بتفاهة مايمكن تقديمه مقابل القتل والتدمير المنظم وعن وعي و سابق اصرار التي يقوم به الانسان نفسه. والاستجابة للكوارث الطبيعية واخرها تسونامي هي افضل دليل على ان وقوف الجماهير موقف المتفرج ازاء السيناريو الاسود هو نتيجة لعدم القدرة على التدخل. ولذلك فان العجز امام هذه الاوضاع يطغي ليس على الضحايا فقط بل حتى على البشر في الاجزاء الاخرى من العالم الذين يشاهدون اويسمعون عن هذه الماسي. ويكون العجز مقابل هذه الاوضاع من القوة بحيث تبدو وكانها سيناريو مفروض على عدد كبيرمن الناس.
وكما يقول منصور حكمت هناك فرق شاسع بين السيناريو الاسود والثورة. في السيناريو الاسود المسالة ليست مجرد وقوع حرب وصراع دموي و سفك الدماء فهذا يمكن ان يحدث في الثورة ايضا. ولكن الثورة هي حدث قد يكون دمويا تقوم به الجماهير من اجل التغير وتحسين الوضع الاجتماعي. بينما السناريو الاسود هو وضع لايدور فيه الحديث عن تغير المجتمع بل عن تدمير الاطر المدنية للمجتمع وليس من قبل الجماهير وليس استجابة لرغبتها وارادتها بل بالضد من ارادة ورغبة الجماهير وفي خضم شعور بالعجز التام يسيطر على الجماهير وفي خضم غياب بديل وطريقة حل. في السيناريو الاسود لايتمكن المجتمع حتى من استيعاب اسباب هذه الاوضاع ومعرفة الى متى ستستمر وكيف يمكن انهائها.
كما يقول منصور حكمت في الحالات الاعتيادية فان الاحداث السياسية هي عبور من نظام سياسي وشكل دولة الى نظام سياسي و دولة اخرى. فالحرب و الثورة ليست الا وسيلة وقناة للانتقال من نظام حكم ووضع اجتماعي الى نظام حكم ووضع اجتماعي اخر. اي في الحالات الاعتيادية يتم اسقاط نظام ليبدل بنظام اخر، ولكن في السيناريو الاسود الاحداث تاخذ مجرى اخر. فالوضع الذي يعقب سقوط نظام يكون اوضاع فوضى وارتباك وتخبط. ويكون هذا الوضع والحرب والاقتتال والتدمير ليس وضع مؤقت واستثنائي يحدث في خضم تحول اجتماعي معين بل يتحول الى وضع دائمي والى طريقة حياة قد تستمر عدة سنوات. فالكوارث التي تحدث في السيناريو الاسود هي ليست نتيجة حدث له نهاية او حرب محددة من المقرر ان تنتهي. في هذا الوضع فجاة تبدو كارثة انسانية والقتل الجماعي والتشريد والتدمير وكانها كانت امور طبيعية ودائمية و متوقعة في ذلك الزمان والمكان.
اسباب السيناريو الاسود
1. وجود ازمة حكومة: توجد ازمة سياسية وحكومية في العديد من البلدان المتخلفة، أزمة تعمقت بعد انتهاء الحرب الباردة. فبعكس الدول الرسمالية الراسخة، تبقى الخصوصية الايدولوجية والسياسية للحكومة واسسها وهيكلها السياسي مسالة غير محسومة.. وتقف التيارات السياسية المختلفة بوجه بعضها البعض لتحديد الخصوصية الاديولوجية والسياسية للحكومة في كل لحظة. لذا فان المسألة المهمة في حال اي ازمة ليست فقط اي قوى واحزاب ستشكل الحكومة المقبلة بل نوع هذه الحكومة ايضا. ان مسالة القوى التي تشكل الحكومة و نوع الحكومة ليس موضوع صراع طبقي فحسب بل محور صراع عنيف بين القوى البرجوازية نفسها ايضا. لقد كانت الازمات الناتجة عن هذه الوضعية تعالج بسرعة اثناء الحرب الباردة من خلال معادلات عالم ثنائي الاقطاب ولكن في ظل الوضع الدولي الحالي وعدم وضوح بدائل ونماذج ومعسكرات البرجوازية على مستوى العالم فان حسم نوع الحكومة من قبل البرجوازية المحلية غير ممكن بدون صراع ضار.
والمسالة الثانية اضافة الى عدم حسم الطبيعة الاديولوجية والسياسية للحكومة هو ضعف القوى الشيوعية للاسباب المعروفة و افلاس اديولوجيات البرجوازية وفشل البدائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل قوى البرجوازية وانفضاحها امام الجماهير على صعيد العالم وفي الدول المتخلفة بشكل خاص. حيث ليس لنموذج حكومة اي قوى برجوازية جذور عميقة في المجتمع او مقبولية لدن الجماهير. حيث يسقط نظام متأزم ومكروه عند الجماهير على نطاق واسع واحيانا من قبل قوة خارجية في وضع لا توجد قوى تحظى بدعم جزء كبير من الجماهير بما فيها بقايا النظام بحيث يمكنها من الامساك بالحكم او فرض نوع من الادارة على المجتمع وبذلك تبرز عدة قوى تتصارع فيما بينها على النفوذ وشكل الحكومة.
2. تدخل القوى الخارجية: بعد سقوط قطب راسمالية الدولة بقيادة الاتحاد السوفيتي وانهيار معادلات عالم ثنائي الاقطاب انهارت المعاهدات الدولية القديمة بين القوى الامبريالية والمعسكرات البرجوازية وتحول كل العالم الى ساحة مواجهة متعددة الاقطاب على مناطق النفوذ. حيث ليست حدود نفوذ وسلطة كل قوة او معسكر عالمي معروفة او مقبولة من الجميع. كما ان نفوذ وسلطة قوى المنطقة وعلاقتها بالقوى والمعسكرات العالمية غير محسومة ايضا. فمع بروز ازمة وسقوط النظام في بلد ما يتحول هذا البلد الى ساحة صراع بين القوى العاليمة والمحلية حيث يتمسك كل قطب خارجي بقوة داخلية ويؤدي هذا الوضع الى حرب اهلية. ان المواجهة بين الاقطاب العالمية المتعددة تقف عائق امام حل الازمات.
من جهة اخرى ان تدخل امريكا خصوصا والحكومات الغربية اليمينية بشكل عام لعب دورا جوهريا في اوضاع السيناريو الاسود في عدة بلدان و هي التي بدات السيناريو الاسود في حالات مثل العراق. و تعتبر امريكا اكبر قوى السيناريو الاسود. فنتيجة لطبيعة الحكومة الامريكية وسياساتها الرجعية، تعتمد في تمرير سياسياتها على قوى السيناريو الاسود المحلية اي القوى الدينية والقومية والقبلية وتقوض نفوذ القوى العلمانية والشيوعية مما يشجع في قيام الحرب الاهلية وتحقيق السيناريو الاسود.
بروز القوى الرجعية الدينية والقومية والقبلية كقوى اساسية في المجتمع3-
ان القوى الدينية والقومية والقبلية هي قوى السيناريو الاسود المحلية. ان احد اهم ميزات السيناريو الاسود هو غياب قوى علمانية مقتدرة ووجود قوى يمينية دينية وقومية وقبلية رجعية تكون برامجها مستندة على تقسيم الجماهير على اساس قومي وطائفي وقبلي ومستعدة لارتكاب المجازر والتدمير واستخدام الارهاب من اجل تحقيق اهدافها .
لقد برز الاسلام السياسي في كثير من اوضاع السيناريو الاسود كقوة اساسية. وقد اظهرهذا التيار قابلية على تحويل بلدان كاملة الى بلدان غير قابلة للحكم. وكانت هذه القابلية فائقة في العراق. فالاسلام السياسي على وشك ان يلحق هزيمة باكبر جيش في العالم او على الاقل ان يفشل كل مشروع امريكا في العراق. ان هذه القدرة هي ليس قدرة ايجابية بل سلبية وتدميرية. وهذه القدرة على خلق السيناريو الاسود ناتجة من توفر امكانات مادية وعسكرية واعلامية هائلة لهذا التيار في العراق والمنطقة اضافة الى اعتماده على الدين والارهاب ومعادات المجتمع والتمدن. بامكان الاسلام السياسي القيام بعشرات العمليات الانتحارية في اليوم الواحد. ليس بامكان اي تيار رجعي اخر على صعيد العالم القيام باي شيئ قريب ممايقوم به الاسلام السياسي. كما اظهر قدرة كبيرة على الاستفادة من ارهاب امريكا وحلفائها والرد عليه بارهاب مماثل. ليس للاسلام السياسي اي شيء ايجابي يقدمه للمجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ولكن تمكن من جعل بلد متطور نسبيا وبامكانات العراق الى بلد غير قابل للحكم. هذه السياسة التي اتبعها الاسلام السياسي قد نجحت ايضا في الصومال وفي افغانستان الى حد ما. لقد لعب تدخل امريكا في العراق دورا قويا في تقوية الاسلام السياسي. يعجز الكثير من اليساريين في العالم من استيعاب قدرة هذا التيار للعب دورا كبيرا كقطب عالمي للارهاب وخاصة في ظل التقدم التكنولوجي الهائل ويعتبرون مايقوم به من جرائم ردود فعل اناس يائسون على الظلم التي تمارسه الحكومات الغربية ضد جماهير منطقة الشرق الاوسط.
#توما_حميد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟