|
إضافة مفهوم -ثقافة- إلى ما لا يُضاف إليه
حميد الخاقاني
الحوار المتمدن-العدد: 4474 - 2014 / 6 / 6 - 00:42
المحور:
الادب والفن
إضافةِ مفهومِ "ثقافة" إلى ما لا يُضاف إليه! حميد الخاقاني
لاستاذنا الراحل (مهدي المخزومي) تعريف منطقي وحاذق لصيغة (الإضافة) في العربية، سمعته منه إبان سنوات الدراسة في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، أو قرأته له في حينها، وظل عالقاً في ذاكرتي إلى يومنا هذا. يذهب هذا التعريف إلى أن الشيئ يضاف إلى شيئ ليرتبطا، ويُصبحا بمنزلة شيئ واحد، فيكتسب ( أي المضاف) من الثاني (المُضاف إليه) ماله من صفاتٍ وخصائص، كالتعريف والتخصيص. فترانا نقول مثلاً (بابُ الدار) و(خاتمُ ذهَبٍ)، وكذلك (أحاديث الليل) و(ديوانُ امرئ القيس) أو نقرأ (تبَّتْ يدا أبي لهَب)، على سبيل الدعاء ليَدَيْ (أبي لَهبٍ) هذا بالتَباب، أي الانقطاع والهلاك والخُسران. وعلى أن هذه الصفات والخصائص ذات طبيعية نحوية، إلا أنها تأتي معها بدلالاتٍ ومعانٍ تولَّدَتْ عبر صيغِ الإضافة هذه. ففي بعضها يُصبحُ المضاف إليه جنساً للمضاف، يمنحه صفاتِه، كما في (خاتم ذهبٍ)، أو يكون ظرفاً له (أحاديث الليل)، أو تعبيراً عن مِلكِيَّة الثاني للأول (ديوان امرئ القيس).
وإذا كانت اللغة، في الأدب خاصة، ومنه أدب الأديان ونصوصها، ذات نظام دلالي، اشتغلت على كشف علاقاته وأشاراته، وما تزال، مدارس نقدية ولغوية وفلسفية، وحتى صوفية مختلفة، فإن البحث في توليد المفاهيم ودلالاتها ومعانيها عبر صيغة الإضافة أو سواها، ينبغي أن يتحقق، كما هو الحال في استكناه دلالات النصوص عموماً، من خلال حقلين اثنين: السياق الاجتماعي ـ الثقافي والتاريخي الذي نشأت فيه، وكذلك دلالتها داخل صيغة النص نفسه.
في سنوات ما بعد 2003، خاصةً، درج كتاب و"كتبةٌ" كثيرون، عندنا وبإفراطٍ، على إضافة تعبير "ثقافة" إلى كلّ ما يعِنُّ لهم من مضاف إليه، حتى أصبح الأمر شائعاً ومُملاً، أشبه بموضات تسريح الشعر، وإطلاق اللحى، وتزيين الأصابع بخواتم بعينها! فما يكاد أحدنا ينطق، مرة، بتركيب صاغه هو، أو عثر عليه في لغة أجنبية فاستعاره وأطلقه بصيغة ما، كأنْ تكون "ثقافة الحوار" مثلاً، حتى يتلقفه الآخرون، من ساسة ووعاظ (في السياسة غالباً!)، وغير القليل ممن يدور في فلك أهل الحكم وساسته المتنفذين، من اعلاميين ومحللين سياسيين، وخبراء في شؤون الأمن والعسكر والقانون والأديان، من يفقه منهم ومن لا يفقه (لدينا اليوم في العراق أطنان من هؤلاء، لا نفعَ في الكثيرمنهم، ولا جدوى)، فيأخذ كلٌّ واحد منهم في النسج على منواله ما لذَّ له وطاب من صياغات مكرَّرَة. ولم يتخلف عنهم، في تداول هذا النسج ـ الرَدْح، حتى أولئك الخائفون على "ثقافة الأمة" من "دنَس" الآخر، الذائدون عن "نقاوتها" من كل ما هو دخيل عليها، خاصة إذا كان هذا الدخيل قادماً من "غرب" العالم!
وهكذا غدتِ "الثقافة"، شأن الكثير من المتناقضات عندنا، تتضايف مع ما ليس منها، في الحقيقة، وتُنسَب إليه. فصرنا نقولُ "ثقافة التعصب" و"ثقافة الإرهاب والقتل"، و"ثقافة تكميم الأفواه" و"ثقافة الرعب" و"ثقافة الجهل والتجهيل" و"ثقافة النهب"، و"ثقافة الخداع والكذب" و"ثقافة الفساد والتزوير" "وثقافة الإكراه والإلحاق" وغيرها كثير. ننطق بمثل هذه التراكيب المتناقضة، أو نكتبها مبتهجين، وكأن الواحد منا قد فتح بلاد السند والهند والصين وحده، وعاد منها بغنائم وأسلاب لا يحُدُّها نوعٌ، ولا يسعُها مكان!
نقوم بهذا دون أن ندرك، لجهلٍ فينا، ذلك التغايرَ العميقَ، ثقافياً ومعنوياً، بين المضاف والمضاف إليه في هذه الأمثلة وما شابهها. هذا التغايرُ يشير إلى أن طرفيّ الإضافة هذه ضدان لا يمكن جمعهما، إذ لا يجوز، عقلاً ومنطقاً وحتى ذوقاً، أن نجعل هذه المقابح والمثالب والجرائم (وهي المضاف إليه هنا)، بمنزلة الشيئ الواحد من المُضاف، وهو هنا مفهوم (ثقافة). أليس من المؤسي أن ننحتَ، مثلما فعل كثيرون منا، تعبيراً مثل "ثقافة الحرب" ولا نلتفت للتناقض الصارخ بين طرفيه!؟ متى كان القتل والخراب ثقافة، أو كانا هما على شيئ منها، حتى صرنا ننسبها لهما، ونجعل من النقيضِ ونقيضِه شيئاً واحداً!؟
ولكن مصيبتَنا أننا قوم تجتمع الأضداد فينا، فيصيبَنا اجتماعُها هذا بفصامٍ نُنكره أو لا نعيه. فنرى الواحدَ منا يلهجُ بالديمقراطية، ليلَ نهارَ، وروح المستبد كامنة فيه، تمُدُّ له لسانَها ساخرةً مما يقول، وهو يغمزُ لها بأطراف العين والحاجب!. والإثنان: روح المستبد وصاحبُها يضحكان من جهلنا وسذاجتنا إذ اعتدنا أن نأخذُ ما يُرْمى لنا دون تقليب وجوهه ونقدها والتأمل فيها.
ويظهرُ الآخر على "مسرح" السياسة عارضاً نفسَه بوصفه حامياً للحريات، أميناً عليها، لكنه يقوم بكلِّ ما يؤدي إلى التضييق عليها وقضمها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. (أغلب الساسة عندنا ممثلون، لكنهم ممثلون سيِّئون بامتياز، لا يُجيدون حتى أدوارهم هذه، رغم أن رعاعاً كثيرين يُصفقون لهم، إعجاباً، ويهتفون!).
ونرى غيرَهما يعظنا، مثلاً، بحق المرأة في المساواة والتحرر والانطلاق، وأن منظومته الفكرية هي خيرُ من أعلى شأن المرأة، وضمن حقوقها، لكننا نراه يستشْكلُ، في الوقت نفسه، مَدَّ يده لمصافحتها خوفَ أن يستيقظَ فيه شيطان نفسِه الأمارة بالسوء. (شاهدنا أحدَ كبارِهم يصافحُ الأمريكيةَ كوندليزا رايس، ويُبقي يدَه مغلولة إلى عنُقِه كلما استقبلَ سيدةً عراقية أو عربية، أو مسلمةً عموماً. وكان كثيرون منهم يستطيبون، خلال التسعينات، لقاء الأمريكية كذلك مادلين أولبرايت، ومصافحتها والانحناء لها "أدباً بالطبع!"، والابتهاج بأخذِ الصور التذكارية معها، وهم يحيطون بها، مثلما يحيطُ جمعٌ من "المؤمنين" بإحدى "حور العين"، وقد ظهرت لهم في جنان الخُلد فجأةً!). صورُ التناقض هذه تكشف لنا عن أنَّ من يحلو لهم أنْ يبدوا "كباراً"، في الظاهر، هم صغار في الحقيقة. إنَّ ما يدلُّ على أحوال الازدواج عند ساستنا هؤلاء، واختلاط الأشياء في عقولهم، وفي عقول الكثيرين منا كذلك، كثيرٌ في هذا العراق، حتى صار اختلاط الأشياء هذا سمةً (عاهةً) في منطقتنا الثقافية هذه ومنطقِها. ولم يبقَ لنا، بعد هذا، سوى أن نوكلَ الأمر لله، وننادي، بصوت عالٍ، أن لا حولَ ولا قوةَ إلا به!
من المعلوم أن الثقافة، كما يُعرِّفها أهل اللغة عندنا، إنما "هي العلوم والمعارف والفنون التي يُطلَب العلمُ بها، والحِذق فيها". كما إن "التثقيف"، في الأصل اللغوي عند العرب، إقامةُ المُعْوَجِّ، وهو يعني التهذيب والتعليم. ولا يبتعد المعنى عن هذا في اللغات الأخرى كثيراً. ففي اللغة اللاتينية، واللغات الهندوجرمانية، ينطوي تعبير (ثقافة، Cultura)، منذ ظهوره واستخدامه، على معانٍ عديدة، لها صلة بما يصنع الحياة ويؤدي إلى حمايتها وتطويرها. فهو يأتي بمعنى (الحراثة والفِلاحة والزراعة). كما يعني، ارتباطاً بمفاعيله، الاشتغالَ على الأشياء والنفس، وإعمال النظر فيها، ورعايتَها والحفاظَ عليها. ومن اشتقاقاتها (cult)، أو (Kult) في الألمانية، وتعني (العبادة والتقديس). وقد تطور هذا المفهوم فيما بعد، ليشمل معاني التربية والتعليم. ففي ألمانيا مثلاً، تحمل وزارة التعليم، في أيامنا هذه، تسميةَ (Kultusministerium)، فهي عندهم وزارة تعليم وعلوم وتنوير للعقول، لا وزارة "تقديس وعبادات!"، فلهذه الأخيرة أمكنتها ومؤسساتها الخاصة بها.
وكما هو الحال في اللغات جميعها، فقد خضع مفهوم (ثقافة) على مدى التاريخ، ومن نواح مختلفة، إلى تغيير وتطوير وتجديد، ارتبطت جميعها بتجارب أهل هذه اللغات، وتغيّر أحوالهم، وحاجاتهم. لكنّ هذه التغيرات والتطورات، واختلاف الحاجات، لم تخرج به عما صاحبه، منذ البدء، من معانٍ ودلالات تعبّر عن محاولات البشر واجتهادهم في تشكيل حياتهم، وإعادة خلقها من جديد. ولهذا فلست أرى، مثلاً، أن الحذقَ في الكذب والخداع والنفاق والتعصب والقتل والنهب والفساد والتزوير والإكراه وتكميم الأفواه، وتجهيل الناس والتمويه عليهم، وغيرها من مذموم ما نراه من أفعال، ومكروه ما نعيشه من ظواهر، وطلبَ السلطان على الناس بواسطتها، أياً كان نوع هذا السلطان، يُجيزُ لنا أن نُلحقَها (حتى في الصياغة اللغوية) بالثقافة، أو ننسبها هي إلى هذه. فالثقافة، في جوهرها، تحضّرٌ وتمدُّن في الفكر والممارسة، في الأقوال وفي الأفعال. أما هذه المقابح والمكاره، على اختلاف مسمياتها وأشكالها ودوافعها، فليست سوى نوع من بربرية الفكر والأخلاق والسلوك وانحطاطها على السواء.
ولذا يمكن إضافة مفهوم "ثقافة"، كما أرى، إلى ألفاظ وتعابير من قبيل الإيمان الحق، الصدق، المحبة، الديمقراطية، الحوار، القراءة، التأمل، الخَلق والإبداع، النقد، السلام، التسامح، السَماع، التمدن، العدل، الحريات، حقوق الإنسان، وغيرها مما يصنع الحياة ويحفظها، ويحرر الانسان ويزيد من وعيه. في حين ينبغي نسبة تعابير من قبيلِ : ظلامية، وحشية، جهالة، بربرية، همجية، هَوَس، عورَة، عَسَف، عتمة، لعنة، خطيئة، حماقة، لا معقولية، لا إنسانية، لا مدنية، عبودية، وسوى هذه كثيرٌ، إلى تلك المقابح وما يماثلها، أو يزيد عليها في وحشيته. فإضافة هذه التعابير، وما يُماثلها، إليها تجعل من معانيها الحقيقية ودلالاتها أكثر جلاء للقارئ والسامع، وربما لمن يُمارسها، كذلك.
صحيحٌ أن هذه المقابح والشرور تعبيرٌ عن أنماط تفكير وسلوك بعينها، أفرَزتها منظومات فكرية ذات جوهر شمولي، في الغالب، إلا أنها لا صلةَ لها البتةَ بالمعاني الحضارية والانسانية لمفهوم "ثقافة". إضافة هذا المفهوم إليها، حتى على سبيل المجاز، تؤدي إلى نوع من تمويه وتضليل ينطويان، وإن دون قصد منا، على إهانة للثقافة وجوهرها الانساني. كما أن مثل هذه الإضافة قد تُظْهرُ من يقوم بارتكاب هذه القبائح وكأنه على شيئ من التحضُّرِ والتمدُّن، في حين أنْ لا شيئَ له من هذين، في الحقيقة، ولا نصيبَ لهما فيه.
#حميد_الخاقاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيامة الطائر
-
صناعة السلطة
-
شبح الشيوعيين مرة أخرى
-
-ديمقراطيو- السلطة وأشباح اليسار الديمقراطي
-
الطيب صالح ومعضلة الهوية
-
جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|