الإسلام السياسي
والديموقراطية :
الحزب الديني والحزب السياسي ذو التوجهات الدينية
" الجزء الثاني
"
لنحاول في مبتدأ الأمر وضع أو اقتراح تفريق ملموس بين ما نعنيه
بالحزب ذي التوجهات الدينية والحزب الديني. يمكننا تسهيلا لهذه المهمة التمثيل
للنوع الأول بالأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا الغربية كالحزب الديموقراطي
المسيحي الإيطالي أو الألماني..الخ فهذه أحزاب سياسية تأخذ بالديموقراطية طريقا
للوصول إلى السلطة وأسلوبا في إدارتها من أجل تنفيذ برامجها السياسية والاقتصادية
والاجتماعية بآفاق إصلاحية وأخلاقية تستلهم المنظومة الأخلاقية والروحية في
عموميتها كما يفهمها الكاثوليك بالنسبة للحالة الإيطالية أو البروتستاند في حالات
أخرى وبالتالي فهي لا تسعى إلى إقامة دولة أو حكومة ثيوقراطية الطابع تريد تطبيق
القوانين الدينية الواردة في كتابها المقدس، بل هي لا تجبر أحدا من مواطنيها حتى
على تطبيق ما يعرف بالوصايا العشرة أو الذهاب إلى الكنيسة لأداء الصلاة عنوة! غير
أن الناظر بتمعن إلى تجارب هذا النوع من الأحزاب ذات التوجهات الدينية كما هي الحال
في المثالين الألماني والإيطالي يمكنه الخلوص إلى التالي:
- إن هذه الأحزاب
الديموقراطية التي تستلهم القيم الدينية لم تولد أو تنشأ هكذا بل مرت بأطوار مختلفة
العمق والشدة من التغييرات والتطورات حتى بلغت ما هي عليه اليوم من مبادئ وفكر
وممارسات. بمعنى إنها لم تكن تختلف كثيرا في بداياتها عن أي حزب أصولي يصول في
الميدان اليوم ويطالب بتطبيق الشريعة فورا وحرفيا.ولكن العملية التاريخية وتعمق
السيرورة الديموقراطية في البلدان المعنية واكتمال صيرورة الاندماج المجتمعي في
شكلها الحديث (الدولة /الأمة / المواطنة /الحرية)، ولكن هذه الأمور مجتمعة هي التي
تقف خلف وتدفع الأحزاب السياسية المذكورة من دائرة "الحزب الديني" إلى فضاء "الحزب
السياسي ذي التوجهات الدينية".
- إن الساحة الأوروبية لم تخلُ يوما ولا تخلو حتى
في عصرنا من منظمات ومجموعات دينية سياسية متطرفة كمنظمة الصليبين الجدد ( لي نوفو
كروازاد ) في عدد من الدول الأوروبية وعشرات الحركات والميليشيات المسلحة الدينية
في الولايات المتحدة وغيرها ولكنها منظمات معزولة وهامشية نسبيا بفعل وتأثير
مباشرين من الاندماج المجتمعي العميق والديموقراطية السياسية والمجتمعية الشاملة
وتحول الدين من شأن طائفي إلى شأن شخصي وفردي ومن علاقة استتباع مفروض بقوة الدولة
أو المنظمة الدينية المسلحة إلى تعلق وجداني وشعور ضميري طوعي وإشراقي بين الإنسان
وربه! هنا أيضا يمكن التأشير وبقوة على معلم مهم من معالم الحداثة الأوروبية
وإرهاصاتها الأولى في عصر النهضة ألا وهو اعتبار الدين شأنا شخصيا وعلاقة ضميرية
بين المؤمن الديني وموضوع إيمانه ونزع السمات القسرية والعمومية والسياسية عن
المؤسسة الدينية وموظفيها.
- إن الأفق التاريخي الممكن لجميع الأنظمة السياسية
المؤدلجة وسواء كانت دينية أو غير دينية التي تشرع في عملية دمقرطة فعلية هو الأفق
الديموقراطي التعددي المؤنسن في تجلياته متعددة الأشكال (الشكل الهندي والبريطاني
والفرنسي والياباني والأمريكي..) وفي جوهره الواحد (التعددي السلمي القائم على
المواطنة غير المنقوصة وحياد الدولة الأدلوجي والطائفي). وهكذا ينكشف احتمال توليف
تركيبة تاريخية من مؤسسة دينية أصولية وجهاز حكم وتشريع ديموقراطي على انه مجرد
وهم. ومن المفيد التذكير بأن الديموقراطية حين انتصرت كآلية لإدارة الدولة جعلت
جميع أشكال الحكم مراحل وسيطة في مسار إنساني مديد لم يتعد عمره القرن ونصف..
-
إن المشكلات التي تثيرها حالات احتدام الصراع الاجتماعي في دولة ما أو الصراع
القومي بين الدول المختلفة لا تغير من طبيعة هذه العملية التاريخية أو تحرفها عن
مسارها ولكنها تنجح أحيانا في عرقلتها أو ردها إلى الخلف مؤقتا..ولكن الاتجاه العام
لها سيظل صاعدا وإيجابيا وخصوصا بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية رغم
تقدميتها الاجتماعية وبعد إفلاس النسخة اللبرالية الغربية التي تكاد تتوحد خلالها
برامج اليمين واليسار حتى في تفاصيل التفاصيل.
وهكذا فقد بات في الإمكان الآن
تقديم مقاربة دقيقة نسبيا لتعريف أولي لطرفي الموضوع. الطرف الأول، أي الحزب
الديني، ويمكن تعريفه كالتالي:إنه تنظيم أو حركة سرية أو علنية لمجموعة من
المواطنين تقوم على أساس دعوة روحية دينية ويهدف عن طريق الوسائل التي يرى إنها
مشروعة من وجهة نظره الدينية إلى تجسيد إيماناته سياسيا ومجتمعيا من خلال استيلائه
على مؤسسة الدولة وتحويلها إلى نظام شمولي ثيوقراطي يبتلع الموجود من مؤسسات
المجتمع المدني و يماهي المجتمع مع ذاته البرنامجية الغيبية الميتافيزقية فيعطل
العملية الديموقراطية ويصادر الحريات الفردية والعامة.أما الطرف الثاني وهو الحزب
السياسي ذو التوجهات الدينية أو الذي يستوحي منظومة القيم الدينية والأخلاقية في
نشاطه فهو أكثر بساطة ووضوحا من سابقة ويكاد ينطق اسمه بفحواه فهو حزب سياسي
ديموقراطي المنهج والأساليب والبنية الداخلية يستوحي منظومة القيم والمثل الأخلاقية
للدين الذي يؤمن به منتسبوه وهو الإسلام في حالتنا في وضع برنامجه السياسي ويعترف
ويصون حياد الدولة واستقلالها الأدلوجي والطائفي وآلياتها الديموقراطية المعلنة
ويحاول الوصول إلى السلطة السياسية عن طريق النشاط السلمي والعلني
والقانوني.
هذان التعريفان الأوليان يقودان من حيث المبدأ إلى تمييز الفارق
النوعي بين حزبين، مدرستين، سياستين، نوعين وليس درجتين داخل النوع
الواحد.
وسيقال غالباً في دائرة التطبيق العملي أن جميع الأحزاب الإسلامية سواء
كانت من النوع العنيف "الجهادي" أو السلمي "المعتدل" تهدف في برامجها إلى تطبيق ما
تدعوه "قوانين الشريعة الإسلامية" بمعنى إنها تهدف إلى إقامة الدولة الثيوقراطية
الدينية أو كمرحلة أولى إلى إقامة دولة الأوليغارشية ذات النزوع الطائفي الديني.
وتمتد لائحة الأمثلة من حزب الأخوان المسلمين في مصر والأردن إلى حزب الإصلاح في
اليمن إلى الجماعة الإسلامية في الباكستان..الخ. ويمكن الرد على هذا الرأي بالكثير
من التفاصيل العملية والتاريخية المفنِّدة ومنها :
- إذا كانت تلك الخلاصة صحيحة
في ما يخص نماذج الأحزاب التي وردت أسماؤها فهي ليست صحيحة أبدا بخصوص عدد من أكبر
الأحزاب الإسلامية ومنها حزب الرفاه في تركيا والنهضة في تونس وجماعة نهضة العلماء
في أندونيسيا وحركة مجتمع السلم "حمس" في الجزائر (حاز مرشحه للانتخابات الرئاسية
بمواجهة الرئيس زروال على أكثر من ربع الكتلة الناخبة) .
- وإذا كانت تلك
الخلاصة صحيحة اليوم بخصوص تلك النماذج فإن حركة الواقع التاريخي لن تبقيها هكذا في
المستقبل ومن يرصد برامج حركة الأخوان المسلمين المصرية منذ الأربعينيات وحتى اليوم
سيدهش لعمق التغييرات والتأثيرات الكثيرة والفعالة لواقع الحال التاريخي عليها
وميلها التدريجي إلى التعريف الثاني (الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية) ومفارقتها
البطيئة إنما الأكيدة للتعريف الأول (الحزب الديني) ويمكن اعتبار الوثائق السياسية
التي أصدرتها الحركة في السنة الماضية ذروة تلك المفارقة رغم استمرار المطالبة
بتطبيق "قوانين الشريعة" ضمن برامج الحركة.
إن الأهمية الفائقة لتأسيس الفارق
الاجتماسي بين هذين الحزبين لا تكمن فقط في الميدان النظري العلمي فقط بل أيضا في
ميدان الممارسة التاريخية أو للدقة في ميدان السياسة كممارسة تاريخية ولتأكيد وفهم
هذا المعنى يمكن التساؤل مثلا: هل كان ما حدث في الجزائر بعد الانقلاب العسكري
وإيقاف المسار الانتخابي سيحدث وبهذا الشكل الدموي المرعب والفالت من كل شرط أخلاقي
وإنساني واجتماعي بمعنى هل كان ذلك أمرا حتميا لا مندوحة منه لو كانت إدارة الشاذلي
بن جديد التي بادرت إلى إطلاق عملية "برسترويكا" جزائرية مرتجلة ومشوشة وفوضوية
تدرك وتفهم وتقيم ممارساتها على أساس هذا الفارق الخطير بين الحزب الديني والحزب
السياسي ذي التوجهات الدينية؟ هل كان سيحدث ما حدث لو فهمت جميع الأطراف (الحكم
والمعارضة والجيش والقوى الإقليمية والعالمية..الخ) أن فوز جبهة الإنقاذ لن يعني
أكثر من إنها ستشكل حكومة وتقود البلاد لعهدة انتخابية محددة لا أن تحاول اجتثاث
الدولة الديموقراطية وتقيم بدلا عنها دولة دينية ثيوقراطية؟ لقد لعبت قيادة الجيش
الشمولية وذات الميول الفرانكوفونية والأخطاء القاتلة التي ارتكبت قبل وبعد الجولة
الأولى من الانتخابات من طرف جبهة الإنقاذ دورا سلبيا ولكنه ما كان سيؤدي إلى ما
أدى إليه لو ارتكزت العملية الديموقراطية على أسس واضحة ورصينة تفرق دون لبس بين
الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية المسموح له بالنشاط والمشاركة السلمية
والقانونية وبين الحزب الديني الهادف إلى إقامة الحكم الثيوقراطي الشمولي. وضمن
جدلية السبب والنتيجة فقد كان الانقلاب العسكري وإقالة الرئيس هو النتيجة المتوقعة
لأسباب تخص إدارة الشاذلي بن جديد لأزمة النظام الشمولي البومديني من جهة ومحاولة
القفز من حكم النظام الواحد إلى أقصى صور اللبرالية ولجهل تلك الإدارة بأساسيات
العمل الديوقراطي في ظروف المجتمع الجزائري من جهة أخرى. ولكن هذه النتيجة غدت –
فيما بعد - سببا لاندلاع موجة عارمة وواسعة النطاق من العنف الدموي البربري. ومما
يحمد ويسجل كصفحة مضيئة لجبهة الإنقاذ مبادرة ذراعها العسكري بقيادة الشيخ مدني
مزراق اتخاذ القرار الشجاع بالخروج من مستنقعات الدم البشري وإنهاء المواجهة
العسكرية عن طريق اتفاق مع قيادة الجيش فكفَّرت بذلك عن أخطاء الجناح السياسي
وتهويلاته ومبالغاته وضمنت لجبهة الإنقاذ رصيدا مستقبليا لا يمكن لأي طرف كان
تبديده أو الالتفاف عليه وسوف يزداد حجم هذا الدور ويتحول إلى ركيزة طيبة
للديموقراطية الجزائرية إذا ما بادرت القيادة السياسية لجبهة الإنقاذ أو الحزب الذي
سيرثها إلى تجديد دورها ومرتكزات سياساتها وخرجت من دائرة التعريف الأول إلى الثاني
فانحازت نهائيا إلى نهج الاعتدال الديموقراطي الذي مثله الشهيد عبد القادر حشاني
ونأت عن النهج الآخر الذي مثله الشيخ علي بلحاج..