أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - اختلال ! ماذا يعني احتلال؟














المزيد.....

اختلال ! ماذا يعني احتلال؟


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 4473 - 2014 / 6 / 5 - 09:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أعود من عملي في رام الله. الساعة الثانية ظهرًا. درجات الحرارة فوق معدّلها السنوي المعتاد في حزيران. حاجز قلنديا العسكري يشبه مسرحًا من مسارح العبث واللامعقول. تتزاحم على مساراته سيّارات العرب وباصاتهم. بجانبها تقتحم ديناصورات العصر، والعابثون بحرمة الإنسان وبحدود الصبر؛ شاحنات ضخمة تنقل من وإلى فلسطين التراب والحصى والحديد ليزدهر "العمران"، وتشرئب ناطحات الفوضى والندم، وليذهب التطبيع إلى جهنم.

الراجلون يهرولون في حركات روبوتيّة إلى شرايينهم المنسدّة، ويقفون في طوابير تشبه القنوات التي تقف فيها الثيران الهائجة قبل محاولة ترويضها في سباقات "الروديو" الشهيرة. 

أندسُّ كسلحفاة وسيّارة تحاول الالتفاف عليّ من جهة اليسار، سائقها شاب يلبس تي شيرت عليه صورة لنجمة يعرفها ولا أعرفها، وقبعة كان لونها أبيض، وفي مقدّمتها شعار غاب تحت مخلّفات الزمن، يضع يده على الشباك وبين أصابعها يشد على سيجارة، ساقه مرفوعة وكأنه يسوق برجل واحدة، يسمع أغنية بالعبرية لم أفهم كلامها، فلقد كانت أقرب إلى الصراخ. أصفّر له منبّهًا، لأنه كاد أن يلتصق بجناح سيّارتي، فيمد رأسه من الشباك ويصرخ باتجاهي: "شومااالك روح اقبع.." ويغيب أمامي وينطلق.

من اليمين، يحاشر جيب تسوقه سيّدة،  صارت مثل جميع البشر، تدافش بعناد. أنظر نحوها، فأرى وجهًا جميلًا ممكيجًا بعناية، وشعرًا ملمومًا تحت منديل لم أحدد ماركته العالمية. على رسغها ساعة فضّية، ويتحلّق إصبعها خاتم بلون البنفسج، حاولت أن أوقفها، فرفعت كفّها وحرّكته إلى فوق مسافة شبر وأنزلته بخفّة راقصة، ففهمت أنها قالت لي: انصرف.

لم أنزعج أكثر من العادة، فقلنديا مثله مثل جميع الحواجز، صار ميدان ترويض. إنه الكولوسيوم العصري؛ بشر، مصارعون، (مجالدون)، يصارعون بشرًا أو وحوشًا، والبقاء فيه للأقوى وقيصر يتفرّج، يستمتع، ويمضي.

 بهدوء اصطففت وبدأت زحفي نحو الحاجز. في إحدى محطات الإذاعة الإسرائيلية يعلن المذيع: الخامس من حزيران، اليوم يبث برنامج خاص، عن حزيران والذكرى، فهل  كان ذاك نصرًا كما أراده أصحاب الكهف واسرائيل الكبرى؟ أم سكرة وحفرة كما حذّرت قلّة، تقدّمها الراحل الفيلسوف يشعياهو لايبوفيتش. قالها المذيع وأعادني إلى حزيراني الجميل الشاب وتذكّرت.

رفعتُ سمّاعة الهاتف ورددت التحيّة باقتضاب. كان الصوت مألوفًا وطلب أن يتحدّث مع "السيّدة الياس" وقال: أنا يشعياهو لايبوفيتش. انتابني شعور من فضول وسعادة خفيفة. كنت وجمال، شريكي في المسكن في تلك السنوات، نستأجر بيتًا في شارع "شيلر" في القدس الغربية. وكانت "السيّدة إلياس" صديقتي التي صارت بعد مدّة شريكة حياتي.

كانت دارنا في الطابق الثالث، عرضها يكفي لشهيق كامل في الصباح، صغيرة تكفي لإيواء أحلامنا، وتلائم معيشة طالبين يعتمدان على مصادر إمداد شحيحة وغير رتيبة. الهاتف يتوسط مساحة صغيرة غير مؤثثة، تنتظر أن تصير صالونًا، يفضي مباشرةً لغرفتي نوم عاريتين. أخذت السمّاعة وعلى وجهها علامات قلق. لم أبتعد، فلقد سمعتها تشرح باقتضاب، حتى أضافت أنها طلبت مساعدة صديقها على إعداد الوظيفة التي بصددها اتصل "لايبوفيتش" مستفسرًا ومستزيدًا من إعجاب وتقدير. 

عرّفته بنفسي وذكّرته بآخر ندوة قمت، من خلال نشاطي في اتحاد الطلاب العرب، بعرافتها وتقديمه خطيبًا رئيسيًا. يوم هاجمها الطلاب اليمينيون العنصريون هناك على جبل المشارف "سكوبس".
كانت الندوة في ذكرى حرب حزيران واحتلال إسرائيل لأراضي العرب. وكان لايبوفيتش أحد المدعوّين البارزين والخطباء الأساسيين في نشاطاتنا ضد الاحتلال وممارساته.

استعدنا كيف حاول أوباش اليمين أن يقاطعوا كلامه يوم كان يصرخ بنبرته المميزة: "لا أمن بلا سلام ولا سلام مع احتلال، فأعيدوا أيّها المحتلون، جميع الأراضي العربية المحتلة دون قيد أو شرط"!
 ثم انتقل ليسألني عن تلك الوظيفة التي فاجأته تمامًا. خف توجّسي وأصابني طرف زهو وفرح. 

كان لايبوفيتش عالمًا موسوعيًا فذًا، وصديقتي اختارت أن تدرس عنده عن "السببية في الفكر الفلسفي وتطوّرها".

اختارت أن تكتب عن السببية عند "المعتزلة"، واعتمدت مصادر كُتبت كلّها بالعربية، وفي مقدّمتها كان كتاب حسين مروة- "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، الصادر حديثًا حينها، وذلك في آخر السبعينيات. 

فتن لايبوفيتش بما سمع، وطلب مقابلتنا لمزيد من الحديث.

في اليوم التالي توجهنا إلى بيته. استقبلنا بحفاوة. كان بيتًا من كتب. أدخلنا إلى غرفة عمله، وجلسنا على كنبات أتخيّل أنها تعرف القراءة والكتابة. كنت مضطربًا وسعيدًا، وكان هو في تواضع صباح، ورقة ساقية.
 سألني عن المعتزلة وعن حسين مروة وحسن حنفي وغيرهم. حزن لأنه أدرك كم يجهل، وأنه لم يتعرف إلى هذه الثقافة، واعترف بحزن وأسف وبموسيقى لايبوفيتشية شهيرة: "لم آسف على شيء إلّا لأنني لم أتعلم العربية وما أنتجته". 

ودّعنا وصار في عيني أكبر، فتركته وفي صدري تفتّح فجر. 

قلنديا في الخامس من حزيران، مسرح يختزل العبث العربي والضياع كله. يعج بالبشر والزحام. صراخ ونداءات، والكل يركض ليلحق بليله، في قلنديا يشيخ الحزن والنسيان.

بعد نصف ساعة وصلتهم، أمامي يقف بعض الجنود. مددت يدي وبطاقة هويتي، تلقفتها يد صفراء، تفحصت سيارتي وهي تلتفت إلى زميلها وتسأل: اليوم الخامس من حزيران! هل هذا يقول لك شيئًا؟ يتحدثون في الراديو عن اختلال، ماذا يعني اختلال؟ لم يسمعها الجنود، وهي، بإصبعها أشارت لي: تقدّم! دون  أن تنظر إلى وجهي. 



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الرملة سيفرحون بنجاح حمدي
- أهلًا حزيران
- عندما يصبح أولمرت خائنًا
- توفيق زيّاد البعيد القريب
- الشعب لا يريد- دفع الثمن-
- التغيير والاصلاح في المحكمة العليا
- أحبوا بعضكم بعضًا - كانت الوصية -
- محامون تحت نارين
- في القدس، ألهوية الزرقاء إن حكت
- حين نتقاتل على السماء نخسر البلد
- أعدلٌ وناصرة عليا؟
- تاريخ أخرس
- لكُنَّ في آذار السلامة والحب
- لماذا وُلدّتَ يا عمر ؟
- ليت الفتى إمرأة
- لا للتجنيد: صرخة أو صرختان
- حق إضراب ألأسرى عن الطعام لا يمس
- بين كيري وقدسنا بندقية
- ألحريّة لمرّوان البرغوثي
- عنجهية VIP


المزيد.....




- متى تحين جنازة حسن نصرالله ومن يقود حزب الله وسط الحرب؟ أسئل ...
- الجيش الإسرائيلي يصدر أوامر جديدة بإخلاء قرى جنوب لبنان
- إيران تلغي الرحلات الجوية الليلية وسط ترقب لرد إسرائيلي محتم ...
- ميقاتي: رهاننا كان ولا يزال على الحل الدبلوماسي
- -لن أذهب إلى كانوسا-.. هكذا رد الرئيس الجزائري على الزيارة ا ...
- إخماد حريق مساحته 700 متر مربع في مركز تسوق بمدينة كاسبيسك ا ...
- الجيش الإسرائيلي يُفجِّر مسجدا في جنوب لبنان
- انطلاق مهرجان الصيد الدولي في قيرغيزستان
- عام على 7 أكتوبر/تشرين الأول: ما الكلفة الإنسانية التي تكبدت ...
- روايات جديدة تكشف كيف سقطت القاعدة الإسرائيلية بيد حماس في 7 ...


المزيد.....

- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .
- الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ / ليندة زهير
- لا تُعارضْ / ياسر يونس
- التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري / عبد السلام أديب
- فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا ... / نجم الدين فارس
- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - اختلال ! ماذا يعني احتلال؟