الصادق عبدلي
الحوار المتمدن-العدد: 4473 - 2014 / 6 / 5 - 06:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تقديم: إذا كانت المعاندة اللافلسفية هي أرقى أشكال التعصب، فإن المعاندة الفلسفية لهي أعلى سقف للإنفتاح على سديم الفضاءات المبعثرة في تاريخ الجنسانيّة، المجلّد الأوّل، المعنون بـ"إرادة المعرفة[1] وداخل فلك التاريخ بما هو غيرية تنضو عن عرائها لتكشف عن ما لا ينقال وما لا نرغب في قوله كخطاب السلطة والجنس والمعرفة، فنلزمه ما لا يلزم، ونخضعه لجدول الضرب بعبارة نيتشه وندجنه بعبارة سلوتردايك، ونخفيه تحت أسقف خطابية معرفية تتلون بألوان سلطوية بما هي علاقات قوى بعبارة فوكو، تأبى إلاّ أن تمارس على الواقع الفعلي وتتستر وتختبئ في انثناءاته والتواءاته المتعرجة. فربّ كتابة فلسفيّة تجبرنا على التوحّش داخلها وإضافة أذن أخرى للإصغاء والإنصات لما تقوله لنا الأذن الثالثة ( Une troisième oreille ) هو عينه ما أشار إليه فوكو[2] حيث يقول: "أكتب لكي لا يعود إليّ الوجه [3] . أليس ذلك إلاّ ضربا من المخاتلة؟، ولبس القناع حتّى لا ينكشف بسهولة وتلك عادة نيتشه. ألم يقل فوكو ( Je ne suis ni ceci ni cela )؟ ، ومن مخابىء التاريخ يقتصّ لنا فوكو لوحات أركيولوجيّة كما في كتابه "إرادة المعرفة". فهذا التجديل الطريف الذي قام به فوكو في إعادة كتابة الحضارة الغربيّة ونقدها ورسم خريطة مشابه لما أحدثه الفيلولوجي نيتشه في " إرادة الإقتدار"، غير أنّ هذا الديناميت الفلسفي قد تفجّر في كتابات فوكو منذ "تاريخ الجنون ومولد العيادة والكلمات والأشياء" ، ولكنه خاصّة في "إرادة المعرفة"، فماذا يعني بإرادة المعرفة كنصّ فلسفي يحمل توتّره الخاصّ به؟ إنّ تاريخ الجنسانيّة، المجلّد الأوّل، المعنون بـ"إرادة المعرفة"، الصادر عن دار غاليمار ( 1976) للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984)[4] هو كتاب يقتصّ طرافته من شذوذه ومن توحّشه الذي ينعكس على الجانب الخفي من الكتابة كلوحة فنيّة شاهدة على الحياة، وهو ينقسم إلى خمسة فصول متنوّعة ولكن مدار الكلام فيه هو الجنس كـمعرفة تتعيّن بالممارسة الخطابيّة التاريخيّة، ذلك ما يعنيه جيل دولوز بـالجنس الذي يتكلّم والجنس الذي يرى، فالفصل الأوّل : نحن الفكتوريون والفصل الثاني: الفرضيّة القمعيّة، والفصل الثالث: علم الجنس (Scientia Sexualis) والفصل الرابع: منطوق الجنسانيّة ( Le dispositif de la sexualité)، والفصل الخامس: حقّ الموت والسّلطة على الحياة وفي هذا الفصل الأخير ثمّة ضربا من التحوّل أو النقلة سيحدثها فوكو حيث ستبرز السلطة الحيويّة (Le bio-pouvoir) في كيفيّة تدبير الحياة. فما علاقة إرادة المعرفة بالسلطة؟ ألا يمكن أن نسأل للتوّ: ماذا تكون السلطة؟ إذا لم تكن إلاّ ممارسة على الأفراد تتجلى من خلال الأفعال كالممارسات والسلوكات وتختبئ في الأقوال كخطابات الجنس والحقيقة والرغبة التي لا تقول ما ترغب في قوله، بل ما يقال عنها. أليست السلطة سلطات بما يمكن الحديث عنها كجمع في صيغة المفرد؟ كلّما بحثنا عنها تختفي بين جدلية التجلي والخفاء، لتتوزع في كل الأمكنة بما هي زئبقية تند عن كل تعريف وتفلت من كل تحديد لا تكف عن تغيير وجهها كالثعبان الذي لا يكف عن تغيير جلده بعبارة نستلفها من نيتشه في غير مساقها، وهي مبثوثة في كل مكان أينما وليت وجهك فثمة سلطة تتنكر بلباس العارف والجاهل والمربي والطبيب والبقال والشحاذ ليس لها وجه واحد، ولا تفهم إلاّ بإعتبارها علاقات القوى أو لعبة القوى مجهولة من جهة الفاعل لا يمكن حصرها في مجال معين بعينه، ممّا دفع ميشال فوكو الذي لم يبخل بحياته في الدفاع عن المجتمع و"المناضل" بعبارة ديديه إريبون لطرح معضلة السلطة بإعتبارها مفهوما زئبقيا وحصيلة علاقات قوى تختبئ في طيات الخطاب ومنعرجاته وتظهر على سديم الفضاءات المتبعثرة متعددة الوجوه والمقاصد.
1- الجنس والفرضيّة القمعيّة:
يجدّل ميشال فوكو ضربا من الاحتكاك الداخلي[5]، الذي ينفتح فيه التاريخ على سديم الفضاءات المتبعثرة لحظة ميلادها أنّى تهتزّ العبارات وينثني فيها الفكر على الداخل الذي هو بدوره إنثناء الخارج عليه[6]، وتقفز فوقه باعتباره مجالا لرؤية تداعب ضبطها النحوي هو شكلها الخارجي التي تتوزّع على تضاريسه، تبحث عن ثقب تطلّ منه وهي مشحونة بضرب من الغبطة التي تغتصب على مدارها، فهذا التوتّر ينهمّ به ميشال فوكو حتّى يصبح الداخل بمثابة الخارج والخارج إنثناء على الداخل في تاريخ الجنسانيّة ليصبح طاقة تستدعي الفكر على خلخلة التاريخ فيه، باعتباره تاريخا غائبا لم يقدر على كتابة صمته الذي ضيّع عنوانه ، فكيف ذلك؟
بلا ريب، هذا الضرب من الكركرة الذي يسعى إلى تدبيس الفكر، ستكشف عنه هذه الأركيولوجيا التي تنتسب عنوة للجنيالوجيا النيتشوية بما هي تهجّي لحروف التاريخ المكتوب في أقصى تخومه المجاورة للصمت الكامن في إرادة الحقيقة أو المعرفة ، بهكذا طريقة سيحاول ميشال فوكو مستخدما المنهج الجنيالوجي لتقفّي آثار الحقيقة ويبحث عن ما يخفيه تاريخ الجنسانيّة وما يتستر عليه في توزيع ألعاب الحقيقة وهو سيثير أسئلة دائريّة على طريقة الرياضيين : من نوع كيف تمارس السلطة؟ أي أن ميشال فوكو يحطم "أرغنون" الفلسفة ويجدّف بالسؤال نحو ممارسة " الفعل الفلسفي" (L’activité philosophique) والعمل على أشكلة إرادة الحقيقة وإعادة الطرح الإشكالي للمسائل الفلسفيّة من جديد "على نحو مختلف".[7] فمن أركيولوجيا المعرفة إلى أركيولوجيا الأشياء أي من امتحان الأشياء والكلمات إلى ممارسة الامتحان عليها، إمتحان جنيالوجيا المعرفة ، ما تهمس إليه الأشياء من هسهسة ووصف لما تجري عليه جغرافيا الواقع وصخبه وعنفه و"راهنيّته". ثمّة إذن نوع من إلتقاء الواقع في نتوئه وفي لحظته المنفلتة مع الحفر الأركيولوجي الجينيالوجي. إذّاك يقتصّ ميشال فوكو لوحة من التاريخ أكثر ما يمكن القول عنها أنّها تمزج بين " ضحك الآلهة بعذاب البشر"[8] شبيهة باللّوحة التي يقتصّها ميشال فوكو في"إرادة المعرفة"، هذه الكوميديا عن الجنس تتخطّفها لحظات الصمت المطبّق عليها، ويعتصرها التاريخ ليغتصبها في عنف، أليس ذلك ما تقوله لوحة المجتمع الفكتوري، لوحة عن الجنس في عرائه؟ ففي القرن السابع عشر، منذ الممارسات الجنسيّة لم تكن متكتّمة، بل هي تسكن العتمة، فالجنس في عرائه يقتصّ من عريه إمكانه الخاصّ ، ليكون شاهدا على عصره وفق ما تعنيه عبارات فوكو إذ يقول : " إشارات مباشرة ، كلمات لا خجل فيها ، معصيات في وضح النهار، أجسام عارية للجنسين في تشابك، أطفال وقحون يطوفون في حريّة ولا خوف من إثارة الشكوك وسط قهقهات الكبار، تستدير الأجسام على نفسها في رقصة جنونيّة، تبع هذا غسق سريع إلى أ ن خيّمت الليالي الرتيبة للبرجوازيّة الفكتوريّة، عبس الجنس، لم يعد يملك حريّة في الكلام، في التعبير كما كان"[9]. هاهنا ميشال فوكو يعيد قراءة فيما لم يقرأ بعد وما امتنع عليه التفكير ميتافيزيقيا، فيما ظلّ غائبا ومغيوبا الذي ينبغي نخره وخرقه، وجدعه كما يجدع الجلاّد أنف "داميان"، أي ينبغي الإستماع بضرب من الحسّ الغير معلن إلى ما تهمس إليه الأشياء والى ما تحدثه هسهسة هذا المكتوب الذي يقتصّ منه فوكو حيّزات من التاريخ الغير مكتوب كفضاء مهمّش، لم يستطع التاريخ ولادته، هذا الشذوذ الذي يشذّ عن ضبطه، يدفعنا إلى التساؤل وإعادة السؤال من جديد بوقاحة كلبية فلسفية ديوجانية، فما الذي دفع بالجنس إلى تبكيته وطيّه ليصبح صمتا مريبا؟
ينقّر ميشال فوكو في هذه اللّوحة الصامتة تاريخ الجنسانية، هذا الأرشيف الذي ينبغي إثارته وإعطائه فرصة للكلام، هنا فوكو يدقّق في هذا الصمت الذي يغريه، فلا يكاد ينتهي من إغرائه، يحثّه على كشف سرّ صمت الجنس وفق ما يعنيه فوكو : "حول الجنس تصمت الناس والزوجان- شرعيان منجبان- وهما يصنعان القانون، يقيمان المعيار، يحفظان الحقيقة"[10]. فمع ظهور البرجوازيّة وقع نوعا من تدبير وإعادة التنظيم وضبط الجنس. إذن ثمّة انتقال من الجنس العاري الذي يرى إلى نظام العائلة التي تصادره، وتحكمه، وتقيم عليه ضربا من القصاص، فمقصلة العائلة تخفيه، تتستّر عليه، بمعنى أنّ الجنس يدخل حيّزه الاجتماعي. إذن، ثمة تلفتا إلى منبت اقتصادي يعيد هيكلة الجنس من جديد، وإذّاك وحده، ما يتنبّه إليه ميشال فوكو إلى أنّ الجنس وقع ترييضه وريضنته وإحصاؤه بمثابة التّبيئة الجديدة له، إيكولوجيا تعمل على كبته وتبكيته، فانتقل الجنس من الوحشيّة إلى الترييض الاجتماعي وفق ما تعنيه عبارات ميشال فوكو، فعلاقات القوى تتحدّد في شكل سلطة باعتبارها فكرا خارجا على حدّ عبارة جيل دولوز ، تعمل على تدبيس الحقيقة ، حقيقة الجنس ، ترغمه على الصمت[11]، تنخر طبقاته وتشلّ حركته حتّى يصير شكلا من أشكال المكبوتات باعتباره خطرا ينبغي استثماره وإضفاء ضربا من الأسطرة عليه، فلم يعد الجنس في عري يفرض نوعا من الاحتشام وضمن ما تعنيه العبارة : " الشاذ هنا الذي يشذّ عن القانون يتعرّض للعقوبات"[12]، لاستخدامه الجنس لذاته . فهذا الإقصاء للجنس حتّى يصير داخل رمسه، ممنوعا ، ممتنعا عن الظهور ، غير جليّ ، مقبرا في جدثه. إذن، ثمّة قمع يحثّ على الإسكات ويفقأ كلّ العيون التي ينظر بها ويسدل عليه الستار ويدخل في العتمة، فيصير مكظوما ومقموعا وحسيرا. فكيف ذلك ؟
يتحوّل الجنس في المجتمعات البرجوازيّة إلى أمكنة للإستثمار باعتباره لذّة ينبغي تفحيمه وإقصائه وإغلاق دفّة التاريخ عليه وفق ما تعنيه عبارة فوكو: "إذا كان الجنس مقموعا أي محكوما عليه بالمنع، باللاوجود، والخرس، فإنّ مجرّد الكلام عنه، والكلام عن قمعه، يكاد يتّخذ شكل عصيان مقصود" [13].
إذن، هنالك ضربا من الوقاحة والكلبيّة الديوجانية التي تحمل ميشال فوكو على الجرأة والتمرّد بتعرية ما أمكن تعريته وفضح مطلق الفضح لقمع الجنس الذي صار مكبوتا بفعل إستراتيجيات وتشكيلات خطابيّة قامت على محاكمته، إذّاك وحده ينبغي على الفيلسوف تفجير وتعتعة هذا الصمت وخلخلة جميع الأزمنة التي تعتصر لحظة قمعه ، هذا الضرب من الجديّة الفلسفيّة التي ترتعش على أوتار عباراته حيث يقول :" أمّا نحن منذ عشرات السنين ، فلا نكاد نتحدّث عن الجنس بدون شيء من الزهو والتكلّف ؛ شعور يتحدّى النظام القائم، نبرة صوت تشير إلى أنّنا نعرف أنّ موقفنا هدّام ، إندفاع نحو إبعاد شبح الحاضر، ومناداة مستقبل أنّنا نساهم في تقريبه"[14] . لعلّ هذا العناد الفلسفي الذي ينوء به كلكل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في إعادة أشكلة الخطاب الفلسفي حول الجنس وما تخفيه الحقيقة، بما هي إرادة معرفة تخترق كلّ ما لا ينقال للمقول الماثل خلف حقيقة الجنس ، لقمعه، الثاوي خلف الستارة التي ينبغي على الأركيولوجي- الجينيالوجي إعادة وصفها من الخارج[15]. بيد أن هذه الضربات المدماكيّة التي تخلخل الجنس المقموع، تدفع البعض إلى إكتراء آذانه عن الحديث في الجنس وفق ما تعنيه عبارات ميشال فوكو حيث يقول:" فنحن في النهاية، الحضارة الوحيدة التي يتلقي فيها أتباعها مكافأة مقابل إصغائهم لكلّ إنسان يسرّ إليهم حديثا عن جنسهم، كما لو أنّ الرغبة في الكلام عن الجنس، والفائدة المرجوّة من سماع هذا الكلام ، قد تجاوزتا بعيدا جميع إمكانيات الإصغاء ممّا جعلتا بعض الناس يؤجرون آذانهم"[16]. هكذا يجري ميشال فوكو ضربا من الإنزياح الطريف في ممارسة امتحان التفكير الفلسفي في الجنس لإخراج الراهن الفلسفي منه، من خلال عمليّة الإنصات إلى وجود خطاب حيث يتعالق فيه الجنس والحقيقة ضمن معنى ما تعنيه إشارة ميشال فوكو إلى أن النظام البرجوازي قام بتبديل إقتصاده في الواقع[17]، وتحويل الجنس من رأس مال رمزي إلى رأس مال مادّي ، بمعنى رسملته وقمعه تحت مراوغة القانون الذي جعل إلاّ لمراوغة نفسه، فالحقيقة بما هي إرادة تختفي وراء قمع الجنس لإعتبار أنّ المعرفة – السلطة لا يمكن عزلهما عن بعضهما ، إذ السلطة بما هي إستراتيجيا فى علاقة تأثر وتأثير، من الخارج تريد قمع الداخل وتهميشه وإنتاجه على نحو مغاير، فتلك من مهام السلطة التي تتوزّع في كلّ مكان وليس لها زمان تتحد به أو تتقيّد به: " غير ذات موقع ، وليست قابلة لأن تنحصر في مكان بعينه، لأنّها منتشرة"[18] فماذا تعني السلطة؟ وكيف تتجلى؟ وهل يمكن حصرها في جهاز الدولة أم هي حصيلة علاقات قوى؟ أليس السؤال ما هي السلطة؟ سؤال سيء الطرح لذلك ينبغي معاودة السؤال حسب فوكو بطريقة أكثر حكمة ودقة هو كيف نمارس السلطة؟ يمكن القول أن ميشال فوكو رسم نقاط على خطوط هندسيّة على طريقة الرياضين وتحديد كوانطا للظواهر الاجتماعيّة وخاصة في كتابه "المراقبة والقصاص" إذ نقد التصور الحديث للسلطة (فلاسفة العقد الإجتماعي جون جاك روسو وجون لوك وتوماس هوبس وسبينوزا) الذي قام بالسيطرة على الجسد للتحكم في الإنسان وهي سلطة ماكروفيزيائية مرئية تتجلى في الحاكم وهيمنته على المحكومين وهي علاقة عمودية وضمن ما تعنيه عبارات ميشال فوكو: " لقد ظهرت في القرن السابع عشر–الثامن عشر تقنيات السلطة المتمركزة أساسا على الجسد ولا على جسد الفرد ، أنّها تلك العمليات التي بواسطتها نضمن التوزيع المكاني لأجساد الأفراد (...) كلّ هذه التكنولوجيا يمكن أن نسميّها تكنولوجيا إنضباط العمل، لقد تمّ وضعها في نهاية القرن السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر".[19] لكن خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر ستظهر ما يسمّى السياسة الحيويّة ( Le bio-pouvoir)، ثمّة انتقال من تكنولوجيا التشريح السياسي للجسد الإنساني (L’anatomo-politique) إلى السياسة الحيويّة للنوع البشري. بيد أن فوكو يرفض التصورات الحديثة لمفهوم السلطة ويعتبرها تصورات وهمية غير مقنعة للفيلسوف لأنها تصورات مثالية بعيدة كل البعد عن الواقع المعيش وعن الإنسان الذي لم يعد يتوهم أنه أسطورة بل هو أضعف الكائنات وأهشها في الوجود ولكن كيف نمارس السلطة؟ تتجلى السلطة كنتيجة للعلاقات القوى هي استراتيجيا تظهر في الخطاب الذي يقع ممارسته على الأفراد وتتجلى كممارسة مثال: سلطة الطبيب على المريض والمربي على التلاميذ والعرف على العامل وفي الثكنات وفي وسائل الإتصال الحديثة تتخفى ويسميها السلطة الميكروفيزيائية وهي سياسة حيويّة للنوع البشري تقوم بتدجينه وترويضه وتدريبه على الإنضباط. لقد كشف ميشال فوكو عن عقم التصورات الفلسفية التي اختزلت مفهوم السلطة إمّا في جهاز الدولة فلاسفة العقد الإجتماعي والماركسية وإمّا في جانب واحد كالفرويدية وبالتالي وقعوا في سؤال ماهوي للسلطة والحال أن السلطة هي ممارسة لا تظهر إلا حينما نمارسها وهكذا يجري فوكو نقلة نوعية من سؤال ما هي السلطة؟ إلى كيف نمارس السلطة؟ ونفهم من ذلك قلب ميشال فوكو لمأثور كلوزوفيتش "إن السياسة هي استمرار للحرب بوسائل أخرى". فالسلطة متعددة لا يمكن تعريفها بأي من الأحوال إسم بلا لقب تمدد في حياة الإنسان وتهب له الحياة بقدر ما تهب له الموت هي السياسة الحيوية ميكروفيزيائية شبيهة بالذرات التي لا نراها إلا بالمجهر. فهي تمارس بعدة وسائل تتغير بتغير الموقع الذي تجلت فيه، فهي نتيجة علاقات قوى. فظهور ما يسمّى السياسة – الحيويّة في أواخر القرن التاسع عشر قد غيّر مجرى الحديث، إلى هدف بيولوجي ينبغي الحفاظ عليه ، لإمداد الأمل في الحياة، والعناية بحياة السكّان ، بمعنى تحوّل من تنظيم الأجساد والإنضباط إلى تبيئة إيكولوجيّة للحياة، قصد توفير جملة من مستلزمات الحفاظ على الجسد البيولوجي بما هو غاية البيو- سلطة وهذا مظهر من مظاهر ذرية السلطة ومكروفيزائيتها.[20] هاهنا ضمن ما يعنيه تحليل ميشال فوكو لخطاب الجنس المقموع الذي يختفي ضمن الإنتاج الخطابي المعرفي – السلطوي، وكأنّ فوكو يحدّد " كوانطا" للظواهر الاجتماعيّة[21]. أليس فوكو يريد أن يكتب تاريخا لغياب الجنس باعتباره ينضوي ضمن آليات وتقنيات السلطة التي تخفي حقيقته وترغمه على الإسكات لفترة صمت طويل لتهميشه؟
2- المعرفة – السلطة: لعبة الحقيقة والسلطة:
يرسم ميشال فوكو خارطة للجنس منذ القرن السابع عشر باعتباره رسام خرائط ، فهذه الخارطة يمتزج فيها ما يرى وما يعبّر عنه أشبه بضرب من " الجيو-فلسفيّة "[22] العميقة التي تحدث عنها جيل دولوز وهو ينصت إلى ما تخفيه الإنحناءات ضمن شكل الرؤية والتضاريس وفق ما يعنيه شكل الكلام في خطاب الجنس باعتباره جنسا يرى وجنسا يعبّر عنه وفق وضمن ما تعنيه عبارة جيل دولوز المفتتنة[23]، فـ: " إذا كان قوام المعرفة ربط ما يرى بما يعبّر عنه، فإنّ السلطة هي العلّة المفترضة لذلك ، غير أنّ السلطة تستلزم بدورها المعرفة، كتشعّب وتفرّع ، بدونها لن تخرج إلى الفعل، لا وجود لعلاقة سلطة، لا ترتبط بنشأة حقل المعرفة، ولا وجود لمعرفة لا تفترض علاقات سلطة ، وتنشئها في الوقت ذاته"[24]، فالمعرفة هي حسب ووفق التعريف الفوكولدي نظام عملي باعتبارها مكون من منطوقات لعبارات ورؤى ،[25] وإذّاك وحده يمكن القول بأنّ الكلام والرؤية كشكلا من أشكال الشروط القبليّة لإنكشاف الداخل على فكر الخارج ( السلطة كاستراتيجيا) في علائقيّة وتعالق أشبه بالكانطيّة الجديدة الخاصّة بميشال فوكو ضمن معنى ما تعنيه عبارة جيل دولوز، أي شروط التجربة الواقعيّة وليست شروط إمكان للمعرفة[26]. فالسلطة بما هي إجرائيّة بمثابة مجموعة من القوى التي تلتحم بعضها ببعض في شكل صدام وصراع ومقاومة لا يمكن فهمها خارج علاقات القوى، هي إنثناء الخارج على الداخل، تتسلّل من بين الفجوات والثغرات لتحدث مطلاّت جديدة ، وكوى حيث توجد علاقات قوى هي ثمّة وجهها، لا يمكن مسكها، بل ما يمكن أن نرى آثار ماديّتها بفعلها في شكل المعرفة بما هي إرادة وخارج شكل المعرفة- السلطة، لا يمكن أن نفهم شكل ما يرى وما يمكن التعبير عنه[27]، فحقيقة الجنس ينبغي تدجينها واستثمارها كمادّة طيّعة للجسد في الاقتصاد السياسي، ووفق ذلك فمركّب السلطة – المعرفة يخفي حقيقة الجنس الذي يحمل تاريخ اضطهاده وتاريخ قمعه. حينذاك يقيم ميشال فوكو أركيولوجيا لهذا الصمت، لهذا التاريخ الذي تتراكم فوقه جملة من "الطبقات الرسوبيّة" ( Couches sédimentaires)، ينبغي إجتثاثها واستئصالها من جذورها لتعريتها بضرب من التفلسف الكلبي الجينيالوجي الذي يقحمه ميشال فوكو كعدّة فلسفيّة تخترق ما امتنع عليه التفكير وما ظلّ غائبا في الصمت وبقي في رفات المنسيّ الذي أغلقت دونه دفّة التاريخ ، هذا القلب الذي يمارسه فوكو في "إرادة المعرفة" لإعتصار حيّز من فضاء التاريخ، تاريخ الجنسانيّة والجنس حتّى يقول عن نفسه ما أمكنه القول. فالقرن السابع عشر شكّل نكتة بداية القمع الخاصّ بالمجتمعات البورجوازيّة، لمراقبة الجنس وإخفائه يقول فوكو:" فأنماط من الخرس، تفرض الصمت نتيجة الاستمرار في ممارسة السكوت والمراقبة"[28]، وهو ما يسمّيه فوكو بعبارة مفتتنة " نوع من الاقتصاد التقييدي"[29]. يحاول ميشال فوكو إزاحة اللثام عنه وإلتماس الخيوط الدقيقة التي تتشابك بإلتصاقه وتجاوره، وهو شبيه بالحفر في عمق تضاريسه ورؤية ما تخفيه إنحناءاته الملتوية ليظهر الجنس في شيعوعته وهو أشبه بالمكاشفة والإطلالة على مدار خطاب الجنس ، إطلالة تثقب جداريّة التاريخ لتعتصر جميع الفجوات والثغرات في لحظة الراهن أو التجربة الواقعية كشرط إمكان قبلي للرؤية والعبارة وفق ما تعنيه معنى عبارة جيل دولوز الرائعة[30]. فالتحوّل الطريف الذي يجريه ميشال فوكو أشبه بضرب من الفتل أو الضفر في كلامه وفق معنى ما يعنيه:"في القرن الثامن عشر أصبح الجنس شأنا من شؤون الشرطة (...) شرطة الجنس لا تعني صرامة في التحريم ، وإنّما ضرورة تنظيم الجنس عبر خطابات مفيدة وعامّة"[31]. لقد تحوّل الجنس إلى جنس يتكلّم ضمن إهتمامات الشرطة الداخليّة أي أنّه تحوّل من بوليس الألفاظ ومراقبته من تقنية من تقنيات السلطة، فتحوّل من القمع إلى إنتاجه وإعادة تنظيمه ضمن ما تعنيه العبارة أيضا: " لقد أدركت الحكومات أنّها لا تواجه فقط رعايا ولا حتّى شعبا بل تواجه سكّانا مع ظاهرتهم النوعيّة ومتغيّراتهم الخاصّة: ولادات، أمراض، معدّل الحياة، خصب."[32] فكيف ذلك ؟
تحوّل الجنس إلى عمليّة ترييض، أي عقلنة هذا المتوحّش، الملغز في طبيعته، فتناسلت جملة من الخطابات حول الجنس لفهمه، كالطبّ عبر أمراض العصاب ، والطبّ النفسي في بحثه عن الأمراض العقليّة، وكشفه كمجموعة من الانحرافات الجنسيّة والقضاء الجزائي في دراسته لجملة من الجرائم والاعتداءات منذ القرن التاسع عشر. ها هنا يمكن القول أن ميشال فوكو حاول رسم نقاطا على خطوط هندسيّة كطريقة الرياضبين وتحديد كوانطا للظواهر الاجتماعيّة بعبارة دولوز وضمن ما تعنيه عبارات ميشال فوكو: " لقد ظهرت في القرن السابع عشر – الثامن عشر تقنيات السلطة المتمركزة أساسا على الجسد ولا على جسد الفرد ، أنّها تلك العمليات التي بواسطتها نضمن التوزيع المكاني لأجساد الأفراد (...) كلّ هذه التكنولوجيا يمكن أن نسميّها تكنولوجيا إنضباط العمل، لقد تمّ وضعها في نهاية القرن السابع عشر وخلال القرن الثامن عشر."[33] لكن خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر ستظهر ما يسمّى السياسة الحيويّة ( Le bio-pouvoir )، بما هو انتقال من تكنولوجيا التشريح السياسي للجسد الإنساني (L’anatomo-politique) إلى السياسة الحيويّة للنوع البشري.
3- السلطة الحيويّة ومنطوق الجنسانيّة :
يجري ميشال فوكو في كتابه " إرادة المعرفة " تحوّلا عنيدا ينتأ منه داخله وعلى أديمه يستخرج ضربا جديدا من ماديّة الخطاب حول الجنس، فيتحوّل من سياسة التنظيم له إلى سياسة حيويّة تهتمّ بالبيولوجي وهي تعتني بحياة السكّان. هاهنا ، يتجاوز ميشال فوكو الفرضيّة القمعيّة باعتبارها قد فصلت الجنس عن مركّب السلطة- المعرفة واعتبرت أن الحقيقة متعارضة مع السلطة وهذا ما أسهب فيه فوكو بدقّة آنفا. لعلّ القرن التاسع عشر وفق ما يعنيه ميشال فوكو أنّ علم الجنس (Scientia–Sexualis)[34]، لم يخرج عن حقلين معرفيين هما فيزيولوجيا التناسل وطب الجنسانيّة، لم يكن المقصود به والقاصد إليه من هذه الخطابات إلاّ نوعا من إخفاء الحقيقة ومنعها وإقصائها فـ: " تمثل الجنسانيّة بوصفها أساس الأمراض الفرديّة ونواة لساد النوع والأصل ، تمفصل الانضباط والتنظيم للجسد والسكّان (...) الطبّ هو معرفة –سلطة يعمل على الجسد وعلى السّكّان ، على الكائن الحي وعلى العمليات البيولوجيّة، وله آثار انضباطيّة وتنظيميّة ."[35] .
إذن، ثمّة ضمن ما تعنيه معنى عبارة فوكو رفض " للرؤية والسمع "[36]، باعتبار أن السمع والرؤية شكلان من أشكال التفلسف الحقيقي أو التعالق بينهما في شكله المكرور على ذاته بينما يرى وما يعبّر عنه، دائريّة رؤية تنصت إلى القول المباطن للقول المسموع ، أي أنّ كلّ فترة تاريخيّة لا تخرج عن شروط العبارة فيما تقوله هي عن نفسها، فيما ترشح به ، هي عن ضجيجها وصخبها الذي يسكن كمونها الداخلي ولعلّنا نسيء إلى دور الكنيسة مذ إنعقاد المجتمع الديني ( Le concile de trente ) في شحن وصقل عبارات قدّت بعناية عن الجنس[37]، بمعنى ما من المعاني ثمّة قفز على النقاط في توثّب، تحويل الجنس إلى الحديث عنه في خطاب طبّي يحمل إستراتيجيّة سياسيّة ليصبح الجنس داخل الخطاب وفق تمفصل بين التشريح السياسي والبيو-سياسي للنوع البشري وإقامة نقطة بينهما أرخيميديسيّة[38]. يقوم ميشال فوكو بعمليّة إجراء بمثابة التدقيق والتحقيق في منطوق الجنسانيّة التي شكّلت طبقات رسوبيّة تستدعي في كلّ مرّة رسم خطوط ، ونقاط لخارطة الجنس وجغرافيا للتفكير فيه وفق وضمن ما تعنيه عبارات جيل دولوز[39].
إذّاك يمكن القول وفق وجيل دولوز " المنطوق" يشبه آلات رايمون روسل[40] الذي حلّلها ميشال فوكو باعتبارها آلات تعمل على النظر والكلام ضمن ما يعنيه جيل دولوز[41]. ثمّة جنس من القرابة المفهوميّة بينما يرى وما يعبّر عنه واستراتيجيا السلطة كتقنية وكفكر الخارج الذي ينثني على الداخل كما تنثني الموجة على نفسها في شكل من الالتواء، أي أنّ شكل الرؤية يمثّل الضوء، النور الظهور والانكشاف وشكل التعبير أو الكلام، هذان الشكلان اللّذان يمثّلان إمكان شرط للتجربة الواقعيّة، وإن كان ذلك كذلك، فخطاب الجنس والحقيقة يتداخل في شكل المعرفة-السلطة منذ إبتداع التوبة لدى المسيحيين، فتحوّل إلى فنّ شبقي (ars erotica) لدى الشرقيين، إذ أن الإعتراف المسيحي تترابط فيه الحقيقة والجنس: " منذ سرّ التوبة حتّى اليوم كان الجنس يؤلّف مادّة الاعتراف المميّزة ، يقال أنّه الشيء الذي يخفي (...) بالنسبة إلينا يترابط الجنس والحقيقة في الاعتراف"[42]. نلحظ ضربا من الغمز الفلسفي لدى ميشال فوكو في إشارته إلى أن الجنس إذ إتخذ شكل التربية لدى اليونان وظهوره كفنّ شبقي لدى الشرقيين في شكل تلقين وانزياحه ليمثّل شكلا من أشكال الإعتراف لدى المسيحيين في خطاب علمي للجنس يقوم بعمليّة إنتاج للحقيقة في ثوبها اللاهوتي. وتبعا لذلك ينقّر ميشال فوكو في عمليّة فحص إجرائيّة للتحوّل الذي طرأ على الجنس في شكل اعتراف ضمن الخطابات العلميّة وهي كالتالي:
1. بواسطة الترميز العيادي لانتزاع الكلام وفق ما تشير إليه العبارة لدى فوكو : " دمج العلماء الاعتراف بالفحص العيادي ، بعلامات وأعراض ذات رموز ممكنة "[43] .
2. بواسطة مسلّمة وجود سببيّة عامّة ومستترة في القرن التاسع عشر : " نسج الطّبّ في ذلك العصر شبكة كاملة من السّببيّة الجنسيّة لكلّ من عادات الأطفال الرديئة وأمراض السلّ الرئوي عند البالغين والسكتات الدماغيّة لدى الشيوخ".[44]
3. بواسطة مبدأ الاستتار الباطني للجنسانيّة : أي إنتزاع حقيقة الجنس بضرب من تقنية الاعتراف وتكنولوجيا فحص الضمير وفق ما تعنيه عبارة ميشال فوكو قد غيّر القرن التاسع عشر تقنية الاعتراف إلى خطاب علمي يصير فيه الجنس موضوع الخطاب العلمي.
4. بواسطة طريقة التأويل : بمعنى ما من المعاني تفترض عمليّة الإصغاء إلى الذي يعترف بحقيقته كموضوع تأويل .
5. بواسطة طبننة نتائج الاعتراف : يفحص الاعتراف من خلال عمليات علاجيّة يمكن صياغتها في عبارات علميّة ويصبح الجنس ميدان تنعكس فيه جملة من الأمراض .
وبالجملة يمكن القول، أن ظهور "علم الجنس" كتقنية في القرن التاسع عشر مثّل نكتة أرخميديسيّة لإنتاج حقيقة علميّة عن الجنس[45]، فالجنسانيّة هي علم الجنسي في رسمه اللاتيني[46]، يختزل في تاريخه ما يسمّيه ميشال فوكو بـإقتصاد الخطاب وما تستغلق عليه من تقنيات داخليّة واستراتيجيا معقّدة ، إذّاك ثمّة استراتيجيا لسلطة محايثة (Immanent ) لهذا الخطاب.[47]
إن ما يقصد إليه ميشال فوكو والغاية من خلال مقوله ، هو استخراج عنيد لللامفكر فيه فلسفيا، بمثابة الخروج عن ضبط السؤال عن ماهية السلطة إلى كيف نمارس السلطة بماهي علاقات قوى ونلحظ انزياحه من الفرضيّة القمعيّة إلى البحث في منطوق الجنسانيّة ضمن مركّب السلطة – المعرفة، هذا الخروج عن ضبط السؤال، عن نحوه، وشذوذه عن قاعدته التي بدا منها كضرب من الدائريّة في انثناء السؤال على ذاته. إذن، ثمّة عسر في عمليّة التخريج الفوكوي للمسائل، أي بتعبير آخر يتنبّه ميشال فوكو إلى تشتّت تاريخ الجنسانيّة بانتقاله من الفرضيّة القمعيّة إلى دخول الجنس العتبة العلميّة كعلم للجنس، ضمن خطابات متعددة كالطبّ العيادي وعلم النفس التحليلي ، ووفقها وقعت مصادرته ضمن خطاب علمي ، أي أن تعدّد هذه المنطوقات عن الجنس باعتباره مشكلا وهو مدار الكلام وعمود ما يدور حديثنا عنه . هاهنا يفصح فوكو عن جملة من الصعوبات التي مثّلت ضربا من عويص الطريقة في كتابة هذا التاريخ الغائب، إذّاك يمكن القول بأنّ الإرشاد الرعوي المسيحي الذي اتخذ شكل الاعتراف ( l’Aveu) شكل فحص الضمير ، تقنية تفتضّ مكامن الذات كضرب من التربية تتخذ شكل الإرشاد وتختفي ضمن قانون الزواج لقمع الشهوة ( La chair )، غير أن التحليل النفسي في انهمامه بجنسانيّة الأطفال أدرجها داخل خانة المكبوتات، " فكانت الجنسانيّة هي التي ولّدت قواعد الزواج وجسّدتها لجعلها مشيعة بالرغبة والشهوة"[48]. فنكتة الإشكال في المنطوق للجنسانيّة من الشهوة في مفهومها المسيحي تمر عبر إستراتيجيات كبرى برزت في القرن التاسع عشر وهي جنسانيّة الطفل ( sexualisation ) ، وهسترة المرأة ( Hystérisation) وتحديد نوعيّة الانحراف لتنظيم السكّان "وجميع هذه الاستراتيجيات تمرّ عبر العائلة لا بدّ أنّها كانت عامل جنسانيّة رئيسي وليس سلطة مانعة [49]، وضمن ما تعنيه عبارات ميشال فوكو : " هذا المجتمع يتقاطع ، وفقا لتمفصل عمودي ، بين معيار الانضباط ومعيار التنظيم والقول أنّ السلطة في القرن التاسع عشر أخذت على عاتقها مسألة الحياة ، يعني القول أنّها تمكّنت من تغطية كلّ الفضاء والمساحة الممتدّة من العضوي إلى البيولوجي، من الجسد إلى السكّان، وذلك بعمليّة مضاعفة أو بالأحرى بلعبه مضاعفة لتقنيات الانضباط من جهة وتقنيات التنظيم من جهة أخرى".[50]
بلا معاندة فلسفية، قد أنصت ميشال فوكو بكلّ شغف وولع لكتابة تاريخ للجنسانيّة، في شكل دائريّ عود على بدء، ينتهي فيه منطوق الجنسانيّة بخلق إمكان وهمي هو الجنس ، أحدث عدّة داخليّة كالرغبة في الجنس والرغبة في امتلاكه، في إبتداعه وتحريره وإصداره خطابيّا وصياغته كحقيقة ، فهو يوهمنا بمعرفة أنفسنا وإنّه لعنت شديد أن نتمسّك بالوهم وإذّاك وفق ما تعنيه عبارة فوكو أن الجنس في حالة تبعيّة لتاريخ الجنسانيّة وليس العكس هو المقصود " ينبغي أن لا نضع الجنس في جهة الواقع والجنسانيّة في جهة الأفكار الغامضة والأوهام"[51]، فالجنسانيّة هي التي تناسلت منها الجنس وهي إمكان تاريخي واقعي ولذلك ينبغي التحرّر من منطوق الجنسانيّة والجنس ، أليس ذلك ما تعنيه عبارات فوكو: " فإنّ من أجل تحقيق الهجوم المضاد في مواجهة جاهزيّة الجنس، لا ينبغي أن تكون نقطة الاستناد هي الجنس– الرغبة، ولكنّ الأجساد والرغبات".[52] إذّاك وإذّاك وحده، يسعى ميشال فوكو بمنهجه الأركيولوجي- الجينيالوجي لتفكيك منطوق الجنسانيّة، فهي توهمنا بأنّنا تحرّرنا " من سخريّة هذه الجاهزيّة ، إنّما تجعلنا نعتقد أنّ الأمر يتعلّق بـ " تحرّرنا" " [53]. فهذه اللّوحة القاتمة ، التي ينتهي بها عنوان " إرادة المعرفة" بلا ريب وفي رحاب أفقه ينهي ميشال فوكو بضرب من الضحك الساخر لمنطوق الجنسانيّة وإلى التلفّت نحو ماديّة الجسد وماديّة السلطة بما هي سلطة حيويّة تتخذ شكل تنظيم السكّان. وبهكذا طريقة يحدث ميشال فوكو ضربا من الانفصال والانزياح الطريف في "إرادة المعرفة" أو بتعبير آخر بضرب من الوقاحة الكلبيّة الديوجانية ليفكّك الخطاب في تبعثره وانثناءاته وإلتواءاته وتضاريسه وانحناءاته، فهذا الوصف الجينيالوجي الذي يجريه فوكو ليعتصر الخطاب في لحظة مكاشفته لعريه، هذه الورشة المفهوميّة تبدع وتبتدع سكّة مجهولة في التاريخ الذي يتأسّس على مبدأ الانفصال على طريقة الإبستيمولوجيّن كباشلار وكنغيلام وفق معنى ما تعنيه عبارة بول فاين Paul Veyne لـ"مسك العصا من الوسط".
الهوامش:
[1] - هذا المقال مقتبس من مذكرة الأستاذية في الفلسفة بعنوان "إرادة المعرفة لدى ميشال فوكو"، جامعة المنار تونس، 2004، إشراف الدكتور فتحي المسكيني والدكتور عبد العزيز لبيب.
[2] - مات بول ميشال فوكو في 25 جوان 1984 ، الساعة 13 و15 عشرة دقيقة في مستشفى سالبيتريير الذي سبق أن تحدّث عنه في تاريخ الجنون، أنظر ديديه إيريبون في كتابه " ميشال فوكو" ، ص 350 انظر أيضا نفس المرجع عن العاب الحقيقة، الفصل التاسع، ص. 346.
[3] - Michel Foucault, L’Archéologie de savoir, Eds , Gallimard 1969 , Chp.1, p 28 : « Plus d’un, comme moi sans doute écrivent pour n’avoir plus de visage »
[4] - Didier Eribon, Michel Foucault, éd., Flammarion, 1989.
[5] - Gilles Deleuze, Différence et répétition, PUF, 1968, p 192 : « Penser, c’est créer, il n’y a pas d’autre création, mais créer, c’est d’abord engendrer penser dans la pensée »
[6] - Ibid, p 88 : « une philosophie du dehors est une philosophie de l’implication », voir aussi Gilles Deleuze, Foucault, p 117 : « Un Dehors, plus lointain que tout extérieur, se plie , d’un Dedans , plus profond que toute intérieur ».
[7] - Hurbert Dreyfus et Paul Rabinow, Michel Foucault, Un parcours philosophique, Eds, Gallimard p.325. :« Je crois que, le travail qu’on a à faire c’est le travail de problématisation et de perpétuelle reproblématisation ».
[8] - Gilles Deleuze, Foucault, p 31 : « Divine comédie des punitions »
[9] - Michel Foucault, la volonté de savoir, Chp1, p 9 : « Des gestes -dir-ectes, des discours sans honte, des transgressions visibles, des anatomies montrées et facilement mêlées, des enfants délurés vôdant sans gêne ni scandale. Parmi les rires des adultes : les corps « Faisaient la roue « (…) « A ce plein jour, un rapide crépuscule aurait fait suite, jusqu’aux nuits monotones de la bourgeoisie victorienne. La sexualité est alors soigneusement renfermée »
[10] - Michel Foucault, La volonté de savoir, p 10 : « Aux tours du sexe, on se tait. Le couple, légitime et procréateur, fait la loi. Il s’impose comme modèle, fait valoir la norme détient la vérité, garde le droit de parler en se réservant le principe du secret ».
أنظر الترجمة المحوّرة ص 27.
[11] - Ibid , p 10 : « a la fois chassé, dénié et réduit au silence »
انظر الترجمة المحوّرة ص. 28.
[12] - Ibid , p10.
[13] - Ibid , p 13 .
[14] - Ibid , p p 13,14.
[15] - Gilles Deleuze, Foucault, p 61 : « Que tout soit toujours dit, à chaque époque est derrière le rideau, il n’y a rien à avoir, mais il était à de d’autant plus important chaque fois décrire le rideau puis qu’il n’est existe rien derrière où dessous ».
[16] - Michel Foucault, La volonté de savoir, p 14 : « Nous sommes, après tout, la seule civilisation où des préposes reçoivent rétribution pour écouter chacun faire confidence de son sexe (…) , certains même ont mis leurs oreilles en location ».
[17] - Ibid, p 15 : « L’affirmation d’une sexualité (…) à modifier son économie dans le réel, à subvertir la loi qui le régit, à changer son avenir. »
[18] - جيل دولوز : المعرفة والسّلطة ، مدخل لقراءة فوكو ، ص ص32-33.
[19] - ميشال فوكو : " يجب الدفاع عن المجتمع " ، ( دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس( لسنة 1976)، ترجمة وتعليق الدكتور الزواوي بغورة، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 2003، ص 232.
[20] -- Michel Foucault, Les Mots et les choses, Paris, Gallimard, 1969./- l’Archéologie du savoir, Paris, Gallimard, 1969./- L’ordre du discours, Paris, Gallimard, 1971./-Surveiller et Punir, Naissance de la prison, Paris Gallimard, 1975./- La volonté de savoir, Paris, Gallimard, 1976./- L’usage des plaisirs, Paris, Gallimard, 1984./- Le souci de soi, Histoire de la sexualité, tome3, Paris, Gallimard, 1984./- Il faut défendre la société, Paris, « Hautes études », Gallimard, seuil, 1997.
[21] - Gilles Deleuze, Foucault, p 44 : « Quanta ».
[22] - Gilles Deleuze et Félix Guattari : Qu’est ce que la philosophie ? ,éds. Minuit, 1991 : « Géo- philosophie ».
[23] - جيل دولوز : المعرفة والسلطة ، مدخل لقراءة فوكو ، ص 84.
[24] - نفس المرجع، ص ص 45 – 46 .
[25] - Gilles Deleuze, Foucault, p 58 : « le savoir est agencement pratique, un dispositif d’énoncés et de visibles ».
[26] - Ibid., p 67 : « Cette recherche des conditions constitue une sorte de néo- Kantisme propre à Foucault ».
[27] - Ibid., p 93 : « L’appel au dehors est un thème constant de Foucault, et signifie que penser n’est pas l’exercice inné d’une Faculté, mais doit advenir à la pensée ».
[28]- Michel Foucault, La volonté de savoir p 25 : « sans même avoir à le -dir-e (…) à force le se taire, imposent le silence, censure »
[29] - Michel Foucault, La volonté de savoir p 25 : « sans même avoir à le -dir-e (…) à force le se taire, imposent le silence, censure »
[30] - Gilles Deleuze, Foucault, p 55 : « Le visible et l’énonçable »
[31] - Michel Foucault, La volonté de savoir, p 35 : « Le sexe, au XVIIIème siècle, devient affaire de « police » (…). Police du sexe : c est-à--dir-e non pas rigueur d’une prohibition mais nécessité de régler le sexe par les discours utiles et publics. »
[32] - Ibid, p 36 : « Les gouvernements s’aperçoivent qu’ils n’ont pas affaire simplement à des sujets, ni même à une « peuple » , mais à une « population » , avec ses phénomènes spécifiques ( …) maladité, morbidité, durée de vie , fécondité, état de santé ( …). »
[33] - ميشال فوكو،" يجب الدفاع عن المجتمع " ، ( دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس( لسنة 1976)، ترجمة وتعليق الدكتور الزواوي بغورة، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 2003، ص 235.
[34] - Michel Foucault, La volonté de savoir, Chp III, p 70.
[35] - ميشال فوكو : " يجب الدفاع عن المجتمع "، ص 243
[36] - Michel Foucault, La volonté de savoir, p 74 : « refus de voir et d’entendre ».
[37] - Gilles Deleuze, Foucault, p 61 : « On comprendrait mal le rôle de l’Eglise depuis le concile de trente, si l’on ne suivait cette prolifération des discours sexuels. ».
[38] - Colloque : Michel Foucault philosophe -;- Michael Donnelly : Des divers usages de la notion de bio pouvoir, p230 : « Dans la volonté de savoir, Foucault décrit « deux pôles de développement » » .
[39] - Ibid , p 185 : « il y a des lignes de sédimentation dit Foucault mais aussi des lignes de « fissure » de « Fracture » démêler les lignes d’un dispositif, dans chaque cas, c’est dresser une cartographie, apparenter, des terres inconnues, et c’est ce qu’il appelle le « travail sur le terrain » »
[40] - Michel Foucault, Raymond Roussel, Eds Gallimard 1963 pour le texte et 1992 pour la présentation de Pierre Macherey , p 22.
[41] - Colloque : Michel Foucault philosophe, p 186 : « Ce sont des machines à faire voir et a faire parler ».
[42] - Michel Foucault, La volonté de savoir, p 82, ligne 4, 24 : « or, depuis pénitence chrétienne jusqu’au jour d’huit, le sexe fut matière privilégiée de confession. (..) Pour nous, c’est dans l’aveu que se lient la vérité et le sexe ».
[43] - Ibid , p 87, ligne 20 أنظر ميشال فوكو نفس المرجع ، ص79.
[44] - Ibid, p 87, ligne 29. نفس المرجع ، ص79.
[45] - Ibid, p 90.
أنظر نفس المرجع ، ص. 81.
[46] - Ibid , p 90. أنظر نفس المرجع ، ص 81
[47] - Ibid, p94, ligne 9 : « mais en fonction des tactiques de pouvoir qui sont immanentes à ces discours »
[48] - Ibid , p 150, ligne 5 .
انظر نفس المرجع ، 119.
[49] - Ibid , p150 , ligne 16. انظر نفس المرجع ، 120.
[50] - ميشال فوكو " يجب الدفاع عن المجتمع " ، ص 244 ، أنظر كذلك : ميشال فوكو " إرادة المعرفة" ص 147 وكذلك نفس المرجع بالفرنسيّة، ص 183 .
[51] - Michel Foucault, La volonté de savoir, p 207 : « ne pas placer le sexe du côté du réel, et la sexualité di côté des idées confuses et des illusions -;- la sexualité est une figure historique très réel, et c’est elle qui a suscité comme élément spéculatif, nécessaire à son fonctionnement, la notion du sexe. »
[52] - Ibid , p208 : « Contre le dispositif de sexualité, le point d’appui de la contre- attaque ne doit pas être le sexe – désir, mais les corps et les plaisirs ».
[53] - Ibid, p 211 : « Et nous devons songer qu’un jour, peut être, dans une autre économie des corps et des plaisirs, on ne comprendra plus bien comment les ruses de la sexualité, et du pouvoir qui soutient le dispositif, sont parvenues à nous soumettre, à cette austère monarchie du sexe, au point de nous vouer à la tâche indéfinie de forcer son secret et d’extorquer à cette ombre les aveux les plus vrais. Ironie de ce dispositif : il nous fait croire qu’il y va de notre « Libération »
#الصادق_عبدلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟