احمد سعد
الحوار المتمدن-العدد: 1265 - 2005 / 7 / 24 - 10:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
شتان ما بين الانفتاح الناصري ومآسي الانفتاح الكارثية بعد رحيله
اليوم السبت، 23 تموز، تصادف الذكرى السنوية الـ 53 لانتصار ثورة يوليو المصرية بقيادة الزعيم الوطني خالد الذكر الرئيس جمال عبد الناصر وحركة الضباط الاحرار. ورغم مرور اكثر من نصف قرن على هذا الحدث التاريخي الهام من حيث مدلوله السياسي فانه من الاهمية الكبيرة بمكان العودة لدراسة التجربة المصرية التي سطع نورها سياسيا واقتصاديا – اجتماعيا، مصريا وعربيا وعالميا، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وخفت نورها بعد وفاة ورحيل جمال عبد الناصر وتسلم نائبه انور السادات قيادة دفة السلطة المصرية في صحاري الردة الرجعية الخيانية سياسيا واقتصاديا – اجتماعيا بعيدا عن المصالح الوطنية الحقيقية لشعب ارض الكنانة.
ففي الميزان التاريخي، ومن حيث الاهمية التاريخية، تشغل ثورة 23 يوليو المصرية مكانة طليعية مرموقة بين حركات التحرر القومي والوطني العالمية، التي تعدى تأثيرها الفاعل الحدود الوطنية المصرية. لقد كانت بالفعل من حيث مضمونها ومدلولاتها السياسية والاجتماعية ثورة وليس مجرد انقلاب عسكري اطاحت من خلاله "حركة الضباط الاحرار المصرية" بالنظام الملكي المتعفن وعميل الاستعمار. ثورة لانها احدثت تغيرات جوهرية نوعية في منهج ونهج النظام التقدمي الجديد ادت الى تغييرات كبيرة عميقة الجذور في البنية الاقتصادية – الاجتماعية والطبقية المصرية، وفي تحديد مكانة ودور النظام المصري على ساحة الصراع الدولي. فمن السمات الاساسية لطابع التغيرات السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي ميزت الثورة المصرية في مرحلة الرئيس جمال عبد الناصر تجدر الاشارة والتركيز على الدلائل الاساسية التالية:
* أولا: ان الهدف الاولي لثورة حركة التحرر الوطني انجاز الاستقلال الوطني. وفي مصر كان يعني الامر من حيث المدلول السياسي الاطاحة بنظام الملك فاروق المتعفن الذي كان مكبلا بقيود الوصاية الاستعمارية البريطانية وخدمة مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في مصر والمنطقة كما كان يعني الامر تحرير ارض مصر من مناطق النفوذ الاستعماري، وخاصة قناة السويس الشريان الاقتصادي والاستراتيجي الهام. ولهذا اتسم نظام الرئيس جمال عبد الناصر بطابعه المعادي للاستعمار انطلاقا من حرصه على خدمة مصالح الشعب المصري الحقيقية، ولهذا لجأ الى تأميم قناة السويس من ايدي اللصوص الاستعماريين الفرنسيين والبريطانيين. وكان رد المستعمرين شن الحرب العدوانية الثلاثية البريطانية – الفرنسية – الاسرائيلية في الستة والخمسين بهدف الاطاحة بنظام عبد الناصر. وبهبة الشعب المصري في مواجهة الغزاة وتضامن الشعوب العربية ومساندة الاتحاد السوفييتي لمصر الثورة وانذاره للمستعمرين المعتدين جرى افشال ودفن العدوان الثلاثي وصيانة قناة السويس، ملكا وطنيا لشعبها المصري.
* ثانيا: ان صيانة الاستقلال السياسي في ظروف "الحرب الباردة" والصراع بين المعسكرين الاشتراكي والامبريالي الرأسمالي، لا تسمح موضوعيا لانظمة حركة التحرر الوطني المتحررة حديثا، ان تفترش الرصيف وتلتزم الحياد، خاصة وان الانياب الاستعمارية مسنونة للانتقاص من استقلالها السياسي وتحاك مختلف المخططات الاستعمارية التآمرية لابقاء هذه البلدان في حظيرة نفوذها. ولهذا ومن خلال قراءة صحيحة لخارطة الصراع الدولي وموازين قواها حدد الرئيس جمال عبد الناصر موقع ودور مصر الثورة في مسارين لا يحكم التناقض بينهما، بل يخدمان في نهاية المطاف مصلحة استقلال مصر وتطور الشعب المصري. فكان عبد الناصر من المبادرين الى بلورة تضامن الدول والانظمة المستقلة حديثا في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية في اطار تكتل دولي منظم اطلق عليه اسم كتلة الحياد الايجابي ومن ثم كتلة دول عدم الانحياز بزعامة الرئيس المصري جمال عبد الناصر والهندي جواهرلال نهرو، واليوغسلافي جوزيف تيتو. كما ادرك الرئيس عبد الناصر انه لمواجهة الحصار الامبريالي على مصر ومواجهة المؤامرات الامبريالية لا مفر من تعزيز علاقات الصداقة والتعاون متعدد الجوانب مع سند حركات التحرر الوطني العالمية، مع الاتحاد السوفييتي.
وبتحديد الموقف الى جانب حركات التحرر الوطني وانظمتها المستقلة حديثا برز الدور الوطني الكفاحي لنظام جمال عبد الناصر، الناشط والفاعل، في تضامنه ودعمه السياسي – الدبلوماسي والمادي والعسكري لحركات التحرر الوطني الجزائرية والفلسطينية واليمنية وغيرها.
* ثالثا: لقد ادرك الرئيس جمال عبد الناصر ان مهمة الثورة الاساسية بعد انجاز الاستقلال السياسي هي اجراء تغييرات جذرية في البنية الهيكلية الاقتصادية – الاجتماعية المصرية وذلك بهدف بلورة خلفية اجتماعية تضمن تطور مصر حضاريا وعصريا وتخدم المصالح الحقيقية لجماهير الشعب المصري، لفلاحيه وعماله وبرجوازيته الوطنية التي كان لها مصلحة في الثورة وانتصارها. فشن نظام عبد الناصرة ثورة على الاقطاع المصري. أمّم الارض وجرى توزيعها على الفلاحين، واحدث ثورة في المجال الصناعي والتصنيعي، فبمساعدة الاتحاد السوفييتي جرى بناء القاعدة الصناعية في حلوان وغيرها وجرى بناء سد اسوان العظيم الذي تحول قاعدة استراتيجية لكهربة وتصنيع مصر وبلورة طبقة عاملة مصرية وقطاع عام واسع وله مركز القيادة في الاقتصاد المصري.
رغم هذه الانجازات الكبيرة، السياسية والاجتماعية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الا ان الثورة انتكست بعد رحيله وحدثت الردة اليمينية الرجعية والخيانية منذ عهد الرئيس انور السادات، لماذا؟ هذا هو السؤال الاساسي المطروح على اجندة الحركة الثورية التقدمية، خاصة وان الانتكاسات والردات رافقت مسار تطور حركات التطور الوطني وانظمتها ليس في مصر فقط، بل في الكثير من بلدان العالم الثالث النامية.
برأينا وانطلاقا من منظورنا الطبقي، فان القوة المحركة للثورة والاساسية في قيادة حركة التحرر الوطني هي البرجوازية الصغيرة والمتوسطة التي تستقطب حولها الجماهير الشعبية المسحوقة والمضطهدة في ظل نظام تسوده علاقات اقطاعية وقبلية متخلفة وتابعة بعمالتها وتبعيتها للاستعمار واحتكاراته التي تغمر اسواق البلدان المتخلفة اقتصاديا ببضائعها المصنعة والجاهزة. بلدان، ومنها مصر، بغالبيتها الساحقة من الفلاحين والطبقة العاملة في طور النشوء. وفي مصر عبد الناصر لم يسند النظام خلفية سياسية- جماهيرية منظمة، حزب سياسي منظم مؤدلج فكريا وسياسيا متحزب طبقيا لقضايا ومصالح الفئات الاجتماعية والطبقية، للعمال والفلاحين وغيرهم من المسحوقين، ويصون الثورة من الردة والانتكاسة. لقد سار نظام عبد الناصر على نمط الحزب الواحد، لم يسمح بالتعددية الحزبية، وهذه نقيصة سلبية تمس طابع وجوهر النظام، اقام بأوامر من اعلى، من قمة الهرم الى التنظيمات القاعدية ما اطلق عليه اسم "الاتحاد الاشتراكي العربي" بدون هوية ايديولوجية محددة تعكس حقيقة التحزب للاشتراكية العلمية. كان هذا الحزب اشبه ما يكون بـ "السوبرماركت"، جمع في كنفه مما هب ودب من هويات الانتماء الفكري والسياسي، من انتهازيين ووصوليين، من يمين ويسار ووسط، من رجعيين واصوليين، عششوا في مختلف المراكز الدنيا والعليا في هذا الاطار الفضفاض. هذا اضافة الى حقيقة ان التطور الموضوعي قد احدث فرزا وتمايزا طبقيا وتقاطبا طبقيا. حدث فرز داخل الطبقة البرجوازية المصرية، فبعض شرائحها اغتنت في ظل النظام، وخاصة من كان يطلق عليها "البرجوازية الوطنية" اصبح لها مصالحها وارتباطاتها بالرأسمال الاجنبي، وهنالك من استفاد من اختراقه للقطاع العام غير المراقب وجمع ثروة كبيرة. وآخر ما يفكر فيه الرأسمالي هو مصلحة من يستغلهم ويجني من عرقهم الارباح الطائلة. ولهذا لم يكن من وليد الصدفة ان تبرز بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر مراكز القوى. كما لم يكن من وليد الصدفة ان ينجح السادات في تغيير مسار الثورة مائة وثمانين درجة. بدأها باختلاق ازمة مع السوفييت باخراج الخبراء والمهنيين والعسكريين السوفييت من مصر واساءة العلاقة معهم. وتبع ذلك باعلان قوانين الطوارئ في مصر لمصادرة الحريات الدمقراطية وكم افواه معارضيه واعتقال من يتنفس وزجه في السجن دون محاكمة حسب "قانون العيب". واذا كانت سياسة عبد الناصر مبنية على الانفتاح على العمال والفلاحين والبرجوازية الوطنية بهدف خدمة مصالحهم والانفتاح على بلدان انظمة التحرر الوطني وعلى الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية لمواجهة انياب الامبريالية المفترسة فان السادات انتهج سياسة "بديلة" "سياسة الانفتاح الاقتصادي" النيولبرالية التي عنت تصفية القطاع العام المصري تدريجيا من خلال الخصخصة، بيع املاك وشركات القطاع العام للقطاع الخاص وللرأسمال المحلي والاجنبي، وفتح ابواب مصر لهيمنة الرأسمال الاجنبي على اسواق واقتصاد مصر. سياسة الانفتاح الساداتية كان مدلولها السياسي الانفتاح على الغرب والارتماء في احضان بيت الطاعة الامريكي والاستعداد لخدمة اهدافه الاستراتيجية العدوانية ضد شعوب المنطقة.
سياسة الانفتاح الساداتيه قادته الى عقد رايات الصلح المنفرد الخيانية مع حكومة اسرائيل التي اخرجت مصر من حلبة الصراع وفي وقت لا يزال فيه المحتل الاسرائيلي يغتصب الاراضي المحتلة الفلسطينية والسورية ويمارس جرائم الحرب والبلطجة العدوانية العربيدة ضد الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة ويتنكر لثوابت حقوق هذا الشعب الوطنية الشرعية بالحرية والاستقلال الوطني.
يحز في انفسنا نحن ابناء الشعب العربي الفلسطيني الذين نكن كل الحب والتقدير للشعب المصري الشقيق، ما آلت اليه حالته من بؤس وتعاسة، ومنذ رحيل نظام عبد الناصر وحتى اليوم.
فبعد ان كانت مصر عبد الناصر مركز الاحترام والتقدير العالميين وقائد وحادي مسيرة التحرر الوطني والتقدم عربيا وعالميا اختزل دورها اليوم ومنذ ردة السادات وتقزم الى خادم ثانوي في اطار استراتيجية الهيمنة الامريكية في المنطقة. يحز في انفسنا ان شعب ارض الكنانة الذي وفر نظام عبد الناصر الارض لفلاحيه واماكن العمل لعماله والجامعات لابنائه وبناته، يعاني هذا الشعب اليوم من مهانة العبودية لشروط البنك الدولي "وللمساعدات" الامريكية ولانياب النيولبرالية المنتهجة في مصر التي تقذف اليوم الى سوق البطالة والمعاناة بين عشرة في المئة الى عشرين في المئة من القوة العاملة المصرية التي يبلغ تعدادها اكثر من عشرين مليون عامل وعاملة.
حقيقة هي انه جرى في مصر على ارض الواقع نسف انجازات ثورة 23 يوليو ولكننا على ثقة تامة "بأن بقاء الحال من المحال" خاصة وان شعب الثورة وصاحب المصلحة فيها لم يمت. و"حكم ضل ما ظل"، وهذه حكمة زبدة التطور التاريخي.
#احمد_سعد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟