هيثم الحلي الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 4463 - 2014 / 5 / 25 - 06:26
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
البعد الإجتماعي والإنساني في شخصية الإمام الكاظم, في ذكرى إستشهاده
دهيثم الحلي الحسيني
باحث في الدراسات الإستراتيجية
ومتخصص في التراث العلمي
لم يكن تلقيب الإمام موسى بن جعفر, بالكاظم والعبد الصالح وباب الحوائج الى الله وراهب بني هاشم, مصادفة أو من باب الإطراء والتعزير, وإنما هي صفات قد أجمع عليها جمهور علماء المسلمين وفقهاؤهم ومؤرخوهم, في مقاربة شخصيتة, التي قلّ ما يجود بشاكلتها التأريخ, حتى عدّت صفحة خالدة, في سفر التأريخ العربي الإسلامي, وقد لازمته هذه الصفات, في نشأته وسيرته وحياته, وفي الرسالة التي حملها, وإنجازاته العلمية, وأدواره المجتمعية, وحتى بعد إنتقاله الى الرفيق الأعلى, إذ تشرفت حاضرة المسلمين بغداد, بإحتواء جسده الطاهر, ليكون على مر العصور, "ترياقا لأهلها", كما عبّر عنه الإمام الشافعي, الذي ضاق به المقام فيها, فغادرها دون رجعة, بعد أن فارق المدينة سيدها شهيدا.
وذلك يستدعي مقاربة تأملية, في بناء هذه الشخصية, وما تميزت به من خصال, أهلته لأداء أدواره ومهامه, وبالذات من حيث الجنبة المجتمعية, والرعوية الإنسانية, في مجالات التكامل والضمان الإجتماعي, التي إختصت بها, بهدف التعريف بأدوار أئمة آل البيت الهداة, الذين يحتاج مجتمعنا في مرحلته الخطيرة, الى الإقتداء بهم, وخاصة النخب السياسية, أو المشتغلين في الشأن العام, في الدولة والمجتمع.
لقد كان لإئمة آل البيت, بعد الرسول الأعظم, أكبر الأثر في نشر الفضيلة بين صفوف المسلمين, وتربيتهم على المثل الرفيعة, ودعوتهم الى الطريق السوي, وبث مكارم الإخلاق والقيم السامية, وعيا منهم, أن المجتمع الإسلامي الجديد, بات في حاجة ماسة, الى صيانته ومناعته, بعد أن انشغل ولاة الأمر, في أمور الدولة والسياسة, وترصين الحكم والسلطة, فكانت تلك المهمة, قد نهض بها الأئمة, كل في مرحلته وأدواره, في إستجابة للحاجة الفكرية والحضارية الحقيقية, التي قامت عليها العقيدة الإسلامية.
ولقد ورث الإمام موسى الكاظم, عن أبيه الإمام الصادق, أعظم الخصال في العلم والحلم والشجاعة والكرم والإباء, وعزة النفس ومساعدة المحتاج, والصبر على الأذى, فكانت الدار التي ولد ونشأ بها في المدينة المنورة, جامعة كبيرة, تموج بالحكماء وأهل العلم, إذ يجيب والده على أسئلتهم وإشكالاتهم, دون إلتفات الى نحلهم وأهوائهم, ومذاهبهم العلمية أو الفقهية, وكان بينهم كبار التابعين, الذين لم يدركوا الرسول الأكرم, لكنهم أدركوا أصحابه, أو تابعوا التابعين, أو الفقهاء المجتهدون, ومن بينهم الإمام مالك والإمام أبي حنيفة النعمان, وطبقة العلماء وأصحاب السنن كالسفيانيين وغيرهم, حتى تشرّب الإمام الكاظم العلم والمعرفة, من أصولها وأركانها.
وقد كانت جميع الأمصار وقبائل العرب, ترسل أفضل أبنائها, للدراسة في جامعة الإمام الصادق, التي أنشأها كأول مدرسة علمية في تأريخ المسلمين, حتى بلغوا الآلاف, ممن جمع دروسه في أربعمائة مجلد, أسموها بالأصول الأربعمائة, حتى وصفه الإمام أبو حنيفة, بإمام الحق, وأنه "أعلم الناس لأنه الأعلم بإختلافهم", إذ كان يدير الحوارات والنقاشات, الفقهية والفلسفية, بإقتدار عجيب, ومن هذه الجامعة العلمية, خرجت المدارس الفقهية الإسلامية الرئيسة, وهي مدرسة "الحديث والسنة" للإمام مالك, التي يطلق عليها بمدرسة أهل المدينة, ومدرسة أهل العراق "القياس والرأي", للإمام أبي حنيفة, الذي تكلّف بالدعوة, في حركتي الإمام زيد الشهيد, ومحمد ذي النفس الزكية, وقضى شهيدا للرأي في سجن المنصور.
وفي تلك الفترة, اخذت المدارس الفلسفية اليونانية, تدخل وتخترق ثقافة المسلمين, فأسس الإمام الصادق في مواجهتها, أول مدرسة فلسفية في الإسلام, ولم تقف إهتماماته في الفلسفة والفقه, بل شملت سائر العلوم, في الكيمياء والطب والصيدلة والفلك والرياضيات وسواها, فكان من خريجيها, أمثال جابر بن حيان الكوفي, الذي تعد ريادته في علم الكيمياء, بمثابة ريادة "إفلاطون" لعلم المنطق, كما تثبته كبريات الجامعات والمتاحف الأوربية, في آثاره الشاخصة فيها, وفي جميعها يقول "حدثني أستاذي ومولاي جعفر بن محمد".
ثم ينتقل الإمام الى الكوفة, فيشيع فيها إشعاع العلم والمعارف, حتى يروي عنه فيها, مئات العلماء والفقهاء والمحدّثون, في حلقات درسهم, وجميعهم يذكر "حدثني الإمام جعفر بن محمد", وكان لا يحدّث إلّا عن آبائه, العدول الثقات, عن جده الرسول الأكرم, مستغنيا عن الإسناد, وكانت تلك الجامعة العلمية الأولى في الإسلام, التي تواصلت الى يومنا هذا, متمثلة بالحوزة العلمية في النجف الأشرف, الوريثة الشرعية لمدرسة الكوفة العلمية, لتناظر بذلك حواضر المسلمين, كجامعة القيروان في تونس, والأزهر الشريف في القاهرة, التي حذت حذوها, حتى قال عنه الإمام مالك "مارأت عين ولا سمعت اذن, ولا خطر على قلب بشر, أفضل من جعفر بن محمد, علما وأدبا وعبادة وورعا", حتى دعي بإمام الأئمة والفقهاء وأستاذهم.
فلهذه المقدمات, أظهر الإمام الكاظم منذ طفولته, نبوغا في العلم والفقه وسرعة البديهة وحضور الجواب, إذ كان كبار العلماء, الذين يفدون للحضور بين يدي والده الإمام, يتباحثون معه, فيبرع في محاورتهم بالحجة والدليل, ورجاحة العقل وقوة الإستدلال والبراهين العلمية, فيثير إعجابهم, وبعضهم يكتفي بإجاباته وأقواله, فيعودا أدراجهم, وهو الغلام اليافع.
ومن بينها إجابته للإمام أبي حنيفة, الذي رآه يصلي عند دهليز الدار, والناس تمرّ من أمامه, دون أن يعبأ بهم, فسأل عن جواز ذلك, في حضرة أبيه, الذي ترك الإجابة لولده, من فرط ثقته بعلمه ونبوغه, فأجاب بذكاء وفطنة, أنه قد إنشغل عن الناس من حوله, فيمن يصلي اليه, لأنه "كان أقرب اليّ منهم", مستشهدا بالآية الكريمة "ونحن أقرب اليه من حبل الوريد", فتعجب النعمان لإجابته قائلا "ذرية بعضها من بعض", ولا زالت تلك الإجابات, تعد رسائل فقهية معمّقة ورصينة, يدور عليها البحث والدراسة الفقهية.
وكان آخر ما تلقاه من وصية والده الإمام "أنّ شفاعتنا لا تنال مستخفا بصلاة", وفي ذلك إشارة, لإشتراط العبادة والورع والتدين الصحيح, فيمن يظهر الولاء لمدرسة آل البيت, ويقتفي مناهجهم, وأن "صلة الأرحام والبر بالإخوان ولو بحسن الجواب ورد السلام, يعصمان من الذنب", فتميّزت رسالته, بثنائية العبادة الصحيحة والسلوك الإجتماعي, التي أظهرهما في سيرته, سلوكا وتقوى وورعا.
إمامته, صفاته وسيرته
كان أحسن الناس صوتا في تلاوة القرىن الكريم, يبكي من خشية الله حتى تخضلّ لحيته الشريفة من الدموع, وكان يطيل في سجوده تعبدا, حتى لقب بالعبد الصالح, فكان لكل هذه الخصال الكريمة, أهلا للإمامة بعد أبيه, الذي أولاه رعاية خاصة, رغم أنه لم يكن أكبر أنجاله, فالأكبر كان "إسماعيل", الذي شاءت حكمة الله أن يتوفاه في حياة والده, كي لا يحصل الإختلاف بين الناس في تعيين الإمامة, فقد نص الإمام عليه لبعض خاصته, لأسباب أمنية, فضلا عن مقولته "أنهم سيهتدون اليه", فمن المنطق أن لا تنتقل الإمامة الى اللاحق إلّا بعد وفاة السابق, ومع ذلك فقد تبع إسماعيل بن جعفر, بعض الناس, وهم الفرقة الإسماعيلية, التي لم تنقطع الإمامة فيهم, وقد تفرقت الى عدة فرق, قائمة الى يومنا هذا, وخاصة النزارية والبهرة والفاطمية, في بعض البلاد الإسلامية, كالهند والشام.
كان الظرف الأمني والسياسي, صعبا للغاية في فترة إمامة الإمام الكاظم, بخلاف جلّ فترة إمامة أبيه الصادق, التي شهدت فترة إنحلال الدولة الأموية وإضمحلالها في أواخرها, ثم قيام الدولة العباسية اليافعة في بداياتها, فالدول كحال دورة الإنسان في الطبيعة, تنشأ ضعيفة ثم يشتد عودها وتقوى, وتستقر لفترة, ثم يدبّ فيها الضعف لاحقا, حتى زوالها, وقد أثبت ذلك العلامة بن خلدون في "مقدمته", فضلا عن المؤرخ "توينبي" في دراساته لفلسفة التأريخ, والحال "إذا تم شئ بدا نقصه, ترقب زوالا إذا قيل تم", أو هي كأداء الآلة والمعدة التقنية, وفق ما يشار اليه في الدراسات الهندسية, بمعامل الكفاءة, حيث يبدأ منحني الأداء من الصفر, ثم يرتفع ويستقر في مستوى الكفاءة, لفترة عمر الإشتغال, ثم يعدود في نهايتها, الى الصفر أو قربه بشكل أدق, بما يعبر عنه بمسار "اللامدا".
فقد إستلم الإمام الكاظم مهام إمامته, في أقوى عصور الدولة العباسية, والتي يعبّر عنها التأريخ الإسلامي, بالفترة العباسية الذهبية, إذ عاصر في إمامته, خلافة المنصور والمهدي والهادي والرشيد, فالدولة العباسية التي بدأت حركتها, في راياتها السوداء, في الدعوة الى الرضا من آل محمد, بمعنى الى إمام واجب الطاعة من آل البيت, دون إشهار لتنظيماتهم وقادتهم وزعاماتهم, باتوا بفضل "وعّاظ السلاطين", ينشر إعلامهم السياسي, أنهم الأحق بالخلافة والحكم وأمر المسلمين, دون سائر قريش وبني هاشم, بدعوى التفويض الإلهي والشرعي, والذي يتزامن عادة, مع سياسة القمع والترهيب والتهميش, وما يتبعها من ظلم وقهر إجتماعي.
مهمته ورسالته
بهذه التركة الأمنية والسياسية الثقيلة, باشر الإمام الكاظم مهام إمامته, غير أنه تصدى لمهمته بكل شجاعة وكفاءة وإقتدار, واضعا إستراتيجية عمل, في إستجابة لمتطلبات المرحلة وحاجاتها وضروراتها, لمهمة عليا ورسالة سامية, كان عنوانها الإصلاح المجتمعي والرعاية الإجتماعية, هدفها وغايتها, الإنسان الفرد والمجتمع, من خلال الإهتمام بأمور المسلمين, وقضاء حاجاتهم, والأخذ بيد الضعيف "ليس منا من بات ليلته ولم يهتم بأمور المسلمين".
فالدولة في تلك المرحلة, كانت بعيدة عن هموم المجتمع, منشغلة عنه في السياسة, ورجالاتها منشغلون بإمتيازاتهم الوظيفية, فكانت الفجوة قد توسعت, بينهم وبين عامّة الناس, فبذلك قد تحددت مسؤولية إمام زمانه, وذلك يبين أن أدوار الإئمة الهداة, ليست منجمدة ضمن أهداف محددة, بل هي كحركة الحياة, تتنفس حاجات المرحلة ومتطلباتها, وتشترك وتتكامل مع بعضها, لتقدم نظرية متكاملة للعمل, ومنهج للحياة, وتلك هي الغاية العليا, لرسالة الإسلام وعقيدته.
كان الإمام الكاظم, قد إشترى ضيعة هي "اليسيرية", وجعلها مركزا لقضاء حاجات الناس, فكان يخاطب صاحبه هشام "إن العاقل أو المتعلم, لا يحدث من يخاف تكذيبه, ولا يسأل من يخاف منعه, ولا يعد ما لا يقدر, ولا يرجو ما يعنف برجائه, ولا يعد أو يخاف فوته بالعجز عنه", وبذلك تميزت حركته الإجتماعية, فكان يسعى الى التأثير بالحكم وترشيده, من خلال وعظه ولاة المسلمين, وتوجيههم الى جادة الصواب, ضمن مناظرات جريئة, لتصويب الأخطاء, إن في السياسة أو الفقه أو في القضاء.
وبهذا فقد نشر ثقافة البر والإحسان, والتكامل الإجتماعي, والنفع العام والدعم المجتمعي, ومسؤوليات الوظيفة العامة, كونها تكليف للخدمة, ووكالة عن المجتمع, وليست نافذة للإثراء غير المشروع, مترجما بهذه الثقافة, المعنى الحقيقي, للإنتماء لمدرسة آل البيت, والدخول بولايتهم, فليس كافيا لإظهار ذلك, حبهم والتودد العاطفي لهم, الذي قد يدخل في باب الرياء المرفوض, والذي "أقلّه كفر", كما يقول سيد الشهداء, الإمام الحسين السبط, فالآية الكريمة التي فرضت التودد لآل البيت ومحبتهم " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة بالقربى", لا تقبل ذلك بالعاطفة المجردة, وإنما بإقتران العمل والأفعال والسلوك, الفردي والمجتمعي.
وذلك السلوك المجتمعي, يتحقق في قبول الآخر, وإحترام الإختلاف وثقافة اللاعنف, التي كانت شعار النهضة الحسينية, في سائر صفحاتها, من خلال الدعوة للإصلاح, ثم تولّى الإمام السجاد زين العابدين, مهمة الإعلام لهذا الفكر, ونشره والتثقيف عليه, خاصة من خلال موسوعته الفكرية والفقهية والعقدية الشاملة, في صحيفته المعروفة بالسجادية, التي إتخذ فيها من "الدعاء", وسيلة ناجعة للتأثير والإنتشار, عابرة لقيود السلطة وإجراءات القمع, ثم تبعها دور الإمامين الباقر والصادق, في جوانب نشر العلوم الفقهية والصرفة والتطبيقية, والفلسفة الإسلامية, وتأسيس الجامعة الفكرية والعلمية.
ثم تولّى الإمام الكاظم المهمة, والتي بمضمونها, أنّ من لا يحسن لإخوانه, ولا يسعى لقضاء حاجاتهم ومعونتهم, إقتداءً بسلوكه ومنهجه ومؤسسته المجتمعية, فهو ليس من أتباعه, ليكون الجميع مقفيين, إزاء مسؤولياتهم المجتمعية والإنسانية, ضمن الأدوار المجتمعية والإنسانية في سيرته, والمهام الرعوية الإجتماعية التي تكفّل بها, ثم صموده وثباته, في إستمرار أداء رسالته المجتمعية, وسعيه لترشيد الدولة والحكم, رغم إجراءات القمع والترهيب والتهديد.
المهام الإجتماعية للإمام الكاظم
كان الإمام يدفع الناس الى التعلم والتدبّر, والتحصيل في علوم الحياة, فيقول أن "الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر, وإنما يرتفع العباد بالدرجات, على قدر عقولهم", فينشر الوصايا بذلك, الى أتباعه المكلفين بالدعوة, من طبقة هشام بن الحكم, ليحضّ الناس الى التحصيل العلمي, فيروي عن جدّه الرسول الأكرم, أنه قد ذُكر عنده رجل طويل التعبّد, وفيه خصال الخير, فقال "وماذا عن عقله", بمعنى هل يسعى للعلم, لتبيان أن السعي للعلم, في أعلى مراتب العبادة, وهو الوسيلة لعمل الخيرات, والإنفتاح الواعي على المجتمع وحاجاته.
ولأسباب سياسية وأمنية, فقد نشط للإمام في قضاء حاجات الناس, من خلال مؤسسته الإجتماعية, فضلا عن إشاعته لثقافة التكامل الإحتماعي, وليكون مثالا ونموذجا, فيوصي أتباعه "أن الله تعالى تحت عرشه ظلّا, لا يسكنه إلّا من أسدى الى أخيه معروفا, أو نفّس عن كربته, أو أدخل على قلبه سرورا", فتكون بذلك المسؤولية الإجتماعية, تكليفا على حسب الكفاءة والمقدرة, فليس الغني كالمعسر, وليس القوي كالضعيف, فكانت مؤسسته ناشطة, في معونة طلاب العلم, ومعالجة المرضى, ومساعدة المحتاجين, والإنفاق على اليتامى والأرامل, ومساعدة المعسر, ورفع الحيف عن الناس المظلومين.
وكان كل طالب حاجة, يدخل "اليسيرية", فيخرج منها وقد قضيت حاجته, فكانت بحق, أول مؤسسة للنفع الإجتماعي العام, في التأريخ العربي الإسلامي, أو ما يصطلح عليه في الأدبيات المعاصرة, بهيئات المجتمع المدني, أو المنظمات غير الحكومية NGOS, والتي تتماهى معها, في جميع إشتراطاتها وأهدافها وأنشطتها, وبها يتميز تحضّر المجتمعات المعاصرة ورقيها, من خلال الخدمة الإجتماعية, في الحواضر المتقدمة في هذا المضمار, إذ تعد مؤسسات غير ربحية, وناشطة للنفع الإجتماعي العام, في توعية المجتمع وتأهيله, للحياة الأفضل, وذات تمويل بموارد تبرعية, ولا تسعى للسلطة, لكنها تشكل مجموعات ضغط, للتأثير في إصلاح الحكم وترشيده, وفي ذلك كان الإمام يؤكد, أنّ "أفضل الجهاد, كلمة حق عند إمام جائر".
وكان الإمام يتفقد الناس ليلا, ليوصل لهم حاجاتهم, دون إضطرارهم لذلّ المسألة والإبطاء فيها, ولا حتى معرفة المصدر, ولا يستثني في ذلك, خصومه ومن يناصبه العداء والأذى, فيثبت أنه الكاظم للغيظ, وأنّه العاف عن الناس, وأنّ الله يحب المحسنين, وفي ذلك معنى تلقيبه بالكاظم, والتي أثبتها الكتاب الحكيم, "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين", وهذه السمات حاضرة, في نظم المجتمعات المعاصرة المتحضرة, التي تضمن حقوق المواطنة, وتلبّي الحاجات الإنسانية والمجتمعية, بلا تمييز أو إستثناء, ودون أن يتحمل المحتاج, عناء الطلب والمسألة, والدولة أخيرا, تكون ضامنة للإنسان رعايته, في تلبية جميع إحتياجاته, ومتطلباته في الحياة, وفي ذلك تقدم البلدان وإزدهارها.
وعندما كانت الناس تسأل الإمام, كيف ينزل الى الرجل الضعيف والدميم بنفسه, ليسأله حاجته, فيجيب "عبد من عبيد الله, وأخ في كتاب الله, وجار في بلاد الله, يجمعنا وإياه خير الآباء آدم, وأفضل الأديان", فهذه وليس غيرها, معنى الولاية للبيت المحمّدي, فزكاة العلم نشره, وجميع ذوي القدرة والإقتدار, مكلفين برعاية إخوانهم, بتكليف شرعي, يضمن التكافل المجتمعي, فالإكتفاء بالولاء العاطفي, وذرف الدموع, والمشاركة بمجالس العزاء الحسيني, لا تكفي شرف الإنتماء, لهذا البيت الشريف.
مواجهة السلطة والسعي لترشيدها
وقد جاهد الإمام لمهمته السامية, بكل شجاعة وتصميم, وقد أستشهد عليها, في بذل حياته الطاهرة, قربانا وثمنا لها, إذ لم يُلق القبض عليه في أرض معركة, ولا خارجا لقتال, ولا طالبا لسلطة أو حكم, بل في تهمة سعيه لقضاء حاجات الناس, إذ حاكت أسرة "آل برمك", مؤامرة وضيعة, وهي أسرة غريبة, قد تزلّفت الى الرشيد العباسي, وتملّكت ثراءً كبيرا, فحضيت بذلك جاها مميزاً, فكان أمثالها, ناقما وحاسدا للإمام, فاستطاع يحيى بن برمك, أن يصل الى خصوصيات الإمام الكاظم, عن طرق ابن أخيه "علي بن اسماعيل", الذي دُفع له المال بسخاء, لشراء ذمته, فاستدعي الى بغداد لغرض الوشاية, وقد حاول الإمام منعه بالحسنى, ولكن دون فائدة, فإن علّة الإنسان الضعف, إزاء مغريات الحياة.
فارتاب الرشيد من حركة الإمام الإجتماعية, بكونها سابقة خطيرة على سلطته, ومكانته بين الناس, بعد أن تيقن بنفسه من شبهة البرامكة, في زيارته للحجاز, فضلا عن مجادلة الإمام له, ضمن وقائع وحوارات موثقة, مبينا رفضه لمبدأ إدعاء الحق الشرعي في الحكم المطلق, فآل البيت هم الأولى به, إن كان الأمر بتفضيل أو تمايز في القربى, مما زاد الرشيد حسدا وبغضا, وتصميما على الإنتقام, ولم يكن غرض الإمام التفاخر, فذلك ليس من خصاله, لكنّه قد هدف الى تبيان المسألة المهمة, في فلسفة السلطة والحكم, في أن ولي الأمر, يستمد شرعيته حصرا, من صلاح حكمه, وفي خدمته للرعية, ورعاية شؤونهم, وحسن معاملتهم.
صمود الإمام وصبره في مواجهة قمع السلطة
حزمت السلطة قرارها بالتضييق على الإمام, وسلبه حريته, لمنعه من أداء رسالته, ثم أخيرا تصفيته جسديا, لعلمها بصلابته وصموده, في دفاعه عن الحق, وعدم تراجعه في أداء رسالته, فأمرت بسجنه أولا في سجن والي البصرة, عيسى بن جعفر, الذي ذاق بسجينه ذرعا, لإنصرافه الى العبادة, دون إنشغال بأمور الدنيا, ودون المسألة أو الإعتذار, حتى خاف الفتنة في البصرة, فكتب الى ابن عمه الرشيد, "فإن أنفذت الي من يتسلّمه مني, أو أن أخلي سراحه, فإني متحرج من سجنه", فتم نقله الى بغداد, في سجن الوزير الفضل بن ربيع, الذي أظهر نفس الموقف, خيفة من إبقائه في سجنه, فتكفّلت البرامكة بذلك, إذ تولّى الفضل بن يحيى البرمكي, نقله الى سجنه, في بيت مولاه السندي بن شاهك, بنية الجريمة الكبرى بحق الإمام.
فعاش الإمام فترة عصيبة, في غياهب السجن وظلماته, في أقلّ رواية أربع سنين, وكان قد سبق سجنه في عهد المهدي العباسي, والد الرشيد, ثم أطلق سراحه, إثر منام أرعبه, فخاف إنتقام الله ورسوله, وكان الإمام يقضي زمن سجنه, في العبادة والصوم والصلاة, وطول السجود لله, مع إستمراره ببعث كتبه ووصاياه الى الناس بالموعظة, وكان الرشيد يشرف على الحبس من فوقه, فيقول للوزير بن الربيع, ما هذا الثوب الملقى على الأرض, الذي أراه كلما جئت هذا المكان, فيجيبه الوزير, أنه ليس بثوب, إنه موسى بن جعفر, ما نظرنا اليه, إلّا وجدناه ساجدا لله, فيقول الرشيد "حقا أنه راهب بني هاشم".
وكذا في محبسه في بيت السندي بن شاهك, حيث كانت أخته تراقب الإمام, فتلاحظه ينام هنيهة ثم يستلقي, على نداء السجّان للفجر, فيمسك صائما ويصلّي حتى الزوال, فيقول الغلام قد زالت الشمس, مناديا لصلاة الظهر, ثم يجدد سجوده حتى المغيب, حيث يفطر على طعام بسيط, ثم الصلاة حتى آخر الليل, حتى قالت المرأة, "خاب قوم, تعرضوا لهذا الرجل بسوء".
وكان لا يطلب إعتذارا من سجّانه الرشيد, وإنما يوعظه في رسائله قائلا, "إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء, إلّا وإنقضى عنك يوم من الرخاء, حتى نمضي جميعا الى يوم ليس فيه إنقضاء, وهنالك يخسر المبطلون", وكان الرشيد يجهد في أن ينقل اليه السجّان, أن الإمام يذكره بسوء, أو يدعو عليه بصلاته, لتكون له حجة في الخلاص منه, لكن السجّان, كلما إقترب الى الإمام في قنوته, يسمعه يدعو للصلاح والمغفرة, حتى لمن ظلمه, وهكذا يقدم المثل للجميع, في المعنى الحقيقي للسلوك الإنساني الرفيع, مكملا بذلك صفحته الأخيرة, في رسالته المجتمعية السامية, حتى وهو في أحلك ظروف محنته, قسوة وشدة.
إستشهاد الإمام على طريق الرسالة
وبعد أن تيقن الإمام, أن حكم الله قد نفذ, وأن الجريمة الكبرى بحقّه, واقعة لا محالة, فيرسل لمواليه, أنه خارج من سجنه, في إنتهاء محنته, لينتظروه عند نهاية الجمعة, فيسقى السم في ليلته, أو أن يخنق, بعد هذا العذاب الطويل, مستبشرا خيراً, بقضاء الله وحكمته, ولتصعد روحه الطاهرة الى باريها, "سلام عليكم بما صبرتم, فنعم عقبى الدار".
فيخرجه البرمكي وابن شاهك, ملفوفا بحصرة, يحمله أربعة حمالين, ليضعوه على جسر بغداد, ويكتشف أتباعه ومريدوه الأمر, وتجري الضجّة في شوارع الكرخ, لينتبه لها عم الرشيد, حيث يطلّ قصره على الجسر, فيسأل عن الأمر, فيجيبه حراسه, "سجين مات في سجنه", فيقول "أليس له عشيرة", فيجيبه الحراس "بلا أيها الأمير, إنه سيد بني هاشم ورأس قريش", فيخرج مع الناس, في جنازة مهيبة, ليدفن في مقابر قريش, حيث كان لا يدفن فيها, سوى الوجهاء من بني قريش, ومنهم خلفاء بني العباس أنفسهم.
حتى أن الإمام الشافعي, الذي كان في بغداد, يوم إستشهاد الإمام الكاظم, إذ أشخصه الخليفة من اليمن اليها, مكبلا بالحديد, بتهمة ولائه لمدرسة آل البيت, أو ما يعرف بالتشيّع, مع عشرة من أصحابه, قضوا جميعا صبرا, غير أن الله قد سلّمه لوحده بإعجوبة, في قصة معروفة في التراث الإسلامي, فقرر التأخّر في بغداد خلاف المفترض, في إنتظار لقاء الإمام الكاظم, بعد خروجه من سجنه, لما يكنّه للإمام من ولاء وتقدير وإعتبار, فغادرها بعد إستشهاد الإمام, قائلا "لا عودة لي من بعده الى بغداد", وكان دائما يردد أنّ "قبر موسى بن جعفر, هو الترياق المجرب".
كرامة المشهد الكاظمي ومكانته الإسلامية
وحتى خلفاء بني العباس أنفسهم, وخاصة المتأخرون منهم, كانوا يتسابقون في تكريم المشهد وإنارته, والبذل على حراسه وخدمة زواره, ومن ذلك الشباك الثمين, الذي أوقفه الخليفة المستنصر العباسي, على قبر الإمام الكاظم, والذي لا يزال الى يومنا هذا, يعد من أهم موجودات المتحف الوطني العراقي, وتحفه ونفائسه.
ثم هذا الفقيه كمال الدين الشافعي, يقول بحق الإمام الكاظم, "لكثرة عبادته يسمى بالعبد الصالح, ويعرف بالعراق بباب الحوائج الى الله تعالى, كراماته تحار منها العقول, وتفضي بأن له عند الله قدم صدق, لا يزال ولا تزول", كما ورد في مطالب السؤال, 83, والى ذلك يذكر العلامة أحمد بن يوسف الدمشقي, "المعروف عند أهل العراق بباب الحوائج, لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجاته, كراماته ظاهرة ومناقبه باهرة", كما ورد في في أخبار الدول, 112, وكذا شيخ الحنابلة, الفقيه أبو علي الخلال, الذي يذكر أنه "ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر, فتوسلت به, إلا وسهّل الله لي تعالى ما أحببت, كما ورد في تأريخ بغداد للخطيب البغداي, ج1 ص20.
وكذا يذكر العلامة محمود البغدادي الحنفي, "أنّه سمي بالكاظم, لكظمه الغيظ, وكثرة تجاوزه وحلمه, وكان معروفا عند أهل العراق, بباب قضاء الحوائج الى الله, وكان أعبد أهل زمانه, وأعلمهم وأسخاهم, كما ورد في جوهرة الكلام, 139, وكذا المؤرخ النسابة, محمد أمين السويدي, في كتابه المعتبر, "سبائك الذهب في أنساب وقبائل العرب", الذي يذكر أنه "سمي كاظما, لفرط تجاوزه على المعتدين, له كرامات ظاهرة, ومناقب كثيرة".
فجميع تلك النصوص, تبين إجماع علماء المسلمين على مكانة الإمام, وسمو الرسالة التي حملها, وموقعه في نفوس المسلمين جميعا, وذلك يؤشّر دالّة كبيرة, في نبذ التعصب المذهبي أو الطائفي, إذ كان المتقدمون مجتمعين في رؤى وثوابت, لا تفرّقهم ولا تدعو الى الخلاف المعمّق بينهم, مع إختلاف الإجتهادات وتباين الرؤى, والتفسيرات العلمية, ضمن المدارس الفكرية والفقهية, فتلك ظاهرة صحية, تدعو للإنفتاح الفكري والتنوع الثقافي, وليس التعصب الأعمى, الذي يهدف الى الفرقة والصراع, وبالتالي فقدان السلم الأهلي والمجتمعي, والدين والمذاهب منها براء.
ثم أن مقابر قريش هذه, بعد أن تشرفت بالجسد الطاهر, تحولت الى حضرة ومشهد جليل, باسم قبر الكاظم, ثم لتصبح مدينة الكاظم, أو الكاظمين, بعد أن تشرف ثراها أيضا, بالجسد الطاهر للإمام الجواد, حفيد الإمام الكاظم, ثم باتت تعرف بمدينة الكاظمية, تشرّفا وتيمّنا بمقام النازل فيها, إذ أصبحت تستقبل الزائرين من كل حدب وصوب, للدعاء عند المشهد, وطلب الحاجات, التي يقضيها الله تعالى, ببركة الضريح الشريف, "بسم الله الرحمن الرحيم, هنالك دعا زكريا ربّه".
ولا زال المكان, يعجّ بالملايين من الزوار, للتبرك والدعاء, أما أعداءه وظالموه وقتلته, فلا مقام يذكر لهم, عدا نهاياتهم غير الحميدة, بينما يزيّن الضريح الشريف, دار السلام بغداد, حاضرة العرب والمسلمين, التي لا يقصدها زائر, إلّا وكانت وجهته صوب الكاظمية ومشهدها, وتلك إرادة الله تعالى وحكمته, مما يستوجب التدبّر والتأمّل, وبالتالي السيرة والسلوك الإنساني.
وكأنّ رسالة الإمام الكاظم المجتمعية, مستمرة بديمومة عطائه الإنساني, حتى تحولّت الكاظمية, الى حاضرة للثقافة والعلم والبحث والدراسة, والفكر والأدب1, فضلا عن كونها جوهرة بغداد, ومركزها التجاري والحضاري, إذ تتفرع عنها المسالك الى جميع أنحاء بغداد بغرابة, رغم أنها لا تتوسطها, مما يؤشر مكانتها الحضرية فيها, وأنها ملتجأ جميع البغدايين, فضلا عن الوافدين اليها.
الهوامش:
1. هيثم الحلي الحسيني, الباحث, موسوعة أعلام الفكر والأدب في الكاظمية المقدسة, ثلاثة أجزاء, تحت النشر.
#هيثم_الحلي_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟