الإسلام السياسي والديموقراطية :
التطرف العلماني والتطرف الإسلامي
"الجزء الأول"
علاء اللامي
أعيد نشر هذه المقالة
المنشورة في كتابي " نقد المثلث الأسود ص 412 " إكراما للأخوة في المنتدى الإسلامي
الديموقراطي العراقي
وتقديرا لمبادرتهم الشجاعة
. ع . ل .
ينطلق بعض الناطقين بلسان
الخطاب العلماني المتطرف "العلمانوي" في مناوءته الإلغائية للمشروع السياسي
الإسلامي المعتدل من فرضية لم تتم البرهنة التجريبية أو الإمبريقية عليها قط،و
الغالب أنها لن تتم أبدا.تقول تلك الفرضية بمساواة في النوع بين شقي هذا المشروع من
حيث الممارسة، أي بين الشق العنيف "الجهادي" والآخر السلمي التنويري،ومن اختلافهما
في الدرجة لا في النوع.ومعنى ذلك بلغة ذات ملموسية أكثر،حسب هذه الخطاب العلمانوي:
أن عصابة فاشية تكفيرية من تلك العصابات ذات الممارسات الدموية المعروفة في عدد من
الدول العربية لا تختلف من حيث النوع عن حزب إسلامي سلمي يتبنى الديموقراطية
والنشاط الجماهيري طريقا إلى السلطة وطريقة في إدارتها كحزب الرفاه التركي أو حركة
نهضة العلماء في إندونيسيا..الخ.
واضح خطل هذه الفرضية ولا علميتها على الرغم من انتشارها انتشارا واسعا
لأسباب لا تتعلق بصوابها المضموني بل في مكان آخر مفعم بالأدلجة والتسيس ناهيك عن
تناقضها الصميمي مع سيرورة وواقع الأحداث والصراع السياسي والاجتماعي في هذا البلد
أو في سواه.
الأمر ذاته من حيث
الجوهر نجده في ثنايا الخطاب الإسلامي المتطرف "الإسلاموي" الذي ينطلق من أرضية
أدلوجية إلغائية هي الأخرى وذات نزوع فاشي تكفيري على صعيد الممارسة.فهذا الخطاب
يضع نفسه قطبا واحدا موحدا منـزها بقداسة يستمدها من نظام الإشارات الواسع المبني
على تأويلات فردية وجماعية للنص المقدس، وأيضا للتأويلات السابقة الماضوية وقد غدت
مقدسة.إنه يريد أن يُعتبر قطبا في موجهة القطب الآخر "غير الإسلامي" والذي يشمل
القوميين واللبراليين والاشتراكيين والشيوعيين وحتى المستقلين العلمانيين. والهدف
من هذا المسعى أبعد من أن يتعلق بالكعكة السياسية وما يحيط بها من فاكهة الامتيازات
والمصالح الطبقية والفئوية.. والطائفية! لم لا؟وقد عبر أحد الشيوخ التكفيريين
المعروفين عن هذه الفكرة الخطرة ذات مرة حين راح يعدد تفاصيل اللوحة السياسية في
بلده فيقول ( وثمة في ساحتنا السياسية المسلمون والاشتراكيون والقوميون الناصريون
والبعثيون واللبراليون والشيوعيون..) إن الأمر لا يتعلق بزلة لسان أو خلط برئ بين
المسلمين والإسلاميين، فالشيخ التكفيري كرر عبارته تلك عدة مرات وكان يعني ما يقول.
بمعنى أن "شيخنا" أخرج جميع المنتمين إلى أحزاب سياسية خلا أعضاء حزبه الإسلامي من
دائرة الإسلام!وليته اكتفى بذلك بل إنه أدخل جميع المسلمين حتى أولئك الذين قد لا
تكون لهم علاقة بالسياسية أو قد يمقتونها..الخ إلى حزبه أو تياره، فطارت همزة
الأسلمة وتحولت مجموعة المتحزبين الإسلاميين إلى "القوم المسلمين" أو "الفرقة
الناجية الوحيدة" في سيرورة إلغاء للآخر "غير الإسلامي" وفرض الوصاية على جمهور
الأمة من ملايين المسلمين.
لا
يمكن لنا رصد وتحليل ظاهرة الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية من
خلال مقولات وتحت أضواء أو ضباب أدلوجة أي من الخطابين السابقين (العلمانوي و
الإسلاموي) لعدة أسباب يتعلق بعضها بقصور المنظومات الأدلوجية المتطرفة أو شديدة
التحزب عن إحداث القطيعة المعرفية اللازمة في عملية التحليل والبرهنة التجريبية على
الفرضيات المطروحة حول هذه الظاهرة أو سواها. ويتعلق بعضها الآخر بطبيعة الظاهرة
نفسها غير القابلة للمحايثة والتثبيت بسبب عدم استقرارها التاريخي مما يجعلها أقرب
إلى الحراك الموصول غير المنقطع والمتحول باستمرار منها إلى ظاهرة مركبة من طبقات
وأجزاء قابلة للتفكيك المنهجي والمساءلة النقدية الشاملة. لكل ما سبق سنذهب إلى
الظاهرة موضوعنا في واقعها التاريخي والسياسي المباشر في البداية محاولين تقديم
مقاربة أولية تسمح لنا بتحديد أولياتنا النظرية وبرسم الإطار العام المباشر والأولي
لها في لحظتها التاريخية الراهنة:
تجسد المأزق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي بلغته الأنظمة السياسية
التي تتبنى الأدلوجة الإسلامية ومشروعها السياسي الديني بأكثر من مظهر عياني فثمة
الانفلاش العام والعمودي للحكم في السودان واعتقال نصف الائتلاف الإسلامي الحاكم
لنصفه الآخر وثمة الضمور الشامل والمذهل في الشعبية وانسداد الآفاق الاقتصادية
والاجتماعية للحكم الإسلامي في إيران.وهناك أيضا مظهر آخر لهذه الظاهرة ولعله
أقدمها ألا وهو الاسترهان الطوعي الكامل سياسيا وعسكريا واقتصاديا لمجموعة أخرى من
الدول "الإسلامية" للهيمنة الغربية عموما وتحولها إلى كيانات سكانية مستهلكة مسرفة
تعاني من شتى الأمراض البدنية والنفسانية وفي مقدمتها ما كان يسميه الأطباء العرب
قديما بالبيغ أي "ضغط الدم" وأمراض القلب والشرايين المختلفة والأمراض النفسية
ومنها مرض الأنومي (ANOMIE ) أي الشعور باللاجدوى وضياع واختلاط القيم المعيارية
أما مرض الأنيميا "فقر الدم" فهو مرض الأغلبية السكانية بامتياز. ويمكن التدليل على
هذه الأعراض بقراءة الصحف اليومية الصادرة في بعض الدول "الإسلامية" ومراجعة صفحات
الحوادث والجرائم المتكاثرة فيها تحت بند المخدرات والجنس والمال والوجاهة القبلية.
دع عنك الحالة "السوريالية" التي انتهى إليها حكم الطالبان في أفغانستان أو حالة
التعفن الدموي للصراع السياسي ذي الأبعاد الدينية في الجزائر التي تقشعر لهولها
الأبدان.
كان لهذا المأزق
التاريخي تعبيره الفكري والنظري الباحث عن أجوبة شافية لدى حملة المشروع السياسي
الإسلامي أنفسهم وأيضا، وبقدر أكثر عمقا وحيادية،لدى الباحثين السوسيولوجيين
والسياسيين المستقلين على اعتبار أن الباحث المتحزب سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي
لا يمكنه إحداث قطيعة إبستمية تضمن له حياديا في التفسير والتحليل والحكم الفرضي
(تحويل الفرض العلمي إلى نظرية مبرهن عليها تجريبيا) لظاهرة هو طرف فيها ومنها وحتى
إذا حاول هذا الباحث صادقا وجادا ومسلحا بأكثر المنهجيات صرامة ودقة فإن تلك
القطيعة الإبستمية تظل أمرا نسبيا إلى هذه الدرجة أو تلك. ويعترف كاتب هذه السطور
بأن ما قيل هنا ينطبق تماما على محاولته التفسيرية والتحليلية الراهنة وسيظل الحكم
القطعي في نهاية الأمر ليس على ما يزعمه من حياد علمي بل على صوابية الأدوات
العلمية والمنهجية التي يعتمدها وعلى النتائج التي سيتوصل إليها أو التشكيلات
المنجزة التي يقيمها، وهو بعد هذا وذاك لا يزعم حيادا ليس له أو فيه، وإنما يقدم
محاولة تخصه وحدة،ويتحمل بالتالي مسئوليتها من حيث النتائج والمقدمات. لقد كان لهذا
المأزق التاريخي لمشروع سياسي،كان حتى الأمس القريب مهيمنا جماهيريا هيمنة
مطلقة،آثار مختلفة الشدة والعمق والإيقاع من الناحية النوعية ومختلفا أيضا من ناحية
الحكم القيمي سلباً وإيجاباً. ولعل من أكثر تلك الآثار وضوحا هو خفوت الصيحات
الانتصارية القياموية المبشرة بقيام الجنة على الأرض بمجرد قيام حكومة الولي الفقيه
هنا،أو بمجرد عقد البيعة لأمير المؤمنين هناك.
ترافق هذا الخفوت مع ارتفاع في نبرة ووتيرة التساؤلات
والبحث المنهجي وغير المنهجي لدى أهل هذا المشروع السياسي الإسلامي كما هي الحال مع
تيار الإصلاحية الخاتمية في إيران أو لدى غيرهم. ولئن كانت بعض الأحزاب والحركات
السياسية الإسلامية قد شرعت مبكرا وقبل أن يحل عصر التأزم والانسداد سالف الذكر
بسنين طويلة، ودون أن تكون تلك الأحزاب قد تنسمت سدة السلطة، فطرحت طائفة من الرؤى
النظرية والأفكار البرنامجية المعتدلة والمنفتحة على العصر ويمكن إيراد مثالين
جديرين بالنظر الجاد هنا هما حركة النهضة الإسلامية في تونس وحزب الرفاه في
تركيا،فإن أحزابا وحركات أخرى شرعت بعد تأخير طويل في تنكب طريق الاستبداد
الثيوقراطي وولوج النفق المؤدي إلى التجديد والانغراس في تربة العصر الراهن، فطرحت
العديد من المحاولات وبدايات المحاولات الجديدة،والمكررة والعميقة والسطحية دون أن
تخلو اللهجة تماما من آثار الانشداد إلى الماضي والفكر السلفي من النوع الاستبدادي
ولعل خير ممثل لهذا الاتجاه حركة الأخوان المسلمين وفرعيها المصري والأردني بشكل
خاص.
يمكن اعتبار تبني بعض رموز
هذه الحركة لموضوعات ومطالب من قبيل: نحن حزب سياسي لا حزبا دينيا، لا نريد بناء
دولة دينية ثيوقراطية بل نريد تطبيق الشريعة الإسلامية، يمكن اعتبار ذلك من قبيل
الممارسات التكتيكية اليومية ولكن يمكن أيضا اعتبارها تجل حقيقي لمشكلة عدم التفريق
بين الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية. فبصرف النظر عن أن المقولة
التكتيكية الأخيرة لا تعني شيئا جديدا إن لم تكن قفزة بهلوانية في الهواء الطلق
لسبب بسيط هو أن الدولة الدينية هي تلك التي تطبق الشريعة الدينية دون كثير
حذلقة،فإن من الممكن النظر إلى هذه المقولات كنماذج، أو في الأقل، إرهاصات بنماذج
على طريق التجديد والمحاولات الجديدة في طرح فكرات سياسية والبحث عن آفاق جديدة،كما
يصح في الآن نفسه اعتبارها نواتات أولية تصلح لتساعدنا على تأصيل اجتماسي
"سوسيوبوليتيكي" للفارق بين مفهوم الحزب الديني كما نودي به عندنا في العالم العربي
وبعض الدول الإسلامية وبين مفهوم الحزب السياسي ذي التوجهات الدينية أو الحزب
السياسي المستوحي للمثل الأخلاقية الدينية كما هو بَيِّنٌ ومستقرٌ في عدد من دول
أوروبا الغربية وكما هو في حال المخاض في بعض الدول العربية والإسلامية.