محمد هالي
الحوار المتمدن-العدد: 4452 - 2014 / 5 / 13 - 14:59
المحور:
الادب والفن
كثيرا ما تقدم بعض المحاولات انتقادات لاذعة للأحداث و الوقائع السياسية، و تحول الموقف السياسي من قضية ما، إلى رؤية فنية، تختزل ذلك الموقف فيما يسعى إليه المبدع من رفض، أو عدم القبول بما لا يخدم رؤية الفنان، و هذا ما نجده في محاولة حميد المصباحي المعنونة ب
"عفا الله عمن خرف"
تستحق المحاولة القراءة لما تفجره من نقد لبعض المواقف السياسية التي تصدر من حين لآخر من بعض المسئولين المالكين لسلطة القرار الذي منح لهم بإرادة عليا لا يمكن الطعن فيها.
لنقرأ اللازمة التي تتردد كثيرا في هذه الآونة " عفا الله عما سلف " لكونها أصبحت مواكبة للأحداث التي تلت ما أصبح يسمى ب"الربيع العربي"، فكل مغتصب للسلطة، و بعد إبادة جماعية، و التنكيل بالبشر، و التعذيب في المعتقلات السرية، و العلنية، يأتي الحاكم المستبد، و يردد هذه العبارة التي تطرب الأذن، و كأنها إبر تنغرس في السمع لتفبرك الصبر من خلال:
"عفا الله عما سلف"
و لعل هذا ما وجدناه في العراق، و اليمن، و مصر/ و سوريا ... و في بلادنا المغرب، أصبحت العبارة هي الحظ المتوفر، من أجل القبول بما هو سائد، و هنا سنتوقف مادام حميد المصباحي يقصد بذلك انتقاده لفلسفة عبد الإله بنكيران الجديدة.
تحمل اللازمة صورة قاتمة لأولئك الذين يعارضون النهب، و الظلم، و الجبروت، لكونها تستنجد بالغيب، الذي يجسد الاستسلام، و الخضوع، فبعد كل قسوة يجب البحث عن التسامح، ليدخل هذا المفهوم مجال السياسة أيضا.
إن عفا الله عما سلف الدينية، و التسامح الفلسفية، يتجهان لتأدية نفس الدور الذي يسعى إليه الليبرالي المستبد في حالة الحرج، و الضغط السياسي المتواصل، يلجأ تارة ميتافيزيقيا، و تارة أخرى فلسفيا، وفق ما تمليه الحاجة أو الضرورة التي يسعى إليها، و يستعمل كخاصية فلسفية كدعوة من دواعي الفلسفة، لأن هناك من يربط الخطاب الفلسفي بالتسامح، بل اعتبروها من مرتكزات الفلسفة ، إن هذه الكذبة التي علقت بالفلسفة هي ما حاولت بعض الدراسات الليبرالية تكريسها و ربطها بالفلسفة، علما بأن الفلسفة لا يمكنها أن تكون بهذا المنحى الإيديولوجي المبسط لحد الابتذال، لأن الفلسفة نفسها تنقسم بتصوراتها المختلفة، إلى من يؤيد التسامح رغم الظلم الغاشم، و من يرفض و يعارض اللازمة"عفا الله عما سلف"، باختصار شديد أن هناك فلاسفة يناصرون إيديولوجية الطبقة المسيطرة، و أخرى معارضة تدافع عن إيديولوجية الطبقة المضطهدة في أي مجتمع ، أن فلسفة التسامح، و عفا الله عما سلف هما إيديولوجيات للتصالح تستحضرهما السلطة الحاكمة من أجل شراء ذمة بعض المعارضين، الذين قهرهم القمع، و الاضطهاد بعد أن تم الزج بهم في المعتقلات، و السجون السرية، و العلنية المختلفة، فيقبلون مرة أخرى بالاضطهاد، مستفيدين من بعض الامتيازات التي تقدمها لهم الطبقة المسيطرة، مقابل التنازل عن المبادئ التي كانوا يدافعون عنها، و التي كلفتهم ثمن حريتهم لسنوات عديدة، و يأتي الإسلام السياسي في هذه الآونة ليستحضر روح التسامح هذه بلغة القرآن ""عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه" (المائدة: 95) و هذا ما يريد المصباحي انتقاده ، يريد أن ينقل ما هو نثري الذي صرح به بنكيران، في برنامج "بلا حدود الذي يبث من طرف قناة الجزيرة، إلى مجال الفن الذي يكثف اللغة في صور جديدة تعبر بلغة الإبداع بدل لغة السرد العادية، فهو لم يذكر بنكيران، و لا البرنامج، بل أخذ الموقف من القضية المطروحة،باعتبارها تعبر عن روية ليبرالية، بروح سلفية، أو لنقل هروبا من ما هو مستعصي عن الحل إلى الميتافيزيقا بتصور الليبرالي المغلف بما هو ديني، و خصوصا الشطر الثاني من الآية القرآنية "ومن عاد فينتقم الله منه"، فلم تعد القوانين الوضعية هي التي تقدم الحل لكل القضايا التي يعرفها المجتمع، و بهذا تتعطل القوانين الوضعية يتعطل الدستور و تتعطل الحكومة و القضاة... و يصبح الحل بيد الله، و يتجسد هذا في الموقف الرسمي من قضية الفساد و المفسدين في المجتمع، و يتوقف الحكم في "عفا الله عما سلف"
لهذا يرفض المصباحي خاصية التسامح هذه بمقطع واضح يأتي بعد اللازمة مباشرة، واضعا نقده هذا بأسلوب حواري ذكي يضع المصرح بين اختيارين صعبين يحملهما كل سؤال على حدة:
" أبعفو الله تلهو أم تتشبه؟
أحكمة ضعف,أم هي خرف؟"
يكون الأمر هنا لهوا بالآية، نتيجة ضعف الحاكم، أمام جبروت و قوة المفسدين، و بقول المصباحي الضمني: من سمح لك بهذا العفو؟ فأنت لست نبيا يوحى لك بإصدار مثل هذا القرار ضد الفساد، و المفسدين، أم أن الأمر اختلط في ذهنك، و لم تعد تعرف ما تقول، أم أن قوة المفسدين جعلتك تشعر بالضعف،إذ أصبحت لم تعد تحدد ما تريد التصريح به، فتخاطب العالم و الشعوب بهذا الأسلوب الفاشل، المؤيد لظلم الفاسدين؟؟؟...
" مؤكدا على أن هذه العملية جاءت متأخرة ولا يمكن القبول بها، لأنها أتت
" بعد طول عمر سارق وطن,
مل من نهب,فحج و اعترف"
و مادام الأمر كذلك لماذا إذن القبول بفلسفة التسامح هذه"؟ فالظلم و القهر و شروط الاستبداد باقية، و أن من سرق، و نهب لا يجب أن يجازى بهذه الطريقة، ، و يوضح المصباحي هذا بجلاء تام، مخاطبا بنكيران بوضوح تام
" أوصي أنت على خيرات البلد,
تسجن من تشاء أو تسرح"
و كأن الحاكم هنا يخضع الأمر لرغباته الخاصة، فهو يحدد و قت الاضطهاد، وزمن العفو، و التصالح، و التسامح، ليغير المصباح اللازمة بذكاء جارف لهذا الاستسلام، و هذا التسامح المفروض، لأنه جاء نتيجة خضوع لمشيئة المفسدين، لتصبح:
" عفا الله عمن تلف"
فكم ناهب لثروات البلاد، و صناديق الأجراء، و المعاش، ... يصبح خارج المحاسبة نتيجة هذه المواقف المدعمة لهم، و بلغة بيان حزب اليسار الاشتراكي الموحد الذي جاء كرد فعل عن هذا التصريح" أعطى لنفسه صلاحية العفو عن ناهبي المال العام الذين ارتكبوا جرائم في حق الشعب المغربي وأجياله، وتسببوا في إفلاس العديد من المؤسسات العمومية، ونهبوا ميزانيات العديد من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واستولوا على آلاف الهكتارات من الأراضي الفلاحية والعقارات، وساهموا في تخلف البلاد وتوسيع دائرة الأمية و الجهل والفقر والأمراض". مقتطف من بيان اليسار الاشتراكي الموحد)
و بلغة المصباحي أيضا:
"عفا الله عن مذنب,تاب و ارتجف,"
فيصبح الظالم خارج من كف المظلوم، و تستمر القصيدة في وصف بشاعة المفسد، وقوة الرفض لهذا التسامح نتيجة الجرائم المرتكبة، و لا أجد وصفا أرقى من هذه الكلمات المترابطة فيما بينها :
"أما الناهب لعمر الجياع,
فبوم قحط,
يقتات بقايا الجيف "
لكن المبدع في هذه التداعيات المختلفة، يخرج بموقف حاسم، و واضح يرفض اللازمة كلها، ينتقدها، و يدعو إلى ضرورة المواجهة، و المجابهة، ففكرة التسامح، يجب إن تتحول إلى عقاب للمذنب، و السارق، و الناهب، و المستبد... و كل من ارتكب جرما في حق الشعوب، لا تعفيه أفعاله من العقاب، لهذا تبقى اللازمة حلا شكليا للمدافع عن المذنب، و رفضا قويا لما لامسته يد الطغيان من ظلم، و يظهر هذا بوضوح في :
"لا عفا الله عنه,و عما منه قد سلف,
إلا إن خر سجينا,
أو هوى من ضعف أو خرف."
و بهذا يكون حميد المصباحي، جريئا في انتقاده لفلسفة التسامح هذه، تماشيا مع المقولة الشعبية السائدة عندنا، التي تحمل دلالة الصحة من عمقها الشعبي: "لدار الذنب استحق العقوبة" من هنا يستفز المصباحي دعاة التسامح، سواء بلغة الدين، أو بلغة الفلسفة، لكون زمن المحاسبة لا بد منه، مهما طال الزمن أو قصر. و أن كل من يتجه إلى الآية القرآنية السابقة، و يستعملها في غير محلها، هروبا من تحمل المسؤولية، سواء كانت نتيجة "حكمة ضعف,أم هي(نتيجة) خرف " و لعل الشطر الأول من البيت هو الصحيح، لأن من يسير منظومة اقتصادية، و سياسية في البلاد، لا يمكنه أن يوضع في حلاوة الخرف، إلا إذا تظاهر بذلك أمام حكمة الخوف هذه، لأنه يدرك جيدا أن
"عفا الله عما سلف"
"تندرج في إطار إنكار دور العدالة وتقويّة سياسة الإفلات من العقاب عن الجرائم الاقتصادية..".( من بيان اليسار الاشتراكي الموحد )
إذن فهو يدرك جيدا
"لا عفا الله عنه,و عما منه قد سلف,
إلا إن خر سجينا,
أو هوى من ضعف أو خرف"
#محمد_هالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟