|
سورية : من الصراع الطبقي المقدس الى واقع الطبقات المدنس
خليل عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 4452 - 2014 / 5 / 13 - 01:07
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
عندما قامت الثورة السورية بوصفها ثورة شعبية تطالب بالحرية ضد نظام استبدادي وبالحقوق السياسية الليبرالية الكاملة للمواطنة، والتي ستكون حكما منقوصة من حقّ المواطن "الحديث" في الحصول على المساواة الإقتصادية، حاول العديد من الطبقوييّن، أكانوا عربًا أو أكاديميّين غربيّين يساريين، إختزال ما يحدث في سوريا على أنّه عبارةٌ عن "صراعٍ طبقيّ" مديد بين الريف والمدينة، بين قوّة العمل ورأس المال، وبأن الاخير عبارة عن حرب ضروس بين ممثلي التيار النيوليبرالي بطبعته الفاشيّة وبين اليسار العائد منتقما، في سرديّة يكون فيها هؤلاء اليساريون هم المبشِّرين بإنجيلها الخامس. لقد تمّ التوغّل في هذا المنطق بشكل تعسفي في إفتراق فاقع عن الواقع علما أنّ الحكاية السورية أعقد من ذلك بكثير. فالطبقات بما هي تشكّلات بشريّة لا تعيش في ملكوت النظريات المقدّسة أو في الكتب الأكاديميّة الذي يكفي أنّ يكون هنالك في مكان ما أبناء ريف يقاتلون سلطة مركزية مدينيّة ليصرخ هؤلاء في وجه العالم: "هذا هو الصراع الطبقي!"، بل إنّها، أي الطبقات، مشبّعة بواقعٍ مغرقٍ في تعقيدِه وفي متغيّراته المحدِّدة منها والمفارِقة.
إنّ الطبقات ليست مجرّد عمال وطغمة مالية تعيش على أوراق الكتب. هناك أيضًا برجوازية كبيرة مختلفة الأنواع والمراتب والأصول، الى جانب برجوازية صغيرة، مدينيّة أو ريفيّة وفلاحين وبروليتاريا رثّة: الطبقات هي بشر، رجال ونساء سوريّون يمارسون حياتهم في بيئة أكثرية إسلاميّة سنّية مكوّنة كذلك من إسلامات متعدّدة، شعبي، سلفيّ أو غيره. كما أنّ هنالك مواطنين سوريين آخرين يعيشون في بيئة أقليّة، إسلاميّة لاسنيّة أو لا إسلاميّة. إنّ بشر الطبقات يعيشون في أدغال من العقائد والاديولوجيات المؤّثرة لأحزاب قوميّة، عربية او غير عربيّة، شيوعية، ليبراليّة أو إسلاميّة،متفاوتة الثقل والتأثير، تتوزّع هنا وهناك لتلعب أدوارا متباينة متضافرة أو متواجهة المفاعيل. الطبقات في سوريا تسبح منذ آذار2011 في بحار من التدخّلات العسكرية والسياسات الاجنبية المعقّدة التي تتراوح من الدبلوماسيّ الى الجاسوسي، وتتنفس هواءً موبوءًا من الفبركات الإعلامية التي يواجهها إعلام عوامي يسعى، إجمالا، الى نقل الحقيقة.
الطبقات في سوريا مكوّنة من بشر يقاتلون عسكريا ولأسباب مختلفة لا تتوافق بالضرورة فيما بينها وهنالك من هم إمّا مرتزقة أو وافدون لدعم كل الأطراف بشكل غير متساوٍ. الواقع الطبقي هو أيضًا واقع مؤامرات تحاك ضد الثورة ممن هم "فوق"، في مقابل ثوار يتحايلون على أوضاعهم عبر استراتِجيّات من "تحت" مُواجِهة لها. الطبقات تركيبات إجتماعيّة تعيش النضال الثوري في ظلّ علاقات دولية تتغيّر من حولها على الدوام، مع أموال وعتاد عسكري وذخائر يتّم تصديرها من قبل المشغّلين الدوليّين الى وكلائهم المعتمدين. الطبقات هي صحّ وخطأ، أيّ هي ظروف مع تبعاتها لقرارات صائبة يتّخذها بشر، كما تعني أخطاء وخطايا قد يقترفها البشر، بالضبط كما يفعل من يواجهونهم من سوريين وحلفاء ايرانيين وعراقيين وباكستانيين وأفغان ولبنانيين. الطبقات هي مثقفون يملؤون الأرض ضجيجًا بعوائدهم وأذواقهم المتنازعة وبطقوسهم النخبوية التي ركِبَت أحصنة أوهامها المتنازعة حول مهماتهم التاريخيّة وخيالاتها حول الآخر، مما ولّد ويولّد صراعات عنيفة فيما بينهم، كلّ ذلك بينما 3 ملايين من السوريين المهجّرين بسبب القتال الدائر لا يُسألون رأيهم في الجدالات الثقافية الحاصلة في حين يدلي أصحاب الرأي وحدهم، ومن وراء ظهور العامة وباسمها، بالأحكام والتفضيلات والتصوّرات الوحيدة الموجودة حول مصائرٍ العامة. إنّ الطبقات تأتي مع عاهات نفسية واجتماعية ناتجة عن الحرب والتهجير والفقر خصوصا عندما يتعلّق الأمر بالدين والجنس. هي عوارض تفعل فعلها كلّ لحظة في ذوات أشخاص حقيقيين يصارعون كلّ يوم من أجل الصمود قد يصمدون من خلال روح النكتة والضحك والتهكّم على الذات وإظهار قدرة جبّارة على الثبات رغم الأهوال. إنّ الطبقات التي هي كلّ ما سبق هي أيضًا شرائح من الناس تعيش وسط سيادة القيادة الإفتراضية لأتباع القديس فايسبوك المبجّل.
قد يختار البعض تسمية كلّ ذلك "صراع طبقي" مع الامتناع المتزامن عن فهم كيف يعمل الواقع الطبقي في كلّ ما سبق. على الرغم من أنّه أصبح واضحًا أنّ هنالك الكثير من الطبقي الموجود في كلّ ما سبق فإنّ تعسّف التفسير الطبقي على كلّ شيء ليس فيه كثير مما يعكس تنفّس الطبقات الحقيقية الموجودة خارج أذهان الطبقاويين. علاوة على ذلك فإنّ هنالك فارق حيوي بين فهم الواقع وتراكب الطبقي فيه من جهة -من أجل فهم مثلا لماذا لم تكن الجماهير المقاتلة طاهرةً "طبقيّا"؟- وبين الضرورة الثورية، الآنيّة السياسيّة، المُمارَسية، والمتمثّلة في إتّخاذ قرار استراتيجي لتظهير مجددّا الهمّ الطبقي كبوصلة أساسية لقيادة الثورة الى برّ الأمان من جهو أخرى. إنّ التشديد على العامل الطبقي لم يكن يوما أمرًا نافلًا في أيّ ثورة وهو في حالة الثورة السورية حتمًا لا يذوّب الجهد المبذول إلى اليوم كما تزعم الخلفية الليبراليّة لبعض المحلّلين. بل على العكس ربما أصبح من الحيوي الآن إدراج الأمر الطبقي في أوّاليات التفكير والعمل الثوريين بعد دخول الثورة السورية عامها الثالث. هكذا خطوة يجب أن يكون همّها إدخال ايديولوجية عابرة للطوائف والأديان والإثنيات، اديولوجيّة من شأنها أن الحدّ من تبعات الأسلمة الفائضة للأغلبية من الجماهير السورية المقاتلة وفي الوقت عينه تمكّن من الاستدلال بخطة عمل إستباقيّة واضحة المعالم تَحول دونما يُخطط أن تكون عليه سوريا ما بعد الثورة، أيّ ملعبًا ممتازًا للرأسمال بأجندة نيوليبرالية تحت عنوان "إعادة إعمار سوريا": بلدٌ محطّمّة إقتصاديًا، منهكّة إجتماعيا ونفسيّا مع 120 ألف قتيل على الأقلّ و1.5 مليون منزل مهدّم و7 ملايين إنسان تأثروا من جراء ذلك بينهم 3 ملايين مهجّر مليون منهم فقدوا كلّ ما يملكونه، و"إعمار" يقدّر بأنّه سيكلّف أكثر من 200 مليار دولار-لو توقفت الحرب قبل بضعة شهور- وذلك على مدى ربع قرن من الزمن. إنّ الهدف الذي أشرنا اليه، الثوري جدّا وعن حقّ، يتبناه تماما الإنسان السوري الكادح الذي سلبه نظامه في يوم من الأيّام حقوقه السياسيّة والذي قد يخسرعمره اليوم في غمرة النضال العسكري. هذا الإنسان يفهم لامعقوليّة أن يناضل هو أو هي لإستعادة حقوقه|ها السياسيّة فتستفيد من ذلك في النهاية طبقة من أصحاب الرساميل و المتنفّذين سيحوّلون بلاده الى باحة خلفية للنيوليبرالية، ما سيعيد استعباد شعب كامل بأشكال أكثر "حضاريّة" و"حداثيّة" من ذي قبل. إنّ مفتاح منع ذلك هو فهم موقع وعمل الطبقات في سوريا، الحالية، الحقيقية كما هي، دون جعلها تحلّق فوق الواقع ولكن في الوقت عينه، هو ضرورة العمل على تظهير إتّجاه يساري في المتن السياسي الثوري معادٍ للسياسات الرأسمالية التي تعدّها بعض النخب التي تحاول مصادرة حقوق الجماهير السورية ونضالها الرائع في مرحلة ما بعد الثورة.
#خليل_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار اللبناني يسقط في سوريا
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|