نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1260 - 2005 / 7 / 19 - 10:47
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
في رحلتنا العبثية السيزيفية المضنية والفاشلة ,بآن,مع الحضارة البشرية ,لم نخلف وراءنا مايذكر من فن وأدب وتراث, وما يرفع الرأس,ويشرّف الأسلاف.ولم نترك ,في حقيقة الأمر,سوى قصص الموت والرعب والأشباح والثعبان, ,وقطع الرؤوس وحكايات الخصيان والجواري وسلاطين ألف ليلة وليلة, وصحبة الغلمان,وتشييد ناطحات السحاب من جماجم الأبرياء ,وقهر الناس بالسوط والسيف ووصايا التعتيم والإغلاق ,وروايات القصور التي كانت تعج بالسبايا والنسوان , و تمارس فيها كل أنواع الفواحش والفجور والموبقات, والصراعات,والسجالات التي يبدو أنها لن تنتهي في المنظورات والقادمات من الأيام. فلم نترك مؤمنا إلاّ وكفرّناه,أو عالما إلاّ وصلبناه,أو حرا متنورا إلاّ وأحرقناه,أو ثوبا ملطخا إلاّ ولبسناه,أو ملاكا ساحرا إلاّ ووأدناه,أو دربا مشبوها إلاّ وسلكناه ,أو شيئا جميلا إلا واحتقرناه ومنعناه , أو فكرا نيّرا إلا وقاطعناه .وألغينا العقل,وحرمنا العلم,وحظرنا الفلسفة,وسددنا كل الأبواب درءا لـ "جريمة" انفلات العقل وهروبه من تابوهات وغيتوهات الظلام. حتى أصبحنا شعوبا هزيلة مهزومة وضعيفة ,وكل في واد, وشعوبا في كانتونات عزلاء ,وقبائل ضمن القبائل,وطوائف ضمن الطوائف,وأقليات ضمن الأقليات,وشراذم ضمن الشراذم ,وكل يغني على ليلاه,ويضمر الحقد والكراهية والشر للآخر الكافر والمكفّر والخارجي المستباح الدم والعرض والمال,وهذا وارد,كما هو معلوم, في فتاوى حلال يدين بها الكثيرون من أدعياء الإيمان,فيما يتغنى بعض الموتورين بها ويدعون لتطبيقها ,حتى الآن,على الخلق والعباد,وإن ارتدوا لبوس الملائكة الطهراء. وتأتي التهديدات التي يطلقها الظلاميون بين الفينة والأخرى ضمن هذا السياق والإطار الذي كرسته, وعلى مدى قرون منقضيات, ثقافة السيف,وقطع الرقاب,وفكر التكفير والإلغاء الذي كان ثمرة تعاون طويل بين القصور السلطانية الحرام وتجار الفتاوى,ومقاولي الجنان , في المساعي الحثيثة الدائمة لتطويع الشعوب وإخضاعها وتركيعها بما ينسجم مع الرغبة السامية لأباطرة الطغيان لإبقاء الوضع على ما هو عليه لآخر الزمان,ومن هنا كانت أيضا سيادة واجتياح سياسة التجهيل ومسح الدماغ المستمرة بنجاح منذ قرون ودونما انقطاع.
والشيء الذي يقهر القلب ,ويفقأ العيون, ويفلج الدماغ,ويشج الرأس,ويفجر النخاع ,هو أن هناك من يحاول ,بكل عنجهية ,وصلف ,وغباء ,أن يحيي هذا التراث بكل فصوله الدامية السوداء ناسيا ,أو متناسيا كل ما نعيشه,وما عاشته أجيال لم تر النور وبقت قرونا مديدة ترزح تحت نير الجهل والظلام,وواجدا ,بكل حسرة وضيق وألم ,من يغازله ,ويهادنه من حملة وتجار شعارات "التمركس", و"اللبرلة" ,وريادية النضال ,وإيقاد الثورات البائسة في أديم الأرض القاحلة الجرداء, والنفخ العقيم في رماد الأوطان المنكوبة بالجند رما ,والعسس ,وعساكر السلطان . وبرغم أن تجار الموت وفكر الظلام أصبحوا مطاريد يختبئون في الأوكار والكهوف والجبال,وبعد أن خرج هذا الفكر عن كل حدود وتصور ,ومنطق ,وسياق, ومسار,وتطاردهم يد العدالة في كل مكان,وستطاولهم ,لا محالة يوما ما.
والسؤال المهم الآن ,لماذا كل شعوب الأرض ترنو للمستقبل وتتطلع إليه بعزم وثبات ,وتخطط له,وتضع المشاريع الطموحة والتصورات لعشرات السنين طاردين كل ما هو رث وبال في سلال المهملات,إلا هؤلاء الذين يحاولون بالقوة والتفخيخ والتفجير والإرهاب وبرامج ممجوجات ومكشوفات عرجاء العودة بالحياة مئات السنين إلى الوراء والحنين الأبدي للرمال والركون تحت نخلة في الصحراء ,وإحياء كل ذاك التراث الذي جعل الحياة جحيما قاتلا لا يطاق,ولم يشعر فيه أحد بالطمأنينة والأمان؟ ولماذا,أيضا, حين يفر الإعرابي بجلده من دار الإيمان, ليحتمي بدار الكفار, يحاول إعادة إنتاج المجتمع الذي ظلمه وجوعه وأذله وأفقره, ولا ينسجم مع المجتمع الذي أطعمه من جوع وآمنه من خوف,وآواه وأعاله من يتم ونصره من جور على أبناء جلدته وعمومته؟ولماذا يحاول أن يحاكي نفس تلك الثقافة والظروف والمعطيات التي جعلته يهرب تحت جنح الظلام من نير الاستبداد ,ويتفاخر علنا بعدائه لتلك المجتمعات التي استقبلته ,وخلعت عنه كل خزعبلات الماضي ,ومفبركات الغيب,و زعبرات بائعي صكوك الغفران؟
فهل سمع أحد ما عن منظمة ,أو حزب ,أو تيار يحاول العودة للماضي وإحياء الحضارة الإغريقية ,وتقديس رموزها ,برغم غناها بالفكر ,والثقافة والفن ,الذي ما يزال شامخا ,وراسخا حتى الآن,وإن وجد ,وهذا حاصل في غير مكان ,فإنه يقابل بالسخرية ,والدهشة والازدراء؟أو هل هناك من يدعو,مثلا, إلى إحياء الإمبراطورية الرومانية ,والعودة إلى أيام القياصرة برغم ما حققوه من فتوحات وانتصارات ,وتلك الحضارات التي نشرت ثقافة ,وعلما ,وما تزال شواهدها ,وكنوزها الثرية تظهر يوما بعد آخر ,تحمل كل ما هو إنساني ,وجميل ,وبرغم وجود بعض الجوانب السلبية في بعض الأحيان ؟ ولن ننسى هنا, بالطبع ,ما نسخته الحقبة العربية بعد ذاك من ثقافة وفكر وعلوم من هؤلاء,وحيث كان معظم علماءها من الفرس والأعاجم والشعوب التي أخضعت بقوة السيف تحت راية العربان.
إن الإرهاب الذي مورس ,ويمارس الآن ,على حرية الفكر والتعبير, مازال في أوجه وتحت حماية,وربما وصاية,أنظمة القهر والاستعباد, التي لم تفعل شيئا حيال تفشي هذه الظاهرة بل وقفت تتفرج عليها,لتحترم العهد المبرم,والحلف المقدس مع جماعات الظلام لإحكام السيطرة والإطباق الكلي على هذه الشعوب ومنعها من التنفس والتحرر والانعتاق من فكر الموت وإرهاب العقل القاتل.فما الذي جنوه من سياستهم الطويلة هذه في هذا الاتجاه سوى تربعنا بجدارة على عروش التخلف والانحطاط بلا منازع ومنافس حتى الآن ,وبقاءنا نقبع في الدرك الأسفل بنفس المقولات والأفكار الجدباء, واجترار نفس البلاغة المملة البلهاء, والكلام العقيم الذي لاطائل منه منذ قرون طويلة حتى الآن,ولم يجلب سوى الخراب,ولا أعتقد أن هناك مكانة أسوأ يمكن أن ينحدر إليها شعب ما في يوم ما ,أسوأ وأبعد من هذا المكان؟
في ظل تواطؤ أنظمة الاستبداد وغضّها الطرف المقصود عن التكفيريين, وتسامحها غير المعهود, لماذا لا يكون هناك قوانين وضعية صارمة وجازمة, تحرم تهديد الناس تحت أي اعتبار وادعاء ,وتجرّم كل من يتجرأ أن يرمي صاحب فكر, ويخوّنه ,ويقذفه, وينعته بالكفر والإلحاد, ويدعو إلى قتله ,لأن التحريض على القتل جريمة في كل قوانين وتشريعات الأرض . فالدين دين الله وهو الذي أنزله وقادر أن يحافظ عليه, وورد هذا في آيات بينات محكمات في كتابه العزيز ,ولم تترك هذه المهمة لحفنة من القتلة,وشرذمة من المتنطعين للتحكم برقاب العباد.
ليس من العجب والجديد ما حصل وما يحصل لرواد العلمانية, ,والتفكير النيّر المتحرر من الأوهام والأباطيل ,والترهات , والموضوع,أبدا, ليس مدعاة للتوقف والنفي والتشكيك والإنكار ,فالتاريخ "الوردي" المضيء لهؤلاء ,كما يحاولون رسمه على الدوام, مليء بالحالات التي تم فيها تطبيق حدود الردة واتهامات الكفر والزندقة والهرطقة على كل من تجرأ وفتح مسامات العقل أمام إشعاعات النور, ونسائم الهواء , ولن تكون التهديدات للسيد القمني سوى حلقة في هذه السلسلة السوداء.وبغض النظر عن أية مواقف وردود أفعال وتصريحات خرجت جراء تفاعل هذا الموضوع ,وليس مجالا لنقاشها هنا ,وفي هذا المكان.
لقد دفعت البشرية, في غير مكان, أثمانا باهظة في معركتها المستمرة نحو الارتقاء والتطور الحتمي الذي نعيش بعض ثماره الآن,برغم مقاومة غربان العزلة والانحطاط,وكان الكثير من المفكرين والمبدعين وأصحاب المواهب المتألقين ضحية لهذا الفكر المعزول الجبان الذي يتستر, ويشوه تعاليم ورسالات السماء السمحاء. فالكل,مثلا, يتذكر قصة غاليلو وهو يساق نحو حتفه مخاطبا أعداءه والأرض بقوله "برغم أنوفهم فإنك تدورين",وبرهن غاليلو بموقفه الرائع هذا على عظمة العقل البشري,وقدسية الإنسانية, وتضحيته الفذة في سبيل غد مشرق ترفل بنعيمه الآن الأجيال الأوروبية. فلقد تمادى هذا التيار الموغل في الغل والحقد والسواد وتحت سمع وبصر ,وربما تمويل الزعامات, بتطرفه وغلوائه ,وأظهر كل ما ِلديه من عفونة وسقم وانحراف .ولكن ,برغم هذا ,وهول الكارثة ,وفداحة الخسارات,وكمية السواد التي تغلف الأجواء, فالتغيير قادم ,والعقل العربي, وإن بدا عصيا وصعبا وشرسا في مقاومته ,على الأقل حتى الآن ,ولكنه بالتأكيد ليس استثناء.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟