|
مقاومة بالتذكر: جانب من سيرة دعوة -المصالحة الوطنية-
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4446 - 2014 / 5 / 7 - 12:58
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
قد لا يعرف كثيرون من الجيل الشاب أن فكرة "المصالحة الوطنية" طُرحت في سورية أيام "ربيع دمشق". في أيار 2001، نشرت افتتاحية في نشرة "الموقف الديمقراطي"، التي تصدر عن "التجمع الوطني الديمقراطي"، تدعو إلى كشف الحقائق وإعادة الحقوق إلى أصحابها والمصالحة الوطنية. لكن الفكرة لقيت أقوى تعبير لها في محاضرة ألقاها رياض الترك في "منتدى الأتاسي للحوار الديمقراطي" في 5 آب 2001. تكلم الترك على وجوب "الاستقرار على مبدأ المصالحة الوطنية طريقاً للخروج من حالة التخندق والتلطّي والنوايا السيئة. هذه المصالحةُ مطلوبةٌ ما بين الشعب وأهل النظام، وما بين السلطة والمعارضة بأشكالها، وهي تحتاج إلى الثقةِ التي لا يمكن بناؤُها إلاّ بخطى ملموسةٍ تتعزّزُ من خلالها ميولُ التسويةِ وتتراجع ميولُ العداء والخوفِ والثأر" كان الرجل قد قضى 17 عاما و7 شهور في زنزانة منفردة في أحد الأجهزة الأمنية بدمشق في ثماينات القرن العشرين وتسعيناته، وهو ما يجعل كلامه عن المصالحة الوطنية تعبيرا رفيعا عن تحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية (نص المحاضرة متاح هنا: http://www.oocities.org/riadtourk/atasi1.htm). ليس فقط لم تلق دعوة المصالحة الوطنية أي استجابة عملية، بل كان الرد المتواتر للمتكلمين الأسديين الصغار حينها: وهل نحن في حالة حرب حتى نتصالح؟ هذا الرد المُزايد كان يستثمر بالضبط في الخوف العام الذي تسببت به حرب النظام السابقة كي يُسكِت أي محكومين يدعون إلى طي صفحة هذه الحرب بالذات. يُرفض مجرد النطق بعبارة المصالحة لأنها تتضمن في طياتها العدواة والخصومة، وتذكر بوقائع المذابح والاعتقال والتعذيب والقتل، والنهب والاستيلاء على موارد وأملاك المقتولين، فضلا عن تحقيرهم والافتراء عليهم. أي لأنها تحيل إلى التاريخ الإجرامي للنظام. لدى النظام سردية مغايرة، عنوانها هو "الوحدة الوطنية"، وهي تعني أننا كنا وما زلنا وسنبقى على ولاء ثابت لا يتزعزع لـ"سيد الوطن" الذي فاز في آخر استفتاء لـ"تجديد البيعة" له بنسبة 97,61% من أصوات المحكومين المُحبّين له ولأبيه. نحن موحّدون فعلا، فما معنى الكلام على المصالحة؟ ستبدو هذه الدعوة، وليس غيرها، هي الباعث على الخصومة والشقاق! مع هذا المنطق تواطأ طيف غير ضئيل من معارضين لم يأخذوا المواقف الملائمة للنظام دوما، والمضعفة لحركة المعارضة دوما، إلا لأن تكوينهم الاجتماعي والفكري يضعهم في عالم من الحساسية والقيم مشترك مع النظام. كانت دعوة المصالحة في عين هذ الطيف تثير في النفس تداعيات آثمة عن صراعات طائفية، الأمر الذي اتجه التفضيل الدائم ليس إلى التكتم عليه فقط، وإنما إلى التشبيح على من قد ينتهكون هذا التابو ويحاولون تسمية بعض الأشياء بأسمائها، واتهامهم هم بالطائفية. النظام يتهم دعاة المصالحة ممن كانوا قبل قليل في سجونه بأنهم هم دعاة الشقاق والعداوة، وهؤلاء يتهمون منتهكي المحرّم السياسي الخاص بالطائفية بأنهم هم الطائفيون! أليس هذا تكوينا مشتركا؟ ماتت سيرة المصالحة الوطنية بعد "ربيع دمشق". رياض الترك اعتقل بعد أقل من شهر من محاضرته لأنه وصف حافظ الأسد بالدكتاتور، وهو وصف غير دقيق في الواقع، فقد كان الرجل طاغية وقاتلا عاما. واعتقل آخرون، ومات "ربيع دمشق" نفسه قبل أن يكتمل عام على بدايته. من المهم تذكر هذه الوقائع للقول إن كفاحنا التحرري لم يبدأ قبل 3 سنوات، وإن السوريين واجهوا النظام بالسياسة والرأي في جولات سابقة، وإنه ثابر على مواجهتهم بالسجن والتعذيب والقتل، والكذب. من المهم أن يعرف جيل جديد أن جيلا سابقا قاوم الطغيان في وقت مبكر نسبيا، ربما بأدوات مختلفة عن اليوم (أحزاب سياسية أساسا)، لكن بنهج سِلمي أيضا. في بلدنا، التذكر فعل مقاومة وتحرر، والنسيان خيانة. غير أن سيرة المصالحة الوطنية انبعثت فجأة من أوساط النظام في العام الماضي. بل وتشكلت لها وزارة خاصة، وزارة المصالحة الوطنية. خلال عام ونصف من تاريخ الدعوة الجديدة صعّد النظام من حربه، وانتقل من قصف المدن والبلدات بالطيران الحربي إلى قصفها بصواريخ سكود إلى البراميل المتفجرة إلى السلاح الكيماوي. واستنادا إلى سوابق النظام وبنيته، فليس في قتل محكوميه المتمردين والكلام على المصالحة الوطنية أي تناقض. أو لنقل إن العالم الذي تجتمع فيه المصالحة والقتل العام هو نفسه العالم الذي تكون فيه الجمهورية مملكة سلالية، وحالة الاستثناء قانونا دائما، ورمز الهزيمة "بطل الأمة"، والنظام الطائفي كفيل الوحدة الوطنية، وانتهاك التابو الطائفي هو الطائفية، والدعوة السابقة للمصالحة إثارة للشقاق. العالم الذي لا يكف عن محاولة حل تناقضه المؤسس بعنف لا يُحد، ولا يجد سبيلا أمامه للإفلات من المحاسبة عن مذبحة سابقة بغير مذبحة جديدة. ليس كلام المصالحة الوطنية اليوم، بالتالي، غير استمرار للمذبحة المتواصلة بوسائل مختلفة، وغير استمرار في شرط مغايرة لرفض المصالحة نفسها في مطلع القرن. في صيغتها الأولى كانت دعوة المصالحة فعلا وطنيا تحرريا، اليوم هي مشاركة في الجريمة المستمرة. ومن المناسب جدا أن يكون وزير المصالحة الوطنية، علي حيدر، من الحزب القومي السوري، الذي تظهر معلومات أتيحت مؤخرا أنه شريك لتنظيمات فاشية ونازية أوربية، مع ستالينيين وكاثوليك، في تجييش الدعم للنظام الأسدي في أوربا (مقالة بعنوان: هتلر وستالين وموسيليني وتطرف كاثوليكي تحت راية الأسد، متاحة هنا http://en.qantara.de/content/the-syrian-conflict-a-red-brown-alliance-for-syria من الصفحة نفسها يمكن قراءة المادة بالانكليزية والألمانية). لم يخطئ من قالوا إن فكرة المصالحة الوطنية تحيل بصورة خفية إلى الطائفية والصراع الطائفي. فكرة المصالحة الوطنية تستبطن أن هناك عداوة وطنية عميقة، تجد مراسيها في الطوائف والاسقطاب الطائفي، وأنه يمكن تجاوز الأمر أو فتح الباب على تجاوزه بالعدالة والحقيقة والإنصاف. وقتها كان وراءنا بضعة عشرات الألوف من الضحايا، ومثلهم من المهجرين، وألوف من المعتقلين السابقين. ولو بذل جهد من أجل إبقاء الموضوع حيا في النقاش العام على الأقل، أو مورست بضعة "تمارين على الحوار"، على ما اقترح رياض الترك في محاضرته نفسها، لكان ذلك بداية لتراكم معنوي وسياسي، ولربما كان من شأنه تغيير البيئة السياسية والنفسية في البلد في اتجاهات أقل عدائية. عكس ذلك هو الذي فضلته طغمة النظام، الإمعان في الطائفية والاستمرار في حكم البلد بالوسائل الإجرامية ذاتها التي أدت إلى انفجار سابق. فكيف يمكن ألا تؤدي إلى انفجار لاحق أشد هولا؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكتابة بالعين والكتابة بالعينين
-
نظرة إلى اقتصاديات السياسة والحرب والعمل العام
-
بصدد تحركات بشرية مرافقة للصراع السوري
-
ثلاث ملاحظات على مقاربات سيمورهيرش وروبرت فيسك
-
أربعة أبطال واضحين في أسطورة...
-
فرصة لثقافة تحررية، ولسياسة مغايرة
-
الثورة والسياسة: ميادين عمل
-
سورية والعالم/ سورية في العالم
-
عام رابع: من ال-مو معقول- إلى المقاومة
-
نهاية جيل من التفكير السياسي السوري، وبداية جيل
-
الثورة والسياسة: والنقاش السياسي
-
صناعة القتل الأسدية ودور المثقفين
-
الثورة والسياسة: سياسيون وغير سياسيين
-
الثورة والسياسة: سياسة بلا أفكار
-
أين الأخلاق في مشاريع الإسلاميين؟
-
رزان...
-
ما وراء أنماط الحياة وصراعها
-
حوار موسع في شؤون الثقافة والثورة، والإسلام السياسي والطائفي
...
-
درب إلى -المنفى-
-
الفكرة الجمهورية والثورة السورية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|