|
السريالية والسرياليون الجزء الثاني
عدنان محسن
الحوار المتمدن-العدد: 4440 - 2014 / 5 / 1 - 17:33
المحور:
الادب والفن
السريالية والسرياليون فردينان ألكيه ترجمة: عدنان محسن 5- اللقاءات والتجليات إنّ هذه البحوث تندرج بلا شك في مشروع يقضي بتهديم منظم للفن الكلاسيكي والأدب الذي يقول عنه البيان السريالي: أكثر الطرق حزنا والتي تقود إلى كلّ شيء. غير أنّه من الخطأ اعتبار لعبة " الصدفة " مجرد نتاج سلبي وإستعاذي أو محاكمة للشخصية لا تحمل توقيعا، لأنّها أيضا اكتشافات وإشراقات ناجمة عن تلك البحوث ومنبثقة عن هذه المحاكمة. ولا ننسى قول بروتون في"تحقيق الحب" الذي يعلن فيه: أنّ ملاحقة الحقيقة هي أساس كل عمل ممكن. وينبغي أن لا ننسى أيضا ما كتبه في البيان السريالي: أنّ قيمة الصورة تعتمد على جمال الشرارة المتأتية منها.وأنّ أي لقاء هو كشف حقيقي وجميل لأنّه يحمل إشارة المدهش. والسريالية ليست نقيضا للقيم، بل هي بحث عن قيم جديدة وهي البحث عن الحياة الحقّة التي تحدث عنها رامبو تضع السريالية الحياة الحقّة هذه فوق كلّ التناقضات التي تدينها على الدوام والتي تعتبرها عوائق منيعة لتحرير العقل والكلام والفعل والتشخيص الذهني والإدراك الحسي..إلخ والحال، كلّ شيء يدعو إلى الاعتقاد، يقول البيان السريالي، بوجود نقطة عليا في الذهن ينعدم فيها التناقض بين الموت والحب، بين الواقعي والخيالي، بين الماضي وبين المستقبل، بين ما يمكن إيصاله وما لا يمكن إيصاله، وبين الأعلى والأسفل، ولا يمكن بلوغ هذه النقطة العليا لأنّ تحقيق هذا الأمر يعني أنّها ستكف عن أن تكون عليا وإنّ الإنسان يتوقف هو الآخر أن يكون كائنا. والسريالية تريد كشف هذه النقطة وجعلها مرئية، وهنا يكمن أملها الأكبر. الأمل واليأس، يقول بول ايلوار، يحددان للحالمين في صحوهم، أي الشعراء، فعل المخيلة. وحسب المفهوم السريالي ثمّة وجهان للمخيلة، الأول يعتبرها إمكانية للإنجاز، ففي " المسدس ذو الشعر الأبيض"، يقول بروتون إنّ التخيلي يسعى أن يكون واقعا وإنّ المخيلة تسعى إلى مناظرة الإدراك الذي لا تفصله عنها سوى ضرورات الحياة اليومية. إنّ الإدراك والمخيلة، في نظر السرياليين لهما حصيلتان منفصلتان عن إمكانية واحدة يحاول السرياليون إعادة تركيبها. أمّا الوجه الثاني للمخيلة فهو قابليتها في منح واكتشاف معنى ما لأي لقاء.إنّ نظرية المخيلة منظورا إليها كمقابلة دالة بين حقيقتين لا رابط بينهما مأخوذة من بير ريفيردي ولكنّها مستوحاة أيضا من الفكر الرومانتيكي القائم على المطابقة ومن الرمزية والفرويدية وعن العلوم الباطنية ومفهومها عن الإستدلال بالتمثيل ومن الأفلاطونية الجديدة ومن الطرائق الهندوسية القديمة..إلخ. ولهذا السبب فأنّ اللعبة السريالية وإن كانت تعبيرا عن حرية الذهن، ولكنّها أيضا شأنها شأن القصيدة مصدر للإيحاء.والسريالية في جوهرها وعبر أنشطتها التجريبية دائمة البحث عن إشارات تستقبلها برؤية للعالم ليست ميكانيكية ولا علاقة لها بالسر السريالي نفسه، ووفق هذا المبدأ ينبغي مقاربة مفاهيم السريالية عن الحب والجمال والصدفة الموضوعية. 6- الجمال والحب تبدو النصوص السريالية المتعلقة بالحب متناقضة، فتارة يُحتقر الحب والجمال، وطورا يعتبران من أسمى القيم،إلّا أن هذا التناقض ظاهري فقط، لأنّ ما لا يكترث به السرياليون في الحقيقة هو الجمال السطحي والاستعراضي الذي لا يُغير شيئا، فهي تبحث عن الجمال المؤثر، الجمال المضطرب كما يسميه بروتون والذي يُحدث الرعشة وهو جمال نداءات لا تُقاوم وحالات تسمّر أيا منّا في مكانه. يجري كلّ شيء يقول بروتون في " مفتاح الفرار" كما لو أنّ أعمالا شعرية وتشكيلية قائمة على جمال كهذا لها فعل يتجاوز في كلّ وجه فعل العمل الفني نفسه، لأنّها موسومة بطابع الإيحاء لا غير. وهذا نرى أنّ الشعر تحولّ بفضل السريالية من نمط أدبي إلى نسق حياتي، ويمكن القول الشيء نفسه في ما يتعلق الأمر بالرسم، إذ أنّ هموم الرسامين السرياليين لم تكن تشكيلية وجمالية فقط، إنّما مأخوذة أيضا بكل ما يخرج عن العادي والمألوف، فقد استعمل دالي وتانكي وماكريت تكنيكا قريبا من أكثر الأعمال الكلاسيكية، غير أن موضوعهم وزاوية النظر مؤثرتان بسبب جمعهم لعناصر فنيّة ليس من المألوف اقترانها ببعض . يقول البيان السريالي الأول" أيتها الطبيعة، الشعر ينكر ممالكك ويا أيتها الأشياء ماذا تحمل للشعر ممتلكاتك" إنّ هاتين الصيغتين تنطبقان على الرسم أيضا، لأنّهما وقبل كل شيء،تحاولان إنقاذنا من استبداد العوامل الخارجية التي نعبأ بأوزارها بشكل فاجع. كما أنّ أفلا م بونول السريالية ناجمة عن هموم متشابهة. فالموضوع السريالي الجاهز وموضوع الحلم وموضوع الأغراض الرمزية...إلخ التي تخلّ بنظام العالم المؤسس. هذه المواضيع مصاغة بطريقة تكشف ضآلة الخلفية التي تقوم عليها الموضوعية. وهذا يعني، في نهاية المطاف، فسح المجال أمام أي نزعة في الظهور، وإخضاع كلّ شيء للرغبة وإنّ " المكوى" في لوحات مات ري، المكسو بالأشواك هو النقيض لكلّ نهج في التشكيل ويمكن قول الشيء نفسه عن ساعات سلفادور دالي اللينة، والذي يرى أنّ الجمال يجب أن يكون صالحا للأكل بمعنى أن يستجيب للرغبات الحيوية ويشبع الحاجات الأكثر إلحاحا. ومن كلّ هذه الخصائص يظهر الانفعال الشعري، كما يراه السرياليون، منفصلا عن الانفعال الأدبي نفسه، ليرتبط بالانفعال الأيروسي. ولأنّ هذا الانفعال شموليا ولأنّه يتعامل مع المادة والروح في آن واحد، ولأنّه لا يمكن حصره في ارتباط عشقي أو جسدي، فأنّ موضوع سياقه السحر ونزعته الدهشة. لقد تحدث السرياليون منذ " السمك الذائب" عن المرأة لا علاقة لها بالحديث عن النساء العفيفات ولا عن تلك العاشقات اللواتي نقرأ قصصا عنهن في الروايات الإباحية فقد قُدمت المرأة على أنها " الرسولة" لحواء جديدة، تمكنت من مصالحة الأمس بالحلم من أجل بلوغ الحياة الحقّة , فالحب السريالي مقترن بعبادة المرأة فلطالما نظر السرياليون إلى الحبيبة وكأنها على وشك أن تكون مقدسة. إنّها يقول بروتون في " الحب المجنون " هي التشابك بين الفطري والخارق، وهي عند بنجمان بيريه " الحب السامي " ولأنّ الحب هو مصدر الإيحاء الأسمى، فأنّ هوس السرياليين هو الخوف من عدم استحقاقهم لهذا الحب. حسب مفهوم السريالية عن الحب لا يكون الإنسان سوى حاضنة لغاية الحياة الضارية وهي الحب. وكان ساران الكسندر يحاول العثور عن الانتشاء في غياب الجسد، وفي " فلاح باريس" كان آراغون يرى في المرأة تلخيصا للعالم: أيتها الجبال لن تكوني أعلى من هذه المرأة، وها أنا لست سوى قطرة واحدة على جسدها. ويقول إيلوار: أحلامها في أعماق النور، تُخفي الشمس. ويقول ايلوار أيضا: أنت الماء الذي يشيح عن لجته، وأنت الأرض التي صارت جذورا وعليها نستقر. إنّ مكانة المرأة، في كلّ هذا، هي المكانة التي كان يحتلها الرب. وأنّ الانفعال أمامها، وهو انفعال شمولي ودال، يكون المقابل والبديل للتجربة الروحية. 7- الصدفة الموضوعية الحب والشعر يدلان ويعلنان، لكن الإنفعال الدال الذي تولده اللقاءات لا يقتصر عليهما فقط. فأعمال بروتون غنيّة بأمثلة عن إشارات آتية من أي مكان أو من حيث ما يطلق عليه في " نادجا " المصادفات المتحجرة: ذات يوم جلس بروتون مع نادجا في منزل قرب ساحة دوفين، وبينما كانت نادجا تطوف بنظرها أرجاء البيت، سألها بروتون: هل ترين تلك النافذة؟ إنّها سوداء مثل غيرها، أنظري جيدا بعد دقيقة سيطلع الضوء وتصبح حمراء. وما مرّت دقيقة حتى أُضيئت الغرفة وظهرت ستائر حمراء. وفي يوم آخر في ساحة التويلري، كانت نادجا جالسة أمام نافورة ماء تقرأ كتابا لبركلي" حوار بين هالس وفيلونوس" ولم تكن قد قرأت الكتاب من قبل وكان بروتون قد فرغ من قراءة هذا الكتاب، وجدت في هذا الكتاب ما يشبه حكاية النافذة تلك. ومن الخطأ اعتبار هذه اللقاءات على أنّها محض صدفة، لأنّها إشارة مبهمة لغاية غير محددة وإيذان بعلاقة لا نسعى لها. إنّها الصدفة الموضوعية للقاء حقيقي يتم في عالم موضوعي، ولا يُمكن تفسير ذلك عن طريق الأدراك العادي. إنّها إشارة ولكن أية إشارة؟ وما هو التوافق بين الرغبة وإرادة الأشياء؟ بين العقلي والمادي الذي يظهر فينا؟ وأعطى بروتون أكثر من مثال عن الصدفة الموضوعية، وهو يرى فيها اتصالا بين الأشياء الرائعة. بين الإنسان والعالم، لكنه رغم هذا يعلن أنّه لم يكن سوى شاهد مذعور لا يمتلك غير هذا التساؤل: من يعيش؟ هل هي نادجا؟ هل حقا أنّ عالم الما وراء، كلّ الما وراء هو هذه الحياة نفسها؟ أنا لا أريكم من يعيش،هل أنا وحدي أم هي ذاتي؟ في كلّ هذا تظهر الاستنارة السريالية: عدم التخلي عن أي رغبة السريالية منشغلة، بمعزل الإيمان بالله، في خلق المصالحة المطلقة بين الروح والعالم، وهي ضرورة الإنسان في الواقع. والسريالية، رغم كلّ هذا، ليست مسكونة بوهم أنّها اكتشاف أو بالأحرى تساؤل، بل هي رفض الدوغماتية، هي الشاهد على غاية موضوعية تتحدث عنها وتنبهر بها. هي تُطالب بالضياء ولكنّها ترفض أن تطلق أنفاسها فيه. مأخوذة بالباطن ولكنها لا تطيق الباطنية، وهي ضد " الوضعية" وضآلة الرؤية الفيزيائية للعالم. السريالية لا تدعى من أجل هذا تسليم كلّ المفاتيح ولا تريد فتح جميع الأبواب.إنّها تحاول فقط حلّ رموز الحياة. هي انتظار وأمل وهي أيضا التفكير بالانتظار والأمل. 8- الهم الفلسفي هل من الممكن وفق ما سبق الحديث عن فلسفة للسريالية؟ يبدو واضحا أنّ السرياليين باستثناء جيرارد لوكران، ليسوا فلاسفة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. وينبغي الاعتراف أيضا أنّه بالإمكان، عند إخضاع السريالية لمعايير منطقية، اكتشاف الكثير من التناقضات فيها. فهي تؤمن بضرورة العمل السياسي كأمر مفروغ منه وفي نفس الوقت تدعو إلى تكريس التجربة الذاتية. الوفاء بالحب والرهبانية يقترنان بسادية استثنائية وبالإباحية. السحر قائم في اللحظة التي يُرفض المبدأ الذي يقوم عليه. الجنون لا يقتضي الفطنة التي يحملها النقد المنبثق عنه.المدهش معاش ومتأمل به في نفس الوقت. الخيبة هي مصدر الأمل. ويمكن توجيه اللوم على السرياليين لأنّهم وافقوا على هذه التناقضات دون الضلوع بحلها، فكانوا يعيشون تناقضاتهم في ظروف دائمة التوتر. ورغم أن هذه التناقضات هي تعبير عن تناقض الإنسان نفسه لكنهم لم يكلفوا أنفسهم مهمة تفسيرها ولا فحص أبعادها بالمعنى الفلسفي. ورغم جهودهم في اكتشاف مفهوم يعبر عن تجربتهم الخاصة، بعد أن وجدوا في الهيغيلية ضالتهم والتي بإمكانها وفده بتفسيرات لهذه التناقضات، لكن لا أحد منهم شرع بصياغة تفسير لهذه التناقضات حسب الفهم الهيغيلي، وقد يُعزى سبب هذا الغياب، لاقتصار أدوات تعبيرهم على الشعر والرسم فقط. ولم يكن بوسعهم تقديم حلول ديالكتيكية لهذه التناقضات. ففي الوقت الذي يفضح هيغل الثغرات الكبيرة لكل ما هو راهن، تتخذ السريالية من الراهن عودة دائمة لها، وبينما يدين هيغل الجلاء غير المحسوس، تُطالب السريالية بما هو أدنى. إنّ المقارنة تبدو قاصرة ومحدودة لأنّ السريالية لم تكشف في نهاية المطاف سوى الحقيقة الشعرية، إذ أنّ الميتافيزيقيا والشعر الخالص، وإن اختلفت الصياغة والمحتوى، بعيدان عن حقيقة الإنسان ورغباته. إنّ التجربة السريالية التي أظهرت عدم اكتمال العالم، حيث لا يتحقق اليومي, حيث يظهر حاضر الكائن، وحيث الشرط الإنساني، ترفض أن تكون محدودة وترفض أن تُخان، وهي في كلّ هذا شكلّت أقرب التجارب المنبثقة عن المصادر الأولى لكل الفلسفات العظيمة. إنها بسبب هذا الوفاء الصارم والفريد ظهرت كإحدى حركات الفكر الأكثر أهمية في القرن العشرين، التي خطت بعمق طريقها في حس الكائن وحياة الناس. المؤلف: فردينان ألكيه، كاتب فرنسي وأستاذ في جامعة باريس
#عدنان_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السريالية والسرياليون الجزء الأول
-
مقدمة في الشعر السريالي
-
عبقرية أندريه بروتون
-
آراغون شاعر عصر
-
عار الشعراء
-
ناتالي ساروت والكتابة الأخرى
-
مرثية جان دمّو
-
مرثية جان دمو
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|