|
العراقي والتنبؤ
محمد لفته محل
الحوار المتمدن-العدد: 4439 - 2014 / 4 / 30 - 20:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
للتنبؤ جاذبية سحرية عجيبة لدى معظم العراقيين تهيمن على حياتهم حد الإيمان المطلق به، بدءا من تفسير الأحلام وقراءة الكف والفنجان والأبراج والطالع و(الخِيرة) والذهاب للسحرة والعرافين لحل مشاكلهم ومعرفة مستقبلهم والذي يسمى باللغة العامية بعدة أسماء (كشاف، فتاح فال، شواف، ابو مراية) والتنبؤ بالمستقبل يأخذ اهتمام يفوق الحاضر!؟ وحتى نعرف سبب هذه الجاذبية السحرية العجيبة للتنبؤ يجب ألتوجه إلى الثقافة الاجتماعية التي تحرك العقل الجمعي العراقي المتأثرة بظروفه الاجتماعية والاقتصادية والحضارية المتخلفة، وهنا يجب أن أستخدم علم الاجتماع لدراسة ظروف المجتمع العراقي التي قادته إلى ظاهرة الإيمان بالتنبؤ. كثير من شبابنا في الكليات يسارعون في بداية كل عام إلى شراء كتب أبراجهم التي تتحدث عن مستقبلهم للعام الجديد، وقنوات التلفزيون والراديو تخصص برامج كاملة للأبراج تكون ذات مشاركة جماهيرية واسعة عبر الاتصالات الهاتفية، وفي الهاتف نفسه خدمات رسائل عن برج الشخص المشترك بالخدمة وكذلك الانترنيت فيه مواقع وصفحات عن الأبراج، والشباب لا يقرأ من الصحف الورقية إلا صفحة الأبراج والرياضة! وراح بعض العرافين يتنبؤن للناس على القنوات الفضائية مباشر، أي أن التكنولوجيا ساهمت في نشر ظاهرة التنبؤ وترسيخها، وهناك بعض رجال الدين هم من يتولى هذه المهنة؟ ليكونوا منزهين عن الشعوذة والاستغلال، لان التنبؤ يعطي قداسة أو هيبة للشخص، وكثيرا ما يهتم به العراقي بالشخصيات المقدسة هو قدرتهم على التنبؤ التي تكون أشبه حجة القداسة! والتنبؤ كمهنة مربحة جدا للإقبال الواسع عليها من النساء قبل الرجال رغم حكم الدين على السحرة والعرافين بالشعوذة والدجل، وكما قال النبي (محمد عبد الله) (كذب المنجمون ولو صدقوا) وللمونولوجست (فاضل رشيد) منولوج رائع (الفوال) يصف بسخرية مراجعة النساء للعراف وكيف يطلبن منه حل مشاكلهن الخاصة كالزواج والإنجاب والخلافات الزوجية وكيف يستغل سذاجتهن بحلول دجالة. إن العقل الجمعي العراقي يحمل ميراث سلفي لاهوتي وبدوي في خزينه المعرفي والانفعالي، والفكر القدري هو عامود مهم في هذا الميراث، حيث كل شيء يحدث بالمستقبل مكتوب بالماضي، فيصبح المستقبل هو ماضي متكرر يعيشه الشخص أشبه بنص درامي مكتوب يأخذ الممثلون أدوارهم عليه، فهي تفترض أن الإنسان مسير وليس مخير، وما على الشخص إلا أن يقبل بالمقسوم والمكتوب ويشكر الله بدون اعتراض، ولغتنا اليومية تعبر عن الفكر القدري بكلمات وعبارات مثل (إنها مكتوبة، مقسومة، ما يصيبنا إلا نصيبنا، المكتوب عالجبين لازم تشوفه العين، جاء اجله) فالعراقي متطلع لمستقبله لا ليصنعه بل ليقرأه ويعرفه فقط لأنه متحقق بالغيب ويتوقف عليه نجاحه وفشله، ومرضه وصحته، وزواجه وطلاقه، وغناه وفقره، وسلامته وبلائه، عمله وبطالته، فيحزن إن كان المستقبل سلبيا ويفرح إن كان المستقبل ايجابيا بدون التفكير بقدرة الإرادة على التغيير النسبي، وأقصى ما يمكن أن يفعله لتغيير مستقبله هو اللجوء للخرافة أيضا! حيث يستخدم الخرز المتخصصة بوظائف كخرزة الحب والنجاح والربح (الرزق بالعامية) والصحة، التي تحسن فرصه المستقبلية، أو يستخدم الأدعية الدينية المتخصصة بدفع البلاء أو تحقيق النجاح والتوفيق! وهذه الأفكار النظرية لا تحول دون سعي العراقي عمليا لصناعة مستقبله الفردي للأفضل، يسعى له بكل جهده وهو ما يوجد تناشز في الشخصية ما بين القول والفعل، ومن هنا نرى الاتكالية السلبية في مجتمعنا تجاه التغيير السياسي والاجتماعي بسبب اعتقاده إن كل ما يحدث للعراق هو قدر الهي مقسوم علينا! وأقصى ما يمكن أن يسعى إليه العراقي للمستقبل هو جمع المال وشراء دار، أي أن المستقبل الذي يسعى إليه محصور في حاجات ورغبات فردية فقط كالمعيشة والجنس والطمع بالمال والجاه الخ بسبب ظروف العراقيين الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة والفصل بين الجنسين، فالتطلع للمستقبل هو لعجزه على تغيير واقعه وحياته حيث تعلمت هذه الشعوب الخضوع والإذلال للتسلط والطغيان بحيث اعتادت على هذه الحياة لدرجة اعتبرتها نموذج مطلق! ومن هذا التطبع ترسخ الفكر القدري، ولا يهتم العراقي بمستقبل مجتمعه أو يحاول حتى سؤال العراف عنها، فهو منشغل بمستقبله فقط ليدبر عيشته ورغباته فقط؟ هذه الثقافة القدرية هي الخزين وراء اعتقاد الناس بالرمز الذي سيغير مستقبل العراق بأمر من الله وهم جالسون مطمئنين! فنرى هذا الكسل واللامبالاة في التعامل مع قضايانا السياسية وضعف المجتمع المدني والاتكالية المطلقة على الحكومة في العمل والخدمات والإصلاح، والعراقي لا يفكر بمستقبل المجتمع إلا من خلال الأساطير الدينية! وكيف سيغير العالم كله وفق خطة إلهية مرسومة!. وإذا سالت العراقي عن القدر يقول أن (الله انطانا عقل) وإننا مسئولون عن حياتنا، والله لا يغصبنا على الذنوب بل يهدينا فقط، وهو تناقض عن المفهوم النظري للقدر، واعتراف ضمني بان سلطة الله جزئية على البشر، نصف له ونصف للبشر فمثلا مدخول العمل الحر اليومي يرى العراقي أن (الرزق على الله) لكنه يقول (اسعي ياعبدي أعينك، وآني أعينك أو تگعد أذلك)! لان الله لا يعطي المال من السماء بسّلة كما يقول، فالقدر مطلق نظريا، ونسبي عمليا حسب سعي الفرد. إن الفكر القدري يجعل مستقبل الإنسان خارج إرادته بل يسلب هذا المستقبل حتى صفته الغير متحققة فهو ماضي مكتوب سلفا يتحقق مجددا! وعليه يكون الإنسان عاجز عن أي فعل ايجابي وليس له إلا القبول السلبي بكل ما هو واقع! فيكون التخلف والفساد والجهل والفقر والانحطاط والمرض قدر الهي مقسوم! وهذه خطورة الفكر القدري التي تجعل الإنسان يقرأ مستقبله المكتوب، وينبغي مكافحة هذا الفكر الهدام للإرادة بتغيير ظروف المجتمع الاقتصادية والسياسية وتطوير مناهج التعليم وتقوية المجتمع المدني لنشر الوعي الإنساني بالتغيير، وأتصور أن الفكر القدري ترسخ في بعد الاستبداد السياسي في الدولة الإسلامية ومن ثم انهيارها ودخول العرب في الفترة المظلمة كما يسميها المؤرخون وأصبح العرب عاجزين عن تغيير الظرف الاجتماعي والسياسي، فترسخ التأبيد السياسي والاجتماعي بعقولهم ونفوسهم، أي أن الواقع الاجتماعي والسياسي أصبح أبدي في نظرهم وليس متغير. يقول عالم النفس الدكتور قاسم حسين صالح (التحليل السيكولوجي لها أن قراءة الطالع والأبراج لا يلجأ إليها إلا الإنسان المقهور من حاضر يعيشه، والعاجز عن السيطرة على مستقبله.. لخفض القلق لديه والشعور بالطمأنينة. فحيثما ضغط الاضطهاد على الناس وأضناهم القهر والحرمان.. اقبلوا على قراءة الطالع والأبراج، فأكثر ما يشغل الإنسان هو التفكير بالمستقبل. ولان المغلوب على أمره عاجز عن مجابهة حاضر يصفعه بما يوجعه، وخائف ومتطير من مستقبل مجهول.. فان تفكيره يستسلم إلى الأقدار ليجد في (القدرية) بعض العزاء والتمويه على النفس بحيلة لاشعورية بان القدر إذا قسا مرة فأنه آتيه بالفرج في المرة في الثانية.)( فحرفة العراف الذكي تقوم على مبدأ سيكولوجي هو: قل لمن يأتيك ما يحب أن يسمعه)(1) ــــــــــــــــــــــ 1_الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح، إشكالية الناس والسياسة في المجتمعات العربية، من منظور سيكولوجي، الطبعة الأولى 2013، الناشر دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، ص68.
#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد أسطورة الجنة والنار في الإسلام
-
العراقي والخوف
-
التحريف النفسي للعنف البشري
-
نقد الديمقراطية العراقية
-
مقتدى الصدر ماله وما عليه
-
نظرية المؤامرة في المجتمع العربي
-
ثقافة الموبايل في المجتمع العراقي
-
نقد الفكر الطائفي السني الشيعي*
-
مدخل نفسي وانثربولوجي لأسطورة الشيطان
-
الطائفية الاجتماعية بالعراق*
-
التحريف النفسي للاستبداد السياسي العربي*
-
الطائفية الماسوشية بالعراق
-
مدخل إلى علم اجتماع الشيعة
-
متى يدخل إبليس الجنة؟
-
فلسفة (بروس لي) وعبقريته
-
فلسفة الإنسان
-
مستقبل سوريا بعد الحرب
-
(هذا أبو إسراء)!
-
بين الفكر العملي والفكر الخرافي في المجتمع العربي
-
مدخل اجتماعي ونفسي لظاهرة ألاعتقاد بالأشباح
المزيد.....
-
ترامب و نتانياهو، علاقة دعم وصداقة، فهل تلتقي المصالح؟
-
المحافظون الألمان يشككون في نظام اللجوء بالاتحاد الأوروبي
-
القناة -14-: ارتفاع عدد إصابات عملية تياسيير إلى 8 بينها حا
...
-
المكسيك تعلن نشر 10 آلاف جندي على الحدود مع الولايات المتحدة
...
-
شاحنات المساعدات تتحرك من مصر إلى غزة
-
-إسرائيل صغيرة كرأس القلم-.. تصريح صادم من ترامب يثير الجدل
...
-
-بوليتيكو-: قوات كييف تحاول إخفاء الخسائر الفادحة بتقارير عن
...
-
الجيش اللبناني ينتشر في بلدة الطيبة بعد انسحاب إسرائيل
-
مكتب نتنياهو: إسرائيل تستعد لإرسال وفد إلى الدوحة لمناقشة تف
...
-
-حماس- تبارك عملية حاجز تياسير وتؤكد أن -الجرائم الإسرئيلية
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|