|
هوركي أرض آشور رواية
صبري هاشم
الحوار المتمدن-العدد: 4438 - 2014 / 4 / 29 - 16:18
المحور:
الادب والفن
*** اسم الكتاب : هوركي أرض آشور اسم الكاتب : صبري هاشم الجنس الأدبي : رواية الطبعة الأولى : 2008 دار كنعان ـ دمشق ***
ـ النّص ـ *** يا بني لو عنّي سألت ثمودُ فأنا مُبحرٌ بناقةِ صالح نحو أعالي الفرات
***
ونحن نحو برجٍ في السماءِ نصعد هلعاً ، يزفنا الموت ونيران الكتائب ، ارتقينا قمةً تغتسل قبيل المغيبِ بالبرقِ ، وتصهلُ لمثيلٍ يداري وحدتَها ، بينما الوقتُ يستجلبُ الخاتمةَ فتنتفض على ضفتيه وحشةٌ آثمة . في القمة تجثو على ركبتيها قريةٌ مسّها الهلاكُ ومسختها زفرةُ طائرٍ ليليٍّ بوجهها التصق في لحظة انتشاء وفارقها مذعوراً . في القمةِ قرية أخبرونا عنها قبل أنْ نأتيَها وقالوا : هي هوركي التي تقصدون .
إليها حين عصفت بنا العواصفُ أخذنا الرصاصُ والمطرُ ، وفيها سنمكث وقتاً. هي قريةٌ كالبيت وبيتٌ كالقرية .. هي بيتٌ شُيِّد من كومة أحجارٍ وأغصانِ شجرِ البلُّوط . قرية أمَّها النحسُ قبل أنْ يدرك أهلَها الهلاكُ فهام مَنْ نجا منهم تحت جنحِ الظلام على وجهه . هي بيت الراعي . أملاك إمبراطورية تناهبها الغزاةُ ومرّ على جسدِها بدوُ الجبالِ . هي بقيةُ آشور ، ملاذُ العابرين في حلكةِ الليل وغفلة الزمن . هي قضمةُ التيه المطلق في هذا الكوكب .. هي الطريق إلى منفى الأبدية . هي الهباء ، زارها عند هبوب النسيم ، وكان ثملاً ، آشور ناصر بال . وضع على مهدِ الرؤيا طوقاً من وردٍ إمبراطوريٍّ وقال : ـ هنا وبعد ثلاثين قرناً ستزدهر الرؤى وستقيم لبعض الوقت آلهةٌ في جسد الخصب . وهنا حين تموسقت للمرة الأولى الأبجديةُ الآرامية ، غنّت جارياتُ الملك وصدحت أحلى الحناجر . وإلى هنا أتينا حين صار الزمنُ مفردةً أخرى حيث أقمنا ما بين صخورٍ صماء ولونٍ رماديٍّ يبتلعُ السماء . تحيطنا أنفاسٌ مذعورة المصدر تخرج من هذا الفراغ المهول . وتحت ضوء القذائف الممزوج بالبرق لنا ينكشف العشبُ النديُّ وللأعداء ننكشفُ . بنا يصرخ الخواءُ المطلقُ الذي اسمه هوركي : ـ من هنا مرّت قوافلُ آشور منكسرة ، متعثرة بالحجارة ومصطدمة بقسوة السبيل . من هذا الفراغ المرعب ، مرّ بأثقالِهم بدو الجبال ومرّ الرعاةُ .. مرّ الغجرُ والميديون في غياب الحرس الإمبراطوري المدجج برهبة الملوك . ومِنْ هنا أفلَ نجمُ السلالات . وهنا في هذه العزلة القاتلة سوف نقيم في القمة الجرداء ، ما بين شجون الحجر وجفوة الزمن . هنا سنقيم يومين في زريبةٍ نُظِّفت من بعرِ الماشية ومن روث البغال . ـ ستضعين حملك الأول إذن . لا تخافي يا عزيزتي فمن أجلك ستحضر للصلاة ملائكة . من أجلك ستصلِّي ، ومعها من أجلك أصلِّي وعن الدعاء لن أكف . معاً سوف نصلِّي . لأجل ولدٍ يمسح عن وجه الصبح حبيبات المطر الحزين ونحو الشمس يُطلق ضحكةً ترتدّ عن جبينها حنيناً . ففوق أعلى قمة في هوركي لم تتمخض من قبلك امرأة ولن تتمخض من بعدك امرأة . فهنا لا تتكرر ولادة . أنتِ مَن ينسج خيطَ الأسطورة الأول وإنْ لم تصدقيني القول ، أرسلي صوتك في الآفاق من أرمينيا حتى البصرة ومن صيدا حتى كابل واسألي عن امرأة وضعت فوق قمة هوركي حملها الأول وبالقرب من أديم السماء . لن تجدي امرأة . أضمن لك أنّ لا امرأة فعلتها على امتداد مليون عام بينما بالنساء تضجّ المشافي وبالقابلات تعجّ القرى . لا امرأة مثلك يا حبيبتي فعلى طول حدود مفرغة من البشر لا امرأة طلقت و لا أخرى ولدت . أنتِ من ستتعلق بالغيم وتطلق آلامها الأولى . أنتِ من ستُمسك بقائمة الليل ، بالقمة ، بجناح نسرٍ جسور وتصرخ صرخة المخاض . أنتِ فلا سيدة قبلك ولا سيدة بعدك ، فاستريحي يا حبيبتي بالقرب من أجفان السماء . هنا في الغيمة المأوى ، حيث تزورنا في الظلام عجائب الحكّام ببهجة الوميض وحيث تغادر الحياةَ كلُّ نفسٍ ، أدنو من بطن زوجتي المرتعش منذ ساعات وأهمس : ـ ستأتي يا سيد البهاء فأنتَ الوحيد مَن نطق بأذنه الزلزال في قافلة الولادة . ستأتي و سيأتي الوفيّ هاني بن رواحة الشيباني . ستحيا هي إرادة السماء . ستنمو هي إرادة السماء .
هاني مثلك خرج من رحم غاب في الفراغ ، مثلك لم يفتح له الطينُ به ثغرةً ولم يلثمه منزلُ . في ذلك الحين كلّ السقوف غادرت المدينةَ والمدينة عاثت بها وحشةٌ ، كأنه من سحابة مُلصَ والخلق في أتمِّ دهشتها . هي الصرخة الأولى مزّقت سجفَ الليل . هي النار الناهضة من غربة الجسد التي بها يستدل التائهون .
كثيفاً .. كثيفاً سيهبط ليلُ وحدتنا ، وليلنا لا يهادن ، لا يحتمل عود ثقاب أو أنّةَ غريب . ستأتي بعد حين . هي أرضٌ متوحشةٌ فلتروضها بحبلٍ سريٍّ . دعني أريق على عتبات الانتظار ماء تصبري ، ومنك أطلب المغفرة ، فلقد فارقتني منذ مغادرة الحضارة صيغ المخاطبة ولم تبق إلاّ صيغة المذكر فدعني بها أخاطبك .. أو قل هي ما تناسب الجنين . أ لست جنيناً ؟ ففي هذه المتاهة إثماً اقترفنا .. جرماً ارتكبنا وعظمت خطايانا حين لم نفكر بعسر البطون ونزف الأرحام وانغلاق أبواب الجدّات ، فهنا لا باب فتطرق و لا درب فتسلك ، هنا تكتم الصرخةَ وديانُ الموتِ وانفلاقُ القنابلِ وهنا الصرخة تبتلعها الكهوفُ ويطيش بها الحجرُ . ستأتي يا سيد البهاء ولن تموت فهذا الرحم مبارك . ستأتي ويبقى السؤال عالقاً في طرف اللسان : مَن دفعنا إلى هذا الوحل القاتل ؟ مَن انتزع وعينا وألقى بنا إلى هذه البقعة الخرساء ؟ تقول العرب حين تستوحش المكان : " السماء والطارق " فهنا لا سماء ولا طارق و لا هم يحزنون . عليك دعني أنثر ورودَ ذاكرتي يا سيدي الجميل .. يا أيها الجنين المشاكس . دعني أطلق عصافير الفكر نحو أمداء رحيبة واسمعني ما دام حجر العثرة متنحياً عن طريقي أو هو يتدحرج في مكان ما : بصحن البرِّ قدموا لنا تراباً . أوهمونا وقالوا : التهموا من أرض الأجداد حفنة . كنّا خلف صياحنا ندرج أو هو الصياح من خلفنا يدرج ، لا فرق ، بينما النسوة يغمرْنَ الطريقَ برشقات أقدام حافية يظلّ لها التراب يتنهد ، ونحو المدينة يعبرْنَ مثل أطيار الضياء القادمة من أقصى الفراديس كأنهن يهطلْنَ أسراباً من صفحة السماء . يخضن الماء مثل حوريات ويندفعْنَ فيه حتى رئة المدينة .
يا إلهي كم كان الماء شهماً في الأصباح التي يحتضن فيها تلك الأجساد الكريمة ، البضّة ، النارية ، المكتنزة سحراً والمتفتقة عنفواناً . كم قمع شهوة وكظم شبقاً بينما موجه يصرخ لوعةً ويطلق نداءات ذكورية . كم كان متواطئاً لكي يستدرج كلّ هذا الوميض الجسدي المبهج ، المعبأ في زوارق أدمنت رائحة الجسد واجتذبتها قداسته . نتكور خلف أمهاتنا العابقات بأريج أحاديث لا نفهمها . كنّ زاهيات حين يمطرْنَ الهواء بقهقهات الصبحِ وكنّا كأصابع الكفِّ في أحجامنا . يُسرِّحنا الليلُ بعد اصطياد نجومه ويغوينا المدّ لمداعبة موجه المُتعب ، فننظم النجم بخيوط الماء ونصنع قلائدَ لطفولة تحاصرها الرغبات ، وتتمسك بأطراف الثياب كي لا تضيع في زحمة المدينة . ثم صرنا مع المراكب المُبحرة بخيالنا نبتعد ، ولها دهشة أو حسرة نلوِّح . نُسأل فجأة عن هوى نفوسنا حين تشتدّ علينا المدينة . نتلجلج ونعتذر ، فعنّا نأت بصرة وبنا غدرت سفينة . مع الريح نولد كلما انتزعت من جهات البصرة سعفة ، ونكبر كلّما تلمّظ في ملاعبنا قمر . لم نتحسس وجودنا حتى تدورَ من فوقنا كواكبُ وعلى وجوهنا تلتقي أشواق النسيم . ـ خذوا نشقة من عطر اللحظة واطلقوا رواحلكم فأنتم الطلقاء .
يعصف بنا الأمر . نسترد أنفاسنا بعد عَدْوَةٍ مباركة من عَدْونا الكثير ونترك ظهورنا إلى جدار الوهم تستند . تغازلنا النجوم وفي محاجرنا تدور شهوة الرحيل ، لكن صحوة من حلمنا تخرجنا بعد حين فنترك للخلوة جدار الوهم وحشد الرغبات . نعلم أنّ في هذه الفضاءات لا تداعب الأحلامُ رؤوسَ فِتيةٍ يسكنها الهمُّ ويحرسها الطيرُ إلاّ رأس هاني لا يبرحه حلُمُ ولا تخاصمه ذاكرة فيأخذنا في هدوء عجيب :
مع الغسق أعود أنا ابن الطين والشمس والطرقات ومن فوقي أسمع لهاث قمر قادم من أنحاء قصية . أفتح باباً ، لا نفس خلفها ، تطلّ على الوحشة التي سكنتني وعلى صفير السكون المطلق . أعود كأنني ابن اليتيمة التي ذُلّت ومعها أذلتني . لا عمر لي إنما دون سن الثامنة عشرة كنتُ . أسمع أصوات قطعان بشرية مدججة بالكراهية في أذني تدوي و في كلّ خلية حية من جسدي أومن أركاني المرتجفة تعوي . تصرخ في الفضاء الضيق الذي يحتويني . أدمدم : ها قد صاحت عليك الصائحات . وحيداً مثل ثور مطعون نازف أقف في مركز هذا الكون المبهر .. عارياً مثل تمثال رومانيٍّ أمام حشود ذاهلة . أصيح : يا ربّ أيقظ في جسدي شيئاً من توحش وانفخ فيه من قوتك سحراً . هل هؤلاء بشر ؟ أ هم من أبناء جلدتي ؟ هل أنا منهم و هم منّي ؟ يا رب الرحمة أيّ الكائنات خلقتها وألقيت بها إلى وجه الكوكب ؟ آه .. ما أعظم غربتي ! أفتح باباً .. الدار تندب .. تشكو وحشتها . لا أحد غيري أنا وهذه الوحدة المؤبدة . يصرخ داخلي : من أي ثقب في جدار رحم الدنيا نزلتُ ؟ ذاكرتي الملعونة تختزن أدقّ التفاصيل ولو سمح لي الغسق العدواني أن أرهزها ولو لمرة واحدة لأنجبت تاريخاً مدهشاً يرفل بثوب فضفاض أزرق . من رأى في حياته تاريخاً يرفل بثوب أزرق ؟ لا أحد .. أنا من تَعْلق منه الذاكرة في ليلة ممطرة أو عاصفة بتوأم ذكور . أنا هاني بن رواحة الشيباني المُشرّد في مدينة عشقتها حتى أقاصي الجنون .. حتى الرمق الأخير . أنا الهارب من همس الناس ، من نظرات الجيران المتعالية ، ومن مطاردات وغارات يشنها ضدي الزمن الرديء . في سرّي أسأل وفي العلن أصرخ كلما حاصرني الألم : ماذا فعلتُ أيها الكون الغارق في المحنة لكي تعاقبني ؟ ما خطيئتي ؟ أيّ الآثام اقترفت ؟ أيتها الأقوام الغبية المحنطة في هواء طلق أنا مجرد وحيد فما الذي يخيفك مني ؟ لِمَ كل هذه الجفوة وهذا الفجور ولِمَ العداء ؟ يسكتُ هاني ونطرق نحن بحزن شديد . أيها الجنين الجميل الساكن تحت أذني ، المستمع لحديثي ، العاصف في حياتي ، سوف أنبئك عن خزين ذاكرتي وعن طوفانها إذا ما تزلزلت تحت أعماقها رغبتي . أيها المسالم ، المجاهد في سبيل رؤية الدنيا ، سترى . أعدك يا نشيدي بأن ترى . سترى قامات الجند الزاحفين إلينا من أعماق الوادي والهابطين من السماء بمظلات الموت . سترى انفلاق القنابل على رؤوسنا و أيتها الأقرب إلى زريبتنا المحمية بالمطر والليل وبهذا العراء المطلق العاصف . سترى جندرمة الترك المدججين بالسلاح والجوع والأوامر ، الذين ظنوا أنّ جيوش المعمورة قادمة لمحو خرائط السلطان العثماني ، وظنوا أننا قادمون لكي نعيد مُلك آشور ومجد إمبراطوريته الضائع . ظنوا يا ولدي أننا سنقضم جبلاً من آشوت وآخر من آروش وثالثاً في إزمير ومن تياري سنقتطع أرضاً مقدسة ثم نتجحفل ونتقدم صوب آستانتهم بعظمة هودجنا الملكي . سترى خيبتنا التي ما بعدها خيبة . سترى جوعنا ، عرينا وندمنا على ما نحن عليه . أيها البديع ، العذب في الرؤيا وفي الرؤية . هل أرى ؟ سترى أبوين طعنتهم الفجاءة وأدركهم الخذلان .. أبناء البراري الممتدة بلا نهاية بين بلدان شتى ، ستراهم يقطنون وعورة الجبال في هذا الخلاء المنبعث كالقدر . إننا إلى التيوس أقرب من البشر . أتدري مَن ذا الذي سلب إرادتنا وأطلقنا نحو الفراغ المنحوس ؟ لا تدري أليس كذلك ؟ ولا الرفاق يعرفون !. إنه الوعي يا جنيني الرقيق ، فحين يغادر الوعي اقرأ على المرء السلام . سيأتي الرفاق .. من أمامنا سيمرون وعلينا يعرجون .. وحين يأتون ، سيطلقون عياراتهم النارية ابتهاجاً بقدومك . هل يأتي الرفاق ؟ أنا لا أظن ! وأنتَ ؟ ربما لا تدري أيضاً ولكن نائلة العزيزة تقول : سيأتي الرفاق . أسألها : وما أدراك يا نائلة ؟ تقول : أنا في الرؤيا رأيت . ما رأيك يا ضيفي المُنْتَظَر لو إليك أبثُّ شيئاً من دهشة الحكايا .. أجل ليس الحكايا نفسها إنما من دهشتها . فنحن منذ الصغر نرث الحكايا ولا شيء سوى الحكايا . هل توافق ؟ لا ، لا توافق ، ليس الآن . أجل ، أجل ، ليس الآن . * * *
*** ـ الصدى ـ
*** كلّما ناحت اليمامةُ في الأرجاء صمت الطيرُ إكراماً لحزنِها ***
ونحن نطير .. نطير . نحن الفتيان من فوق الماء كدنا أنْ نطيرَ. حاولنا والبصرة نحونا ذاهلة تسرح النظر ، إنما القادر منّا يطير . عنّا يرتفع ومن فوقنا إلينا يُحدِّق .. يبتعد .. سهيل يبتعد ويطوف الأرجاء ونحن مازلنا في المحاولة نرفرف .. يطير .. يطير والخلق من حولنا إلى كبد السماء يصوبون البصر .. وحين يرسم في الهواء نجمة عارية الفخذين وقرنفلة تراقص ساقية إلى خريرها يهاجر اليمام .. وحين يلقي فوق كل بيت جنة صغيرة ، يُدهشون ، وهو يطير .. يطير ، ونحن مازلنا نحاول أن نطير حين تنزل الشمس بكل أبهتها إلى بركة ماء وإليها يطير العشاق في غيبوبة الجسد . يطير وعن عجزنا نعلن : حاولنا أن نطير ولكن . لكن سهيلاً هو القادر فينا ، يحلق بعيداً يتجاوز الأنحاء .. ومن خوفنا نصيح : يا سهيل انزل لئلا تسحرك الشمس .. يصدمك الطير .. يعشقك النجم . لم يسمع حين نضيّع في غمرة الدهشة نداء . متى يا خيط اللؤلؤ تنزل فعلى أسطحنا سيحطّ بكلّ أشواقه طائر الغسق الحائر . متعباً سيحطّ ، وستذوي أمام سحره المهيب آخر رفّة نور . آه يا سهيل لن تضيع كنسمة في ريح عاتية . هل نعود ؟ يتهامس الصحب حائرين . وبكل خيبة اللحظة تهتز الرؤوس موافقة . نعود ، نخلع أجنحة الهواء وشكل الطير . نعود ، ننسى أحلاماً هبت من صدورنا صوب سهيل . نعود ، ومن أمامنا راية خفقت معترضة السبيل . نعود ، وقامة هي الراية ، وراية هي القامة ، تمتص المساء وتنتصب على ما تبقّى من بهاء الدنيا . والراية القامة تهتز : ـ أعدتم بلا سهيل ؟ ـ ما زال يحتطب السماء . أجبنا وأم سهيل تستغرق في ضحك مجنون ، فينطلق الطلع من فيها بهياً عذب المأتى ، تقول : ـ سيجلب قرنفلة العشق ويهبط على رائحة البيت . إلى جوارها نظلّ ننتظر ، يدوخنا العطر ودفء المكان . يغمرنا الوجه الجميل بإشراقة الحنين ، ويلثمنا طيب الحديث . هي منبع صدق وبحر وفاء ، نعرفها منذ اهتزاز المهود والرؤية الأولى . نعرفها كما نعرف الأمهات من همس البداية . نعرفها صغاراً وكباراً ، منذ صيحة الحياة . هي الشِطْبَة المختارة سلمى بنت وضاح المازني التي بددت همم الرجال بعد أن فاضوا من أجلها شهوة . هي العبير الساحر الذي استجلب حبيب الأنصاري من سماوات قصية وهي منبثق الأشواق الذي منه يتزود العشاق ، هي محمية الهديل ، الفردوس الآمن الذي في سمائه تتزاحم الأطيار ويحترب في رياضه الصهيل . هي البحر بما اتسع ، الذي ما ركبته يوماً ، والذي تحكي عنه كلما انتجعت ليلاً وتسامرت دهراً . تسرد قصص مراسيه و طقوسه ، قصص بحارته وأحيائه ، خرائطه وتقلبات مزاجه . هي البراري المتوحشة وعالمها . هي سلمى التي خدّرنا مقامها وأنسانا محنتنا بعودة سهيل إليها .. إلينا . نلتفتُ : ـ هل سيحطّ على رائحة البيت ؟ ـ سيأتي ومن حوله أرواح مبتهجة . ـ كيف ؟ ـ أنسيتم أحلامكم التي فرّت من صدوركم في أعقابه وكان في جسد كلّ حلم روح ينبض ؟ ظلّ من قبله أبوه يجوب الأرجاء حتى ارتمى على وجه بحيرة زرقاء ، اسمها سلمى ، طوقته بموجتين فاجرتين . نضحك .. نضحك نحن الفتية يغمرنا طقس المساء وحديث آسر ، فيما السماء تنشق عن قمر وبضع نجوم .. تتزلزل الأرض و يرتجّ البيت . يأتي سهيل تحيطه هالة نور . يأتي بقرنفلة العشق في هودج الأحلام . يلقي التحية ويضحك ، منّا يضحك : سنطير سوية . في المرة القادمة سنطير سوية . لا تجزعوا أيها الصحب . فوق كتفي يضع يده السمراء : لا تجزع يا هاني معاً سنسافر أو نطارد السراب إن لم نستطع الطيران . يلوذ بقدرته خلف مرايا التباهي و إلى حيث تجمعنا العائلات التي أتعبتها المبالغة ونشاط المخيلة ننصرف : قيل على جنح النورس طار حينما مرّ النورس فوق الماء . قيل إلى الماء قذف نفسه فانبثق في السماء وقيل تسلق الهواء كما يتسلق حبلاً . ليس هناك من لم يرَ ولكنها مخيلة الدهماء حين تختار الغرابة . في أحد الأيام أخذنا إلى قلب الصحراء نطارد السراب . ماذا تفعل أيها المجنون أنه ليس البحر وليس الماء ؟ يضحك .. سهيل يضحك : الأمل كالوهم أتقبلون الأمل وترفضون الوهم ؟ أنا أعرف فرس البرِّ هذا إنْ انتجع واحة العبادة ظلّ يحرثها حتى هبوط الملائكة . إنه منّا يسخر ، من قدراتنا ، ومن خيالنا المحدود . أنا أعرف طائر الدهشة الفضيّ حين يمنح الشمس بريقاً والقمر خفقة . أعرف كون سهيل النضر ، الثري ثراء جمال سلمى وفحولة حبيب الأنصاري . أعرف قداسة الدخول إلى عالمهم الصغير ، الغريب عنّا . أعرف إنْ وقف المرء في حضرة بيتهم انقطع عن دنس العالم الخارجي . هؤلاء خُلقوا من طين الأنبياء ، من بذرة شريفة ، أو من دهشة الآلهة . نرى ، نحن الفتية ، حرارة تخرج من جبين سهيل وهو على مقعد الدرس . نراها كتلة مشعّة تخرج أو على هيئة حزم ضوئية. نسأله : هل تشعر بشيء أو تحس شيئاً ؟ لم يجب . نرى ، نحن الفتية ، كما رأى من قبلنا آباؤنا عن أبيه وكما رأت عن أمه أمهاتنا ، والرؤية مختلفة ، العجيب الغريب . لكنني إلى روح سهيل دخلت . كنت هو . أعرف تفكيره .. أعرف ما يريد وما يسعى إليه . أعرف لغة تقولها عيناه . أنا سهيل الآخر . أنا هاني بن رواحه الشيباني ، أقرب من سهيل إلى سهيل . أنا هو الذي يُحَذِّر : يا هاني لا تدخل من باب البيت لا تدخل مثل بشر على هامش الوقت يأتون إنْ أردت الدخول فالروح أقرب لكي يطيب اللقاء ويطول البقاء * * *
وبعد زمن كانت المسافة بين ضفتيه هزّة شوق عنيفة ، فاجأته بقامتي التي من خلل المأتى الذي أراد أنْ أرسلها . يهتف فرحاً : ـ أتيتَ ؟ ـ ومثل ما أردتَ من المأتى الذي يجب أن يكون . هل توقعتَ ؟ ـ أبداً .. أبداً . كأن السماء أغدقت عليَّ . يُدوخني البيتُ المُدهش المُبخّر ، يسلبني لُبّي ويختلّ عند المكوث توازني . يُغيبني شعور بالسِّحْرِ . هذا بيت كريم بالحياة يطفح وأنا بالخدر اللذيذ أنغمس . تغمرني بقية من أنفاس سلمى التي ربما خرجت منذ هنيهة بموكب ملائكيّ تزفه نسوة عاشقات ، يُداعب عودَهنّ النسيمُ إنْ مرّ بجوارهنّ ويدخلهن الندى إنْ بهنّ اختلى . كنّ شبقات يستنشقْنَ مع الهواء ماء الفحولة ويطربْنَ لجميل الكلام . تنعشني الأنفاسُ . تعطرتُ برائحة الأنثى التي انتشرت في أنحاء البيت ، الذي إليه مع الهواء تسللت الكلمات . أنا في حضرة المقدس . علينا تهطل ظلال الحديث فيأخذنا طيبه إلى خلوة في صحوة النهار ، ثم ننقذف إلى عراء مطلق حيث ننثر أفكارنا على وهن المسافة وغبار الطريق . يأخذنا الوقت عبر أوحال المدينة . لنا أيد تُلوِّح حاولت ذات مرة قصّ أذرعنا ، وتغمزنا عيون ضاحكة أرادت مرة إرعابنا . ها نحن يشتد عودنا وبالحياة نرفل . على رؤوسنا تهطل مرة شمس وعلى جباهنا مرة تستفيق . سهيل عن الحديث يتوقف فجأة . يتركني أسرح تحت ظلّ غمامة عبثت بأحشائها الريح وتكاثفت فوق رأسي بقيتها بينما السماء تصبّ على الملأ مصل زرقتها . أسّرتني غربة دخلت نفسي فلعنتُ دمعة الغريب التي في عيني رقصت . هتف روحي كأن سهيلاً أطال الغياب : يا سهيل عُد مشبعاً بالصداقات . عُد كما أنتَ لا زيادة فيك ولا نقصان . يعود في غفلتي هو الذي لم يغادر أو يبرح المكان . في الرؤيا يعود وعلى رأسه تتدلى نجمة مسوّرة بسرب حمام ويعلن : هي غايتي التي إليها سعيتُ . اختطفتُ نجمة الوجد . خُذها أيها الصديق وبها تمتع أو في سماء البيت ارفعها . خُذها إلى زهو السرير ودع الجسد يطلق الرحيق . دعه يتفتق زهراً . خذها ولا تفكك أسرها حتى تسجدَ خاشعة لربِّ الحنين . يا سهيل إلى مجرتها أرسلْ حمامك الزاجل . اخبرها عن أسر نجمة الوجد ثم على صدرك علقها . خذها يا سهيل . إلى مقهىً يتنفس في الزوايا برودةَ الحديث ملنا . إلى مقهى يعلن وحشته كلّما انتصف النهار أخذتنا أقدامنا . ـ هنا ندخل .. إليَّ تسللت رغبة سهيل ودخلنا . كنّا نفترس بأفكارنا الصمت ونزرع السكينة في غمرة الضجيج . كنّا كبرنا وامتلأنا معرفة .. وبنا طاقة كمنت يصعب التكهن بها لو تدفقت . وسهيل في تلك الأيام ، آه لو عادت هنيهة تلك الأيام .. آه لو استيقظ الزمن ولو لمرة واحدة على تلك الأيام ، كان في صدره العشق يزهر وفي رأسه ينمو فكر ، وسهيل أحبّ صبية ليست كالصبايا ، أنثى ليست كالإناث . أحبّ كوناً نضراً في أعماقه حياة تمور . أحبّ صدراً دافئاً تحت رأسه شوقاً يتنهد . أحبّ نائلة ، وسهيل في غفلة منّا صار شيوعياً . تأدلج خلسة حتى تورمت ثناياه فدخل السيد ماركس ما بين جلده وعظمه وتحت سطوة تأثير سهيل الذي كان أنا وكنتُ هو تعلمتُ ماهية الماركسية فصارت لي قضية . عليك يا سهيل اللعنة . مزح معي مرّة وأطنب : ـ مددها في الفراش والتحفا معاً . ـ مَنْ هي ؟ ـ القضية ! ـ لماذا ؟ ـ لكي تتخمر وتستساغ . في المقهى طفرت منّي مزحة صارت سؤالاً : ـ أما وعدتني ؟ ـ بِمَ ؟ ـ أنْ تعلمني الطيران . ـ علمتك الشيوعية ألا يكفي ؟ خذ جنحها وبها حلّق . هي ضحكة النجمة تُراقص عري النهار . هي ضحكة سهيل ترتفع. تتلوّى ودخان سجائرنا . هي ضحكنا يتصاعد وبخار كأس الشاي . نرتفع ويطوفُ جسدُ الألفةِ فضاء المقهى . نرتفع كالنهار ، كالبهاء . يأتي الهزلُ متسللاً عبر زجاج النافذة . نرتفع ، نستقبله ثم نمضي معه شوطاً. هل تألق الوقت يا سهيل ؟ هل صرنا النجم وصرنا البهاء ؟ هل اعتلتنا حمرة الشقاوة وابتهج الفؤاد ؟ يهمس : ـ معها سأنام ! ـ مَنْ ؟ ـ عاهرتي . لكن قل لي يا هاني لِمَ لا يتجلّى جمال الأنثى في فرجها ؟ ـ لم أفهم . ـ ربما اكتنزت قبيحة فرجاً ضاحكاً ، متدلعاً ، لعوباً أو محارباً ، مفترساً أو عضاضاً ، وامتلكت جميلة فرجاً خاملاً ، ضعيفاً ، باكياً . قل لي يا هاني كيف يستوي الأمر .؟ ـ لم أُجرّب بعد . دعني أُجرّب أولاً . ضحك سهيل ومنّي قرّب رأسه : ـ جرِّب بفرج القضية أولاً .
* * *
مَنْ أفسدك يا هذا المخلوق الجميل وأخرجك من نشأة بيت جُبل أهله من طينة طيبة ؟ فأنا الذي رافقتك طويلاً فجعني انحراف فيك واعوجاج كلمات من الصدر تخرج عبر فم شريف . مَن أفسقك يا صاح وخلع عنك ثوب العفّة الذي به ترفلت ، وبه رفلت عائلتك . هل غيرتك نحو الأسوأ الشيوعية ؟ لا أظن فالشيوعية أسمى من التهور . أفكر أحياناً يا سهيل وأقول هل تجرؤ على قول الكلام البذيء أمام ذويك ؟ أنا أشك في هذا . سألته : ـ مَن سقاك كأس التغيير يا سهيل ؟ ـ إنها إرادة الوعي ، شهوة الأصالة أو دعوة التمرد . ـ دعوة التمرد على ماذا ؟ ـ على هذا العهر الذي يطلع إلى عنان السماء . العهر الذي يسرق حياة الناس . ألا تجد في وعيهم خراباً . ألا ترى نفاقاً يزرعون ، نميمة يبذرون ، كذباً يحطبون ، انتهازية يؤسسون ، جرماً يرتكبون ، أنانية يمارسون ، حلّةَ زيفٍ على أنفسهم يخلعون ، ونفاجاً يعلنون ؟ ألا ترى مجتمعاً مريضاً ومن مرضه لا يشفى ؟ الفرد فيه يعيش باطلاً .. يعيش ازدواجاً . هذه شعوب ملعونة على مرّ العصور ولا تزال إلى ضعتها تنحدر . ليس العيب أنْ يطرأ عليّ تغيير إنما العيب في أنْ لا أتغير . يضيف ضاحكاً : ـ معها سأنام الليلة . ـ في المقهى ؟ ـ لا في فراشها . سألتُ نفسي : مَنْ هي ؟ أنا لا ادري مَنْ هي ولم يعرفني على عاهرته مرة . حذرته : ـ إياك أنْ تقترب من عفّة نائلة . ضحك ضحكاً هستيرياً ثم قال : ـ أيّ نائلة . أنا أقصد عاهرتي . ـ مَنْ هي لم تحدثني عنها مرة ؟ ـ كيف لا . إنها نجمة الوجد . ـ عليك اللعنة أيها الزنديق . أزف وقت الرحيل وافترقنا . * * * من شرفتي الموحشة قمر أطلّ مترنحاً تحت ثقل غمامة فتحت له نصف القلب وباباً ثم إلى مائدتي اليتيمة دعوته تردد القمر التفت إلى نجمته الوحيدة وبكى أيها القمر الوديع المكلل بالحزن ما أبكاك ؟ استدار ناحيتي فتساقطت من على وجهه وجوه أخرى * * * ظلّ البصريّون كغيرهم يحتطبون في غابة مسحورة خشباً غرائبياً لصنع قيثارتهم الموعودة ، التي سوف تعزف ألحاناً عجيبة للنظام الجديد المنبعث من شهوات النار ، وظلّ النظام يدغدغ مواطن الضعف فيهم فربما استسلموا وتطبعوا فكانت حالهم كحال الناس المعوزين وربما أبدوا تجاهه جفوة أكثر أو هبلاً أكبر ، فالبصريّون طيبون حتى الهبل . ظلّ المتسلطون يغنمون ، بكل الوسائل ، الغنائم فتتداعى أمامهم حصون وقلاع أحزاب عريقة ما كان ينبغي لها أنْ تفقد توازنها فتختلّ عندئذ موازين البلاد . إنه زمن لصعود نجم أسود في سماء العراق . فيما راح الشيوعيون يصنعون مجداً من أوهام على هامش هذا الزمن ، فيدفعون برقاب المناضلين إلى مقصلة النظام الحادة الجائعة .. يدفعونهم إلى الموت في السجون والشوارع والساحات والحدائق العامة . مئات لا بل آلاف من الشباب من الرجال والنساء ، ردح السياسيون المؤدلَجون على جماجمهم وأجسادهم الطاهرة الشريفة في " مرادح " العهر السياسي لكي يصنعوا مجداً مؤثلاً لقيادات خائنة لمبادئها قبل كل شيء . * * *
كنتُ ما أزال في الشرفة مسمراً أمام مائدتي اليتيمة أدعو إليّ القمر الباكي والقمر إلى نجمته الوحيدة يلتفت وما تزال الوجوه عن وجهه تتساقط . أدعوه ويعتذر . أدعوه ويرفض وأنا في حومة الوحدة أدور حينما هجس لي هاجس أيقظ فيّ رائحة الوصل التي انطفأت بيني وبين أروى . يا إلهي كيف السبيل إليك يا ندى الجوري !؟ أمسكتُ سمّاعة الهاتف وتراجعتُ .. أمسكتها وتراجعت .. تراجعتُ وأمسكتها .. أمسكتها حتى انطلق صوتها : أنا مشتاقة .. قالت . قلتُ : وأنا لفراقك أجنّ . وأنا إليك أطير . وأنتِ إليّ هل تطيرين ؟ أشتهيك يا أروى أشتهيك نسيماً يُحرِّك موجتي واشتهيك حلماً لا ينتهي في منامي وصحوتي واشتهيك ثمراً وحشياً يَعْلَقُ في صلاتي واشتهيك كأساً معلاّة تهتك أستاري واشتهيك خمرة الفراديس تعلن في الليل جنوني اشتهيك نغماً ، موجاً وصوتاً في فلاتي اشتهيك في عيني تنامين .. في روحي تسهرين .. وعلى مهجتي ضيفاً تحلّين اشتهيك وطناً نلوذ به اشتهيك آه لو كنتِ تطيرين .. وعلى جنحي تسافرين لعبدتك يا حبيبتي ولسوف تشمخين مثل آلهة تشمخين اشتهيك إليك أطير .. إليّ تطيرين . اشتهيك . قالت أروى : ـ معاً نطير .. إلى أقصى السماوات نطير . ثم استدركتْ : ـ أو هل تعلمنا يا حبيبي الطيران ؟ ـ أجل يا حبيبتي مذ ضحكت زرقةٌ في كبد السماء . للزرقة نطير وفيها حتى الجنون الأخير نعوم .. للضحكة يا أروى نطير . ـ آه يا معذبي أيّ لحظة جعلتك تطرق إليّ قلب الليل ؟ ـ لحظة اشتعل فيها ، وفي شرفتي الغارقة بهموم قمر يبكي ، الحنينُ إليك . فهل من لقاء قريب ؟ ـ في الصباح سأفرد إليك أجنحتي . سأزلزل سماء البيت . ـ بشوق عارم سأنتظرك وحين تأتين بنهر البهجة ننغمر .
حينما انطفأ بيننا الكلام كانت مائدتي اليتيمة محفوفة بالوجوه المتساقطة من على وجه القمر وكان الليل يُطوّح بي .. يُريني دنيا أخرى وعوالم ما نسجتها المخيلة . صرت محاطاً بوجوه قمرية ، وإلى طاولتي جلست أجساد هلامية .. دخانية . رأيت أفواهاً ترضع من كأسي الملأى فوق طاولة تُعاتب القمر على تَمنُّعِه . الليلة كثر ندمائي وشرفتي أوغلت في ظلال شفيفة . أنا في التهويمة أدخل .. في اللذّة .. في الحلم .. في النشوة الساحرة .. في اللحظة التي لم تسم بعد . وأنا إلى أثداء البصرة الغارقة في نوم هادئ أتسلل وبين الثديين أتمدد .. أحاول أنْ أغيب .. أنْ أنام .. أنْ استنشق طيباً يعبق من نهر الصدر . والبصرة في طقسها الكونيّ ماضية . لم تحس بي . لم تشعر بوجودي. لم تتحرك ، فيما الطيب من صدرٍ حيٍّ يعبق . بعد حين من تهويمتي أفقتُ ، فلم أجد نديماً .. لم أجد وجهاً ولا قمراً باكياً . قلت : رحل ونحن نائمون عنّا الزمن . مرّ علينا يا بصرة الزمنُ . في الصباح بما تبقّى من سكرة أطاحت النسماتُ وانتشرت في أرجاء المنزل روائح زكية .. ربما من الحديقة تسللت عبر النوافذ المفتوحة على النهر . ربما إليها أوحى النهر ، أو في لحظة وجد زفّها النسيم . كنتُ في أجمل صحوة .. في أبهى حلّة .. وكنت قلقاً في انتظار إلهة ستهبط إليّ بدرج من السماء . هل تأتي بموكب رباني أم للقاء ستأتي وحيدة ؟ هتف صدري : أيقظوا ورد الحديقة ستمرّ أروى افرشوا الطريق أزهاراً فأروى لا تعرف زمن الإسفلت . افتحوا للندى المدى ودعوه يمرّ إلى كلّ شفّة لم تتهيأ للّثم . وسّعوا مجرى النهر ربما جاءت أروى من كل مكان . ستأتي أروى / الموجة / الريح يا رب كيف سأفرق ما بين أروى الموجة وبين أروى الريح ؟ حين عصف الصبح بساعاته الأولى هبّت علينا ريح وطوتنا موجة فوقفتُ على ظهر الشرفة أمشط شعر الأنواء وكنتُ في مخيلتي أسرج فرساً من ريح وأصنع شراعاً من ماء . لكن العاصفة غمرتني ، والعاصفة مزيج من ريح وماء . انتزعتني من على ظهر شرفتي واسقطتني على صدر صالة الاستقبال . فتحتُ عيني كانت أروى الريح أروى الماء وسط الصالة تتمشّى . في صدرها الصبح يتنهد . أجل أنا رأيتُ الصبح في صدرها يتنهد ، وعلى النهدين رأيتُ ورود الكون تتفتح .. بغنج أنثويٍّ ساحر تتفتح .. والندى أسمعه على تويجات الورد تارة يتساقط وتارة يهطل ، وأروى تختزن في عينيها الليل ، وأروى باسقة العود ، وأروى حين اقتربت منّي اجتاحتني غيبة ، وحين صحوتُ كانت في أذني بقايا همسة لم أسمع في عمري مثلها . كنتُ تحت سطوتها أذوب : ـ أحبك هاني ...! كنّا وجهاً لوجه ، رجفت عند القول شفتان ناريتان .. تينتان ناضجتان ، أُسْبِلت عينا إله واختلجت في النفس رغبة . أنقذْ يا هذا الصبح هوى روحي فأنا إلى وصله مشدود من وريدي ، وأنا أسبح في النور فيغمرني في الريح تعطرني وفي الموجة إلى ساحلها تأخذني فتهصرني وتكسرني . وأنا منذ الجريّ خلف سناجب بساتين البصرة أعرف أروى وأعرف إلى أيّ مشتهى ينبغي أنْ أتطلع وفي أيّ عطر ينبغي أنْ أتمرغ أعرف ، أعرف قبل أنْ أرضع من زهر التين ، من هاتين الشفتين . قبل أنْ أعوم في نهر الصدر وأنهل من ماء الصدر وأرتشف من نبع النهدين . قبل أنْ ... آه لو إليها شدتني أروى لاحترقنا في لهيب أبديِّ .. آه لو . اقتربي وليطلع هذا الصبح في مكان آخر خلف الكون في الأقطاب .. في عتمة ماء البحر فليطلع في قرية ثلج خلف تخوم الدنيا قالت خذني ودع الصبح بنا ينفلق ، يتناثر في ما بعد الرؤية وما بعد الرؤيا . دعنا نحترق . صرنا نلتهب وصرنا نحترق ورأينا الصبح خلف الأفق ينفلق لكني رأيتُ روح الصبح بجسد الأفق يرقص . وأروى حين عن ثيابها تجردت أدخلتني في البهاء هل كانت سمراء ؟ هل كانت بيضاء ، سوداء أم شقراء ؟ أروى كانت كلّ الألوان .. كل الأطياف .. كل الأوقات . دنت .. تلامسنا .. تهاصرنا .. امتزجنا في بركة ماء وعن اللحظة تهنا . وحين عدنا لم نرَ اللحظة في صالة اللهاث . حين أفقنا قلتُ : مرّ علينا يا أروى الزمنُ .
وأنا أخرج من خدر الصالة .. من طين اللذّة ، متطيباً برحيق فردوسيّ في لحظة بنا تاهت وبها تهنا ، عبأتُ شيئاً من أنفاس أروى في أنفي وفي فمي جمعتُ شيئاً من عذوبة الرشفات . وأنا أخرج في انطفاء الزمن الذي مرّ استوقفتني وقالت ماذا تفعل أيها المجنون ؟ قلت حين أُضَيِّعُ إليك سبيلي ، عليك استدلّ بعذوبة ثغرك وأنفاسك الطيبات . ضحكت أروى وأنا أخرج من طقس الصالة ونحو العراء اندفع ، فيما البصرة بالشمس تستحم وبرائحة الضحى تتضمخ ، وفيما البصرة تتعشق أفقاً أو رؤيا تلوح في أفق فسيح . مَن يأتي يا بصرة وقد مرّ الزمنُ ؟ ما بين مكتبة المدينة ونهر العشّار رأيتُ نائلة الحميري بطلعتها البهية . أضحت عوداً نضراً ، باسقاً ، كانت فائضة الحسن . أطربني ثراؤها الفاحش وأبهرني تاج من عِزٍّ وكبرياء وضعته على رأسها بحنوّ وطعّمه ذوقها الرفيع بأجنة وردٍ جوريّ أبيض . أنا من أقصى الرؤية رأيتُ التاج .. ومن وراء بسمتها رأيتُ لؤلؤاً يصهل . رأيتُ فستاناً من فوق جسدها يطير .. فرحاً يطير ، ورأيت الفرح في ظلّ نائلة يمشي . يا إله العزّة لمن خلقت هذا البهاء وهذا الكون من الفتنة والسحر ؟ تساءلتُ : هل تتحمل البصرة هذا الكون من النور أم ستميد الأرض تحت قدمي نائلة ؟ مَن رأى نائلة في تلك الأثناء أصابه مسّ . مَن تكلم معها أحسّ صوتاً قادماً من فردوسٍ خفيٍّ . مَن اقترب منها تاه في سحابة عطر . مَن لامسها أغرقه بحر من ندى . كانت زوبعة مسالمة تشق الطريق . تساءلتُ : ـ إلى أين تمضي الوردة في هذا الضحى البديع ؟ ـ إلى ترف الماء وعذوبة المكان . ـ إذن أظمأها الحرُّ ؟ ـ لا ، وإنما تفتحت على ضفتي نهر مخبول . هتف داخلي : فعلها الفاسق . وأضفتُ : ـ قيل إنّ النجمة عند قمرها الجميل قد أمضت ليلها ؟ ـ لا .. بل تعبدت في صباح الحانة على تخوم البيت . تراخيتُ : إذن لم يفعلها سهيل . ـ وكيف كانت صلاة العشاق ؟ ـ ماء يتدفق من ينبوع آسر ونحن تحت وقع كلمات الماء نذوب . ليس رجلاً من هذا الكوكب مَن لا يحسد سهيلاً على نائلة وليست امرأة تنطوي على كتلة من المشاعر مَن لا تحسد نائلة على سهيل . تذكرتُ أروى : لو على صدري وضعت رأسها ولنداء روحي استمعت ستزعل بلا شكٍّ أروى . ستنبري : نحن عنهما لا نقلّ في الخلق أو في سموّ الأخلاق . ولو زعلت أروى سأفهمها : لكن الطبيعة عنّا ميزتهم يا حبيبتي . آه يا أروى / المرأة / الموجة / الريح ، علام تزفرين وتحترقين وأنتِ تعلمين أنّ المخلوقات مهما تقاربت لا تتطابق ؟ هل أصير مثل سهيل وهو يطير ؟ وأنتِ تعصفين وتغتلين وتزبدين لكنك مثل نائلة لا تصبحين ، فنائلة جُبلت من رحيق أزهار الشطآن وأنتِ من رياح جُبلتِ ومطر . وأنتِ يا حبيبتي إليّ أهداك في سكرته قمر . وأروى لم تخلِ سبيلي .. أروى اعترضت تفكيري : يا أروى يا فرس الأفق المغيرة على جحيمي على صهيلي اعبري وحطّمي الهيكل القديم فحين خفق بيننا يا أروى الصبح وحين أدارت نحونا الأزهار أعناقها وحين يا حبيبتي تجلجلين وتصدحين وحين تفتق في شرفاتنا الوجد وحين تدفق من صدورنا ينابيعَ الخمرُ تساءلت : هل عادت من هياجها أروى ؟ هل خرجت من زوابعها أروى ؟ إذن عاد إلى أجسادنا يتوسل النسيم وعاد الندى وألفة المنزل هل عدتِ في ظلال الشرفات ؟ هل عدتِ من رحلة أغرقت مراكبنا ؟ هل تذكرين حين بجذع النخلة توسلنا .. أنْ يحملنا ؟ إلى أين ؟ إلى عذوبة النفس .. وكان النخل أميناً .. وكان رحيماً . وكنّا كما نحن في طلعة الصبح ثانية لن أرسف بأغلالي . لن أحطّم ، والكلّ يبحر ، زورقي فذاك كان زمناً آخر لن يعود . وتلك كانت سكرة أخرى لن تعود وأنتِ يا أروى إلى البيت غادري وانتظري بفارغ الصبر عودتي فأنا عائد يا حبيبتي بإكليل عرس . أمام سوق الفرح وقفتُ حائراً . استقبلتني الدّمى العامرات بالصمت والبهجة الخادعة . كُنّ بالبياض يغتسلنَ وعن وجوههن إشراقة لا تزول . يمسحنَ بترفهن وجه الطريق وبدوْرَتِهُنّ يؤطرنَ المرايا . كُنّ من وراء الزجاج ساكنات ، يسحرنَ القادم بالبسمات ورقة النظرات . آه .. لولا غياب الروح في الدمى لصرْنَ عرائس الأزل . أنا من حيرتي بفارغ الصبر صحتُ : يا صاحب الأفراح أدركني . إليّ هرع الرجل . سألني عن طلبي . قلتُ أريد إكليلاً لأشهى ليلة عرس وفستاناً لأنثى الجحيم . قال الرجل صِفْها . قلت هي لا سمراء ولا شقراء ، لا بيضاء ولا سوداء .. هي ليست طويلة وليست قصيرة .. هي ليست بدينة وهي ليست نحيفة هي كلّ الألوان ، كلّ الأطوال ، كلّ الأحوال ، وهي رشيقة الرشيقات. هي المرأة/ الريح ، هي المرأة/ الموجة ، مُشعّة الطلعة ، سوداء العينين ، شعرها ليل بهيم ، وهي يا سيدي عاصفة الشوق إنْ اشتعل الشوق فينا ، وهي الوئام إنْ سعينا إلى الوئام . هي أروى مليكة الزمان . هل عرفت يا سيدي أيّ امرأة هي .. أيّ النساء ؟ .. عنّي غاب الرجل تاركاً ماله في أمانتي وأمانة الدمى . بعد مدة عاد ، على ساعده الأيمن تسترخي موجة متلألئة وعلى ساعده الشمال ريح تلوب . قال الرجل : انفخ في الموجة تصبح إكليلاً لامرأة ملكت الدنيا وداعب الريح تصبح فستاناً مهاجراً على جسد أرق الإناث . اختطفتُ الموجة والريح وإلى أروى طرتُ . من الباب صحتُ : إليك يا حبيبتي جلبتُ الفرح . الليلة يا أروى سنوقد شمعة البداية التي أرجو أن لا تنطفئ . إلى الهاتف عمدتُ ودعوت سهيلاً ثم نائلة ودعوت الصحب ومن أروى طلبت دعوة مَن تشاء فنحن في الحفلة ندخل ونحن الليلة نقيم للمرة الأولى زفّة عرس . انتفضت بعد نفخها موجة أُضيئت في حبابها الدُّنا ضحكت مليكة وبها تكللت فيما الريح تلتف على جسد الأنثى الجسد يثور والريح ترقّ هل رقّت لك الريح ؟ أجل .. إلى ميدانها المسحور أخذتنا وقالت : أطلقوا سموم الجسد وحلّقوا ساعة ، ليلة ، دهراً هي المرأة من يقول وهو الجسد حين يُضاء بأنفاس حارقة وهي الموجة حين تلتف على نفسها منَ يقول وهي حين تريد ، وحين تغضب ، وحين تعصف هي أروى التي ما رغبت يوماً وهي التي مَن رغب ومَن أراد . في ليلتنا الآسرة البهاء ، العظيمة المتعة ، الصادقة اللذّة ، كنّا ثلاثين ما بين ذكر وأنثى ، ما بين حبيب وحبيبة . كنّا فتنة الليل ، نجومه وأقماره ، شهبه المتساقطة من تهويمة سمائه العذبة . كنّا رئة الليل في ذلك البيت القصي ، العصي على ذاكرة اللحظة . الغائرة في النسيان تفاصيله العجيبة . في ليلنا ذاك . في حفلة عرسنا التي ينبغي اغتنامها والاستمتاع بها حتى أقاصي حدود اللذّة فهي عادة لا تتكرر . في ذلك البرزخ المبهج النائيّ البعيد عن الوجود المنقطع عن سوءات الكون ، كانت أروى كوكباً يشعّ في سماء الصالة الواسعة .. كانت الملكة المتوجة لتلك الليلة .. أميرة الشرق المضمخة بكل عطوره .. سيدة الهديل التي لم تكف عن الغناء ولا عن الرقص فهي عاصفة حين ترقص وهي موجة جذلى تدغدغ روح الحفلة حين تتغنج وهي طير ليليّ سخيّ الحنجرة حين تنتشي . أروى لهذه الليلة خُلقت وما بعدها لا تدري . شربت ، ارتوت ، غنّت ، رقصت ثم شعرت ضيقاً . قالت : أُريد أنْ أشم الهواء . خرجت إلى الحديقة الغنّاء تستنشق هواء نظيفاً ، نقياً . خرجت لتعود . انتظرتها ساعة ومعي الحفل ينتظر لكن أروى لم تعد . خرجنا إلى الحديقة ، لأروى لا أثر . بحثنا في زوايا المنزل وفي حجراته الكثيرة دون جدوى . أطلقنا أصواتنا في الأنحاء لم يأتِ الردّ . خرجنا إلى الشارع وأطلقنا لأقدامنا العنان في البصرة بأكملها .. لا أثر لأروى . أروى سرقتها الريح . أروى ابتلعها الهواء . صرتُ أعول : يا أروى يا مصباح الرؤية وضوء الكون . يا أروى يا رئة العشق وأمل الصبايا . يا أروى يا مسك الأنوثة وعطر الساحرات . يا طيب الأرض وبرد الأفياء . يا أروى يا دفء المنام وعذوبة الملتقى . أمسكني سهيل ثم نائلة .. وأروى تضيع ، أروى لم تعد : في أيّ الجهات تشعلين الحرائق ؟ بأيّ القناديل تضيئين الليل ؟ في غيابي هل تعلمتِ الرحيل بلا أشرعة ؟ وفي غيابي هل كنتِ تجمحين ؟ أين ؟ إلى أين ؟ هنا الأرض واسعة وفيها بلا رقيب طوفي الأنحاء آه يا أروى خذي ما تبقّى من هذا العقل خذي العقل خذيه لا حاجة لي به وبه ما أنا فاعل ؟ خذي العقل يا أروى وأنتِ النجم انطفأ .. أنتِ قمري المنتحر أين أجدك ؟ أين يا أروى ؟ * * * ما بعد أروى لم أفتح باباً أو نافذةً . ما بعد أروى لم يعد لي منزل . ما بعد أروى صار عمري انتظاراً . * * *
ظلَّ سهيل صاحبي الذي لم يفارقني أبداً .. ظلَّ نوراً في سمائي ، لظلمتي يُبدد ، وفرحة في نفسي لكربة تُحاصر . ظلّ نديمي وطائري الليليّ السابح في فضاء الكؤوس . ظلّ ظلِّي ، وهو الأمير الصغير ، العاشق حتى أقاصي اللهاث حتى أعالي الجنون ، الذي يدلق في سمع نائلة ما طاب لها من كثيف الهمس : هنا يا نائلتي كقطرتي ندى في كأس الرازقية نعيش . وهنا يا حبيبتي في خيالنا نهدم الحدود .. ننزف العشق ونستبيح الكلام . وهنا إلى أعماقك يا نائلتي أغوص ومن عرض صحرائك أشدّ الرحال . أجوب أدغال الكون وإليك أعود .. تحت أفيائك أرتمي مثل طائر عبر قارّة من شموس . أنا يا نائلتي مَن يفتح مدائنك المسحورة ، وأنا مَن يبحث عن كنوزها الفريدة ، وأنا مَن يلتقط ثمار جنانها ، وأنا مَن سيشرب مِن زلال مائها .. فافتحي أول الحصون وبنداك دثّري جسدي . آه يا نائلتي ، أيتها الفراشة القادمة في خلوة السبيل . أمنِّي تخجلين ومن حولي تطوفين ؟ ارتفعي .. ارتفعي يا حبيبتي مرة وثانية وثالثة وكوني كوكباً من على سفوحه ينهمر الضياء . ارتفعي فوق الرياح .. فوق الغمام ولا تجعلي النسيم من على صدرك ينتزع وردة الساحر . فالساحر يا حبيبتي على جسدك رقّص الشموس والساحر يا نائلة فقد الغواية . ونائلة تشرب من كأس الهمس وتسكر.. وهي حين تسكر ، من رحيقها الذي جُبلت منه تُطلق الكثير. ارتفعي إلى السماء رابعة لكي يهتف النور في دهشة الجسد ولكي يطرب الطيرَ سمرُ الوعول فيخرّ صريع اللهفة فوق أدغالنا الطافية . ولأنّ سهيلاً يمطّ الوقت بين دهشتين ويضغط الكلام بين جملتين . ولأنّ نائلة بهمسها اكتنزت وبرحيقها فاضت .. ولأنّ الزمن القبيح يكشف عن عورته شيئاً فشيئاً ، قررا أن يوقفا لعبة العشق ويتزوجا ، فيما البصرة تصرخ بملء شدقيها رعباً .. فيما البصرة بالخوف تتلهّى ، قل تلعب .. فيما البصرة تلعب ولهدير لوعة البحر تفتح فخذيها .. فيما البصرة تلعب ، تلعب .. آه كم كان مكلفاً يا بصرة اللعب !؟ * * * أمام سلمى بنت وضّاح المازني دمدمتُ وكنّا نُهيئ لحفل زفاف سهيل في بيت أبيه حبيب الأنصاري : إنه الوعي يختار غربته ، فنكّستُ فوق تلال الهزيمة رايتي وأعلنتُ أمام حشد الموج هزيمتي . كنّا نلفّ الصبح بورق الموز لنفتح عند المساء بهاءه ، فالمساء يجرفنا طينه في سكرة خالدة ، والمساء يختارنا أحياناً عجينة لسبيكة العقل . هذه تأتأة لبداية آهلة الغرابة ليس إلاّ . لم تفهم سلمى شذرةً واحدة منها ولم تبدد من طبق رونقها في جهد الإنصات . ضحكت .. قالت : ـ تعلمتَ أشياء لا نفهمها .. إنما نحن للجمال نفهم . ـ أنتم أهل بيان ونحن خالطنا أهل المدر . بضحكة مُجلجلة استجاب حبيب الأنصاري وقال مخاطباً زوجته سلمى : ـ هؤلاء الشبّان يغترفون من العقائد صنوف الكلام . إنهم على أرصفة الفلسفة يدرجون فلا تعبئي بكلامهم . ـ هو ماركس يا عم حبيب .. ماركس من خرّب العقول . لم يُعلّق حبيب الأنصاري ، ربما لم يدرك قصدي .. ربما أغلق باب الحوار وراح يُرَتِّب ما ينبغي ترتيبه في الجناح الخاص بخلوة سهيل ، فيما سلمى تتنقل برشاقة سيدة لما تزل فتية وبفرحة غامرة تختلج في صدر أمٍّ تزف بكرها للمرة الأولى . دنوتُ من سهيل : ـ هي ليلتك أيها الطائر القلق فحلِّق كما تريد وترغب وسافر على جسد الريح إلى أقاصي الدُّنا وحين تعترض سبيلَك غيمةٌ أمطرْها على رؤوس العباد طلاً لبراعم تنبجس بين النفوس القاحلة . أيها الطائر البدائيُّ الذي ما اختار شهوةَ البداية إلاّ لينشرَ رائحة التمرد أكرم سابقةً بنُبل السماء فالليلة تزدهر الوسائدُ بدفق الأنين . هي ليلة انشقاق الرؤيا من كبد العتمة والنور . هي ليلة فيها يتخضّل الآسُ المُتعب بأنفاس الحبِّ فينشط ويسكب في كأس النُدْمان شيئاً من نضارته . ـ اسحرني بشدوك يا هاني فأنا لم أسمع نغماً حلواً منذ ... كاد أن يقول منذ اختفاء أروى واستدرك : ـ منذ حين . ـ الليلة في أذنيك ستُنَغِّم نائلة . ستسكب طيباً ، ستأسرك . هل تحب الأسر ؟ على جسد الحديث انكسرت زجاجةُ عطر فلوّثت محراب الكلام وفاح عطرُها . انصلبت بهجة لحظة وهتفت رؤيا سهيل : ـ البارحة في خفقة الجناح ومن مرتفع الرؤيا رأيتُ ، وكان البدر في تمامه يتمشّى فوق بحر من زيت مقدس فَيُطْعَمُ هالة ً من نور ، البصرةَ تدرِجُ نحو الماء وقد استحكم خناقها وبها استبدّ العطشُ فتُرَدُّ عنه بأيد وحوش البرِّ والبحر وتُؤمَر لانتظار السماء . ـ تنحَّ يا شبح الرؤيا فالقادم أجمل ، والقادم يزهو فينا ، فَنُغْمَر عِلماً وننطق في جسد المادة روحاً .. وننبعث .. وفينا القادم ينبثق ، فلا تزحمنا أيها الفاسق بغريب الكلام ولا ترسل للحزن طيفاً فنحن نتشهى ليلاً ندياً ، ليلاً بطيب النفوس عامراً وبجمر المباخر متباهياً ، ليلاً أحمر . الليلة على أنغام الريح سنرقص .. سنسكر .. من جسد العفّة نسكر . الليلة نطحن الهواء برحى التهتك فاتركنا نغرق .. بسَمرنا المجنون نغرق وبغرقنا نُسعَد . حينما هبط المساء كنّا جهزنا صالة الحفل وأنجزنا ما اعتاد عليه الناس . حينما هبط المساء جهزنا للموج مراكبنا ليحملها إلى حيث ما يشاء . حينما ارتجفت آخر ذؤابة نور ولمظ لسان الوقت شرعّنا أبواب المنزل للقادمين إلى الحفل . صرنا إلى الاستقبال أقرب . الليلة ستدخل نائلة في كنف سهيل وسيدخل سهيل في كنف نائلة . حينما أينعت على وجه الأصيل ساعة كانت البصرة تتثاءب من قيلولة ثقيلة وكانت للسهر تتجهز ونحن من خلفها نلهث تعباً . هذه البصرة لا موج يطويها ولا تنهبها ريح . هي البصرة سيدة الخلود ، مدينة الأحزان والإحسان . حينما أنجزنا زينةَ المساء وللعبير فتحنا نوافذَ الدار ، قلنا : ستأتي البصرة ستأتي ياسمينةُ الكوكب حانةُ البِحار مَنْ يُرشدها إلى صدر المجلس ؟ إلى رأس الليل وتجلس ؟ سنديرُ ، حين يتعب الغسقُ ، جسدَ الحانة سنُديرُ الليلَ فلتدخلْ يا هذا بزهو الموكب بكل بهاء الدنيا بنائلةَ أُدخلْ بحورياتٍ يرشقْنَ الحفلَ بماء الورد وهمس الطين ، تدخل بطيباتٍ يسعدْنَ الحاضر والقادم بقطار الحفل فلتدخلْ مدنٌ ، أحياء ، بلدانٌ ومخلوقاتٌ عجب أفرغنا ما في مراسينا من شهب ونظفنا منذ الأمس سواحلنا فلتهطلْ كثيفاً أيها الغسق أنّا صَرَفْنا الساعةَ إلى جزر منسيات وفينا تبدد الزمنُ فلتدخلْ سهيل بأجنحة الشمس بنورٍ ربّانيِّ وعلى فتنتك نشهد فحين يجن الليلُ نشهد فلتدخل بنائلةَ سهيل ونائلة بك تشهق اللهمّ فاشهد قلت ومن فم سلمى انطلقت ملفوفةً بجسد المشهد زغرودةٌ فكان الليل وكان العرس وكنّا الحفلَ * * * لم أنسَ أروى .. كنتُ على هامش الوقت أنزف وداخلي يجهش . أتلصص على بكائي وعليَّ أتألم : أين ؟ في أيِّ البحار تحطمت سفائنك وعصفَ بك الموجُ ؟ في أيِّ بقعة من هذا الكوكب ترزحين أو تسرحين ؟ أين يا أروى .. في أيّ معتقل أو قبو ألقت بك شهوة الغدر ؟ هذا عالم يمشي بالمقلوب . هل تعذبتِ ، تألمتِ ، عريتِ ، جعتِ ، متّ ؟ هل طرتِ في ليلة عرسنا نحو عالم أجمل ؟ هل استهوتك جنة أخرى ، لذّة أخرى ؟ مثلما الآن كان الحفل وكنّا في أبهة الليل . في أبهة اللحظة كنّا . أين ؟ .. أين انخسفت بك الأرض وخانتك الطريق ؟ أين .. أغصتِ في الرمال أم بك انهارت سدود ؟ هل ألقاك ثانية . أين .. أين يا أروى ؟ عند الفجر تفرّق الحضور وانفضَّ الحفل . أعدنا كلَّ شيء إلى مكانه وأرجأنا بعضاً من أشياء . عند الفجر صافحني حبيب الأنصاري بيدٍ باردة بيضاء . كان متعباً وصفرة باهتة سكنت وجهه . عند الفجر رشقتني سلمى قبلة امتنان . عند الفجر كان سهيل يصبّ في إناء الخلوة لتراً من أزمان ومن صدر نائلة ينهل . كان يسافر على جسد امرأة ليست كالنساء . إنه يطير .. على جسدها يطير .. بها يطير وهي به تطير . ودعتهم . شعرتُ أنّ حبيب الأنصاري يخفي في صدره شيئاً ما ، يخفي ألماً ، حزناً ، لا أدري ، كان شعوراًً وحسب . أقلقني الرجل . أقلقني اختفاء بريق عينيه . سألته : هل تشعر ضيقاً يا عم ؟ هل تحس ألماً ؟ قال : لا . خرجتُ .. أخذتني برودة آسرة في فضاء عبثت به عتمة فضيّة وشيء من توجس .. أخذتني خِيفة . الوقت بتؤدة ينزلق نحو الصبح . قصدتُ البيت . كنتُ متعباً ، حائراً . من على مبعدة رأيته يغطُّ وحيداً في وحشة قاتلة . تحسرتُ : فيما مضى كان بالحياة يضج . أحزنتني حاله وهو في عتمة شفيفة يسبح ، ونور ينطلق نحوه من الطرف الآخر للشارع يسقي وحدته . اقتربتُ .. استقبلتني النخلة الواقفة بشموخ وأبهة في صدر الحديقة كأنها حارس المعبد . هذه النخلة البرحية لا أحد يعرف عمرها و لا عدد فسيلها ولا نوع الطيب في عذوقها ولا حجم عطائها . هذه النخلة البرحية وحيدة كالبيت .. كصاحب البيت . غنية برطبها .. برائحة العشق في جذعها . هذه النخلة هدية السماء . مرّات ، وفي ليالي الصيف ، تحاورني . حين تجدني وحيداً تحاورني . حين تستوحش تحاورني . هل تفهم ما أقول ؟ أجل ، وأنا أفهم ما تقول . هي تعرف أهلي الذين رحلوا فرداً فرداً . تسألني عنهم فرداً فرداً ، وتذهب في عويل طويل حين تتذكر أمي . هي النخلة عمّتي . فتح البيتُ بابه ودخلتُ . معي خشيةٌ دخلتْ ، لستُ أعلمها . تساءلتُ : ممن تخشى يا هاني ولم يبقَ ما يستحق الخوف منه أو عليه ؟ لستُ أدري ! . إنما الذي أعلمه هو روحي حين ظلّ هادراً . إنما الذي أعلمه هو هروب النوم عنّي . إنما الذي أعلمه هو كياني حين بات مهتزاً . إنما الذي أعلمه هو وطني وقد وضِع على حدّ السكين . إنما الذي أعلمه هو أني بتُّ غريباً . إنما الذي أعلمه هو أني لن أطيل البقاء . إنما الذي أعلمه هو أني أبحث عن ملجأ .. عن زمن يهذي .. عن مشرط .. عن عين ترى .. وراو يروي .. عن غربال لا يحجب عنّا الرؤية ونفس رائية . انشقّّ الصبح . مَنْ أفزع الصبحَ ؟ .. أيُّ حكمةٍ ألقت رايةً محترقةً على نافذة القلب ؟ .. مَن نقش على جسد اللحظة هذا الوشم ؟ مَن باعنا وهماً ؟ انشق الصبح ورنّ جرس الهاتف عالياً .. رنّ عالياً ومرة أخرى عالياً .. آه كم أخشى اللحظة ! . رفعتُ السماعة ، جاءني صوت سهيل . قال : أسرع . وأنا أخشى اللحظة . تساءلتُ : ماذا ؟ قال : أسرع . وأنا معي دخلت خشية . قال : أسرع .. الآن الآن . في منتصف البيت رأيتُ سلمى في ذهول تام . رأيت سهيلاً مترمداً . رأيتُ نائلة بثياب سود . تساءلتُ مفجوعاً : ـ ماذا ؟ قال سهيل : ـ مات أبي . قلت مطأطئاً : ـ صدقتْ رؤيتك يا هذا فالبصرة تدرج نحو الماء بعد أنْ استحكم خناقها واستبدّ بها العطش فتُردّ بأيد وحوش البرّ والبحر . أضفتُ : ـ كان حبيب الأنصاري منذ الفجر ميتاً. تساءل سهيل : ـ كيف ؟ قلتُ : ـ حينما ودعته رأيتُ الموتَ على وجهه ، وسألته إن كان يشعر شيئاً أو يحس شيئاً فأجابني بالنفي . لكن العم حبيب كان ميتاً . وكنتُ بأمره حائراً . وكان روحي هادراً . حين فتح البيت بابه ، معي خشية دخلت . مات حبيب الأنصاري وانقلب الفرح حزناً وأيّ حزن . إنه موت حبيب الأنصاري معبود سلمى .. وجه شريف من وجوه البصرة ومن عليّة القوم . حين فتح البيتُ بابَه وخشية دخلت معي هدر روحي ثانية : على حين غرّة أيّ موت يخطفك أيها الرجل الشجاع ؟ أيّ لعبة باطلة هذه التي سلبت سلمى عشيقاً أبدياً ؟ أيّ حقٍّ يتجاسر على رجولة بحّار ما كرهته البِحار إنما إلى نشيد فتوته تطربُ ؟ أيها القبطان النبيل أسف الموج وتبددت غضبته . ندم الموج وأسرّ : ليتني به ما عصفتُ . لم يعرف الموج أنفة الشجعان وكرم الرجال . لم يعرف . أيها المهاب السعيد انتظرتك الصواري وارتفعت لأجلك أشرعة ، فارسم على صفحة السماء سفينة تهوي إلى الأعماق . أيها الأبيّ حين تحطمت بك على مشارف حضرموت السفينة هل حلمتَ بسلمى ؟ أفكرتَ بسهيل ؟ ببارقة أمل ؟ بسفينة ابن ماجد التي في طريقها أنقذتك ، وكانت من عدن مبحرة نحو البصرة ؟ أهي مصادفة . بماذا فكرتَ ؟ بعائلة كريمة أنتَ سليلها ؟ بمدينة لا تميز بين الأبناء والغرباء ؟ بماذا ؟ أيها الطاهر ، النقيُّ القلب ، الكبير ، نم قرير العين . نم محموداً . * * *
*** ـ النّص ـ *** أيقظوا الوسادةَ فمنها يعبق الطيبُ ***
ستأتي حتماً وتطرق نافذةَ الصبح .. تقف على أبواب القلب وتنده : افتحوا يا أنتم . أيها النائمون افتحوا لوليد قادم . قُل لي مَن سيفتح لك في هذا القفر ؟ مَن سينتظر كراية غيري ؟ أنا الوحيد الخفّاق في هذا العراء ونائلة بك سترمي بعد حين وتتعب . هي مُجهدة وهوركي لا تمنح للمتعبين رحمة لا تمنح شيئاً . هوركي بيت الراعي ، عاصمة الجبل المخبول الذي نسكن قمته وينثر على رؤوسنا الرصاص والمطر . هل سمعتَ عن قمة سكنتها الجنّ ؟ نحن الجنّ ، تيوس الجبال وطيور الصقيع التي ما احترست لعاصفة . لك أعترف أني مازلتُ قوياً وفي صدري جبار يستحثني على كلّ الأفعال : أجمع من عمق الظلمة حطباً في أرض صخر لا عشب يبسق فيها . أوقد تحت الأمطار ناراً وتحت الثلج أرقص عارياً . أنا مَن يتبع سكيناً تفتح في بطن الأرض جرحاً غائراً . أنا البصري المتعب . لم أركن لسكونٍ ساعة ولم أذق للنوم طعماً . لم أنزع لغير الترحال . أنا ابن الماء العازف على أوتار موجه ، أغوى الغرباء مدينتي ودعتني للرحيل فأخذتُ وردة الروح نائلة الحميري ورحلتُ . هنا هدّنا الترحال فوقفنا نستريح .. في هذا الخلاء ننتظر الرفاق الذين عليهم استعصى المجيء . هذه هوركي نجمة الساحر إنْ نظرت إليها فسوف لا ترى سوى ذؤابة شمعة أشعلتها لهذا المساء . أنا ونائلة ننتظرك بلوعة يا سيدي . أنتظرك وأنتظر نصفي الآخر . هل تعرف نصفي الآخر ؟ يقيناً لا تعرفه لكني سأخبرك عن هاني بن رواحة الشيباني . ستتعرف عليه بعد حين فهو طيب كأرض العراق وعذب الحديث كماء دجلة لكنه مثلنا يا ولدي لا يشرب من النهرين إلاّ علقماً . هو العدّاء الذي لا يمس الأرض بقدم حين يعدو وينساب كأنه النسيم . قذفته من رحمها زهراء بنت أحمد الكناني في صباح بهيٍّ نديٍّ حلو النسمات . يقول عنه رواحة : لم أرَ كذاك الصباح من بعد . علّمني الغوص ، العوم والسباحة ولم أعلمه الطيران . لم أعلمه سوى الأفكار التي بأجنحتها يطير . هل كنتُ مع هذا الكريم شحيحاً ؟ لا أظن . هل كنتُ سخياً بنفس المقدار ؟ لا أعلم . إنما الذي أعلمه أننا سنلتقي ومنه سأتعلم المزيد . إنما الذي أعلمه أني سأهتف خلفه حين تصبح عندي باب : يا هاني لا تدخل من هذي الباب كالغرباء إنما من جهة القلب فادخل إنها الأقرب للقاء وهاني للقلب أقرب فهو حين دفعني ، ذات هاجرة ، إلى الماء وكدتُ أن أغرقَ ، هكذا توهمتُ ، وضع يديه الصغيرتين ، الكريمتين ، تحت صدري وقال : ارفع رأسك وادفع صدرك .. حرِّك يديك وبرفق أزح الماء . لاعب ساقيك ولا تخف يا سهيل الماء فمَنْ خاف ظلّ بالسباحة جاهلاً . لا تخف وأنا معك . أعدك أن تتعلم بأسرع مما تتوقع . حرّكتُ يديّ ثم ساقيّ وللمرة الأولى طفوتُ ، فأخذتني دهشة ، وحين ثانية طفوتُ وانزلق نحو الأمام جسدي ، غمرتني بهجة ما زلت تحت سحرها مترنحاً . تلك كانت هاجرة . كانت أجمل هاجرة على الإطلاق . بعدها لم يقترب منِّي . صار عن كثب يراقبني . بعدها صرتُ أسكن الآفاق . أسكن الأرض ، ألج الماء وأجوب السماء . بعدها لم يجفلني نهر .. لم ترعبني سحابة سوداء . بعدها صرتُ لا أهاب الأشياء . هاني صنو .. منِّي بمنزلة النفس حتى على غيرنا اختلفت الأسماء فلا يدري الغريب إنْ كنتُ سهيلاً أم هانياً . تلك طفولة أفلت وولّى زمانها .. حطّمت قلاعَها الريحُ وتقاذفها الموجُ ، فطارت الأرواح منها وسكنت صدورنا ومازالت بنا تعبث . تلك طفولة نستعذب نسيمها كلما هبّت .. تُسكرنا نفحة من ذكرها وبقطرة من طيبها ننتعش . تلك طفولة مازالت أنغامها تطربنا . أيها المشاكس الجميل ، البهيّ أما زلتَ مصرّاً على المجيء ؟ أنتَ لا تقدِّر محنتي .. هي محنتك أيضاً لكنك لا تدري عن أحذية العسكر التي أجْلَتْنا عن وادي الأفاعي في ليلة ممطرة سوداء ، حيث كنّا نسكن الحدود . إنها مازالت تطاردنا ولآثارنا تقتفي . ربما سيصعد إلينا الجند من الجهة الأخرى لهوركي .. من السفح العصيّ .. ربما إلينا وصلوا وفي أرضنا قتلونا . أترى أيها القادم الوسيم كيف نسيتُ ، الجندرمة والقذائف التي تهطل فوق رؤوسنا والتي ربما فوق زريبتنا انفلقت ومحقتنا جميعاً ، وأنا أتحدث إليك عن هاني . أوصيك أيها الأمين ، وأنتَ للوصية حافظ ، إنْ بقيتَ حيّاً أنْ تسلم على هاني بن رواحة الشيباني . إنه حتماً سيأتي والطريق التي سوف يسلكها تمرّ بالقمة .. بهوركي القرية .. بيت الراعي .. محظية آشور ناصربال .. مَبْوَلة الرعاة .. مزار الغجر وبدو الجبال .. بهوركي الزريبة التي نتقاسمها مع الحملان والجديان . سوف يشم رائحة منّا فيك . قل له إنك ابن سهيل الأنصاري .. ابن نائلة الحميري .. وإنْ أردتَ الحق هو عليك سيتعرفُ حين بوجهك يتفرس .. سيشم رائحتك ويعرفك ، قل له إنك مثله في اليتم وعلى حين غرّة مثله صرتَ وحيداً ومثلما هلك أهله أهلك هلكوا . قل له إننا مُحقنا .. قل له كيف سُحقنا . ربما بقيتَ مثله تماماً عارياً أمام الكون .. وحيداً لا ناصر لك ولا معين . عندئذ تصادقا .. تآخيا . لكني مع هذا كله أعدك أني سأحاول ، ما استطعت ، أن لا أُبقيك وحيداً .. سأدافع عن وجودنا .. وعلى أية دابة تتحرك باتجاهنا سأطلق النار . أعدك أنني لن أجعلك يتيماً .. لن أتركك وحيداً ، ضائعاً في هذه البقعة النائية ، المقيتة ، المنحوسة من أرض العراق . لن أخلفك وحيداً في هذه القمة العدوانية التي اسمها هوركي . اللعنة على من صيرها ومن أوجدها ومن أسماها ومن ألقى بنا إليها . من يدري لعل هذه المَكْفَرَة ليست عراقية ! فنحن كنّا في وادي الأفاعي نسكن العراق وفي تركيا نتبرز حيث لا يفصل بين البلدين غير جدول بعرض مترين . على هذا الخط الواهي أعدك لن تضيع .. نموت جميعاً أو نحيا جميعاً .. وهذا الخلاء مملكة للشبان الأنصار القادمين من مدن الجنوب والوسط .. أبناء السهل والماء .. أبناء النخيل والهديل والخضرة . هذا العراء مملكة للذين تعلموا فنون حرب العصابات .. حرب الفظاعات . حرب البغضاء والكراهية التي بدأت خارج زمن الوعي فوجدنا أنفسنا في خضمِّها .. في أتونها . أعدك لن تضيع ورغماً عنّي ستأتي . أجل ستأتي أيها الكائن البديع ونائلة تقول ستأتي بعد حين . وأنا أتوسل : ـ يا نائلة " هزِّي إليك بجذع النخلة تُسَاقط عليك رُطَباً جنياً " . تضحك . ونائلة رغم آلام مخاضها تقول : ـ أيّ نخلة هذه التي تتحدث عنها بين صخور جرداء ؟ أظنّ صرتُ مهذاراً أكثر مما ينبغي . أظنّ صوتي لا يبلغ سمعي . ـ تمخّضي يا نائلتي فأنا على ما يرام . وأنتِ ؟ تضحك ثانية وتقول متألمة : ـ سأهزّ إليّ قائمة السماء تُسَاقط عليَّ قذائف وحشية . هل سمعتَ أيها السخيّ الكريم ؟ هل تريد أن تأتي بعد الذي سمعتَ ؟ لا بأس .. ما زلتَ مصرّاً وهاني مازال مصرّاً .. سيأتي هو الآخر . سيأتي الرفاق ترى نائلة ، هي في الرؤيا رأت . أنا لا أرى ذلك . لكن هاني لابدّ له من مجيء . لهاني طبع الوفاء إنما أنا عليه خائف من يد المنون تخطفه . أخاف عليه من أجلاف بدو الجبال .. من الموت المتربص بنا .. من صولة النظام إنْ صال علينا ومن غدر الغادرين إنْ بهم استبد الحقد القوميّ . يا إلهي أيّ حظٍّ عاثر هذا ؟ كيف يتخلص من قبضة النظام ليقتله الطالبانيون . مرات أنقذته من موت ومن سجن وأنقذني مرات . كان يضحك حين حلّقتُ به مرة بمحاذاة الغيم ثم صار يتوسلني : أنزلني .. أنزلني يا سهيل . فهاني بعد غياب أروى صار يرتشف ، كلما جنّ الليل وتعمقت وحدته ، كأساً أو كأسين من نبيذ أحمر ، وهو كالبلبل البصري لا يُغرِّد إلاّ حينما يشرب خمراً ، فتلمع في رأسه ذكرى أو يقدح في ذهنه خاطر . عندئذ يسكر وحين يسكر هاني يُغنّي بلوعة المُتيم ، فينصت الخلق لعذوبة صوته الساحر القادم من أعماق بيت غائر في الظلمة والوحدة والصبابة . لم تعجب المتسلطين لوعةُ هاني فقرروا الإغارة عليه فجراً . مصادفة شممتُ رائحة الخبر فنشرتُ في الليل أجنحتي وبه طرتُ . ما بعد أروى لا لذّ عيش ولا طاب مقام .. ما بعد أروى سكنته رؤى غريبة وعلى ليله توالت أطياف في أطباقها يعبق أريج من زهر الماضي ، حين يكون الماضي حلواً وحين يكون مرّاً وحين تصعد منه أنفاس حبيبة .. وحين تتذوب في مائه طينة الذاكرة وحين ينهض كلّه على صفيح الحاضر : هنا فوق هذه الأريكة جلست زهراء بنت أحمد الكناني تُخيط ثوباً من حرير نقيٍّ لصبيّ ألقى حقيبة المدرسة وغاب توّاً في زحمة الطريق . وهنا انحنت تحيك جورباً لقدمي أميمة بنت رواحة الشيباني التي كبرت قبل الأوان ونطقت حلمتا نهديها فزعاً من لمسة القميص .. وهنا راقبت كرسياً من خشب الأبنوس عليه جلس رواحة ليسطر فوق ورق شفيف جملة أو جملتين وأنصتت لهمس اللغة التي تبادلت كلماتُها ، فوق صمت المنضدة ، بعض اللهاث . آه زهراء ارفعي عينيك الزرقاوين عن تنهيدة الحرير واتركيها في بحريهما تسبح آه زهراء حمّلي أصابعك الرشيقة قبلات من زهر ناريّ لكي تنطبع في ثنايا الثوب آه زهراء هل كنتِ تنثرين اللؤلؤ وتطلقين الطيب من أسره ؟ هل كنتِ ربّة البهاء ؟ إذن لمَن كلّ هذا السحر المتجلّي في زوايا البيت ؟ وحين يسرح رواحة فوق صمت المنضدة ما كنتِ تظنين ؟ أيقرأ نصّاً تراثياً فيه من حالنا الكثير ؟ أيلقي شعراً لرجال قذفوا في الهواء أوزانهم ورحلوا ؟ إذن هو الكرسيّ مازال قائماً يحمل لرواحة طيفاً مقيماً . هنا أميمة باللعب تعللت فداعبت جديلةَ دمية شقراء ومشطتها بأصابع من رقة البنات . هنا كانوا جميعاً قبل الآن .. بهدوئهم وصخبهم .. بزعلهم ورضاهم .. بحلوهم ومرِّهم .. هنا حضروا ومن هنا غابوا .. هنا بدؤوا وهنا انتهوا .. هنا بهم امتزجنا .. هنا معنا أقاموا ودخلوا القلب والبيت . هنا ازدهرت بأنفاسهم سماء البصرة وقبّل أقدامهم تراب البصرة . هنا في هذا البيت الغارق في العتمة والشمس عاشوا ومن هنا رحلوا . وهنا في هذا البيت الذي تحرسه نخلة البرحي ، لم يذق هاني طعم الهناء بعد رحيل الأهل وغياب أروى . هنا في بيت الفجائع . * * * بالقرب من زريبتنا / المأوى ، سقطت قذيفة مدفع وانفلقت . أحدثت دوياً هائلاً ثم تلاشى الدويّ . لا أدري إنْ هي من تركيا جاءت أم بها خصّنا النظام . لا فرق عندي من أيّ وجهة يأتي الموت . متماسكة ظلت نائلة فهي حين لمعت بعينها عيني . قالت : ـ عاد القصف ثانية . قلتُ : ـ اختلطت علينا يا نائلة الأصوات فلا ندري أهي للرعد أم للقنابل . هل سمعتَ يا سيدي العنيد انفلاق القذيفة ؟ ربما لم تسمعها .. إنها ببعدها عنّا رحمتنا ، لكن واحدة أخرى ستأتي وعاشرة ستأتي والرفاق لم يصلوا ولن يصلوا ، إلاّ هاني رغم خوفي عليه سيأتي ، فهو شريف النسب .. سليل عائلة كريمة طُبعت على النُّبل والشهامة والإباء . هاني هو الوفاء . فحين قضت عائلته ظلَّ في حداد دائم وزرع على كلِّ آجرة ذكرى طيبة وشجرة آس ثم لفّ بالطيب الذكريات مثلما أوفى لذكرى أروى المرأة / الموجة / الريح ، وهاني يستدرج الريح تارة و للموج تارة يستدرج .
يقف على سطح الدار ينصت لنخلته التي قالت ما لم يقله قريب .. يحاورها وتحاوره ثم يسطِّر ما دار بينهما في هيئة أشعار أو يضمنه كتابَ رويّ . تقول النخلة : ـ هذا المنزل طلع شيئاً فشيئاً ، تارة يقوم في الظلّ سافٌ وتارة يقوم في النور سافٌ . هذا المنزل كأن يد الملائكة تبنيه . تضيف : ـ كنتُ فسيلة حين نهض على قدميه واكتمل فدخله روح جدك وجدتك . أقاما دهراً وأنجبا ثم شبّ الأبناء وغادرا هما إلى حيث لا رجاء في عودتهما بعدئذ آل البيت لأبيك رواحة الذي أدخل زهراء ماجدة الماجدات وصبية الصبايا . زهراء التي تكتحل برؤيتها العيون وتسعد لملاقاتها النفوس . انتحبت النخلة .. لم تكمل حديثها وراحت في نشيج طويل . لم تكمل النخلة بينما هاني يظلّ لحديثها حافظاً ولنشيجها سامعاً . بينما هاني يظلّ لفسيلة التاريخ وفياً لراعية المنزل لذوائب سعف تنحني كلما من قربها مرّ لدموع تنهمر لذكرى الصالحين مدراراً هي القديسة حارسة المعبد وحافظة أسباب العطاء هي إكليل لملكة زُفّت ، وفي ليلة ضيعتها الوصائف هي يدٌ لكل طفل يحاول الوقوف هي بذرة الوفاء التي انزرعت بأيدٍ كريمة فصارت هو وصار الوفاء . * * * ونحن كنّا قد دخلنا ، منذ انكشاف عورة الزمن ، في قنوات غسق معتوه يسحق في صدورنا بقية صبوة لوصل بات أملاً في النفوس ويستجلب علينا ما ينحني أمامه الحجر . صرنا التوقف لولا حركة الوليد . فلتشتد علينا أيها الرصاص ولتنهمر أيها المطر فنحن في العورة جالسون . ونحن نستنطق في غربتنا الشجر والحجر . ونحن نبرز لدهرنا نهاراً .. نعلِّمه أيّ الطرقات أضاعنا فيها وأيّ الأصوات من أسجاعنا هي الأقرب للنحيب : شجر .. شجر .. شجر طوانا الخلاء والظلام والضجر شجر .. شجر .. حجر أخذتنا الكهوف والجبال والحفر شجر .. حجر .. حجر أحزنتنا الأمطار والأقدار والسفر حجر .. حجر .. حجر التهمنا حجراً حتى بنا ضاق الحجر حجر .. حجر .. شجر قتلنا من فرط دهشتنا الخبر حجر .. شجر .. شجر انتشينا فابتسم لنشوتنا القمر شجر .. شجر .. شجر سهرنا الليل ولم يغادرنا السهر تعال أيها المشاكس وكُن النسيم العليل . كن الصباح القادم . كن النور البهيّ المنتظر . أتأتي ؟ أجل .. كيف لا ، وأنتَ حفيد من أُسرجت له البحار وأنّت تحت خطاه الأرض . أتأتي ؟ أثناء المطر أم بعده ؟ أبعد الرصاص أم خلاله ؟ ستأتي في كلّ الأحوال وسيأتي هاني بن رواحة الشيباني . سيأتي الوفيّ في غمرة الأسئلة أو في انشغال السؤال : ألستَ مَن تروّضت له البراري وانحسرت أمامه الريح ؟ ألستَ النهر الرشيق وإلى النهاية تمشي بعروس الموج ؟ ألستَ الحمرة في شوق الشفاه تشتعل ؟ ألستَ مَن استدرج لأروى أقماراً ، نجوماً ومَن لها جلب البحار ؟ ألست من جعل زرقة الخلجان في صمت العيون تنصلب ؟ ألستَ مطراً في سحابة انسكبت على وجد المدينة ؟ ألستَ الكائن الذي كفّ عن وصفه الوصف ؟ أيْ هاني أتأتي أم ستصمت أيها الولد المشاغب ؟ أيسكت قلبٌ جميل ؟ لماذا ؟ لستَ أنتَ مَن يضع الخيول في مؤخرة العربة ولا هي حكمة الله كي نرتضيها ولا هي مزحة القدر ستأتي إذن أيها العدّاء من أعلى صيحات الليل . برقت السماء ورعدت وانهمر فوقنا مطر غزير ثم من بين صلاة الخوف انبثق الأمل : ـ يا نائلة ماذا سنسمي المولود القادم ؟ ـ دعه يأتِ . ـ لكنه سيأتي . ـ عندئذ سنختار له اسماً مناسباً . ـ مثلاً ؟ ـ حرب ، اجتياح ، غازي ، جحيم ، ظلام ، جبل ، صخر ، حجر، قتال ، راعي ، تيس ، زريبة ، قذيفة ، مطر ، بغل . ـ ما هذه الأسماء يا نائلة ؟ ـ انطق بما هو متاح في هذه البقعة المنحوسة ، المقطوعة عن العالم . ـ لا .. هناك ما هو أجمل وأرقّ إنما خارج دائرة الظلام . هناك أجمل .. أجل .. أجل ، هناك ما هو أجمل بالتأكيد . ـ مثلاً ؟ ـ نور ، بهاء ، ثريا ، شمس ، قمر ، همس ، صباح ، زحل ، بدر ، كوكب ، ندى ، دُنا ، ضحكة ، بسمة ، هدى ، سلوى ، سعيد ، رشيق ، مهند ، أثير . ـ لا أرى ما رأيتَ . ـ لكنك كنتِ في الرؤيا رأيتِ . ـ ماذا رأيتُ ؟ ـ رأيتِ الرفاق يأتون . سكتت نائلة . لم أُسْكِتْها إنما كانت مُتعبة وسكتت . ربما لم يرق لها التواصل مع موضوع لا فائدة منه . ربما في سكوتها تستشعر لذّة عابرة . ففي هذا الوحل القاتل الذي اسمه هوركي أخذنا الغمر . ندور حول الغمر .. ندور وعنه نبتعد كلما لانت حافاته وانهارت ثم اتسعت دائرته .. ندور ونبتعد ولا ندري أننا نغترب . كنّا نبحث لريقنا عن بلل ما . عن قطرة ماء . كنّا حول الغمر ندور حين هتف إلينا الليل وقال : ـ ستشربون ! تساءلنا فرحاً : ـ مَنْ . نحن ؟ أكّد الليل وأضاف : ـ وتسكرون ! فرحنا . ملأ كأسين وقدمهما إليّ . قال : ـ اسقِها . ـ مَن ؟ ـ نائلة . اسقها ولا تخف . سقيتها فصار الطلق متواصلاً . كنّا في أقاصي الليل .. في غلس معتوه . * * * كأننا مِن أرحام لم نولد إنما من فوّهات النسيان جئنا . لم يزرنا غير الرصاص والقنابل والمطر وأتراك مدججين بالبغضاء وشهوة القتل . كان الأتراك إلى انتزاع وجودنا من على الشريط الأحمر يسعون . كان الأتراك على أمنهم يخشون . ها نحن نخون .. وطناً يلهث في الحرب نخون .. وطناً ينوء بأثقال الحرب نخون وتصبح المدن التي أحببنا رماداً . لم تبق من البصرة زاوية إلاّ وحرثتها القنابل . وماذا بعد ؟ بدعوى أننا نحارب نظاماً ظالماً نخون .. لكننا بغض النظر عن طبيعة الحكم نخون .. نخون وطناً تطحنه الحروب . نقتل جنوداً أبرياء لا حول لهم ولا قوة داخل ربايا معلقة في أعلى قمة جبل .. ربما كانوا أخوة لنا .. ربما كانوا عوناً ، لكننا بكل يسر نخون . نخون أرضاً أكرم من أبنائها . الجندرمة نحونا تزحف . الليل في أعتى هياجه ونائلة في أشد جولات المخاض . لقد تأخرتَ أيها الليث المنتظر . ستأتي حتماً ، ويأتي الصبح ففيه تصل الأخبار . يأتي البريد الحزبيّ وقافلة المؤن . أنا ونائلة نسأل عن هاني . هل سيأتي مسافراً ، عابراً ، طريداً ، مقاتلاً هارباً ؟ هل سيأتي بهيئة غجريٍّ على كتفه يحمل متاعاً قليلاً وكثيراً من أحزان ؟ قيل إنّ الطالبانيين حصدوا منّا رؤوساً كثيرة وقيل إنهم بين أسرانا أشاعوا الموتَ وبين جرحانا أطنبوا قتلاً وتقتيلاً وبأحقادهم أقاموا الحدّ فصارت الهوية سبباً للموت.. وقيل إنهم شوّهوا جثث القتلى ثم قطعوها .. وقيل إنهم بتروا أصابع النساء المقاتلات من أجل انتزاع خاتم من ذهب كان نيشاناً من حبيب أو هدية من قريب . أيها الكرديّ العنصري المُتحزب المهووس بالقتل المتلذذ بدم العرب نحن لسنا بغيتك وللثأر لا نصلح . أيها الكرديّ المُتعطش لدمائنا هلاَّ تتوقف عن إبادتنا فنحن لسنا أعداءك إنما نحن ضيوفك ومحاموك.
أيها الموت الذي سكنتنا هلاَّ تحلّ قبضتك عنّا وتسعى إلى جهة أخرى . في أيّ متاهة من أرض بشت آشان أبحث عنك يا هاني ؟ في أيّ كهفٍ من قنديل ؟ وزهراء حين ألتقي بها في جنّات عرضها صرخة السماء والأرض ماذا سأقول لها ؟ . إني أراها تلتفّ برداء أبيض تمنح ليل الفراديس بهاء وتُصلِّي وحين من صلاتها تفرغ . تسأل : ـ هل عاد هاني من جولة المساء ؟ ـ هل عاد من عَدْوَة الصباح ؟ ـ هل عاد بصحبه ليلاً لكي يفتحوا على النهر حانة السمر ؟ وزهراء بوجهي تتفرس طويلاً : ـ أين هاني يا سهيل ؟ أرى وجهك منه خالياً . ـ أين هاني ؟ وحين لم أجبها أُردد : يا هاني ستأتي أنا في انتظار الوفاء وأنتَ الوفاء فلا تتركني وحيداً والرفاق ما قدموا .
* * * هوركي صنمي الأخير الذي بالحجارة والرصاص يقذفني . السماء في هوركي بكل قسوتها تمطرنا ، بكل الأطيار المتوحشة تمطرنا وتعانق ليلاً في أتمِّ بلوغه .. وفي الصباح ستأتي الأخبار . سيأتي الرفاق . لن أغفوَ لكني سأسترخي أمام الليل . تقول نائلة : نَم قليلاً لكي تنشط فأمامنا جولات أُخر . سأفعل يا نائلة لكني سأسترخي أولاً قبل زيارة آشور ناصر بال . إليه سأشكو حين يزورني . هو مَن قال قبل ثلاثين قرناً : هنا ستزدهر الرؤى وستقيم آلهة بجسد الخصب . هو مَن قال . استرخيت قليلاً فهبّت نسائم النوم أرجحتني ما بين الصحوة والغفوة ، رأيتُ موكباً امبراطورياً ضخماً .. رأيتُ حاشية وحرّاساً وجارياتٍ وطبولاً وفرساناً وموسيقى ملكية أمام زريبتنا / المأوى . توقف الموكب . ذُهلتُ .. وذُهلتُ أكثر حين رأيتُ الملك العظيم يترجل ، من عربة فارهة تجرها الخيول ، بكلّ أبهة وعظمة الأباطرة . دنا من زريبتنا قليلاً . رفع تاجه الملكي ثم نادى : ـ أين أنتَ يا سهيل بن حبيب الأنصاري ؟ لم أصدق . نهضتُ بكل الوحل العالق في ثيابي .. بكل التعب المزمن . دنوتُ من الملك العظيم آشور ناصر بال وأنا واثق من أنه سيعاملني كعراقيٍّ مخلصٍ أنتمي إلى بلاد ما بين نهرين .. سيكون طيباً معي وحيادياً ولا ينظر إليّ نظرة عنصرية أو استعلائية .. لا ينظر إليّ كعربيٍّ قادم من الجنوب استحوذ على مساحة مترين مربعين من حياض امبراطوريته المترامية الأطراف وأقام في قمة منسية مع زوجته التي اشتدّ مخاضها . أنا واثق من أنه سينصفني . اقتربتُ من الملك العظيم .. مددتُ إليه يدي .. استقبلها مصافحاً . تعجبتُ من دفء يده . قلتُ له : ـ هل نحن في حياض امبراطوريتكم يا سيدي العظيم ؟ قال : ـ أجل . قلتُ : ـ و مَن هذه الأقوام التي اختلفت علينا ؟ قال : ـ زحفوا بعد غيابنا وأفول نجم مملكتنا . إنهم قتلوا منّا كثيراً وأزهقوا أرواحاً بريئة لكي يستولوا على هذه الأرض ، لكنهم لم يتمكنوا من تأسيس حضارة كحضارتنا التي ظلّت خالدة حتى هذه الساعة . لا تنس يا سهيل أنها حضارة آشور . سكتَ ثم أضاف : ـ العراق هذا الذي تعيشون فيه سيتمزق عاجلاً أم آجلاً . قلتُ : ـ لماذا يا سيدي ؟ قال : ـ قطنته أقوام وطوائف كثيرة والبلد إنْ تعددت أممه وطوائفه تعددت فيه الولاءات وضعف حينئذ الانتماء إليه فصار أدعى للتمزق من سواه . البلد الذي تسكنه الملل والنحل تضعف حمايته ومنّا استقوا عبرة ، فآشور وبابل دمرها الدخلاء عليها قبل الأعداء . الدخلاء هم بذرة السقوط . قلتُ : ـ تلك كارثة يا سيدي . لم يجب الملك العظيم .. همَّ بالرحيل فصحوتُ مفزوعاً . تساءلت نائلة : ـ ما أفزعك ولم يطبق لك جفن ؟ ـ اقتحم غفوتي آشور ناصر بال ، ربما سمعتِ هتافه في باب الزريبة . ابتسمت نائلة وتساءلت ثانية : ـ هل تحدثتما معاً ؟ ـ نعم .. طويلاً . ـ بماذا تحدثتما ؟ ـ بالحكمة الملكية .. كان ملكاً فذّاً .. عظيماً . ـ هل سرّك شيئاً ؟ ـ أفشى أسراراً لا تقدر بثمن . ـ مثلاً ؟ ـ تحدث عن الوحدة الكاذبة لشعب العراق ونحو هذا الكثير . ـ هو لا يعلم عن شعبنا شيئاً . ـ هو أعلم بشعوبنا منّا . ـ أنتَ قلتَ شعوبنا ولم تقل شعبنا . لماذا ؟ ـ نعم نحن شعوب .. مجموعة أقوام وطوائف وأديان ومذاهب ولم نكن يوماً شعباً واحداً . ـ هذا ليس كلامك . ـ بل هو كلامي .. من الآن فصاعداً سيكون كلامي . ـ إغفاءة واحدة .. هنيهة واحدة غيرتك .. لقاء قصير بالملك آشور ناصر بال غيرك . ـ آشور ناصر بال فتح أمامي الباب على مصراعيها ومنها دخلتُ لأرى أننا قوميات وأديان ومذاهب ليست متحابّة إنْ لم تكن متكارهة . ـ هذا كلام خطير . ـ الخطورة تكمن في حقيقته الصادمة . آشور ناصر بال يرى أنّ البلد إنْ تعددت أقوامه وطوائفه كان أدعى للتمزق من سواه . هذا كلام فيه من الصحة الكثير . ـ لم يتمزق العراق يوماً بسبب تعدد أقوامه وطوائفه . ـ لأنه لم يكن يوماً موحداً ، إنما كان إرثاً امبراطورياً تتوارثه الامبراطوريات ويتعاقب عليه الغزاة . ـ إنْ أُعطي كلّ ذي حقّ حقه فسوف تستقيم الأمور . ـ إلى حين فحسب . فالمرء مهما بذل في العطاء ستبقى الأقلية تنظر للأكثرية بعين الريبة هذا يشمل القوميات والأديان والطوائف . تبقى الأقليات تحمل في داخلها شيئاً من بذرة الدونية . اجتهدي معي يا نائلة : ـ ألا ترين أبناء الأقليات يتهافتون على الأحزاب الشيوعية ويحاولون دائماً الهيمنة على مركز القرار فيها ؟ هل فهمتِ الآن لماذا يُنَظِّر نشطاء هذه الأحزاب ضد كلّ ما هو عربي . إنهم مع كلّ قومية في الكون إلاّ القومية العربية . مع كلّ التوجهات الوحدوية على سطح الكوكب إلاّ الوحدة العربية . إنهم يخشون هذه الوحدة .. لا يطيقون سماعها لأنهم يرون في تحقيقها إضعافاً لهم فيحاربونها أينما تواجدوا . ـ أنتَ تغيرتَ يا سهيل . لقد كانت زيارة الملك آشور ناصر بال وبالاً علينا . ـ كانت كرماً أخلاقياً منه .. كانت أجمل هنيهة مرّت في حياتي وإنْ تغيرتُ فنحو الأحسن بالتأكيد وهذا أمر طبيعي في الكائن الحي . ـ سويسرا موحدة رغم التباين القومي فيها . ـ ليس هناك من يزرع بذرة الشقاق فيها . ارمي بذرة الشقاق ولاحظي كم هي هشّة هذه الوحدة ، ستتفسخ بلمح البصر .. إنما ليس هناك من يتربص بسويسرا لكي يرمي البذرة . ـ ألم تدع للمحبة والأممية والتلاقح الإنساني ؟ ـ صحيح لكن ليس على حساب قومي وأبناء جلدتي . ليس من المروءة بشيء أن أغني لشيلي وفيتنام وأترك فلسطين تنزف إلى جواري دماً . ليس من الإنسانية أن أغني لجبال كردستان وأترك الكردي العنصري جلال الطالباني يذبح رفاقي على أساس الهوية القومية . هذا لا يجوز . هذا هراء . أطلقي يا حبيبتي .. تمخّضي من أجل أن يزورنا كائن جميل . * * * سكنْتَ لا تأتي حركة أو رفيفاً ، فيما العالم من حولنا ينشغل بابتلاع الرصاص والمطر .. فيما الخلاء يترنح ولكثافة الرصاص يشمئز الشجر وينفلق الحجر .. فيما الخلاء يفتح الوديان لسيول ما مرت على بشر ، وينشر السفوح للانهيار الأخير فتلتوي فوقها أعناق القمم . سكنتَ حبيبي وبغربتي أنتَ جاهل . كن جاهلاً وعن محنة أبويك في هذا الغلس الرهيب بعيداً . كن حبيبي . لنائلة رفعتُ رأسي ، لم أتكلم إنما هدرت نفسي : كيف سأسخنُ لك صفيحة ماء ؟ في أيّ الغابات احتطب شجرة ومن أيّ الأدغال أجلب جذوةً لنار في العراء ؟ أيّ الأعشاب ستوقد نارنا وأيها بوجه الريح هي الأقرب للصمود ؟ سكنتَ حبيبي بك سوف يزدهي المكان وأمام طلعتك سوف يندحر السحر . إلى العراء خرجتُ . أخذتني صفعة ريح وعن زريبتنا / المأوى ترنحتُ بعيداً ثم مطراً سقتني السماء . على أوحال السفح تدحرجتُ ثم تماسكتُ ونهضتُ بقوة الجبار الرابض فيّ . هذا أنا أمام الموت الزاحف من كلّ صوب أبحث عن حطبٍ لنار الصفيحة لا عن عشبة الخلود . بوجه الخلاء العاصف حد الجنون صرختُ : هذا أنا أيها الرّبّ البهيّ الجميل . هذا أنا يا ربّ الأكوان . هذا أنا الذي كفر بك حتى رمق القناعة الأخير . هذا أنا من اتبع الشيطان العاهر والرسول الفاجر وجدتُ نفسي في المطلق المحايد لا أرى لنفسي في الوجود منزلة . لستُ في جنة أحد ولا في نار أحد . وهأنذا في منزلة بين منزلتين . أسدر بوجه المحنة كسبّاح هاوٍ انتزع فتوّتَه التيارُ ، أبحث عن وجه الله المختفي خلف حجاب سميك وأصيح : أرني وجهك أيها الرّب البديع يا حامل الأسماء الحسنى . أرني وجهاً ضاحكاً ، بشوشاً ، رحيماً ، فأنا عبدك الضائع وهنا بركت راحلتي فوق قمة الجحيم . أنا عبدك الذي هجره الأولياء والمتقون . هجره الرفاق والمنافقون . يا الله يا مسخر العواصف والرياح ومسلط السكون والهدوء والبهاء . يا الله يا أيها الرحمن الرحيم الذي بك آمن الجندي المقاتل والقائد القاتل ، بك آمن السياسي والشرطي والعاهر ، بك آمن القديس والخسيس والطاهر ، أنقذني من غربتي التي كبلتني فوق قمة جبل هوركي اللدود .. سخّر إليّ سفينة رحمتك ، لقد بلغني إلى القمة الطوفان . يا الله يا ربّ السواد والبلاد أنا عبدك الفقير أرسل إليّ حطباً لنار الصفيحة لكي يغتسل بها الوليد القادم بعد ساعات . أيها الربّ الجبار القهار يا عارف الأسرار ومرسل الأنوار ، أرسل إلينا منقذاً ينقذنا من الرصاص والمطر . يا خالق الأخيار والأشرار وباعث الرواء والبلاء ، ابعث في نفوسنا الطمأنينة ، لقد زهقت أرواحنا من هذا الرعب الساكن فينا . يا ربّ الرجاء من هذا الخلاء أنقذنا وبرحمتك فاشملنا .. يا ربّ البهجة والأفراح ، أبهج قلوبنا بسلامة نائلة والوليد وأفرجها علينا يا الله . وأنا في أوج هياجي وفي أوج خوفي ودعائي ، والدنيا في ذروة عصفها ورعدها وبرقها ورصاصها وقنابلها . وأنا في خضّم يأسي أحسستُ ، وكنتُ في عمق الظلمة أغور ، ببعض الأخشاب تحت قدمي تنثلم .. هي شقف من جذوع الأشجار المتآكلة ، المنخورة . هي لقية المحتاج كانت بالرطوبة والمطر مشبّعة . جمعتها وفي صدري أُضيء أمل . جمعتها فصارت حزمة كبيرة ، ثقيلة ، مبتلّةً . عُدتُ إلى زريبتنا / المأوى . هتفتُ من غرّة الباب / الستارة : ـ يا نائلة هذا الحطب المُبتلّ كيف أشعله ؟ نائلة على حالنا واعية فهي رغم شديد مخاضها ظلّ لها عقل سليم وذاكرة متقدة . ونائلة تجيب : ـ خُذْ قطعة من حذائك السمسون وبها أشعلْ . اللعنة .. تذكرتُ أنّ أحذيتنا من القير مصنوعة . إنها من نفس مادة إطارات السيارات مصنوعة . أخيراً وجدتُ حطباً لنار الصفيحة . أخيراً وجدتُ يا نائلة ناراً لصفيحة الماء .
* * *
بعيداً .. بعيداً .. تألقْ ، فنحن لا أرض أتينا ولا ماء حرسنا . ونحن نتوسل شذى زهرة يهتدي به العابرون . ونحن بعيداً .. بعيداً نطير ، نُخلِّف بقعة ربما طرق حجارتها التائهون أو توجس السبيلَ إليها سالكُ . تألق لعودة روح .. للقاء .. لمدينة لم نطعها وإلى غيرها خدماً نصير .. لمدينة لم ترَ منّا سوى الجحود والعقوق وللموت زفّها الباغون . تألق هي البصرة من يحمل للربِّ وجبةً رطباً في طبق الصباح . هي البصرة مَن تصدح حنجرتها بالنداء : عودوا يا فلذات أكباد إلى طين البداية . هي البصرة مَن يمنحنا السحر والكبرياء .. مَن يمنحنا الدفء والطيبة التي لم تجدها في كل أرجاء المعمورة . تألق يا هاني بن رواحة لساعة تعود فيها أروى لبيت الفجائع ذاك . ربما آمن واطمأن وإليكما خلد فجعل منكما بداية النسل وبكما تستمر السلالة . تألق أيها العدّاء فما أروعك وأنتَ تسابق الريح أو تراقص في شط العرب كبار الكواسج . تصرُّ زهراء : امنعه يا سهيل فهذه الكواسج إنْ جاعت لا ترحم أحداً وسوف به تفتك . لكنك العنيد ، المُكابر ، البشوش ، الممازح ، تردّ بضرب من برود : لا تخافي يا زهراء الحبيبة فنحن في الجرف الآمن نسبح . تألق .. هي عائدة لا محال .. أروى تتشبع بالرغبة .. تتفتت باللوعة .. أروى عائدة وستملأ البيتَ صخباً . تألق وعليّ لا ترد : لن تعود .. مَن يخطفه المجهول ويلفّ اختفاءَه الغموضُ لن يعود ومَن صار شيوعياً أكلته السعالي . لن تعود . أروى لن أراها ثانية . لا ترد عليّ . عليّ لا ترد . ولنترك الأمر لمن يروي : اروِ عنّا يا صالح المرّي لعلك إلينا استجلبتَ نجماً أو استغزرتَ من أجلنا العيون اروِ بين الناس عنّا يا صالح المرّي فنحن بأعزّة قد فجعنا وفينا طال ، لمن غُيِّب يا هذا ، الرجاء
* * * اقترب الصبح .. أنهكتنا وحدة وعضّنا ضياع فلا نارنا اندلعت ولا صفيحة مائنا حميت . كنّا الرماد وتحتنا جمرات ذوت . ركبَنا اليأسُ فلا خوف إلينا طرق المتاهة ولا رجفة بنا مرقت ولا شفة لنا رقصت ، حتى إذا فتر من فوقنا الرصاص والمطر أتحفنا الخلاء بصوت ذئب عوى . تلك هوركي القمة ، القيامة ، القرية ، الزريبة ، حياض آشور ، بيت الراعي ، مجد الغجر المتاخمين للتاج الملكي ، الجحيم . هوركي الخلاء ، الفضاء ، المكان الذي ينادم السماء فتأخذه غضبتها وصفوتها . هي هوركي التي إليها خرجنا من أشداق الغول فوجدنا في جحيمها نعمة . هي هوركي التي قصدناها في محنة تاركين وراءنا بلداً بكل أبهة البلدان يرفل . تركناه بمائه وبهائه وناسه وسمائه وسحره ومقدساته إلى الجحيم يذهب .. وصرنا مع الجزار نسعى لذبحه . هي هوركي التي إليها ارتفعت من أرض سابعة أقدامنا وجعلناها ملاذاً ومأوى بعد أنْ شحّ علينا الملاذ . هي هوركي اللامكان حيث لا يعرف المرء من جهاتها سوى رؤوس الجبال . هي الفراغ المُبهم ، المعتم على خارطة العراق . سيأتي الصبح متوهجاً بلهفة العشاق . ستبدو لنا عورته أولاً ، وأنتَ يا طائر الروح المقدس متى تأتي ؟ فمن أجلك أرهبْنا الوقتَ وأرهبَنا الرصاصُ والرياحُ والمطرُ . ومن أجلك زهرة الأمل في أرواحنا تتشقق . متى وقد أعيانا الانتظار يا سيدي تأتي ؟ تقدم سالماً فنحن من أجلك نراقص الغول ونبتهج . نعم ربما كانت رقصة الموت الأخيرة إنما مثل هاني بن رواحة يراقص الكواسج ويبتهج فهاني لا يخشى وحوش الماء الكاسرة وهو لا يخشى طرق الغيلان . هاني خلقه الله أن لا يخشى الأشياء . خُلق للعوم في الماء وللعدو في الصحراء كصعلوك قادم من عصر جاهليّ لا يعرف غير الرمل وغير الغزو . هاني خلق كما خُلقتُ طيراً للسماء . كنتُ أطير وهو من بعدي يهتف : خذني معك يا سهيل وعلمني الطيران وأنا سأعلمك السباحة والعَدْوَ . والحق هو علمني السباحة وصرت أسكن الماء والسماء لكنني ما علمته الطيران . أنا يا ولدي لم أكن معه كريماً . لو عاد الآن ابن رواحة لعلمته الطيران .. لو عاد الآن .. لكنه متى يعود ؟ سأعلمه كيف يفرد فوق قمة هوركي جناحيه .. فوق قمم أخرى . سأعلمه كيف يسالم الهواء ويرى من عل كيف تكون ضئيلة هي الأشياء . حين يأتي هاني وإليه أروى تأتي وبهما يبدأ النسل من جديد . حين تتوقف العواصف وتهدأ الرياح والمطر وتأتي أروى / المرأة / الموجة / الريح . أروى التي جُبلت من رياح ومطر .. حين تعود وعلى سمعها يردد هاني : أنتِ يا حبيبتي من رياح خُلقتِ ومطر ونائلة من رحيق أزهار الشطآن جُبلت وهديل . آه لو جاءوا . لكن أين أروى ؟ في أيّ السجون ترزح ؟ في أيّ المقابر تنام ؟ لو عاد هاني .. آه لو عاد . لكن في أيّ الوديان يهيم وفوق أيّ حافة يسير ؟ احذر يا هاني فهذه الحافة ستؤدي بك إلى الهاوية . احذر يا هاني .. هل تسمعني ؟ احذر أيها السهيل الآخر . هل تسمعني ؟ أنا سهيل بن حبيب الأنصاري . أنا هاني بن رواحة الآخر احذر من هاوية لا رجاء فيها . اقترب الصبح .. هدأت العواصف والرعود والمطر . هدأ الرصاص والقنابل والبروق . هدأت القمم . ومن تحت غلالة بيضاء سيأتي الصبح .. وأنتَ مثل إشراقة شمس هادئة ما تكررت في سماء مدينة ستأتي . وأنتَ مثل سلام جميل تأتي .
* * *
*** ـ الصدى ـ ***
عندما أيقظتها أشرق في عينيها البحرُ ***
لنا أفئدة الطير وخطرات الفراش الرقيق ، إنْ اشتدت به صبابة إلى النسيم يهرع . لنا صمت الحكيم حين يحتدم الكلام ونفحات الكريم غداة محنة . لنا الأمسيات الحالمات على شاطئ التوجد تتفجر . لنا المَغْنى الحزين عن أطلالنا يُعبِّر . نحن فتية في العزِّ بسق عودنا وفي وضوح العريِّ تجلينا . لا نحتجب عن غريم جَعَلْنا وفي بحبوحة القول يعبق من منطقنا الهناء . نحن رجال المروءة نحو دركٍ ما زلّت لنا قدم ولا انحدرت لنا إلى ضعة نفسُ . هي الرفعة فينا والإباء والكبر . نحن قوم نسنُّ تحت الشمس سنَّة لنا وفي الظلام أقماراً نتشقق . نحن زهر المدينة وطيبها ولولا زهونا ما ظلّ لها طيب . نحن دفقة الماء بها الجذور تنتعش وهمسة الريح في أعالي الشجر ترقص . نحن أنهار دفءٍ بالحياة تزخر وعيون وفاء من عذوبتها الناس تنهل . نحن رئة البصرة . نحن هواؤها إنْ ضقنا بها يضيق بها النَّفس . نحن ماؤها ومدادها . نحن عرسها وأفراحها . نحن فرسانها وحماتها . نحن طيورها وسماؤها ونحن رواؤها . ـ إلى حيث ما ارتمت وجوهنا نخرج . يقول سهيل في حالة قصوى من حالات الضيق ويضيف : نظلّ نتوسل فسحة للتفكير ومثلها للتأمل وثالثة للهواء . أيّ خراب حلّ بهذه البلاد ؟ فالبصرة لم تعد بصرة والعراق لم يعد وطناً ومن حول رقابنا حبل يضيق . فلنخرج ونترك هذا الوطن بمن فيه يمور. كيف نرتضي مكاناً لا يبجل فيه غير نفّاج وأفاق وقاتل ؟ لا يحترم فيه غير منافق ودجال وخائن . كيف نقبل مساواة مع طفيلي وقواد وعاهر ؟ كيف نرتضي ذُلّةً حين نكون ضحية أو سوانا يكون ؟ هؤلاء المتسلطون خربوا القيم والنفوس ودمروا الإنسان والزمان . هؤلاء المتسلطون طاعون الزمن العراقي الذي سيحصدنا جميعاً . هؤلاء المتسلطون سمموا الهواء . فلنخرج يا هاني إلى حيث ما ضحك لنا سنُّ ولانت لنا خدّ ورُفعت لنا جبهة . أعلم أنّ لنا في هذه الأرض ميراثاً وذكريات . لنا سلمى التي بعد موت حبيب الأنصاري ذبلت ولنا فيها أروى الغائبة .. لنا الأم والحبيبة ومقبرة بأهلنا عامرة ، ولنا فيها شيء من حياة . لكن هذه الأرض لم تعد وطناً إنما للكرماء من أبنائها صارت مسلخاً . فلنخرج يا هاني من هذا المذبح . حين يخرج سهيل من جملته الأخيرة .. حين ينهي طلباً .. حين تستقيم نفسه ، عليَّ أن أتأمل سهيلاً الذي بإمكانه أن يحلّق بعيداً عنّي ودون أنْ يستأذنني . عليّ أن أتأمل زمناً به بدأنا ومازلنا وبنا بدأ ولما يزل . أن أتأمل زمناً ما قبل اختفاء أروى ، ما قبل اقتران سهيل بنائلة ، ما قبل موت القبطان حبيب الأنصاري .. نتأمل زمناً مازال بنا ممتداً كأننا مفردته الوحيدة . نتأمله جيداً ونحلم فيه بوطن يجمع بين البشر على اختلافهم . يجمع الأقوام والأديان والطوائف . كنّا نحلم بوطن مثالي ، مسالم .. نحلم بجمهورية الجنة . لِمَ لا ؟ نحقق فيها حلم الأقوام الصغيرة ونحقق لها كرامتها وعزتها ونثبت وجودها ، اعتقاداً منّا نحن أبناء القومية الأكبر أننا نحمل على عاتقنا حماية الآخر ، الأصغر والأضعف ، فنافحنا حتى الأنفاس الأخيرة ضد ما اعتقدنا أنه يعمل على تفريقنا . دخلنا معترك السياسة : سهيل ونائلة وأروى وأنا ، فانفتحت لنا أبواب الجحيم . انفتحت أبواب السجون وأقبية المعتقلات . عندئذ سُحِقْنا حتى الآهة الأخيرة ونزفنا آخر قطرة من كرامة تجري في عروقنا . كنّا وروداً قد أينعت وحان سحقها . نُرمى في غياهب المعتقلات بلا رحمة . حين يخرج سهيل من حزنه عليّ أنْ أتأمله . أنْ أدخل حزنه وبه أتشبع . عليّ ألا أقف عند حدود ضيقه وكربه بل ألجه . عليّ أنْ أفكّر بطريقة أخرى لكي أخفف من غلوائه : ـ هنا تأريخنا يا صديقي وميراثنا . هنا مربع طفولتنا ، صبانا وشبابنا . هنا عشقنا البدائيّ وحبنا الأول . هنا انفطرنا . كان عليّ أنْ ألجمه .. أنْ أحدّ من جموحه .. أنْ أوقظ فيه حلماً ما . إنما سهيل يعرف هذا . يعرف ما أقول جيداً ويعرف أنّ الوطن لا يختزل بحزب أو شخص ما وأن الوطن لا يساوي هذه الجماعة أو تلك ، لكنه يصرّ على أن الوطن الذي يتحول مقبرة لأبنائه والوطن الذي يشاع فيه الموت والوطن الذي تصادر فيه الأرض والعرض ، الزرع والضرع .. الوطن الذي تتوزع فيه على البيوت نائحات وفيه تذبح الفكرة ، لم يعد وطناً وليس ثمة ما يشدك للبقاء . ـ ماذا ستفعل ؟ ـ سأضع نائلة على ظهري وبها أطير . ـ وأمك هل تبقى وحيدة ؟ تتدخل سلمى : ـ دعه ينج ونائلة يا ولدي أما أنا فليَ الله . يضيف : ـ سأتدبر أمرها حين استقر في مكان ما من هذه الأرض . يُكمل : ـ وأنتَ ألا تترك العراق ؟ ـ مازال الوقت باكراً .. أريد أن أعرف مصير أروى . ـ في غيابي ستهتم بأمي إذن ؟ ـ سأفعل . * * * قنديل جبل أَحْرَد .. موت أسود وطاعون بثياب بيض ، فوق أحجاره الثلج ، تجرد .. قنديل قمم ، قمة ، وسماوات فوق شجيرات شتّى تتلبد . قنديل جبل عارٌ أكرمه الله فتمرد . قنديل هذا غير بشت آشان لم يحتضن قرية مسخاً إنما لهذه رغى وزبّد ، ففيها قتلَ بعضُ الكُرد ضيوفَهم الأعراب . قتلوا مَنْ كان صالحاً وتزهد . قتلوا مَن صال مِن أجلهم وجال وعربد . قنديل هذا وجه أمرد . بدمنا تحنّى ومن دمنا سُقيَ وورّد . ومن فوق أعلى قمة في قنديل أبحث عن أروى .. عن وجه أروى .. عن يدي أروى وأعاتب السماء . أين أنتِ يا أروى ؟ وبها أحلم .. أمرر على خدِّها أناملي وبوجهها أبتسم : لقد نجوتُ من مجزرة بشت آشان بأعجوبة يا أروى .. إنما فقدتُ الصديق والرفيق والعزيز . عشرات من أنبل الرجال وأشرف الشباب ، أتت عليهم عصابة همجية وبجثثهم مثلت . إنهم يقتلون الأنبياء يا أروى وعلى السماء يتطاولون . أروى تحدِّق فيَّ فتمتلئ بها عيناي وتفيضان . تنتصب بين يدي شبحاً به تكتظ يداي . أروى تفوح طيباً وترشقني بالقبلات . أين أنتِ يا حبيبتي ؟ فأنتِ مثل ريح طيبة لعوب تشاغبين . تارة عنّي تغيبين وتارة بفكري تعبثين . أنتِ مثل أسطورة يا أروى ستخلدين . لكن أين أنتِ ؟ تكلمي يا حبيبتي فأنا تسلقتُ بكل عناء النفس أعلى قمة في قنديل ، وللدقّة في عين الحمام أنا في قمة عين الحمام ، أسجل تاريخَ مجزرةٍ حصلت تواً في بشت آشان . سأضفي على العنوان طقساً سحرياً ، شاعرياً وأسميه " مجزرة الفراشات النبيلة " ولهذا استسلمتُ لطلاقة الفضاء وصرتُ مباحاً للهواء ، مشاعاً كرائحة الجوري في ليل البصرة . هنا فوق أعلى قمة في قنديل وفي عين الحمام تحديداً لم تحدثنا كتب التاريخ عن واقعة ما .. عن معركة ما .. عن غزوة ما ، والفتوحات لم تصل حوض قنديل وما تاخمها أو ما جاورها من القرى والبلدات هنا الزمن منطفئ فلا امبراطوريات امتدت هنا ولا حضارات ازدهرت ولا هم يحزنون . هذه أرض بكر وعليّ أنْ ألج بكارة التاريخ لأسجل له أول مذبحة وقعت في حوض من حياض جبل قنديل ، وتحديداً في قرية بشت آشان ، وعلى سفوح السلسلة الجبلية القابضة على أرواحنا . أسجلها للتاريخ ، هذا التاريخ الكذوب الذي سطّر لنا الملاحم الوهمية من ثورة العشرين ضد الانجليز حتى الثورة البيضاء مروراً بعروس الثورات وأنتِ تعلمين أنّ ليس هناك من ثار ضد الاحتلال البريطاني وليس ثمة من دافع عن العراق إبان دخول القوات الأجنبية من البصرة الثغر الباسم للوطن إنما مرت القوات بسلام واستراحت في العمارة حيث طاب لها المقام حين أكرمها العماريون وخلعوا عليها بردة المحبة فصار الجيل القادم مدهشاً يسر الناظرين صار أشقر وبعيون زرقاء ، فهل أنتِ عن أدائي راضية وقد نجوتُ من المذبحة توّاً ؟ ـ أجل إنما بشرط . ـ ما هو يا قاتلتي ؟ ـ أنْ لا تظلم أحداً . ـ سأفعل وسأكثف العبارة لكي تتسع رؤيا الأجيال القادمة وأنقل ما ينفعها : " في الأول من مايس من العام 1983 هاجمت قوات الزعيم الكردي جلال الطالباني مقار الحزب الشيوعي العراقي في موقع بشت آشان وحصدت رؤوس الشباب الحالمة وكان أكثرهم من العرب ، ثم ذبحت الأسرى على أساس الهوية القومية فمَنْ كان كردياً يُطلق ومَن كان عربياً يُذبح ، فقتلت وذبحت وشوهت أجسادهم الطاهرة ." ألا ترين ؟ أنا لم أظلم أحداً ومن هذا الفعل فليبرأ الكُرد وهم بشر طيبون . ألا تكفي هذه العبارة لأن تصبح كتاباً في التاريخ . إنها مكثفة وجلية ؟ * * * من بين يديّ انزلقت أروى كنّا ببيان القول نفيض . من بين يديّ المزدحمتين بأروى فلتت أروى . دارت ، عصفت ثم تلاشت . حين حاولتُ التشبث بها تذكرتُ أنني كنتُ وحيداً ، بعزلتي مستأنساً ، وبمحرابي الهوائي ، المعلق في خاتمة المسافات ، سعيداً . هنا أسكن الثريا بعيداً عن عدوٍّ وصديق . أمامي وحيث ما وليت وجهي أرى قبوراً بلا شاهدات لرجال قضوا من أجل حلم أنكرته عليهم الدهماء ، فيما الرجال من أجل رفعتها كرّسوا الحياة . أمامي هنا فوق هذه السفوح وفي تلك الوديان ، تحت صخور سوداء وفي ظلّ أشجار لا تحنو على أحد ولم تعرف روائح الثياب .. في عراء مخيف .. في غربة صقيعية ، زُرعت قبور ، لم تعل فوق الأرض قليلاً أو كثيراً ، لشباب بأنفسهم جادوا من أجل حرية شعوب لا تستحق ذرات الرمال . من بين يديّ المتعبتين المزدحمتين بأروى انزلقت أروى وأطلقت أفراسها في الزمن الصعب .. أطلقتها وجعلت حوافرها تدق حافات الريح وأنا خلفها في الرؤيا أعدو وألهج : سأجعل غزلاني تحاصر المدى وتقبض على عنق الريح . أنا العدّاء هاني بن رواحة الشيباني المُعتزل في قمة عين الحمام ، أقف مثل سارية يسترشد بها العابرون ، يلوذ بها التائهون ويتعلل بها المخذولون . يا أروى أيتها المرأة / الموجة / الريح ، هدّني التيه وعصفت بكياني الذاكرة : يا أروى إنْ راق لك البقاء فاحترسي إنْ هتفت في أيامك لوعة احترسي إنْ كنتِ بعيدة عن الماء أو قريبة منه احترسي من سحر الأشياء وصوت المغني إنْ أطنب في الغناء احترسي من هفهفة النسيم وحفيف الشجر من رفرفة طير وضحكة طفل من رقرقة موجة خجلة تداعب زورقاً جاثماً على وجه اليّم من تغريد بلبل في بستان الجنّة من همستي في أُذنك من عذوبة الكلمات أو القبلات احترسي احترسي ثم احترسي يا أروى المرأة ، الموجة ، الريح .
* * *
*** ـ الصدى ـ *** لا تحزني يا صديقتي فعلى ساعديّ سأحملُ إليكِ المدينةَ
***
أدركني غسق مشحون بالوحشة وببكاء مكتوم وأنا أنزف فوق رصيف التيه روحي . كنتُ لخطوتي مستسلماً أنا المُبتلى بالاستسلام لرغباتي ، إنما الآن وفي لحظة كهذه ، هي الخطوة مَنْ يقول .. وهي الخطوة مَنْ يقود وإلى حيث ما اشتهت تجرني فلا رغبة لي عن مكمنها تحركت ، فرغباتي ارتضت المكث جميعها . الخطوة مرشدي والوجهة لم تُحدد الآن وعلى اللقاء الأخير ، الذي سيضمني مع سهيل ونائلة ، مازال الوقتُ باكراً . مَن يدري ربما لن نلتقي ثانية . أنا أنزف والغسق يغمرني فأدخل في غيبة عميقة لأخرج منها على غيبة أعمق . الليلة سأودع سهيلاً ونائلة . الليلة تجود القرائح بما اختزنت أو سيندحر الكلام أمام شدة الحزن وكثافة الدمع . رغم كلّ ما حولها من معارف ، أصدقاء ، أقارب وبشر ستبقى سلمى وحيدة مقطوعة الأصل حين تفقد وحيدها . ورغم كل ما حولي من كائنات وما عندي من علاقات سأبقى وحيداً مقطوع الجذر حينما أفقدُ صنواً . اللعنة ! قلتُ له لا تسافر ليلاً فحزن الليل يفلق الفؤاد . قال لي للضرورة أحكام . فأيّ حكمِ ضرورةٍ يجعلنا نفرغ الوطن لتسوده حفنة ضالّة ، بغيضة ؟ أيّ حكم ضرورة ينتزعنا من جذورنا لتحكم فئة همجية قبضتها على رقاب أهلنا وتصادر أحلامنا . لا أدري إنما الذي أدريه هو الظلام الذي يغشى البلاد والعباد . سلمى لهذا الفراق تهيأت على ما يبدو فهو عليها أهون مِن أنْ تفقد سهيلاً للأبد . فحين يقبض عليه لا أحد يتكهن ببقائه حياً ، ونائلة إنْ قبض عليها لا أحد يضمن بقاءها حيّة خاصة حين تُمس عفتها ، يثلم شرفها وتهدر كرامتها . وأروى هل ماتت أروى ؟ في أيّ الأقبية أنتِ الآن يا أروى ؟ مازلتُ أنزف فوق رصيف التيه روحي . ما زال وقت اللقاء الأخير بعيداً . خرجتُ من غيبتي .. التفتُ نحو الشمال إلى حيث يجري نهر العشار ، رأيتُ مقهىً .. في منتصف النهر رأيتُ مقهىً . لم أره سابقاً .. لم أعرفه من قبل .. لم أسمع به فيما مضى . ففي البصرة نعرف مقاهينا مقهىً مقهى .. في البصرة نعرف حاناتنا حانةً حانة .. نعرف ملاهينا ملهىً ملهى .. في البصرة نعرف خطواتنا خطوةً خطوة .. نعرف كم خطوة نحتاج للمكان الذي نبتغي .. في البصرة نعرف كم نجمة في ليالينا تسهر وكم موجة من أنهارنا تعبر .. في البصرة نعرف .. نعرف كم تمرة تحمل هذه النخلة وذاك البستان .. نعرف أننا في الظلمة نتعرف على بعضنا البعض من حفيف الدشداشة ومن هفهفة الثوب .. في البصرة نعرف كم نسمة علينا تهبّ ومن أيّ المنافذ تأتي . في البصرة نعرف من رائحة الطلع ، على أيّ الأشجار يحتوي هذا المكان ومن رائحة الخضرة في الماء نعرف اسم النهر ونوع الجسر وعدد القناطر .. في البصرة نعرف من همس الريح طبع الريح .. من لون الماء غضب الماء .. من حركة الشجر نعرف عودة الطير .. وفيها نعرف متى تتزاوج النجوم ومتى تنجب الكواكب في حضرة القمر . في البصرة نعرف متى يحنّ لأعشاشه الطير ومتى يعود ومتى يؤم الماء ومتى يتسيد البناء والشجر . في البصرة أعرف كلّ الأشياء إلاّ هذا المقهى لا أعرف . هذا المقهى الجاثم على وجه النهر لا أعرف .. هذا المقهى لا أعرف .. دخلتُ .. تقدمتُ .. في المقهى توغلتُ وكان المقهى عميقاً .. ظلال تضيئه ووجوه أحبها . في المقهى الذي لا ندل فيه ولا خدم استقبلني سهيل ونائلة وعيون بالدمع فاضت وأشرقت هي عيون سلمى بنت وضاح المازني . صُعقتُ .. ذُهلتُ .. تعجبتُ : مَنْ جاء بهؤلاء القوم إلى عمق المقهى ؟ جذبني سهيل من يدي وإلى جواره أجلسني . مازلتُ في ذهول . بادرني سهيل : ـ ستقول مَنْ أتى بنا إلى هنا أليس كذلك ؟ ـ أجل . ـ مِنْ هنا سنبدأ الرحلة . ـ لكن موعدنا في البيت ! ـ وأنا مازلت على الموعد ، سأُقدِم بك إلى هنا في كلّ الأحوال . ـ لمَنْ هذا المقهى ، لم أعرفه من قبل ؟ ـ أسسناه لكي ننطلق منه . ـ وهؤلاء الجالسون أيضاً ؟ ـ أجل من هنا ينطلقون . كان الليل يسكب فوق العباد كفراً وكنّا نتربص باللحظة الحاسمة . دار الزمن في المقهى دورة فصفقت أجنحة سهيل وارتفع في فضاء المقهى .. دار دورتين ثم عاد مبتسماً . مرّة ثانية امتدّ بنا وقت حتى بواكير سحر وكان الغلس على أشدّه حين أزفت ساعة الرحيل . اللعنة ما أثقلها ! من بيننا خرج سهيل ونائلة إلى خلوة وكانت مويجات خفيفة تهمس لحيزوم المقهى أنْ يثبت . تبعناهما فصرنا إلى الفضاء جميعاً . التصقت نائلة بظهر سهيل وبرقبته تعلقت . ارتفع سهيل .. رويداً .. رويداً .. ارتفع .. طار سهيل بنائلة فأخذتهما النجوم وصحبة الظلام الكثيف . التفتُّ إلى سلمى وجدتها بالدمع غارقة . كان عليّ أنْ أعيدها إلى البيت فأخرجتها إلى الشارع . في تلك الساعة من بواكير السحر كان النسيم عليلاً . التفتُ إلى المقهى وأطلقتُ على الجالسين في منتصف الماء سلاماً على الواقفين في عتمة المقهى سلاماً على الوافدين من أبواب خلفية سلاماً على مَنْ يتناوب رشفات الشاي سلاماً على مَنْ يرفع كأساً تشفّ بوجه النجم سلاماً على الحالمين ، ومن وراء دخان سجائرهم المتصاعد في ليل المقهى يطلع حلم نحو السماء ، سلاماً . على العابثين بموجات الماء سلاماً على مَنْ زرعوا في هذا الليل أجنة الغياب سلاماً على مَنْ رفرفت بين أكفّه نهود الصبايا سلاماً على مَنْ خفقوا بأجنحة المتاهة ومَنْ طافوا بعيون صقر أجواء المدينة ، ربما للمرة الأخيرة ، سلاماً على مَنْ تعذبوا .. مَنْ عشقوا .. مَنْ ماتوا كمداً .. ومَنْ أجهضوا من أجل الناس أحلامهم سلاماً على الصابرين المؤجلين أشواقهم سلاماً سلاماً على روّاد المقهى على مَنْ أسسوا في منتصف الماء لغةً أخرى سلاماً سلاماً على من توجس إليه السبيل في ليل المحنة سلاماً على مقهى الرفاق . عندما أنهيتُ التحية ، تلاشى المقهى .. بحثت عنه لم أره .. لم أجده . ذُهلتُ . قلت أُنظري يا سيدتي لقد اختفى المقهى . ذُهلت سلمى لكنها لم تقل شيئاً . عندما أوصلتها إلى البيت تساءلتْ : ـ أين اختفى المقهى ؟ أجبتُ : ـ ربما أزاله المؤسسون ! * * *
لا تسألي طريقاً عن عدد الأقدام التي مرت عليها . لا تسألي بماذا فكّر المصلوب في لحظة ما قبل الصلب . لا تسألي عن الأسرار التي يعرفها الموتى . لا تسألي الناس عن أرض هي أكرم منهم . لا تسألي لئيماً عن كريم أو جاهلاً عن حكيم . لا تسألي ذا ضعة عن ذي رفعة . لا تسألي الخائن عن وفيِّ وعفيف . لا تسألي ميسورَ الحال دنئ النفس عن فقير الحال غنّي النفس . هنا فوق ترابك المبارك حطّ الأهل رحالهم . بشاطئيك انسحروا وبهواك تعلقوا . هنا مرّ عليهم وعلينا يا بصرة الزمن . فأنتِِ ما عدتِ أنتِ والحال فيك تبدلت . فحين عنك رحل الأهل .. وحين غادرك الصحب .. وحين فيك الأحباب تنسجن .. وحين من بين دروبك الموت ينبثق .. وحين تختلُّ موازينك ، تتعطل قوانينك وتفسد عند أهلك القيم .. وحين تُغادر المراجع مواقعها وتتداخل الأمور .. وحين يمتنع طيرك يتمرد نخلك تعصف ريحك يضحل ماؤك تلتهب شمسك ويحتجب قمرك وحين يغشاك الغرباء في وضح النهار .. وحين .. وحين لم تعد أروى وحين يؤول البيتُ خربة وتعتكف سلمى . وحين يفوتنا يا بصرة الزمن ، نطرق أبواب الرحيل وعنك قسراً نبتعد . انشق الصبح وأنا في الطريق إلى بيتي الذي ما عاد يحتوي جسدي الصغير ، فمنذ زمن صرتُ أقضي معظم أوقاتي خارج البيت . انشق الصبح وتبدت حاجتي ملحّة إلى البكاء . في مدخل الحديقة استقبلتني نخلة البرحيّ ، على هيئتها يطغي حزن ومن رأسها أسمع دوياً فيما الريح ساكنة . استوقفني الدويّ دون الحزن فالحزن ثوبها منذ أن فارقت عائلتي الحياة . رفعتُ إلى تاجها نظري ، رأيتُ ثعباناً ضخماً ملتفّاً حول عنقها وفي هامتها يغرس ناباً عظيماً فيما الدم شفيفاً يسيل . نهرته فلم ينتهر . أخذتُ حجرة بها رميته فلم يرتدع . دخلتُ البيت مسرعاً ، تناولتُ بندقية صيد ، عدتُ بها وإليه سددتُ رصاصة فأصبته في مقتل . خرّ صريعاً فاهتزت الأرض حالما ارتطم بها ميتاً . عندئذ إلى أعلى النخلة صعدتُ .. تفحصتها .. تفحصت رأسها . نظفت موضع الناب فيها وحمدت الله أنه لم يترك سمّاً بعد . سوّيتُ من تاجها ونزلتُ . سحبتُ الثعبان بعيداً عن البيت . وجدتُ حفرة طمرته فيها وأهلتُ عليه التراب . حينما عدتُ وقفتُ إلى جوار النخلة وتساءلتُ مستغرباً : من أين جاء هذا الثعبان ؟ هذا الثعبان من أين جاء ؟ دخلت البيت وانفجرتُ في بكاء طويل .. حطّت في رأسي طيور اللوعة والذاكرة انفجرت فيه . على بكائي بكى أبي رواحة الشيباني الجالس بصمت في مقدمة الصورة وبظاهر كفّه الكريمة مسح دمعاً صادقاً . على بكائي نزفت عيون أمي زهراء بنت أحمد الكناني الجالسة إلى جوار أبي . بكت أميمة بنت رواحة ، أختي التي رحلت دون أنْ تتمتع بصبا أو شباب.. انسلت من حياتي هكذا كأنها نسمة ريح هبّت ذات صيف وانتهت . بكت الأرائك والستائر والخزائن . بكت النوافذ والأبواب .. بكت أشياؤهم الجميلة التي بها يزدحم البيت .. بكت السقوف والبلاطات .. على بكائي بكت الأرض والسماء . أخذتني سنّة من نوم لم أصح منها حتى خواتيم عصر حين سمعت طرقاً على الباب . فتحتُ فكانت سلمى . قالت : ـ عصفت في الدار وحشة وصارت الوحدة لا تطاق . أجبتها : ـ أعرف هذا . أجلستها في الصالة . كانت في أسوأ حال .. في أتعس صورة .. كانت في طقس رماد .. في مأتم . كانت تجهش وبالعبرة تختنق . شاخت سلمى .. كبرت سلمى .. سلمى بنت الفيء والندى شاخت هرمت . كبرت قرناً . تساءلتْ : ـ أين هم الآن ؟ أجبتُ : ـ لا أعلم .. لكنه وعد أنْ يرتِّب لك وضعاً حال ما يستقر في منفى . هزّت رأسها هزّة يائس . تجلّت في وجهها حيرتها .. تجلت محنتها .. كانت سلمى صدراً ينزف .. كانت سلمى صمتاً يهدر . قبل الآن كان المساء حقل رياحين عذب المأتى ، وفي أرجائه أكؤس تشفّ . قبل الآن كان مساء المدينة أغنية سلام تحرسها أسراب اليمام . قبل الآن كان المساء قمراً ينادم حورية خرجت من بركة ماء سحرية يطوقها الآس . قبل الآن كان مساء البصرة بلا أبواب .. بلا نوافذ .. كان المساء مشرعاً . قبل الآن كان المساء مسالماً . خُذي قسطاً من الأمان ونامي وإن كنّا في سفينة قصدتها العاصفة . خُذي ساعة هدوء قبل أنْ يقلقنا ثعبان آخر فجزيرتنا ليست آمنة . خُذي ساعة .. دهراً إنْ شئتِ لكي يتوقف نزفُ صدرِك . نامي سلمى فهذا البيت لم يألف نَفْساً غير الأنفس الحبيبة . نامي برمادك يا أمي واشرقي حين تصحي . فسهيل يعرف طول الرحلة ويعرف أنّ الغربة أطول . سهيل يا أمي سيحطّ ، أينما رأى يابسة يحطّ . نامي سلمى فهذا البيت غير الأنفاس الكريمة ، الطيبة لا يعرف . نامي يا أمي فسهيل صادق نجماً نامي سلمى ولتحرسك ملائكة الرحمن نامي يا أمي في دعةٍ نامي في أمان نامت سلمى هَدْهَدَها طير الألفة ونامت . إلى الشرفة خرجتُ والمساء .. مازال في أوله المساء . مَنْ يسبر أغواري ؟ مَنْ يرفع عنّي الألم القابع في عمقي ؟ مَنْ يا أبي يا رواحة الشيباني ؟ مَنْ يا أمي يا زهراء ؟ مَنْ يا أختي يا أميمة ؟ مَنْ ينزع فتيل حزن روحي ؟ لمَن تركتموني وحيداً أُجابه هذا العالم الغادر ؟ لمَن ولدتموني وغادرتموني ؟ لمَن يا رب البلاد والعباد والسواد خلقتني ؟ لماذا يا أيها الوطن الحبيب والمحبوب حتى أعتى آيات الجنون تُطارد أبناءك الأجمل ؟ لماذا يُذبح فيك الأقربون ؟ لِمَ يا بصرتي المعشوقة ، حتى الرمق الأخير ، تتعهرين ولأيّ غريب تستسلمين ؟ لماذا نُقتلع كالحلفاء من أصولنا ونرمى ؟ المساء في أوله والقمر لم يأتِ بعد .. لعله مازال حائراً أمام طبق من عشاء فاخر ولم يرفع سجف عزلته . سأرتب مائدتي ما شئت ولن أدعو نجمة قصية أو دانية إليها . لن أدعو زهرة أو ثريا . لن أدعو كوكباً أو وجهاً . لن أدعو أحداً وإنْ خرّ للصلاة ساجداً من أجلي أو من أجل انقشاع همّي أو زوال محنتي . أنا وحدي وكأسي .. وعن أنفاس سلمى ، التي شاخت وهرمت ولم يبق منها سوى الرماد ، لن أبتعد . يا إلهي ! سلمى التي خُلقت من زهرة الآلهة وجُبلت من طين الملائكة ، انطفأت خلال ساعات ولم يبق منها سوى النشيج . فبعد موت حبيب الأنصاري لم تَعُد سلمى المُشعّة التي نعرفها ولم تعد مشتهى . أما وقد رحل سهيل فلا أتكهن بقابل الأيام . سلمى عن الشرفة قريبة .. ومائدتي انتصبت فوق طاولة قديمة سكنت وسط الشرفة منذ الأيام الخوالي ولم أقربها سوى مرة واحدة استدعيت فيها القمر والنجوم ووجوهاً هلامية . الكأس تعانق كفّي وعيني تقطن السماء . سهيل يحلّق بعيداً ونائلة حوله تلتف . الليلة حين لم يجد مهبطاً سيمرّ في سماء البصرة . سأسكر إذن وأترك عيني تطعن كبد السماء ، لعله يمرّ . نخلة البرحيّ في الجوار هادئة إنما مازالت في أشدّ حزنها . مائدتي عامرة بقطع الجبن وخمرتي .. عامرة بحبات الزيتون وكأسي .. مائدتي عامرة بهمّي . ارتشفتُ وارتشفتُ وارتشفتُ وصرتُ أعبُّ وأكرع بينما السماء لم يطرقها طارق وفيها قمر لم يطلع . انتصف الليل ولم يظهر سهيل .. سلمى تغطّ في نوم عميق . قلتُ : وجد سهيل يابسة .. وجد مأوى .. وجد منفى . عندما جاء الصبحُ لم تأتِ أروى .. لم يأتِ أحد .. لم تشرق شمس . عندما جاء الصبح لم تصح سلمى . سلمى .. سلمى اصحي يا أمي عندما مرّ الصبح لم تصح سلمى سلمى .. سلمى اصحي يا أمي لم تصح سلمى تركتُ على خد سلمى قبلة الوداع الأخير ودمعة من عيني انحدرت وفوق خدها انصلبت . * * *
*** ـ النّص ـ *** حينما هطل الليلُ عرفتُ أنّ الغجر قادمون هل كانوا حاسري الرؤوس ؟ ***
تأخر الملك . كان عليه أنْ يتذكرني ويعرج نحونا أثناء عودته ، إنما الملك آشور ناصر بال انشغل عنّي في غمرة اهتمامه بشؤون المُلك وربما غيّر الطريق . ساكناً ومشرقاً كان أول الصبح والملك لغاية ما ، لم يرجع من نفس الطريق . الملك الآشوري العظيم بموكبه الملكي ، بحرسه وجنده ، بحواريه وجواريه ، بخدمه وحشمه وخيله لم يفكر بي أو لعله أهملني وغيّر مساره . أنا أشك بفكرة أن يكون قد أهملني فالرجل العظيم بارك وجودي إبان زيارته إياي وهو مَن هتف باسمي ونادى عليّ . الملك الآشوري لم يأتِ ونحن بالبهاء نسبح . حتى اللحظة لم يأتِ الرفاق ، والبريد الحزبي تأخر فصرتُ أحفر موضعاً قتالياً خارج الزريبة / المأوى .. موضعاً في فضاء هوركي المنغلق . وفي غمرة انهماكي بالحفر هتف روحي : تقاتل مَن ؟ فسقطت من يدي آلة الحفر البدائية . سقطت من يدي جميع الحيل إلاّ إصراري على البقاء .. إلاّ إصراري على إنقاذ نائلة والوليد القادم .. وهوركي حينئذ زمن مغلق .. مكان كحلقة فولاذ عظيمة . هوركي من الناحية النظرية لا مدخل يؤدي إليها ولا مخرج ينطلق منها . هوركي مكان للرعب . كتلة هائلة من رماد .. قمم تتناسل عن قمم . هوركي القرية .. بيت الراعي .. استراحة الخائفين ، ملجأ الهاربين والعابرين ، سقط متاع آشور ، الزريبة / المأوى . هوركي باختصار مكان خارج الزمن . ستأتي إذن أيها الولد الجميل .. الآن .. بعد ساعة .. بعد ساعتين .. لكنك في كل الأحوال تأتي وهذه المرة لن تتأخر وإنْ تأخرتَ عليك سأزعل ولن أغني لك أغنية اليمامات الأميرات أو أغنية الفراشة الساحرة أو حتى أغنية وعول البحار . نائلة رغم شدّة المخاض تبتسم . ستأتي وستفرح بقدومك حين تسمع جدتك سلمى . لكن كيف تسمع وبنا انقطعت السبيل ؟ انقطع البريد ، والبغال كفّت عن حمله .. إنما سيأتي يوم وتسمع .. حتماً .. حتماً .. أنا متأكد من أنها تسمع ذات يوم . قد يسمع هاني وإليها يزفّ البشارة .. لكن هاني .. أين هو الآن ؟ هل عاش بعد المذبحة ؟ أتمنى ذلك . أتمنى ! هل قلتُ أتمنى ؟ أيها الغباء الغباء . أسمعتِ يا نائلة .. قلت أتمنى ؟ لقد خرّفتُ يا نائلة . جنون أنْ يُقتل هاني . جنون أنْ يموت هاني .. وإنْ قُتل فليذهب العالم بأسره إلى الجحيم . عندئذ أيّ معنىً للحياة سيبقى إنْ قُتل هاني ؟ يا إلهي .. لماذا أُرسِل إلى بشت آشان ؟ لماذا ؟ كان الأجدر بالحزب أنْ لا يرسله إلى هناك . كان الأجدر به أنْ يحافظ على الملائكة بين صفوفه وهم بعدد الأصابع في العراق . كان عليّ أنْ ألتقي به .. أن نلتقي بعد فراق طويل . أتدري يا ولدي أنّ الحياة ستصبح تافهة إنْ قُتل هاني .. أتدري يا ولدي أنّ هذا العدّاء البريء لم يرتكب في حياته إثماً . كان يحمل قلب ملاك ، وجه ملاك ، لسان ملاك . أتدري يا ولدي أنّ هذا اليتيم لم يكذب مرة .. لم ينافق مرة .. لم يؤذ أحداً مرة .. لم يكره أحداً .. لا يعرف للبغضاء سبيلاً وللرذيلة لا يعرف مكاناً وللرجس لا يعلم زماناً . هل تعرف يا ولدي أنّ هاني ملاك بهيئة إنسان ؟ هل تعرف نبعاً أزلياً منه يتدفق ماء زلال ؟ هل تعرف نوراً أبدياً لا يمنعه ستر ولا يحجبه غيم ؟ هل تعرف بشراً لا يخطئون المكان حين في أنوفهم تعبق رائحة الطين ؟ هل تعرف مَن يسترشد بعذوبة النسيم لا بالنجم ؟ هل تعرف ....؟ استوقفتني نائلة وكانت استراحت من طلقة عظيمة : ـ على مهلك .. على مهلك . أتريد أنْ تُسمعَه كتابَ الفضيلة منذ الآن كاملاً ؟ دعه يبحث بنفسه عنها . ـ يبحث عن ماذا ؟ ـ عن الفضيلة . ـ إنْ تركته يبحث بنفسه عنها أضاع سبيلها ، فسوف يطرق أبواب الرذيلة حتى يُميز فيما بينها وبين الفضيلة وهذا ليس ما أريد . نحن بشر لا نُعلِّم أبناءنا إلاّ الفضيلة . نحن ملائكة الزمان . نحن بشر نادرون ، وعن غيرنا متميزون . أسألك : ـ كم طفلاً يولد يومياً في البصرة ؟ ـ يولد كثيرون . ـ كم طفلاً يولد يومياً في مشفىً في بغداد ؟ ـ يولد كثيرون . ـ كم طفلاً يولد يومياً في المشافي الكبرى في كلّ عواصم العالم ومدن الدنيا وقرى الكون ؟ ـ يولد كثيرون . ـ كم طفلاً يولد في بيت آمن ؟ ـ يولد كثيرون . ـ لكن ، كم طفلاً يولد يومياً في قمة جبل على شريط حدوديّ وفي زريبة عفنة للماعز وتحت الرصاص وقذائف المدافع والعواصف والمطر ؟ ضحكت نائلة رغم مخاضها وأجابت : ـ لا أعلم . ـ بل تعلمين . فمَنْ ولدَ متميزاً لابد أنْ يحيا متميزاً . يتميز في تعلُّم الأفكار العظيمة وسموِّ المعاني . هل سمعتَ يا سيدي الوسيم ؟ أطلقي يا زوجتي العزيزة .. تمخّضي يا نائلتي .. سيأتي صبيّ وسيأتي هاني .. أجل أنا أعرف من أيّ المفترقات يأتي منذ جَرْيِّنا فوق جسور الطين فوق قناطرَ من جذوعِ النخلِ وأخرى من خشب بالٍ منذ الحماقات الأولى فوق مُسنّاةٍ تشحذ خيالَنا الفتيّ وتلهب رغباتنا الكامنة في الشطّ نغطس ، نهبُ الماء دفقةً من بذورِ التين ثم نخرج بسراويلَ لا تسترُ عورةً وللتمتع نترك فسحةً لبناتٍ من عنقودنا المحترق يبحرْنَ في عمق الجسد المبلول منذ جَرْيِّنا خلف قطاةٍ لا تخطيء أبداً عشّاً نركض حتى نخلفَ الطيرَ نطير حتى نسبقَ الطيرَ منذ لهفة الصلاةِ الأولى وراء صبايا ما اكترثْنَ يوماً لسجدة العناق ولا عبقت في أنوفهن رائحةُ القمحِ في العنابر لكي يصرخْنَ : هنا الشبق السعيد فلنمضِ من هنا منذ الفضيلة الأولى والخطيئة الأولى لفتيةٍ بلا خطايا منذ بواكير الكلام والتنهيدة الأولى منذ معرفة بوق السفينة وسحر الموجة نعلم أنّا كلما بنا انشقت المسافةُ وباعدت بيننا السنون نعود لنلتقي ثانية سيأتي الصبيّ يا نائلتي سيأتي هاني * * *
*** ـ الصدى ـ *** في أعلى مصبّاتِ اللوعةِ وقف النّوتيُّ يفتحُ أبوابَ البصرةِ لسفنٍ متعبة تأتي ***
وأنا أُلبي رغبة روحي وأنجزُ شيئاً من طموحي . وأنا أنغمس في لذّة هواي بعد تجرُّع مرارة الموت الذي أرسلته علينا السماء .. بعد أنْ تذوقنا طعم التخبّط والضياع على امتداد حدود هذا البلد المستباح .. بعد أنْ صرتُ فوق أعلى قمة من قنديل .. في عين الحمام التي استوطنها الثلج ، أشعل نار الهداية للتائهين في شعاب الجبال والهاربين من حقد الرصاص . هنا أرفع من سقف حزني وأضرب سجف عزلتي . وأنا بالمكان استبدُّ واستدرج في الرؤيا أروى .. شبح أروى وأكتب تاريخاً صافياً من عبارة أو عبارتين .. من كتاب أو كتابين ، أُقلِّبُ ذاكرتي كثيراً .. أشحذها كثيراً وأتذكر كلّ شيء عن المذبحة وعن أصدقائي الذين قضوا ، وكيف قضوا ، والذين تشردوا .. أتذكر دقائق الأمور .. أتذكر حتى المهمل من الحجر والشجر إلاّ كيفية وصولي إلى القمة .. إلاّ الطريق التي أوصلتني إليها . لم أتذكرها وذاكرتي لم تختزنها قط . سأكتب لسهيل التفاصيل كاملة ومنقوصة .. سأخبره للمرة الأولى عن موت أمه سلمى بنت وضاح المازني . سأقول له : لقد انطفأ يا سهيل الوهجُ .. في يوم رحيلك انطفأت إلى الأبد شمعة في ليل البصرة وفي بيتنا الذي قضمَ من قبل أهلي ولم يُبق على أحد منهم . في بيتنا المنحوس الذي لم يوفر لنا أصلاً .. انقطعت جذورنا .. ماتت سلمى . سأكتب لسهيل أنّ سلمى كانت منذ لقاء المقهى ميتة . سأشكو له انقطاعي عن العالم في قمة عين الحمام . سأشكو له عزلتي . سأقول له : هنا يا سهيل مع الرفاق افترقتُ فلا أنا بحالهم أدري ولا هم عنّي يعلمون . هنا يا سهيل تفرق الرفاق . الصبح على القمة يهطل مسالماً كأن لا رصاص بالأمس تناثر في الأفق ولا بارود . الصبح يشتهي العناق .. فلتعتنقه قمة الثلج ولتعتنقه الريح . الصبح شاسع البهاء وأنا يشدني حنين إلى سهيل البعيد عبر شموخ الجبال . حنين يشدني إلى نائلة التي وضعت على أكفِّها دمها وحملت ضد منطق التخلف وضد وحشية النظام سلاحاً. أيْ نائلة أنّ هذه الجبال الوعرة قاسية عليك وأنتِ أرقّ من بنات الجبال عوداً . فمَن دفعك إلى قلب المتاهة كأنك وسهيل خرجتما عن دائرة الوعي وعن صحيح المنطق ؟ يا إلهي!! كيف قطعتِ كلّ هذه الجبال العصية ، القصية ، وكلّ هذه الوديان الصخرية الغائرة بعيداً في الأرض ؟ كيف عبرتِ كلّ هذه الأنهار الرهيبة، الجارفة التي لا ترحم الحجر فكيف بالبشر ؟ إليكما في صدري شوق عارم لكن عزلتي تمنعني عنكما وعزلتي خارج صحن الكوكب رمتني . أعترف أني نجوت من مذبحة قضى فيها أحباء وأصدقاء ، إنما كيف وصلتُ من دون الآخرين إلى القمة هنا في عين الحمام في قمة من قمم قنديل المدلهم الغاضب ؟ لا أدري .. وحين حاولتُ تَرْكَ القمة مرّة زأر بوجهي الرصاص . ألمَّ بي الجوع ، والماء لا حاجة بي للماء فبإمكاني امتصاص ما شئت من كتل الثلج فهي وفيرة هنا ، لكن معدتي الخاوية تقرصني ومنِّي نفدت آخر سيجارة وآخر عود كبريت وظلت نار الهداية مضرمة . نار الهداية لن تنطفئ وستجذب التائهين والذين بهم انقطعت السبيل . وأنا أيّ الطرق سلكتُ إلى عين الحمام ؟ لا أتذكر شيئاً كأن طيراً حملني إليها . كأن يداً امتدت إليّ من السماء . سأكتبُ لسهيل رسالة لا نهاية لها وأسكب فوقها حسرة بحجم الصبح . مَنْ ينقلها !؟ سأعاتبه فيها : لِمَ لم تعلمني الطيران ؟ آه لو كنتُ على يديك تعلمتُ الطيران لكنتُ إلى جوارك الآن ؟ الصبح عذب النسمات . الصبح دفء ينحدرُ على صفائح من الألمنيوم ويتكاثف تحتي . رأسي غارق في ملحّة السؤال . أحياناً أتوقف عن التفكير وأتأمل جمرة في نار الهداية .. أتأمل طويلاً . تستهويني الجمرات المتقدة في طبق الخلاء ويستهويني شبح أروى . أستعذب الموت مع شبحها وقوفاً .. أستعذب البكاء بين يديه .. أستعذب الغناء ملتفاً حول رقبته . آه يا أروى لقد أعطبني الفراقُ .. شلتني العزلة وروعتني الوحشة وما عدتُ على تحمل الصعاب قادراً . أنا يا شبح أروى فتت الأيام في عضدي فلا طاقة بي على تحمل المزيد . أنا يا أروى من تحمل موت الأهل ، قهر السلطات وغياب الأحباب ، وأنا مَنْ رأى الموت مراراً وعاش الفقر والفاقة وأنا ... تعبتُ يا أروى يا حبيبتي . تعبتُ أيتها المرأة / الموجة / الريح . تعبتُ فمِن أجلي اعصفي وارتفعي وتمردي واغضبي وهبّي ثم دمري بإعصارك هذا الوجود الهشّ . اعصفي واقتلعي جذور الكون .. ارتفعي أيتها الموجة وتمردي ثم اندفعي لتجرفي بلسان الغضب كلّ السكون المقيت . اعصفي أيتها الريح ولا تبقي حجراً على حجر .. اجعلي الوجود خراباً وركاماً فوق ركام . بددي ، من أجلي يا أروى .. من أجلك .. من أجلنا .. من أجل عشقنا ، هذه الوحشة . آه يا شبح أروى القادم مع شلال دفء الصبح .. أيها القادم من أعماقي .. من قلق روحي .. من تفكيري البعيد .. أيها الشبح القادم والثلج .. الخارج من جمرات نار الهداية ، أنقذني من هذه العزلة .. من الوحدة .. من انقطاعي في عين الحمام / القمة .. أنقذني من جوعي .. من الثلج القابض على نفسي الذي يصير في الليل موتاً آخر . آه يا شبح أروى الحبيبة ، أحمل عنّي رسالة إلى سهيل .. إلى نائلة .. إلى رفاق افترقتُ عنهم . قل لهم إنني أكملتُ كتابة تاريخ ناصع من عبارة أو عبارتين .. من كتاب أو كتابين . إنني أكملتُ صفحات جلية .. بضع وريقات . أيها الشبح الذي بك امتلأت يداي .. وبصورتك تكحلت عيناي . أيها الشبح الجميل الذي ما فارقني يوماً وما كفّ عن حراستي يوماً . أيها الشبح الحبيب الذي منك أستمدّ البقاء ، على وجه أروى أسْكِبْ قبلاتي وعلى رأسها أنثرْ لوعتي وهيامي . أيها الشبح الفاتن الطلعة أبلغْ سلامي . لو جئتَ أيها الطائر البهيّ إلى آخر القمم لو جئتَ أيها المُغرد الجميل نحو نار الهداية لو جئتَ أيها العاشق النبيل على صهوة جواد من نسيم ولامستْ حوافره عين الحمام . لو تعلقتَ أيها الصديق بجنح سحابة لو جئتَ يا سهيل لوجدتني ألقمُ النار ورقة من تاريخ ناصع وقطعة من كبدي . وبالنار أصرخ : اتقدي أيتها العاهرة بأنقى التواريخ وتخففي من غضبك أيتها النار الجائعة لكلّ شيء لكي يهدأ جوعك لن أمنحك قطعة من الذاكرة لو جئتِ يا حبيبتي على ظهر بحر هادر لو جئتِ يا أروى تطوين البلاد لو جئتِ عاصفة لو جئتِ أيتها الغائبة ، المسبية ، المغيبة ، المسجونة ، المقتولة لو جئتِ من أعماق المحيطات لو هطلتِ من السماء لو .. جئتِ يا أروى لوجدتِني أعتنق شبحك وبه أملأ ذراعي لو جئتِ يا حبيبتي لوجدتني أمطر حزناً لو جئتِ يا أروى لوجدتني أتورد شوقاً لو جئتِ يا .. أروى آه يا حبيبتي
* * *
*** ـ النّص ـ *** لا تتعجلي يا حبيبتي فمازال ثمرُ الطريقِ مرّاً وماءُ الفراتِ مازال مرّاً وبحجارةِ التيه مازلنا نتعثر لا تتعجلي الغربةَ يا حبيبتي فربما أنْكَرَنا النخلُ وربما كان طلعُه مرّاً ***
لم يبق من نار الصفيحة سوى جذوة تحتمي بقليل الرماد . لم يبق بماء الصفيحة سوى طيف دفءٍ في طريقه إلى الزوال . عالجتُ الرماد وبالجذوة نفختُ روحاً . أطعمتها عشباً فاستعرت ونهض من فوقها لهبُ . أُذكيتْ نارنا إذن . ستأتي أيها العزيز ، الوديع ، المنتظر . خاطبتُ نفسي ويدي تمتدّ إلى قطعة حطب بها ألقم فم النار . الصبح حلو المأتى نحو طلعته البهية الفاجرة يجذبني ، والشمس بطرف خفيٍّ ترمقني ووراء غلالة شفيفة من شبق أنثويّ سعيد تحتجب . قافلة من بغال كثيرة تمرّ من تحت زريبتنا / المأوى . إذن مرّ الرفاق وبنا لم يمروا .. علينا لم يعرجوا .. ربما كانوا في عجالة من أمرهم .. ربما كانوا في ذهول .. ربما أخذتهم دهشة . لكن بعد حين وصلتنا قابلة .. رفيقة أرسلها لمساعدتنا الرفاق .. من مؤخرة القافلة خرجتْ وإلينا طرقتِ السبيل . أنا الجدّة ها هنا . أعلنتْ . ابتهجت نائلة وسررتُ أنا . إنها جاءت في اللحظة الحرجة . تمخّضي يا نائلة فالجدّة حضرت ونار الصفيحة اشتعلت . من أعلى قمة في هوركي الجبل .. القرية .. بيت الراعي .. ملاذ العابرين في غياب الزمن .. حياض آشور .. الزريبة / المأوى ، رأيتُ جيشاً للترك يحتشد .. هناك من الجهة الأخرى لهوركي عند قاعدة الجبل . رأيتُ الجبل يتضاءل أمام زحف الجند . ثم بعد حين أناخوا الجبل . من أعلى قمة في هوركي ، الزريبة / المأوى وكنتُ تارة إلى نائلة تنشدّ عيوني وتارة في الأفق البعيد فوق رؤوس الجبال أُحدّق ، رأيتُ فوق سلسلة الجبال القصية شبحاً يَعْدو . كان كأنه يسابق الريح فمرّة فوق قمة جبل يظهر ومرّة في انحناء رأس الجبل يختفي . لستُ متأكداً هل كان من هواء أم كأنه الهواء ؟ إنما الشبح صوب هوركي يتقدم . من أعلى قمة في هوركي وكنتُ قد حوّلتُ عن الشبح نظري ، رأيتُ الرفاق الأنصار يخلون أمام الزحف التركي مواقعهم ونحو العمق العراقي يتوغلون . بينما كان العراق بعيداً . هتفتُ في سرّي : أطلقي يا حبيبتي فلم يعد لدينا متسعٌ من الوقت . تمخّضي يا نائلتي فهوركي بعد حين ستصبح جحيماً . بي الجدة تصيح : ـ هل دفِئ الماء ؟ ـ أجل .. أجل ، أيتها الجدّة فالماء سخن منذ حين . نائلة لهتاف روحي تستجيب وتطلق طلقة طويلة . نعم يا حبيبتي .. هكذا أُريد واحدة أخرى ، فالملك آشور ناصر بال لم يعد ثانية والرفاق بنا لم يمروا فمَن يدفع أذى الجند عنّا ؟ أطلقي من أجلي .. من أجلك .. من أجل الوليد . ستأتي أيها الفتى العنيد .. حتماً ستأتي .. الآن أو بعد دقيقة أو بعد ساعة ستأتي . ستأتي أيها الفارس المقاتل وبك سأحارب هذا الجيش الزاحف صوبنا . لا تُصدِّق مزحةً فبك لن أحارب . صاحت الجدة : أطلقي يا نائلة أنه يتقدم .. ساعديني .. أُريد طلقة طويلة .. نعم .. نعم .. نعم . انقطع الصوت وتقطعت الأنفاس . من وراء باب الزريبة / الستارة سألتُ : ـ لم أسمع صوتاً هل جاء ميتاً ؟ ـ لا تخف . قالت الجدة ثم أمرتني : ـ اجلبْ صفيحة الماء . نظرتُ في الأفق القريب ، رأيتُ الشبح يعدو مسرعاً .. يا إلهي هذا الشبح كأنه يطير ، بل هو يطير .. الشبح يقترب . الوليد يبكي . الجدة تعلن : ـ إنه ذكر . تقدمتُ بصفيحة الماء وطاسة صغيرة . تقدم الشبح .. مازال يعدو مسرعاً . من أعلى قمة في هوركي .. القرية .. بيت الراعي .. حياض آشور .. استراحة العابرين في وعورة السبيل .. ملجأ المتعبين ، رأيتُ الجند الأتراك يتقدمون بخطى ثابتة نحو القمة والجبل أمام زحفهم يتصاغر . رأيتُ الجند الأتراك ببزاتهم العسكرية يرهبون الجبل . من أعلى قمة في هوركي رأيتُ الرفاق الأنصار يخلون للجيش التركي مواقعهم وللعمق يتوغلون . من أعلى قمة في هوركي ، رأيتُ شبحاً يقطع بِعَدْوِهِ أعناق الجبال وصوبنا يتقدم . قالت نائلة : ـ إنه بهيّ .. جميل . أُنظر إليه .. صرخ صرخات ناعمة وسكتَ . كانت نائلة مُتْعَبة . انحنيتُ فوقها .. قبلتها . عندما خرجتُ من الزريبة / المأوى كان ذهولي عظيماً . كان الشبحُ يسدد صوبنا خطواته . كان يقترب ، ويقترب . كان لباب الزريبة / المأوى مستهدفاً . يا إلهي هو ! صرختُ بصوتٍ عال مزق وجه الصباح : هانـــي ارتمى على صدري .. اعتنقته . أدخلته إلى الزريبة / المأوى . وضع الوليد في حضنه . كان الجند الأتراك يستولون على القمة . كان الرفاق الأنصار نحو العمق العراقي يتوغلون . وكان العراق بعيداً .. بعيداً .
* * *
*** ـ النّص ـ ***
هل آخينا ما بين التراب والهواء ؟ هل كنّا العابرين إلى الجنان في غفلة الزمن ؟ هل كنّا وقودَ نارٍ لحروب لم ندركها ؟ هل كنّا حطب السلام ؟ هل كنّا أبناء الغفلة الأبرياء ؟ تمسكي يا نائلة فنحن نطير ولهاني اتركي الوليد فهاني حين يعدو لا تعرفه الصخور لا يمسه الحجر يا نائلة انظري كم هو بعيد أصبح عنّا العراق !
* * *
عِن المُؤلِّف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ صبري هاشم رُوائِيّ وَشَاعرٌ مِن العراق . وِلِدَ فِي مَدِيْنَةِ البَصْرَة عام 1952 أَصْدَرَ الكُتُبَ التَّالِيةَ : 1 ـ لَيْلَة تَرَخّمَ صَوْتُ المُغَنّي ـ مَجْمُوعَةٌ قِصَصِيّةٌ صَدَرَت عَن دَارِ المَدَى ـ دمشق 1995 . 2 ـ رَقْصَةُ التَمَاثِيْلِ ـ رِوايَة صَدَرَت عَن دَارِ المَدَى ـ دمشق 1995 . 3 ـ خَلِيجُ الفِيْل ـ رِوايَة صَدَرَت عَن دَارِ المَدَى ـ دمشق 1997 4 ـ الخلاسيون ـ رِوايَة صَدَرَت عَن دَارِ الكُنُوز الأدَبِية ـ بيروت 2000 5 ـ أطْيَافُ النّدى ـ شِعْرٌ ـ دَار كَنْعَان ـ دِمَشق 2002 6 ـ جَزِيْرَةُ الهُدْهُد ـ شِعْر ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2002 7 ـ حَدِيْثُ الكَمْأة ـ رِوَاية ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2005 8 ـ هُوركِي .. أَرْض آشُور ـ رِوايَة ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2007 9 ـ قِيْثَارَة مَدْيَن ـ رِوايَة ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2009 10 ـ قَبِيْلَة الوَهْم ـ رِوايَة ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2012 11 ـ لِنَشْوى مَعْبَدٌ في الرِّيحِ ـ شِعْر ـ دار تموز . دِمَشق 2012 ***
#صبري_هاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رقصة التماثيل رواية
-
مِن المَتْنِ إلى الهامشِ - 3 -
-
مِن المتن إلى الهامش ( 2 )
-
الجائزة
-
في المدينة
-
طائر الأنين
-
تلك البلاد التي خذلناها
-
شهادة روائية السردية في الرواية الشعرية
-
قمّة النسور
-
كُنّا عَلى وَشَكِ اللقَاء
-
هوركي
-
الملكةُ بكلِّ أُبهتها
-
سلّةُ الحكايا
-
عشقٌ اُسطوريٌّ
-
الفراشة والجياد
-
لا تغلقْ بوجهِ الريحِ باباً 2
-
ساحة الشعراء
-
لا تغلقْ بوجهِ الريحِ باباً 1
-
مِن المتن إلى الهامش
-
ابن الرمال
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|