فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)
الحوار المتمدن-العدد: 4430 - 2014 / 4 / 21 - 02:29
المحور:
مقابلات و حوارات
من رواق الأدب والثقافة
19. في إطار فعاليات ملتقى مدينة نابل للشعر العربي ، كانت لكم مداخلة تحت عنوان "الشعر و الايديولوجيا" ، هل أنت مع أدلجة الأجناس الأدبية ؟
الجواب:
بحضور الشاعر و المفكر العربي الكبير أدونيس , انتظم ملتقى الشعر العربي بمدينة نابل التونسيّة أيام 7, 8, 9 / 02 / 2014 , حيث اتيحت لي في إطار الندوة العلميّة , فرصة تقديم مداخلة تحت عنوان : الشعر و الإيديولوجيا . و قد حاولت في المقاربة تلك أن أبيّن تعدّد أوجه العلاقة بين هذين المفهومين أو المنحيين المعرفيين في الشعر العربي المعاصر , ساعيا قدر الامكان تجاوز المقابلة الثنائيّة التبسيطيّة بينهما و ذلك انطلاقا من التيارات و الحساسيات الشعريّة المتعاقبة في تونس منذ مرحلة الثلاثينات من القرن العشرين , أي منذ ثورة التجديد الشعري التي قادها أبو القاسم الشابي في ديوانه " أغاني الحياة ", حسب قراءة لأدونيس في كتابه " مقدمة إلى الشعر العربي ", إلى أشعار الثورة التونسيّة الراهنة بالاعتماد على ما نشره مؤخّرا اتحاد الكتاب التونسيين من أشعار كتبت أثناء أحداث الانتفاضة الشعبيّة و بعلاقة معها , صدرت تحت عنوان " ديوان الثورة " , و مرورا بمدوّنه أشعار حركة " الطليعة الأدبيّة " ذات التوجه اليساري و التي أتت بموجة ما يعرف بالشعر الملتزم خلال السبعينات . و قد تناولت الدراسة اوجه العلاقات بين طرفي ثنائيّة الشعر و الايديولوجيا , التي راوحت بدورها بين التقابل و التضاد , و التشابك و التداخل , و التشاكل و التماهي . و هي علاقات يحكم إمكانها جذر ناظم ألا وهو اشتراكها في استخدام الرموز و الاستعارات اللغويّة , التي تعود بدورها إلى أصل واحد و هو الخيال . و إن كانت الايديولوجيا توظّف الخيال لبناء مفاهيم و قوالب فكريّة تعمل على تأبيدها و ترسيخها بهدف ضمان الاستقرار الاجتماعيّ و المحافظة على السلطة القائمة , فإنّ الشعر يمتح من الخيال للهدم و البناء و لتجديد اللغة و القيم و المجتمع .
و في إطار التحليل تمّ استدعاء مفهوم " اليوتوبيا " نظرا لتعدد أواصر قرابتها بالشعر من حيث نزوعها -مثله – الى التمرّد و إعلائها من شأن البدائل المستقبليّة , و ذلك لغاية نخر تسلّط الايديولوجيا و تدعيم الانحياز لأفق الحريّة الذي يفتح له الشعر. غير أن هذا الانحياز للشعر خاصة و الابداع الأدبي و الفني عامة , لا يخلص إلى دعوة لمطلق نقاء الأدب من الايديولوجيا , لأن ذلك يعدّ مطلب مثالي و مستحيل التحقق , و لأن العداوة المطلقة للإيديولوجيا هي في حد ذاتها ايديولوجيا , على حد قول المفكر الفرنسي " ريمون آرون " في كتابه " مقدمة إلى فلسفة التاريخ " , إنّما خلصت المقاربة إلى نوع من التجاوز لعلاقات الهيمنة من الجهتين نحو التدرّج بالتأسيس إلى منطقة أرقى من الخطاب الرمزي , هي بالتحديد منطقة " الشعريّة " المبثوثة في كلّ أشكال الخطاب و القول , بما في ذلك العلمي منها . و قد أشرنا في الغرض إلى مثال الاستعارة المعروفة عند محمود درويش بـ : " أثر الفراشة " / L’ effet papillon , التي هي في نفس الوقت صورة شعريّة عالية الجمال و عبارة علميّة بما هي عنوان لقانون في علم المناخ حول شروط نشأة و تطوّر الأعاصير المداريّة العنيفة .
و الشعريّة بهدا المعنى هي خطاب القول الجامع للمعرفة في عصور سيادة الأساطير , و هي في نفس الوقت أفق تتدرّج نحوه أشكال الخطاب المتخصصة و المختلفة حاليا لتجتمع في تناغم مستقبلي خلاّق , و قد استفادت من المكاسب الجماليّة و المعرفيّة التي حققتها الانسانيّة خلال تطورها التاريخي . و هو مطلب يحاكي بشكل ما ما قدّمه كارل ماركس عن تصوّره للشيوعيّة بما هي استعادة للمشاعيّة البدائيّة مضاف إليها ما راكمته الانسانيّة من إيجابيات التقدم كالانتظام الذاتي و الإدارة المثمرة للطبيعة و توسيع نطاق الحريّة و المتعة و الابداع ...
*
*
تقول المصادر التاريخية :"إن من نجوا من طوفان نوح وجدوا في بابل ملجئا وملاذا لهم. "
كانت تجمعهم لغة واحدة ، ومعا بسلام يعيشون . لكن تخوف الملك النمرود من أن يتفرق قومه ، ويتوزعون في مناكب الأرض تنفيذا لأوامر الرب في تكثير النسل وتعميرها.
عليه قرر الملك النمرود بناء برج عظيم يعانق السماء ، وعلى قمته يًبنى معبد ليكون المؤمنون قريبين من الله. في الروايات الإنجيلية : ذكرت أن البرج كان آية في الإعجاز ، و أن الربّ اضطر أن ينزل إلى الأرض ليرى البنّاءون ماذا يصنعون. وعندما أدرك تخوف الملك النمرود ، أرسل ريحا مدمّرة ، أطاحت بالبرج ، وحولته إلى أنقاض بلمح البصر.
وأما في المصادر ألتوراتية ذكرت أن أغلب من شيد البرج ،قبل أن ينفيهم الرب إلى مكان ناء من الأرض ،قد مسخهم إلى مخلوقات شيطانية ، عقابا على عصيانهم لأوامره.
في العصور التي تلتها ، أصبحت حادثة "برج بابل" رمزا لخطيئة الإنسان وتطاوله على مشيئة الخالق.
20. وفي دراستك الأدبية " منتهى الشعر ,ابتداء القصيدة / و دلالتها المركزيّة هي " أنوثة العالم " تتعلق بالأساطير البابليّة و خصوصا فيما يتعلق منها ببرج بابل ، عن ماذا ستتطرقون ، هل عمن تولى إدارة الاختلاف فيه؟
الجواب:
الدراسة التي هي بصدد الانجاز , مقاربة تاويليّة ـ نقديّة لثلاث مدوّنات شعريّة تونسيّة و هي على التوالي : " ديلانو شقيق الورد " و هي قصيدة مطوّلة للمفكر الحرّ الشاعر والفيلسوف , سليم دوله / و المجموعة الشعريّة " كيف عرفت الطريق إليّ " للشاعر صلاح الدين الحمادي / و المجموعة الشعريّّة التي هي في طور الطبع " خدود الصبّار " للشاعرة عنان العكروتي . و ما يجمع بين هؤلاء الشعراء هو ما يكتبونه من نصوص مختلفة بدرجات متفاوتة عن المشهد الشعريّ المهيمن , و عن خطاب المديح ا, الهجاء المتهافت للثورة أو للثورة المضادّة , أو هو من الناحية الأدبيّة و الجماليّة تكرارا لقوالب مألوفة .
و بدءا , سأتطرّق لرهان دلالة العنوان الجامع لدراسة هذه المدوّنات , ثم أتخلّص لبعض التوضيح حول الدلالة المركزيّة المذكورة في نص السؤال و هي : " أنوثة العالم " بالتركيز على علاقتها بالأسطورة البابليّة .
امّا عنوان الدراسة فهو " منتهى الشعر ...ابتداء القصيدة " , الذي أردناه مدخلا للتقصّي بالالتباس و الاحراج , أي بوضع سلطان الشعر المستحكم , محلّ خلخلة و تقويض لفائدة تمرّد القصيدة و تتويجها . دلك أنّ عبارة " منتهى الشعر " تعني في الآن نفسه بلوغ الشعر أقصى ما يمكن أن يبلغ من القوّة و السلطان على مملكة القول الابداعيّ , بما جعله يحقق كلّ غاياته و أهدافه إلا دلك الحد الذي سيجعله يصل قريبا الى نهايته ليتحوّل من بعد خلاّق إلى عنصر كبح , ليكون بذلك المنحى هو الغاية القصوى و في نفس الوقت الاحتضار و الاشراف على الموت .
أما القصيدة , هي التي تمّ السعي إلى إقصائها و وأدها و العمل على طمسها منذ انتهاء الزمن ألأسطوري لتركن في جمود التعاليم المحفوظة و النصوص المقدّسة , فإنّها قد أبدت مع ذلك قدرة عجيبة على تعهّد بقاءها لتعود مجددا للظهور و منافسة " السيّد الشعر " في عقر داره ( البحور الشعريّة ) . و قد حدث ذلك بالتحديد في ساحة " الأرض الوسطى "
La Mésopotamie بلاد الرافدين / ألعراق ز ذلك سنة 1947 , و على يد امرأة هي نازك الملائكة , و في قصيدة كاملة التأنيث , قصيدة التفعيلة , و بعنوان مزعج مربك هو : " الكوليرا . هذا الشكل الجديد للقول الابداعي و نرى أنه فتح الطريق الملكيّة لحريّة الكلمة الشعريّة على حساب "ذكورة الشعر العموديّ ", و مهّدت الطريق لأشكال جديدة من الخطابات الشعريّة كقصيدة النثر و النثر الشعريّ , و غيره من ضروب الكتابة الفنيّة كشعريّة الرواية , التي لا تكفّ حاليا عن النموّ و التوسّع خارج حدود الأجناس الأدبيّة و قيودها .
أما بالنسبة لعبارة " أنوثة العالم " , بما هي دلالة مركزيّة للمقاربة و في علاقة استعاريّة مع أسطورة " برج بابل " , فالمسألة نحسبها ضمن ما بدأ التأسيس له في إطار تطور خطاب النقد الأدبي العربي من نهج نقديّ متجاوز لمدارس النقد المتداولة و السائدة , و الذي يمكن أن نطلق عليه مؤقّتا تسمية " قراءة ممكنة " . و هو يدخل نطريّا في إطار ما أصبح يعرف على الصعيد العالمي بـ " النموذج التأويليّ " أو التأويل بالنموذج .
و النموذج التأويلي في سياقنا هذا لا يقتصر على الأسطورة البابليّة / برج بابل , بل هو يتناولها في تقاطع مع سجلات أسطوريّة أخرى , بغاية الإحاطة بأقصى قدر ممكن بمحتوى المتن الشعريّ, و بالتالي تجنّب النزعة الانتقائيّة ـ الاختزاليّة التي تعتمدها المناهج النقديّة الأخرى . و تتمثل السجلات أو المسارات الاسطوريّة الأخرى في: الحكايات / الخرافات الطوطميّة الافريقيّة التي يسمّها مرسيا إلياد بـ " الأسرار العجيبة للمرأة " و ذلك في كتابة " أساطير , أحلام و أسرار " , و الأساطير المعلّقة بالمتاهة الإغريقيّة بم أسطورة " برج بابل . و تندرج هذه السجلات بالتقاطع و الافتراق في سياق مشترك جامع و هو الانتقال من عهد الأمومة و سيادة الأنثى إلى حدوث سلسلة الانقلابات ( الزراعة و الحدادة, الحرب و السلطة, التاريخ و الفلسفة ) التي أفضت في النهاية إلى فرض سلطان الذكورة المتّصل إلى حدّ الآن . و أنّ الأنوثة ظلّت تقاوم على الهامش و في التفاصيل إلى أن طهرت نذر عودتها مع انتفاضة القصيدة.
و بالتخصيص على برج بابل , فإننا نجد في شذرات الروايات و الأساطير التي مهّدت لهذا السؤال , بعض عناصر الإجابة و باعتبارها أدلّة على الصراع الذي ذكرنا مثل : " مسخهم مخلوقات شيطانيّة برج بابل رمزا لخطيئة الانسان " , و هو ما يدعو بكثير من البداهة إلى استحضار صورة " بندورا " جرّة الشرور , أو الصورة الشيطانيّة لحوّاء و بالتالي للخطيئة الأصليّة و الخروج من جنّة الخلد , بسبب استسلام ذكورة آدم إلى وسوسة الشيطان التي انتقلت له عبر الغواية الأنثويّة . لنجد في المقابل و في نفس سياق الرواية : " إدراك الرب لتخوّف الملك من البرج فأرسل ريحا أطاحت به ..." و هو ما يعني بشيء من عنف التأويل , كما يرى الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا ", تحقق التحالف الذكوريّ بين الربّ / أحد آلهة السماء و الفرقة القويّة من المحاربين الرجال بزعامة الملك النمرود , لإتيان فعل النسف العنيف و الخاطف في سرعته لآخر معاقل الإعلاء من شأن المرأة كما سنرى .
فبرج بابل بحسب ما تتقاطع فيه أغلب الأساطير حوله هو أقرب نقطة إلى السماء و باعتباره موجود في الأرض الوسطى , و هو كذلك الدليل القاطع على قدرة الذكاء البشريّ ـ الأرضيّ على إتيان المعجزات بدون تدخّل خارجيّ : " أنّ البرج كان آية في الإعجاز ..." . هو إذن الانجاز المطاول للسماء , و الأهم من ذلك كلّه أنّه الانجاز الهندسيّ الوحيد أي المشيّد بدقّة فائقة , الذي نجح في تنظيم تعايش أقوام مختلفة اللغات و اللهجات و توحيدها حول لغة واحدة مشتركة و الارتقاء بها إلى أعلى الدرجات ( إقرأ حرفيّا مدارج البرج ) و ذلك في حالة نادرة من التجانس و التناغم و بالصعود إلى الأعلى حيث توجد " فتاة بكر, و رائعة الجمال ..." , هي الأنوثة المثلى : المرأة و اللغة الرمزيّة المقدّسة في نفس الوقت. و هي في طقوس البرج النقطة التي تلتقي فيها السماء بالأرض , في مشهد لنزول الرب من الأعلى يقابله صعود للبشر من الأسفل و و في موقع و لحظة من التحقق و التكامل . و لذلك كان العقاب الذكوريّ ثبورا بالنسف الكليّ و العودة الى التشتيت و الفرقة و المسخ . لاحظ في المقتطفات الواردة في النص تخوّف النمرود من الافتراق باعتباره خطرا على جماعته في البداية " تخوّف الملك النمرود أن يفترق قومه ..." لينتقل إلى اعتماد التحالف السماوي ـ الأرضيّ الذكوري , التشتيت كمنقذ من الوضع الجديد المهدد لسلطانه , بما هو أمثل شكل من أشكال العقاب : " أن ينفيهم الرب إلى مكان ناء ..." ؟؟؟
و يرى جاك دريدا أن ما يقع نشره و الترويج له حول دلالة " البلبلة " بمعنى فوضى الألسن و الاضطراب الاجتماعي و السياسي التي التصقت ببرج بابل , ما هي إلاّ مغالطة إيديولوجيّة راجت عبر العصور للتعمية على التجربة الفريدة في تاريخ الأساطير التي بيّنت قدرة الانسان على تشييد صرح معماريّ ـ اجتماعيّ و سياسيّ قادر على إدارة الاختلاف و الارتقاء به إلى المصاف الأسمى , في ملكوت مداره " الأنوثة الرّائعة " ؟؟؟
و قد كتب" إيمّانويل ليفيناس" في الغرض ما ياي : " بابل التي تنفتح على السماء , هي دعوة لاستضافة الآخر و انفتاح عليه . الآخر ذلك المختلف جذريّا عنّي و هو يتحوّل الى طريق للتّوجّه إلى كل آخر ..." .
انتظرونا والمفكر التونسي ، اليساري الأديب نور الدين الخبثاني عند رواق الأدب والثقافة وسؤالنا "
20.أ. عند كتابة القصيدة هل تختبئ بين ثناياها لتجسد ذروة التمرد ؟
20. ب. وكمفكر سياسي هل ستنقل من خلالها مايحدث من ترهلات فكرية ومأسي إنسانية ؟ "- الحلقة العاشرة.
#فاطمة_الفلاحي (هاشتاغ)
Fatima_Alfalahi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟