|
أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثالث
محمد جمال
الحوار المتمدن-العدد: 4422 - 2014 / 4 / 12 - 04:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
• العناصر المصرية في اسطورة الفيضان العبرانية :
تحدثت في الجزء السابق عن المصادر الرافدية لأساطير الفيضان الإبراهيمية، و عرضت فيه لأهم قصص الفيضان التي وصلتنا من بلاد الرافدين و حاولت بقدر الإمكان أن اظهر المتشابهات بين النصوص الرافدية القديمة و النص العبري الأحدث عهدا، و لكن و علي الرغم من تأثر الكتبة العبرانيين الواضح بالمصادر الرافدية، إلا انهم ايضا تأثروا بمصادر مصرية قديمة ظهرت واضحة في أكثر من موضع في العهد اليهودي القديم، و لا عجب في ذلك حيث أن تاريخ العبرانين و مملكتهم المزعومة قد نشأوا علي اراضي ظلت تحت السيطرة المصرية ردحا من الزمان، لهذا فقد كان من الطبيعي أن تترسب العديد من مظاهر الحضارة و الثقافة المصرية القديمة في عادات و تقاليد و ديانات سكان هذه المناطق الذين اثروا بدورهم علي ديانة العبرانيين الوافدين علي ارضهم. علي الرغم من إجماع علماء الميثولوجيا المقارنة علي الأصل السومري-البابلي لقصة الطوفان و ذلك لما يوجد بينهم من تشابه قد يصل لحد التطابق في بعض النقاط –و هو اجماع صحيح كما اوضحت في الجزء السابق- و لكن توجد العديد من العناصر التي ربما استقاها الكتبة العبرانيين من الفكر المصري القديم، و هذه العناصر أقل في الأهمية و الوضوح من العناصر الرافدية، إلا انها تدل علي حضور الفكر المصري في عقول الكتبة التوراتيين في فترة كتابة اسفار التناخ (العهد القديم)، و في السطور التالية سأحاول أن اذكر بعضاً من هذه العناصر.
1. فكرة تدمير الأله للبشر و تكوين الناجيين للشعوب المختلفة :
لم تحتوي الحضارة المصرية القديمة علي قصة للطوفان مثل حضارات الرافدين و غيرها من الحضارات الأخري، و لكنها احتوت علي قصة تشبه في خطوطها الأساسية قصة الفيضان، و هذه القصة يطلق عليها علماء المصريات اسم "دمار البشر The Destruction of Mankind" و ربما تكون اثرت بعض عناصر هذه القصة علي الكتبة التوراتيين فقاموا بملاْ بعض فراغات القصص الرافدية بواسطتها.
ذكرت هذه القصة ضمن نصوص أحد الكتب الدينية المصرية القديمة و هو كتاب "البقرة السماوية" الذي وصل إلينا عن طريق أكثر من مصدر اهمهم جدران مقابر سيتي الأول و رمسيس الثاني و الثالث و السادس بوادي الملوك - ينتموا جميعا إلي عصر الدولة الحديثة (1570-1070ق.م) - كما صورت ايضا بعض نصوصه علي الناووس الخشبي الخارجي للملك توت عنخ أمون و المحفوظ حاليا في المتحف المصري، و لكن اقدم أشارة لقصة دمار البشرية ذكرت في تعاليم "ميري كا رع" و التي ترجع لأواخر عصر الأنتقال الاول (2181-2040 ق.م) و لهذا فأنه يحتمل ان تكون القصة لها اصول تعود إلي فترة اكثر قدما، و لكن افتراض أن القصة المصرية اسبق من السومرية و البابلية أمر لا يمكن حسمه في ظل غياب نصوص تعود إلي فترة أقدم من النص السومري.
تحكي القصة أنه بعد أن خلق الأله رع البشر قام بتنصيب نفسه كملك علي ارض مصر يحكم الألهة و البشر علي حد السواء و لكن قام مجموعة من البشر بالتأمر عليه و كفروا به و عصوه مستغلين كبر سنه، فحزن رع من سلوك البشر ضده و هم الذين خلقهم من دمع عيناه، فقام بأستشارة الألهة في ما يجب عليه فعله، فأشار عليه شيخ الألهة "نون" (الذي يمثل المحيط الأزلي الذي ظهر منه كل شيئ) بألا يواجه العصاة بنفسه خشية من تدمير الأرض كلها بقواه الخارقة و أن يرسل احدي عينيه لتدمير العصاة، و فعلا قام رع بخلع احدي عينيه التي تمثلت في شكل البقرة السماوية (حتحور/تفنوت/سخمت، اختلفت الروايات في تسميتهم) التي قامت بالفتك بالعصاة و شربت من دمائهم، و لكن نشوتها للدم جعلتها غير قادرة علي التوقف و اخذت تقتل الأبرياء و العصاة معا بدون تمييز إلي درجة انها كادت أن تفني البشر، فأمر رع بأحضار 7000 جرة من الجعة، كما أمر بأحضار مسحوق أحمر من أسوان (ربما يكون أكسيد الحديد) و قام بخلط المسحوق الأحمر بالجعة ثم أمر اتباعه بأراقة السائل في الحقول القريبة من مكان تواجد حتحور، فأرتفع السائل نحو قبضة يد و عندما رأته حتحور حسبته دم مسفوك فأخذت في الشرب إلي أن ثملت و تراخت عن قتل البشر، و تذكر مصادر اخري للأسطورة أن الناجيين قد خافوا من بطش رع بهم و هربوا من ارض مصر متجهين بعضهم نحو الجنوب مكونين الجنس النوبي و بعضهم نحو الغرب مكونين اسلاف الليبيين و بعضهم نحو الشرق مكونين اسلاف البدو و البعض الأخر نحو الشمال مكونين أسلاف الأسيويين.
هذه القصة قد لا تبدو متطابقة تماما مع قصص الطوفان بشكل عام و الطوفان التوراتي بشكل خاص، و لكن يوجد عديد من النقاط المتشابهة بين القصتين، منهم : أ- بعد أن خلق الأله البشر قاموا بعصيانه و التمرد ضده، مما دفع الأله إلي تدمير ما صنعه بيده. ب- حرص الأله في كلا من القصتين علي أن يحافظ علي جزء من البشر لأعادة تعمير الأرض بعد تدميرها لذلك فقد أمر الأله أنكي أوتنباشتيم بأن يبني السفينة التي ستكون طريقه للتغلب علي وسيلة الدمار في القصة البابلية و هي نفس الطريقة التي تغلب بها نوح علي وسيلة الدمار ايضا في القصة التوراتية بينما كانت الخديعة هي طريقة الأله المصري للتغلب علي وسيلة الدمار. ت- قام الناجيين بتعميير الأرض خارج مصر بعد الكارثة، فمثلما قام ابناء نوح بتعمير الأرض بذريتهم كذلك قام الناجيين من بطش حتحور بالهروب و كونت ذريتهم الأجناس المعروفة للمصريين في ذلك الوقت (النوبيين – الأسيويين – البدو – الليبيين).
2. التصور المصري لخلق الكون، نظرية ثامون الأشمونين و تأثيرها علي محرري النص التوراتي :
تسائل المصريون القدماء منذ اقدم عصورهم عن كيف بدأ الكون و كيف خلقت الأرض، و كأجابة عن هذه الأسئلة تصور الكهنة المصريون تصورات مختلفة عن كيفية الخلق و صورة الكون قبله، و قد تأثرت هذه التصورات بالأله الرئيسي للمدينة التي خرجت منها النظرية، فبينما نسب كهنة الأله رع في هليوبوليس بداية فعل الخلق إلي إلههم "رع-أتوم"، نجد أن كهنة مدينة منف قد تصوروا تصور مختلف يقوم فيه إلههم بتاح بالدور الرئيسي في عملية الخلق، في حين إن كهنة "هيرموبوليس ماجنا" (الأشمونين) قد تصوروا شكل اخر للخلق قام به ثماني ألهة، و اخيرا اتي كهنة أمون في طيبة بنظرية جديدة يقوم فيها إلههم أمون بالدور المحوري لعملية الخلق، و هنا لا يهمني سوي نظرية الأشمونين لما فيها من بعض التشابهات مع اسطورة الفيضان التوراتي.
يسمي علماء المصريات هذه النظرية بأسم نظرية ثامون الأشمونين و ذلك نسبة إلي انها ترجع فعل الخلق إلي أربع أزواج من الألهة الذين يمثلون العناصر البدائية المكونة للفوضي التي سبقت خلق الكون، و هذه النظرية صاغها كهنة مدينة الأشمونين (في محافظة المنيا حاليا)، و علي الرغم من أن اقدم النصوص الكاملة التي تشرح تفاصيل هذا التصور لخلق الكون قد وصلتنا من العصر المتأخر و البطلمي، إلا انه من المؤكد أن تاريخ هذه النظرية يعود إلي فترة الدولة القديمة و بالتحديد قبيل عصر الأسرة الخامسة (2498-2345 ق.م) و ذلك لأنه قد وردت اشارات في نصوص الأهرام إلي هذه النظرية، كما أن أقدم ذكر للأسم المصري لمدينة الأشمونين (خمنو) قد وصلنا من عصر الأسرة الخامسة، و بما أن (خمنو) أسم مصري يعني (ثمانية) في إشارة واضحة إلي ثامون الأشمونين فهذا يثبت أن هذه النظرية كانت معروفة في ذلك الوقت.
تقص لنا هذه النظرية كيف كان الكون في البداية قبل عملية الخلق، حيث لم يكن هناك سوي الفوضي و هذه الفوضي تتكون من اربع عناصر (المياه الأزلية أو المحيط الأزلي، و الظلام حيث لم يكن هناك ضوء بعد، و الرياح، و اللانهائية) و لكن قامت هذه العناصر الأربعة بالتمثل في صورة أربع أزواج من الألهة هم (نون و نونت الذين يمثلون الجانب الذكري و الأنثوي للمحيط الأزلي، و حح و حوحيت اللذين يمثلون اللانهائية، و كك و كوكيت الذين يمثلون الظلام، و أمون و أمونت الذين يمثلون القوة الخفية للرياح) و اتجهوا ناحية التل الأزلي الذي ظهر وسط المحيط حيث قاموا فوق هذا التل بخلق زهرة لوتس خرج منها الأله رع في صورة طفل، و قام رع بعد بلوغه بخلق الكون، و هذه العملية بأكملها ترمز إلي اخراج النظام من الفوضي فالخلق ما هو إلا النظام الذي اتي من الفوضي التي كانت موجودة قبل الخلق.
نجد هنا بعض التشابهات مع اسطورة الفيضان التوراتية: أ- رمزية النظام من الفوضي التي تقدمها لنا القصة المصرية تتشابه مع رمزية قصة الفيضان، فمثلما قام الثامون (ممثل الفوضي) بخلق رع (ممثل النظام) قام ايضا نوح و اولاده و هم الناجيين من العالم العاصي القديم الذي يساوي الفوضي بأنشاء البشر الجدد الذين يمكن ان نشبههم بالنظام الذي خلقه رع في الأسطورة المصرية. ب- الأساطير البابلية و السومرية التي تحدثت عن الطوفان لم تحدد عدد معين للبشر الذين استقلوا السفينة علي عكس القصة التوراتية التي ذكرت أن ركاب السفينة من البشر كانو ثمانية (نوح و زوجته و اولاده سام و حام و يافث و زوجاتهم) "13 في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك" (تك 7 : 13) و هذا نفس عدد ألهة الثامون التي ظهرت علي المحيط الأزلي و ابحرت ناحية التل الأزلي الذي وقف عليه الألهة الثمانية اثناء عملية خلق رع، و لا يخفي علي أحد التشابه بين منظر الألهة الثمانية و هم مبحرين ناحية الأرض الوحيدة التي ظهرت من المياه اللانهائية مع منظر نوح و اسرته و هم مبحرين ناحية أعلي قمة في جبال آرارات الذي استقرت عليه السفينة حسب القصة التوراتية. ت- نستشف من احدي جمل الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين بأن الناجين من الفيضان قد هبطوا في أماكن مختلفة بعيدة عن بعضها "2 وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك" (تك 11: 2)، و نستشف ايضا من هذه الجملة ان بعض الناجين او كلهم كانوا في مكان ما شرق بابل ثم تحركوا غربا في اتجاه بابل، و في مكانا ما من سهل شنعار الذي يحيط بمدينة بابل، حاولوا بناء برج بابل الذي جلب عليهم غضب الرب، و بما أن جبال آرارات تقع إلي الشمال الغربي من بابل، لذلك فقد كان يجب علي الناجين من الطوفان أن يتجهوا إلي الجنوب الشرقي و ليس الغرب ليصلوا إلي شنعار، فعلي افتراض وجودك في منطقة جبال آرارات لا يمكنك أن تتجه إلي شنعار بسفرك ناحية الغرب بل يجب السفر في اتجاه الجنوب الشرقي. و لكن قدوم المسافرين من ناحية الشرق ربما يكون دلالة علي تأثير أخر لنظرية خلق الأشمونين، ففي القصة المصرية قام الأله الخالق رع بالظهور أول الأمر كطفل صغير يطفو علي زهرة اللوتس، و عندما بلغ بدأ بعملية الخلق، و هذا يعني أن رع قد تحرك بأتجاه الغرب علي زهرة اللوتس لأن رع هو الشمس وولادته بالشروق و يتقدم في السن أثناء تحركه في السماء حتي يغرب أي يموت ثم يولد مرة أخري في اليوم التالي و هكذا. ث- في النهاية أود أن ألفت النظر إلي التشابه في البنية اللفظية بين أسمي الأله المصري "نون" و الذي يكتب احيانا "نو" و بين أسم بطل قصة الطوفان التوراتي "نوح" و من الممكن ان يكون هذا التشابه بين الأسمان ليس من قبيل المصادفة خاصة إذا علمنا أن أسم نوح أسم لا مصدر له في العبرية.
3. التقويم المصري و تأثيره علي الفترة التي استمرها الفيضان :
أحتوي سفر التكوين علي روايتين مختلفتين للفترة التي استغرقها الفيضان التوراتي، وذلك راجع إلي أن محرر السفر استقي معلوماته من مصدرين مختلفين أولهم هو ما يطلق عليه خبراء الكتاب المقدس اسم "المصدر اليهودي" و يشيروا إليه بالرمز "J" و هي اول حرف من كلمة "Jehovah" و المصدر الأخر يطلق عليه اسم "المصدر الكهنوتي" و يشار اليه بالرمز "P" و هو الحرف الأول من كلمة "Priestly" فبينما تقول الجملة الرابعة من الأصحاح السابع أن الفيضان قد استمر 40 يوما "4 لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته" (تك 7 : 4) نجد أن الجملة الرابعة و العشرون من نفس الأصحاح تعطي فترة مائة و خمسون يوما للفيضان "24 وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوما" (تك 7 : 24)
بالنسبة لفترة الأربعين يوما الناتجة عن المصدر اليهودي، فنجدها تكررت اكثر من مرة في الأصحاح السابع و الثامن بأشكال متعددة، فإلي جانب (تك 7 : 4) التي ذكرناها نجد ايضا الجملة الثانية عشر من نفس الأصحاح التي تذكر أن فترة المطر فقط هي التي استغرقت اربعون يوما "12 وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة" (تك 7 : 12)، ثم يكرر المحرر نفس الفترة في الجملة 17 و لكنه هنا يعود فيذكر أن مدة الطوفان بالكامل كانت 40 يوما "17 وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض" (تك 7 : 17) و تذكر الجملة السادسة من الأصحاح الثامن أنه أرسل غراب بعد اربعين يوما ليتأكد اذا جفت الأرض ام لا "6 وحدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها7 وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض" (تك 8 : 6- 7) و علي الرغم من شيوع احتمال ان الأربعون يوما المقصودة هي مجرد تكرار لفترة واحدة في اكثر من جملة إلا أنه من المحتمل أن يكون المحرر التوراتي قد قصد ثلاث فترات مختلفة كل منها تمتد لأربعون يوما (مدة انهمار المطر + المدة التي استمرها الفيضان بعد انتهاء المطر + ثم المدة التي انتظرها نوح ليطلق الطيور التي اكدت له ان الفيضان قد انتهي) و إذا صح هذا فأن ناتج هذه المدد يكون 120 يوما و هذه هي المدة التي كان يستغرقها موسم الفيضان المصري، فقد استخدم المصريين القدماء تقويم شمسي يتكون من 365 يوم مقسمة علي 12 شهرا كل شهر ثلاثون يوما بالأضافة إلي شهر نسيئ يتكون من خمس ايام في نهاية السنة، و قد كانت هذه الشهور مقسمة علي ثلاث مواسم كل موسم 120 يوما احدهم و اهمهم كان موسم الفيضان، و ربما كان هذا التقويم معروفا لكاتب المصدر اليهودي J و اثر علي رؤيته لقصة الفيضان البابلي التي مثلت المصدر الرئيسي للقصة.
من مظاهر تأثر كاتب المصدر اليهودي بالفيضان الموسمي المصري ايضا هو ذكره لأرتفاع مياه الفيضان بأنها كانت 15 ذراع (7.5 متر) "20 خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت الجبال" (تك 7 :20) و هذا علي الرغم من انه يذكر في نفس الجملة ان المياه قد غطت الجبال فكيف لسبعة أمتار و نصف أن تغطي الجبال في حين انها ليست كافية لتغطية تل متوسط الأرتفاع !!! و لكن يبدو أن الكاتب التوراتي هنا كان متأثرا بمنظر الفيضان الموسمي المصري الذي كان يغرق اراضي وادي النيل و دلتاه كل عام بأرتفاع بسيط لا يتجاوز الأرتفاع الذي ذكره في هذه الجملة.
ايضا يجب الأنتباه إلي نقطة استخدامه للرقم اربعون بالذات، حيث كان الرقم اربعون من اهم و اقدس الأرقام في الميثولوجيا المصرية القديمة، فتخبرنا قصة أيزيس و أوزوريس الشهيرة أن الأله المحبوب أوزوريس قد قام من الموت بعد اربعون يوما من قتل اخيه الشرير ست له، و من هنا اصبح الرقم اربعون رقم مقدس في ديانة و معتقدات المصريين القدماء، و مازال المصريين إلي اليوم يحتفلون بذكري مرور اربعون يوما علي وفاة الشخص بدون ادراك لمغزي هذا الطقس الحقيقي، ففي الحقيقة هم يحتفلون بذكري قيامة قريبهم الميت و تحوله إلي أوزوريس.
4. الوضع السياسي المصري في عصر الأنتقال الأول و تأثيره المحتمل علي الوضع الذي صوره العهد القديم لأحوال البشر قبيل الفيضان :
وفقا لتقدير اغلب المدافعين عن حرفية الكتاب المقدس فقد حدث الفيضان بين 2348 و 2105 ق.م، و تأريخهم هذا مبني علي اشارات في الكتاب المقدس قادتهم ليضعوا تأريخا للأحداث التوراتية ابتداءا من خلق العالم الذي حدث عام 4004 ق.م وفقا لتقدير جيمس أشر الذي وضع اهم و اشهر تأريخ للأحداث التوراتية، و بما أن النظرة العقلانية و المنطقية لأحداث العهد القديم تقودنا إلي التأكد من ان هذه الاحداث ما هي إلا مجرد أساطير نجد انفسنا نتسائل عن السبب الذي يجعل المحررين التوراتيين يشيروا إلي هذه الفترة الزمنية بالذات كفترة الطوفان ؟؟؟
إذا نظرنا إلي الفترة التي حددها المؤرخين التوراتيين للفيضان نجد انها معاصرة تماما لفترة الأنتقال الأول في مصر القديمة (2300 – 2040 ق.م) و هو عصر من الفوضي و الفساد و الحرب الأهلية ساد مصر بسبب ضعف الحكومة المركزية للأسرة السادسة التي ادي طول حكم أخر ملوكها "بيبي الثاني" إلي تنامي نفوذ الحاشية الملكية الفاسدة الذي ادي بدوره إلي ضعف سيطرة الحكومة علي البلاد و تنامي سلطة حكام الأقاليم، و تصف لنا احدي البرديات و هي بردية "أيبو ور" مدي فداحة الكارثة التي وقعت علي مصر، و هذا جزء مما جاء بها "حقا لقد امتلأت البلاد بالأحزاب و العصابات وأصبح المرء يذهب ليحرث و معه درعه. حقا لقد شحب الوجه، و حامل القوس اصبح مستعدا، و الأشرار منتشرون في كل مكان، و لا يوجد رجل من رجال أمس. حقا أن من ينهبون انتشروا في كل مكان. حقا أن النيل يأتي بالفيضان، و لكن ما من أحد يحرث، لأن كل انسان يقول : "اننا لا نعرف ماذا حدث في البلاد" حقا لقد غدت النساء عاقرات. ليت الناس يفنون فلا يحدث حمل و لا ولادة"
وسط كل هذه الفوضي استطاع حكام إقليم "هيراكلوبوليس" (احدي مدن بني سويف حاليا) أن يصلوا للقوة الكافية التي مكنتهم من منافسة حكام مدينة منف (الأسرات السابعة و الثامنة) و الحقيقة فنحن لا نعرف الكثير عن هذه الأسرات سوي أن الأسرة السابعة قد حكمت مدة قليلة للغاية اقل من 20 عاما ثم تلتها الأسرة الثامنة و التي نعرف عنها القليل ايضا و لكن من المؤكد ان حكام الأسرتان لهم صلة دماء بالأسرة السادسة.
كان المصريين القدماء يعتقدون أن الفرعون ما هو إلا صورة للأله حورس علي الأرض، حورس ذلك الأله الهام في العقيدة المصرية القديمة الذي قام بالأنتقام من عمه الشرير ست الذي قتل ابيه أوزوريس و اغتصب منه حقه الشرعي في حكم مصر، و بعد أن ثأر حورس لأبيه ورث عرش مصر بعد أن فضل أوزوريس أن يتركه له و يحكم عالم الموتي، و قد كان الملوك الفراعنة يحكمون بأسمه كصورة له علي الأرض، و هذا يعني أن اي تحدي لسلطة الفرعون تعتبر تحدي لنظام الطبيعة و شرعية الحكم المحفوظ للملك بالحق الألهي، و قد كان المصريين متحفظين جدا من جهة عاداتهم و تقاليدهم و لا يتقبلوا التغييرات بسهولة، و قد كانت منف مقر السلطة الملكية لمدة تزيد عن 800 سنة عندما تحداها حكام اقليم هيراكلوبوليس علي الحكم، و كان يجب علي حكام هيراكلوبوليس في سعيهم للسلطة اثبات نقطتين احدهما ديني و الأخر سياسي فمن الناحية الدينية كان يجب ان يثبت هؤلاء الحكام انهم هم الممثلين للأله حورس بدلا من حكام منف، إما الجانب السياسي فيتمثل في توفيرهم قاعدة منطقية تثبت ادعئتاهم، و قد كان الحل الأمثل لدمج الحجج الدينية مع السياسية هو تحقيق زواج سياسي من احد اولاد حكام منف مما يعطي الأطفال الناتجين عن هذا الزواج الشرعية الدينية و السياسية اللازمة لحكم مصر و التي يمكن لهم ان يستخدموها بسهولة في تحدي ورثة عرش منف فيما بعد.
نعود مرة اخري إلي سفر التكوين و الذي يضع احداث الفيضان و ما سبقها من فترة الفساد و الشرور إلي فترة معاصرة لعصر الأنتقال الاول، و الذي يصف لنا السبب في رغبة الرب لتدمير البشر كالأتي "5 ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" (تك 6 : 5) و قبل هذه الجملة مباشرة يقدم سفر التكوين لنا عبارة تقديمية عن السبب الذي جعل كل شيئ سيئ و شرير، حيث أن ابناء الرب قد تزوجوا من بنات البشر و قد انجبوا الأطفال لهذا خرجت الذرية فاسدة و شريرة " 1 وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات2 أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا3 فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه، هو بشر. وتكون أيامه مئة وعشرين سنة4 كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (تك 6 : 1- 4).
من هم ابناء الرب و من هم بنات الأنسان ؟؟؟ التفسير التقليدي يقول ان ابناء الله هم نسل "شيث" (الأبن الثالث لأدم و حواء و الجد الأعلي للعبرانيين) و بنات البشر هم نسل "قايين" الذي قتل اخيه و لعنه الرب مما ادي إلي انتاج ذرية اختلط فيها الدم الملعون بالدم المبارك، كما يعتقد البعض أن المقصود بأبناء الرب هم ملائكة ساقطين قاموا بالتزاوج مع بنات البشر، و لكن بما إن الفترة التي قدرها مؤرخي العهد القديم لفترة الفيضان هي فترة معاصرة للأضطرابات السياسية التي شهدها عصر الأنتقال الأول في مصر، فلماذا لا نحاول تفسيرها من منطلق مصري ؟؟؟
ربما يكون المقصود بأبناء الرب هنا هم نسل الفراعنة الشرعيين أو (ابناء حورس) و المقصود ببنات البشر هم ابناء الأسرة الغير شرعية التي تنافس الحكام الشرعيين علي حكم مصر و الذين قامت بناتهم بالزواج من ابناء الأله فكانت النتيجة ذرية مختلطة النسب كانت السبب في اثارة الفوضي و الشرور في انحاء مصر، صحيح أننا لا نملك ادلة مادية أثرية تدعم هذه النظرية و لكن من المؤكد أن اسرة هيراكلوبوليس قد اعتمدت علي سندا ما لتقوية مركزها في التنافس علي العرش، و اعتقد انه من المنطقي أن نستنتج أن هذا السند ما كان إلا ابناء ناتجين عن مصاهرة بين الأسرتين، و إذا صح هذا الأفتراض فربما لا يكون الوضع الموصوف في سفر التكوين من زواج أبناء الأله من ابناء البشر الا انعكاس للوضع السياسي الذي ساد مصر في هذه الفترة و ظل عالقا في عقول قدماء المصريين حتي فترة تحرير اسفار العهد القديم و الهبت خيال الكتبة التوراتيين الذين كانوا يبحثون عن اسباب مقنعة لقصة الطوفان التي اخذوها من البابليين و قرروا تسجيلها في اسفارهم كتذكرة لما يمكن أن يصل اليه غضب الرب إذا انتهكت نواميسه.
• References :
1. Greenberg, Gary (2000) 101 Myths of The Bible-;- How the Ancient Scribes Invented Biblical History, Sourcebooks, Inc
2. H. Wilkinson, Richard (2003) The Complete Gods and Goddesses of Ancient Egypt, Thamas & Hudson, Ltd
3. B. Redford, Donald (2001) The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Oxford University Press
4. A. Clayton, Peter (2001) Chronicle of The Pharaohs, Thamas & Hudson, Ltd
5. Lichtheim, M. (1976) Ancient Egyptian Literature, Volume.2, The New Kingdom,
6. نور الدين، عبد الحليم (2011) الديانة المصرية القديمة، الجزء الثالث، الفكر الديني
#محمد_جمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العاهرة والبرجوازي -قصة قصيرة-
-
أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثاني
-
أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول
-
المجتمع المغربي كبنية تناقضية
-
الأخلاق أم الدين
-
الكُرد والكورد
-
السبيل الى الخروج من فم الثعبان
-
المجتمعات العربية المعاصرة بين إشكالية الإستلاب وأزمة الإغتر
...
-
انا وانت والمساء
المزيد.....
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|