|
فيلسوف وفقيه وإرهابي (3)
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 4419 - 2014 / 4 / 9 - 00:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفقيه الذي قد صنع من كتلة أحجار بلا قيمة خلافاً لذلك ’بيت الله الحرام‘، ومن مجرد قاتل مغتصب خلافاً لذلك ’مجاهداً في سبيل الله‘، هو نفسه الذي قد صنع مؤخراً من ’الانتحار‘ وقتل الآخرين بلا ذنب في هذه الدار الدنيا ’ثواباً‘ عظيماً في الآخرة. إذا كان ثمة مسؤول عن الإرهاب الحديث، هو في المقام الأول وبلا منازع: ’الفقيه‘.
الفقه في الأساس يعني بالجمع والتوفيق بين الأضداد كما هي دون تغيير جوهري داخل نسق مستساغ ومتماسك شكلياً، دون التدخل في صلب هذا التضاد بمحاولة حله أو على الأقل التلطيف من حدته إلى حدود معقولة منطقياً وعملياً. في هذا السياق، تكون الوظيفة الاجتماعية الأساسية التي يضطلع بها الفقيه هي تسكين أعراض التوتر النفسي والوجداني الناشئ عن شروط فيزيقية واجتماعية متغيرة ومتناقضة في أغلب الأحيان من دون محاولة جادة لعلاج مسبباته. هذه في الأصل مهمة حميدة ومشكورة، وهي ذات المهمة التي يشاركه فيها، من بين آخرين، علماء النفس وعلماء الاجتماع والسياسة والثقافة المحدثين. لكن المنهج المتبع من الفقيه في هذا الصدد شديد التباين، ويؤدي حيثما وحينما توفرت الشروط المواتية إلى انفجار المشكلة، ومعها صاحبها، في إرهاب يؤدي بحياته قبل آخرين أبرياء. فإذا كان ’الإرهابي‘ مدان بإزهاق أرواح أناس أبرياء، ’الفقيه‘ هو المدان بلا شك بإزهاق حياة الإرهابي نفسه فضلاً عن هؤلاء الأبرياء. الفقيه هو منظر، مبرر ومشرع الإرهاب بينما الإرهابي مجرد منفذ له، أو ذراع للفقيه.
في أوقات كثيرة تستهويني لعبة تبادل الأدوار ما بين ’عمامة‘ زعيم تنظيم القاعدة المتطرف أيمن الظواهري و’جبة‘ فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب. رغم أصولهما المصرية الواحدة، مثلي أنا أيضاً، قد انتهى المطاف بالأول إلى التطرف الموصوم بالإرهاب، والفرار بحياته ما بين جبال باكستان وأفغانستان أو عبر جحور نائية غير معلومة سوى لحفنة من المقربين. في المقابل، شيخ الأزهر يحظى بمكانة مرموقة محلياً ودولياً باعتباره يمثل الإسلام الوسطي المعتدل كما تجسده مؤسسة الأزهر المصرية العريقة. أسأل نفسي: هل ثمة شيء مشترك بين الرجلين، خلاف كونهما مصريين؟! نعم، هناك أشياء كثيرة، لا شيئاً واحداً فقط، مشتركة بينهما رغم مكانتيهما الرسمية على طرفي النقيض التي تجعل من الأول إرهابياً، والأخير إماماً. مثلاً، كلاهما ’فقيه‘.
إذا كان ثمة أحد قد يشكك في ذلك، عليه أولاً أن يطرح السؤال على الرجلين كل على حدة: هل الكعبة كتلة من الحجر، أو بيت الله الحرام؟ هل من مات مجاهداً في سبيل الله، قتيلاً أو شهيداً؟
بالقطع، في الحالتين، سوف يأتي الجواب كاسراً لحدود الواقع والمنطق المعقول، ليقنع السائل بأسانيد من نصوص وتفاسير وشروح وتأويلات، ومن النقل عن مرجعيات وسلطات عظيمة الشأن في دنيا الفقه الإسلامي، بأن هذا الحجر بالذات ليس كبقية الأحجار، وهذه الميتة بالذات ليست كبقية الأموات! مثل هذا المنهج في التفكير يجسد ’الفقه‘ في أجلى معانيه، وهو ما يجعل من الرجلين معاً فقيهين بامتياز. أما لماذا قد لجأ الظواهري إلى التطرف والعنف بينما فضل الطيب الاعتدال واللين، هذه مسألة وسائلية وليست غائية وتتعلق بالمواقع والأدوار الاجتماعية المختلفة لكلا الرجلين، الفقيهين. في النهاية، سواء كان البركان نشطاً أو خاملاً هو يبقى في جميع أحواله بركاناً، الذي قد ينفجر بالحمم الملتهبة في أي وقت رغم أنه قد يبقى ساكناً ووديعاً على السطح لعقود وقرون طويلة من الزمن. هذا البركان يمثل الفقه، والحمم الملتهبة المقذوفة من جوفه بين حين وآخر مهما طال الزمن هي معادل الإرهاب.
الإرهابي هو في الأساس مجرد شخص مغترب، يعاني من اضطرابات نفسية ووجدانية نتيجة شروط فيزيقية واجتماعية مضطربة؛ وبدل أن يحسن له المجتمع من هذه الشروط- الصحة والمسكن والعمل والرخاء والكرامة والحرية الشخصية والمساواة...الخ- ويوفر له مشافي الصحة البدنية والنفسية والتوافق والتكيف الاجتماعي والأسري والمهني وتحقيق الذات...الخ، يتركه فريسة سهلة لشخصيات ومؤسسات فقهية أكثر من أن تحصى، ومدعومة من الدولة، لتصنع منه في النهاية ’منتج إرهابي‘ صالح للتفجير في أي وكل وقت. الشخص الإرهابي، من هذا المنظور، هو ضحية شروط فيزيقية ومجتمعية غير سوية قبل أن يكون جاني بحق ضحايا آخرين.
مضمون هذا المقال ليس إدانة مباشرة للفقهاء، لا لممثلي الإسلام الوسطي المعتدل ولا حتى لممثلي الإسلام المتطرف العنيف، أو تحميلهم وحدهم المسؤولية عن ظاهرة الإرهاب الحديثة. في الحقيقة، أنا لا أشكك أبداً في حسن النوايا وسلامة المقاصد لدى كلا الفريقين، سواء من المتطرفين الإرهابيين أمثال أيمن الظواهري أو ممثلي الإسلام الوسطي والمعتدل أمثال الشيخ أحمد الطيب. لا شك أن كلا الرجلين يبغي في النهاية ’رفعة‘ وتقدم الإسلام والمسلمين، بإبرائهما مما يعوق ذلك الهدف النبيل من مفاسد ومظالم- حسب مفهوم كلا المدرستين الفقهيتين. وفي الحقيقة، قد تكون مدرسة الظواهري هي الأجهر والأجرأ والأكثر شجاعة في هذا الاتجاه، غير مكبلة بقيود وضوابط غير فقهية كثيرة كالتي يخضع لها الطيب بحكم المنصب الرسمي على الأقل. فإذا كان ثمة مدرسة فقهية أكثر مصداقية واستقامة وأمانة مع نفسها ومع أصول الفقه، هي بلا شك مدرسة الظواهري وليست مؤسسة الأزهر.
النقطة الأساسية هنا هي أن التقويم والتطوير المستمر للثقافة العربية الإسلامية- شاملة أيضاً الدين الذي رغم أهميته لا يشكل فيها سوى رافداً هزيلاً للغاية- هي في الأساس مهمة أكبر بكثير من طاقات وعلوم وأدوات جميع الفقهاء أمثال الظواهري والطيب معاً، حتى لو تجاوزت أعدادهم الملايين. هذه، في الحقيقة، هي وظيفة مؤسسة أخرى مختلفة تماماً وتتبنى منهجية عمل مختلفة تماماً- الفيلسوف، الذي إلى اليوم لم تنتج منه الثقافة العربية الإسلامية أحداً على الإطلاق ولا تزال، رغم استيرادها كل شيء آخر، ترفض بصرامه استيراده من الخارج.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلسوف وفقيه وإرهابي (2)
-
فيلسوف وفقيه وإرهابي (1)
-
العدل الأعمى في اليوتوبيا الإسلامية
-
الإسلام السياسي سكين مسموم في الجسم العربي
-
إسرائيل العدو، الند، إلى الحليف
-
المملكة والله والبترول
-
إصلاح مراوغ تحت عباءة الدين
-
تطور الدين مع الانسان
-
المملكة المحافظة في واقع متغير
-
لماذا انهزمت السعودية أمام إيران
-
هزيمة الجهاد المسلح في سورية
-
الأكثرية والأقلية في ديمقراطية الإسلام السياسي
-
الله الاجتماعي والله الفلسفي
-
حين يمسي اليسار يميناً
-
مقاربة الذيب في تفنيد الدين
-
مُعلق تحت الأرض
-
حين تتحول المساجد إلى سجون
-
ما بين العنصرية العربية والمساواة الديمقراطية
-
الإسلاميون بين التقية والتمكين
-
الحدود انتهاك بشع لكرامة الإنسان
المزيد.....
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
-
محكمة مصرية تؤيد سجن المعارض السياسي أحمد طنطاوي لعام وحظر ت
...
-
اشتباكات مسلحة بنابلس وإصابة فلسطيني برصاص الاحتلال قرب رام
...
-
المقابر الجماعية في سوريا.. تأكيد أميركي على ضمان المساءلة
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|