|
هي ثورات وليست مؤامرات
جمال القرى
الحوار المتمدن-العدد: 4418 - 2014 / 4 / 8 - 08:22
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
لا يمكن قراءة ما يحدث في عالمنا العربي - الشرقي من تغيّرات جذرية وثورات الاّ من خلال المسار التاريخي العام للبشرية، والذي هو مسار تاريخي للضرورة، كما يفسّره هيغل، وهذه الضرورة لا تنوجد الا في علاقتها الجدلية مع الحرية، التي تتشكّل كنتيجة لهذه الضرورة.
اذن، ان تحقيق الحرية هو المبتغى لكل الثورات، وهي ليست الحرية الفردية السلبية فقط، وهي جزئية، انما الحرية العامة المرتبطة ببناء قانوني يحقّق من خلاله الفرد وعيه لذاته وبذاته ليصبح حرّاّ. على ان صعوبات جمّة تعترض هذا المسار وتعوّقه، تبعاً لمستوى تطوّر المجتمعات وتطوّر حريتها. فبالرغم من التمايزات الفردية والخاصة الطابعة للمجتمعات الواقعة تحت تأثير الثورات، فإنها تشترك في ما بينها بمعضلة تاريخية عالقة، هي معضلة المسألة الشرقية من حيث هي أزمة هويّات لا تزال تحفر عميقاً في التاريخ لتحديد ماهيّتها بعيداً عن العقل. فهي تشكّل وحدة جوهرية مع حكّامها، تكون فيه خاضعة لحاكم مستبد يعتبر نفسه الحرّ الوحيد، يفرض عليها قوانين قهرية عبارة عن مسلّمات أخلاقية تنبع منه وتعود اليه، من خلال شكل حكم هو الابوي - البطريركي المؤسَّس عقائديّاً على الدين او ما شابه، مما يمنع تطوّر اي حياة سياسية واجتماعية وثقافية ابداعية فيها. الثورة ليست مؤامرة كما تقول حنّة أرندت، بل هي عملية تقويض هذا الشكل من الحكم وبناء شكل جديد أكثر تطوّراً، يعيد الاعتبار لحريّات الناس ولحيواتها. فهي تندلع بشكلٍ عفوي تعبيراً عن السخط من الواقع بعد أن أوصلتها الانظمة الى حائط مسدود، على ان اسقاط هذه الانظمة لن يصل الى التحرّر ما لم تكن المسألة الاجتماعية أولوية ضرورية لتتحقّق الحرية من خلالها. إذ ان معالجة الفقر والبؤس والجهل والأميّة والمعاناة هي السبيل لعدم حرف الثورة نحو العنف الذي تبتدئه السلطات القائمة وتتوسله، وتجرفها نحو حربٍ يغذّيها ويتداخل فيها الداخل والخارج، ممّا يعيد الواقع الى خارج الميدان السياسي، اي الى حال "الطبيعة". وهذا ما يحدث في اليمن وليبيا، حيث الحرب تدور بين المكوّنات الأهلية في شكلها القبلي. أمّا في سوريا، فقد تحوّلت الثورة حرباً أشدّ وطأة وأكثر توسّعاً وعنفاً وتدميراً وتهجيراً، بفعل التدخّلات الاقليمية والدولية التي جعلت من سوريا ساحة صراع في ما بينها، أي بين محور شرقي تقوده ايران بكل قدراتها وامكاناتها العسكرية والمادية وبالميليشيات المسلّحة التي تدور في فلكها، لإعتبارها ارض سوريا خطّ دفاع أول عن ثورتها الخمينية، وبمساعدة فاعلة من روسيا التي تريد ردّ اعتبارها العالمي واحياء روح امبراطوريتها الآفلة، وبين محور غربي تقوده الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها من دول غربية واقليمية تغذّي مجموعات سلفية مسلّحة، بما يخدم مصالح أمنها الاقتصادي وهيمنتها، وكذلك أمن اسرائيل، وجميعهم غير آبهين بسوريا الوطن والشعب. حدث كل ذلك، للقضاء على الثورة الناجحة التي أثبتت في بداياتها السلميّة القدرة على تحريك الشارع السوري برفعها شعارات اجتماعية مطالبة بالخبز والحرية، بعيداً عن المناطقية والطائفية، وباستخدامها الاسلوب الساخر والمزدري للسلطة القائمة، مستحضرة لذلك كل مخزونها الثقافي والفني للتعبير عن الواقع الذي يُطمح اليه. وبحسب ياسين الحاج صالح الذي تابع عن قرب مسيرة الثورة وساهم فيها، فقد أنشأ الناشطون والثائرون التنسيقيات الأولى التي نظّمت التظاهرات على كل الأراضي السورية، وأطلقت الشعارات ذات المضمون الاجتماعي، كما قامت بمبادرات متنوعة وغطّتها اعلامياً، وتوزّعت في كل المناطق والأحياء، ونسّقت التحركات في ما بينها، كما نشطت لجان التنسيق المحلية ذات التوجّه العلماني، واتحاد تنسيقيات الثورة السورية وهي ذات لون اسلامي محلي خفيف والتي عملت في اطارٍ تحرّري وتغييري... ولكن بعد عسكرة الثورة ومحاولة امتطائها من قِبل بعض الشخصيات، فقد تضاءل عملها الى العمل الإغاثي، وتراجعت شعاراتها الاجتماعية لمصلحة الشعارات السياسية. وبفعل وطأة حرب النظام، وضعف المعارضات وتشتُّتها وارتباط غالبيتها الفاعلة بالمحاور الخارجية، بدأت هذه التنسيقيات بالاحتضار لمصلحة جماعات عسكرية منظمّة او مرتبطة بالائتلاف، ممّا أفقد الثورة ركنها الأساسي الفاعل فيها وحوّل الساحة السورية حرباً اقليمية ودولية مدمّرة. اما في مصر، فقد اتخذت الثورة بعد نجاحها في اسقاط مبارك مسار الثورة المضادة بعد امتشاقها من قِبل حزب الاخوان المسلمين، ثم ما لبثت ان اتخذت مسار الانقلاب العسكري بلبوس مدني ضد سلطة الاخوان التي استحوذوا عليها عبر صناديق الاقتراع. فالاخوان، بعد ان حرّرتهم ثورة الشعب المصري، استحضروا مظلوميتهم التاريخية التي لحقت بهم وبكوادرهم وقياداتهم، واستندوا الى جمهور مؤيّد يعرفهم ويتعاطف معهم كحزبٍ منظّم استطاع كسب اصوات المقترعين. ولكنّه كحزب متمسك بتراث الدولة- الأمّة (الاسلامية)، وصل الى السلطة في نهاية الثورة في ظروف من الفوضى، يتصرّف بها، بحسب حنّة أرندت، كحزب ديكتاتوري يلغي كل من ساهم في انجاح الثورة ويحكم انطلاقاً من قناعاته وبرنامجه الذي لا يلبّي المطالب التي من أجلها قامت الثورة، على غرار ما حصل في مسار الثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الايرانية. اما ثورة استرداد زمام الأمور، فسرعان ما بدّدها العسكر بانقلاب عسكري على سلطة الاخوان وزجّهم في السجون واصدر احكاماً بإعدامهم. امّا في البحرين، فثورة الشعب ضد نظام الحكم تحكمها توازنات تُضبط من حين الى آخر، ولو انها نار تحت رماد. يبقى ان تونس التي منها اندلعت شرارة الثورات، تكاد تكون البلد الوحيد الذي تأخذ فيه الثورة مسارها الصحيح، حيث ان شعبها وناشطيها ومثقفيها ونقاباتها ما زالوا يحتفظون بروح الثورة، وينتقلون من انجاز الى انجاز... انهم يؤسّسون فعلاً كياناً جديداً و دستوراً يعبّر عن تطلّعاتهم، ولعلّ شعبها هو الشعب العربي الوحيد الذي يعي حريته وسبل تحقيقها. التاريخ يمشي، ومسارات الثورات لن تتوقّف ولو خيّبت الآمال، كل مسار سينجز تطوّراً ولو بسيطاً يُبنى عليه في المسار اللاحق. فالشعوب التي دُفنت في أقبية تحت الأرض، ومُنع عنها الماء والهواء والنور والفكر والعلم والإبداع الا بما يسبّح بحمد الحاكم، لن تعود اليها مجدّداّ... هذا مسار التاريخ، وغائيّته الحرية.
#جمال_القرى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاصلاح يُغتال بين المجتمع الأهلي والمدني
-
مهدي عامل محاكياً ابن خلدون
-
بيروت محمد عيتاني...لا تموت
-
القضاء على الدولة
-
الواقع اللبناني- السوري: تشابك واشتباك
-
جورج حاوي: ما احوجنا اليك
-
5 حزيران 2012
-
عن العلمانية والعلمانيين في لبنان
-
مهدي عامل:25 عاماً
-
الغاء حالة الاستثناء العربي بين السوسيولوجيا والمجتمع المدني
-
عن صيغة الديموقراطية التوافقية في النظام اللبناني
-
يمكن للنخب ان ارادت... اعلان بداية ربيعنا
-
قضية ساري حنفي: قضية حريات فكرية، وشرعية حق الاختلاف
-
مفهوم الدولة بين المجتمع المدني والمجتمع الاهلي
-
في 17 شباط ذكرى اغتياله ال25، حسين مروة كرمز ضد الفكر الغيبي
-
قراءة تقويمية ثانية واخيرة لنقاش تشكيل تيار علماني
-
قراءة اولية تقييمية لنقاش تشكيل تيار لبناني علماني وطني
-
قراءة سريعة ومقتضبة في الثورات العربية
-
دعوة لفتح نقاش جدي
-
الفتوحات العربية في روايات المغلوبين
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|