عيبان السامعي
الحوار المتمدن-العدد: 4416 - 2014 / 4 / 6 - 21:48
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
يغدو الحديث عن "الطبقة الوسطى" في الوقت الراهن أمراً مبرراً, بالنظر إلى الأهمية التاريخية والوطنية التي تكتسبها من دورها القيادي كحامل اجتماعي وسياسي للحداثة والمدنية, ومساهمتها في الدفع بعجلة التنمية وإنجاز مهام التحول الديمقراطي.
وقبل الخوض في تبيان وتفصيل ذلك, يحسن بنا أن نلفت الأنظار إلى مسألة جوهرية ستساعدنا في فهم وإجلاء بعض متلازمات تناولتنا هذه؛ إذ يقرر بعض الباحثين الاجتماعيين بأن إحدى أبرز العوائق التي تواجه عملية تحديث المجتمع العربي, ومنه على وجه الخصوص المجتمع اليمني, وتقف حائلاً أمام انتقاله التاريخي إلى رحاب الدولة الحديثة وفضاء المدنية وبلوغه مصافِ الإنتاجية, هي حالة التمفصل والتعايش بين العلاقات الإقطاعية القديمة وتلك العلاقات شبه الرأسمالية الحديثة التي دخلت المجتمعات العربية بفضل الاستعمار, خلافاً للتجارب التي شهدتها البلدان المتقدمة من حالة تناقض حاسم أدت إلى تدمير العلاقات الإنتاجية الإقطاعية القديمة ونشوء طبقة بورجوازية حديثة اتخذت من المدن حواضن مكانية واجتماعية لها في سياق الحراك التاريخي الذي تصدرته وقاد إلى ولوج العالم عصر الحداثة.
ويعزو أولئك الباحثون سبب بقاء واستمرار التعيينات القديمة الآتية من مرحلة ما قبل تشكّل الوطنية (القبائلية, والمذهبية, والطائفية, والسلالية, والجهوية, والمناطقية, ...إلخ) حتى وقتنا الراهن, إلى ما يمكننا أن نسميها حالة "الوفاق التاريخي" بين رموز الإقطاع المحلي ومندوبي الرأسمالية العالمية, التي وفرت فرصة مواتية لتلك الرموز في أن تجد لها سبيلاً آمناً لحماية وجودها الكياني والحفاظ على نظم علاقاتها وقيمها الخاصة, ليس ذلك وحسب, بل استطاعت أن تتكيف مع المتطلبات التي فرضتها المتغيرات العالمية.
والشاهد أن الوفاق التاريخي هذا قد أنتج تراكماً رأسمالياً ذي طبيعة خاصة, أعاق تشكل بنية طبقية واضحة المعالم, لذا يواجه الباحث والمهتم بدراسة البنية الاجتماعية لمجتمعنا صعوبة غير عادية في إعطاء صفة محددة للبنية القائمة, بل يصعب تحديد ملامح هذه البنية واستكناه الحدود الفاصلة التي تفصل بين درجاتها وهوية كلٍ منها.(1)
عزز ذلك فداحة الاختلال البنيوي في نظام الاقتصاد المحلي, حيث تتسيد فيه الطبيعة الريعية والعلاقات الزبائنية والمحسوبية, وأخطر ما فيه أنه ينتج ما صار يدعى "اقتصاد الفساد", حيث يتحول إلى هوية بالنسبة للنظام, بل إنه "مؤسسة" قائمة بذاتها لها قوانينها وقيمها الخاصة, والمفارقة التي تدعو للدهشة أن هذه "المؤسسة" هي "المؤسسة" الوحيدة القائمة في البلد, في الوقت الذي يجري تدمير شامل لمؤسسات الدولة.
إن بقاء النشاط الاقتصادي رهناً لتصرفات التحالف المسيطر المتشكّل من السلطة السياسية وزعماء القبائل والجماعات الطفيلية والنخبة التجارية الكمبرادورية وممثلي الشركات الاحتكارية الأجنبية, يعني فيما يعنيه, بقاء للتخلف واستمرار للحرمان الاجتماعي وتفاقم لتردي معيشة المواطن الفرد والشعب, ويمد بالأكسجين نظام "الاقتصاد السياسي" الناجم عن استحواذ أقلية مهيمنة لا تتجاوز الـ5% من إجمالي السكان على قوة المجتمع (السلطة والثروة), ما يحرم بقية قطاعات الشعب من المشاركة في صناعة القرار السياسي والانتفاع من الثروة الوطنية. (2)
والحاصل أن هذا الاختلال البنيوي الفادح يلقي بظلاله القاتمة على منظومة العلاقات وأسلوب تحديد المواقع الاجتماعية لكلٍ من الفرد والجماعة, إذ لا يتحدد موقعهما الاجتماعي ويكتسبا قيمتهما الاعتبارية ومكانتهما الوجودية في المجتمع ـ كما يفترض ـ من معايير موضوعية مهنية كالجدارة والإنجاز النابعين من تقسيم عادل للعمل, بل على النقيض من ذلك تماماً, حيث يتحدد الموقع الاجتماعي للفرد أو الجماعة الاجتماعية بناء على معايير أولية فاسدة: قرابية أسرية, أو عشائرية, أو قبائلية, أو مذهبية, أو سلالية, أو مصلحية نفعية تعتمد على درجة الاقتراب من دائرة صنع القرار, وعلائقية شخصانية تتوقف على القدرات الذاتية التي يبديها الفرد أو ممثل الجماعة الاجتماعية ومواهبه الفهلوية في نسج وتشبيك علاقات شخصية إخطبوطية مع كبار المسئولين ومشائخ ونافذين.
من هنا, تندلع الأهمية التاريخية والاجتماعية للطبقة الوسطى؛ إذ تلعب أدوراً حاسمة في حياة المجتمع, فهي تسهم بشكل فعال في وضع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في نصابها السليم, لأنها الدينامو المحرك للاقتصاد الوطني ومصدر الاستقرار السياسي والاندماج الاجتماعي؛ إذ تضم فئات وشرائح واسعة, فهي تشمل إلى جوار البورجوازية التجارية, شرائح المهنيين والأكاديميين والأطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين والتقنيين والمثقفين والفنانين والنقابيين والناشطين السياسيين والحقوقيين وصغار ضباط الجيش والموظفين البيروقراطيين, وحتى المنتمين إلى الفئات الكادحة كالعمال والفلاحين والطلبة والحرفيين والجنود؛ وما يجمع هؤلاء أنهم يعتمدون في تأمين سبل عيشهم على جهدهم الذاتي, البدني أو الذهني, فقوة عملهم هي المصدر الوحيد لمداخيلهم.
إن الرهان كله يقع على الطبقة الوسطى في مجاوزة كل التعبيرات ما قبل الوطنية وإرساء مبدأ المواطنة كمعيار وحيد وناظم للعلاقات الاجتماعية والسياسية, فهي مؤهلة لذلك؛ نظراً لخصوصيتها وثقافتها الآتية من بيئة حضرية مدينية, تعمل على صهر كافة الانتماءات الفرعية والأولية في بوتقة الانتماء الوطني الواحد. ولا نحيد عن جادة الصواب, إن قلنا بأن التجسد المادي للشعب, والدولة, والوطن, والمواطن الفرد, والهوية الوطنية الحدثية مرهون بوجود طبقة وسطى عريضة وناضجة, بل إن غيابها أو انحسار دورها ـ لأيّ سبب كان ـ سيؤدي إلى غياب الإحساس بأي رابطة وطنية, وهو ما سيجعل المجتمع مفتتاً, أشبه "بجزر متناثرة", لا يجمعها جامع, وسيفسح المجال واسعاً أمام حضور متزايد لأشكال السلطة الاجتماعية التقليدية كالمشيخيات والوجاهات, وتعزز أكبر للطابع الرعوي في علاقات المجتمع؛ حيث يظل المواطنون مجرد رعايا مسلوبي الحقوق ومستلبي الهوية.
إن خصوصية الطبقة الوسطى جعلت منها الطبقة الأكثر جدارة بين طبقات المجتمع في التصدي للمهام الوطنية الجسيمة وقيادة التحولات الكبيرة, لأن أفرادها أكثر تعلماً وثقافة, فهي تشكل نخبة واعية تمتلك وسائل التأثير الفعال في صفوف الجماهير, ما أهَّلها (بتضعيف الهاء الأولى) أن تتصدر النضال الوطني ضد المستعمر في الجنوب والإمامة في الشمال كما حدث في ستينيات القرن الماضي, وكما هو حادث في الوقت الحاضر, حيث لعبت دوراً مركزياً في الحراك الاجتماعي السياسي الذي شهدته بلادنا منذ انطلاق الحراك السلمي الجنوبي منتصف عام 2007م إلى أن بلغ ذروته بتفجر ثورة الـ11 من فبراير السلمية عام 2011م. ومطلوب اليوم منها أن تلعب الدور نفسه خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها بلادنا, حيث يجري فيها إعداد دستور مدني وقوانين وتشريعات جديدة, ومبلغ ذلك أن تبلور خطاً نضالياً جديداً ومتصاعداً وبمعية فئات الشعب الأخرى, يعتمد أسلوب النضال الشعبي الضاغط من أجل تطبيق مخرجات الحوار الوطني, وضرورة إنتاج دستور معبر عن المصالح الاجتماعية لمختلف قطاعات الشعب اليمني, ومن وحي الوثيقة التي خرج بها الحوار الوطني, وكم سيكون الأمر مجدياً في حال انبراء كل فئة أو جماعة اجتماعية معينة للانتصار لحقوقها الخاصة, فكما يتعين على المرأة اليمنية أن تعبئ كل طاقاتها في هذا الوقت بالذات, وبالتزامن مع فترة عمل اللجنة الدستورية من أجل تثبيت حقوقها الإنسانية في الدستور القادم, كذلك ينطبق الأمر على فئات أخرى كالشباب والنقابيين والناشطين والعمال والمهمشين وسائر المستخدَمين (بفتح الدال), وصولاً إلى قيام تحالف اجتماعي سياسي عريض يضم كل هذه الفئات إلى جانب قوى الحداثة لضمان عدم التحايل على تطبيق مخرجات الحوار الوطني, ومجمل الاتجاهات والمضامين التي جاءت بها وثيقة الحوار الوطني.
ولكي تؤدي الطبقة الوسطى كل هذه الأدوار بفعالية وكفاءة, يتعين عليها أن تتخطى أزمتها الذاتية في المقام الأول, ألا وهي أزمة الوعي بذاتها, بامتلاك الوعي بمصالحها الاجتماعية والقواسم المشتركة التي تجمعها بفئات الشعب, واستيعاب جذور وخلفيات السياسات الاقصائية والإجراءات التعسفية التي نالتها وأضرت بالمصالح الجمعية, وهي تلك السياسات التي اعتمدتها السلطة منذ الثمانينات عبر ما سمي بـ"الانفتاح الاقتصادي" والتكيف الهيكلي وإجراءات الخصخصة, التي أدت إلى نشوء فئات طفيلية تتغذى بواسطة مراكز حضورها وتأثيرها في السلطة (كالمشائخ, وكبار الضباط والقادة العسكريين, وكبار موظفي الدولة) واقتحامهم مجالات النشاط الاقتصادي, خصوصاً في التجارة والتوكيلات والبنوك وقطاع الخدمات والنشاط الاستثماري, لتكوّن لها ثروات خرافية, فضلاً عن مساهمة تلك السياسات في تدمير القطاع العام, وتردي الوضع الاقتصادي, وتزايد انحدار مستوى العيش، واتساع دائرة الفقر، وانتشار البطالة, وتصاعد معدلات الأمية, وتفشي الجهل, واتساع نطاق الأوبئة والأمراض المستعصية.
كما يتعين عليها أن تحاذر علتها المزمنة, إذ في كثير من الأحيان تصبح قاعدة استقطابية لما يسمى "الأغلبية الصامتة", وطبقاً للكاتب والباحث السوسيولوجي الأستاذ القدير قادري أحمد حيدر, فإن الأغلبية الصامتة "هي مجموعة أو كتلة تحاول أن تنأى بنفسها عن الصراعات الحادة وانفعالاتها الصارخة"(3). ولاحظ الباحث أنه قد اتسع حجمها خلال العقدين المنصرمين بفعل سياسات التكيف الهيكلي والخصخصة والإجراءات التصفوية التي لحقت بالاقتصاد الوطني وتخلي الدولة عن التزاماتها الاجتماعية. ورغم أن هذه الكتلة لا تمتلك رؤية أيديولوجية, سياسية محددة, وتتألف من بشر لا يجمعهم إطار تنظيمي معين؛ إلا أنها أكثر حرية واستقلالية نسبية في اتخاذ قراراتها, وتعد الكفة المرجحة في الانتخابات, وتصب ترجيحاتها في صالح الإرادة الشعبية العامة, بل تقف في الغالب مع التقدم, لأنها أقرب ما تكون إلى "الكتلة الثورية/ الوسطية", وهي في حالة حراك وصيرورة أبداً. وتعبر هذه الكتلة عن "أغلبية ثقافية اجتماعية وطنية ديمقراطية صامتة" حيث تتخذ في بعض مراحل الصراع "موقفاً وسطياً أو شبه محايد", إلا أنه مع مجيء الربيع العربي تجاوزت أزمتها, بل "تجاوزت الجميع", وتمكنت في لحظة تاريخية معينة أن تخرج الجميع (أحزاب تقليدية, معارضة, مثقفين, رجال دين, نخب مهنية تكنوقراطية) من حالة الجمود والركود, والصمت, والسلبية, والخنوع, إلى حالة النقد, والرفض, أو الثورة(4).
وفي واقع الأمر إن هذه المجاوزة قد نتجت عن انسداد الأفق الذي وصلت إليه جموع الشعب, بفعل سياسات الإفقار التي استخدمتها سلطة الفساد والاستبداد في إخضاع المجتمع, ظناً من أنها بذلك ستجعل تلك الجموع الجائعة منشغلة بلقمة العيش وتنسى قضيتها الاجتماعية النضالية, لكن خابت تلك الظنون والأماني, فقد جاءت الرياح على عكس ما تشتهي سفن النظام, حيث دفعت تلك السياسات بالطبقة الوسطى إلى الإحساس العميق بمعاناتها, جعلتها تتوحد مع معاناة فئات الشعب الأخرى لتقود انتفاضة ثورية عارمة أتت على نظام النهب الجائر.
إنه في الوقت الذي نشدد فيه على استمرار الطبقة الوسطى في تحمل أعباء النضالات الوطنية, نؤكد على ضرورة أن تضع في جدول أولويات برنامجها النضالي تلك القضايا المفصلية (سنحاول في فرص قادمة أن نفرد لكل قضية تناولة خاصة بها) التي ستقود حتماً إلى التحول الكبير, حيث يمكن إيجازها في الآتي:
1. محو الإدعاءات الأسطورية لرموز السلطة السياسية, سواء تلك القائلة بالحاكمية والنيابة عن الله كما نجدها في حركات الإسلام السياسي, أم تلك القائلة بالتفويض الشعبي المطلق كما نلمسها لدى أنظمة الاستبداد والفساد؛ وذلك بتحقيق الديمقراطية التي تجعل من المجال السياسي وممارسة السلطة مجالاً تنافسياً متداولاً ومتاحاً أمام الجميع.
2. إعادة تقويم وتضبيط علاقة المواطن بالدولة من خلال المواطنة, التي تعمل على تحرير الإنسان الفرد من القيود العصبوية وحالة الامتثال للمرجعيات اللاهوتية والتاريخية, والتخلص من الانتماءات الأولية الفاسدة (كالإنتماء الطائفي, أو المذهبي, أو القبائلي, أو المناطقي, أو الجهوي, ...إلخ), وتعيد تعريفه بكونه كائناً إنسانياً ومواطناً حراً يمتلك حقوقاً إنسانية ويقيم علاقة تكافؤية ندية مع أخيه الإنسان, وتجعل المرجعية في فض المنازعات وحل الخلافات للقانون المدني الذي ينبثق من الإرادة العامة الحرة للشعب حصراً.
3. إيجاد نسق آمن لتنظيم العلاقة بين الاهتمام الخاص المتعلق بالضمير الشخصي والمعتقد, وبين الشأن العام بوصفه تعبيراً جمعياً متطوراً لإدارة المصالح المشتركة, عبر التنوير والعلمانية.
4. خلق علاقة بناءة وعادلة بين الاقتصاد والسياسة, بحيث يأمن النشاط الاقتصادي من التدخلات التعسفية لرجال السلطة, في مقابل إيفاء الدولة بإلتزاماتها الاجتماعية وانحيازها لصالح الفقراء وسائر الكادحين, وإسهامها الفعال في تطوير الاقتصاد ورفع الإنتاجية وضمان العدالة الاجتماعية.
===== هوامش:
1. نود الإشارة إلى أن استعمالنا لمصطلح "الطبقة" ـ هناـ لا يعدو عن كونه استعمالاً مجازياً لا أكثر, وذلك لخصوصية مجتمعنا, حيث لا توجد فيه بنية طبقية واضحة, ناهيك عن غياب الوعي الطبقي الذي يعد شرطاً لازماً عند إطلاق صفة الطبقية.
2. مؤخراً أصدر معهد تشاتام هاوس البريطاني تقريراً عن الحالة الاقتصادية اليمنية, كشف جانباً من حالة الاستحواذ هذه, إذ يفيد أن "عشر أسر يمنية تستحوذ على 80% من الاقتصاد بمختلف قطاعاته".
3. أ. قادري أحمد حيدر, الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن, الآفاق للطباعة والنشر, صنعاء, ط1/2012م, ص250.
4. راجع: المصدر ذاته, ص251 وما يليها.
#عيبان_السامعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟