|
ما قبل هيمنة ظاهرة الرأسمال
محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 4417 - 2014 / 4 / 7 - 07:30
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفصل الأول (1) دعونا الأن نتوجه صوب المجتمعات ما قبل عالمنا المعاصر، أى ما قبل سيادة قانون حركة الرأسمال، بغرض التعرف على تاريخ طبيعة النشاط الاقتصادى؛ من أجل التعرف على الظاهرة التى تميز عالمنا المعاصر. عالم الرأسمال. إن المجتمعات قبل ظاهرة هيمنة قانون حركة الرأسمال، على الأقل بألفى سنة، لم تكن مجموعات بشرية هائمة فى وديان سحيقة أو قابعة فى بطون جبال تسكنها الأشباح، إنما كانت حضارات مجيدة، مفعمة بالحياة الاجتماعية بأشكالها كافة، متأججة بالنشاط الإنتاجى على الصعيد المادى والخدمى، المدنى والعسكرى. حضارات عظيمة منتِجة لمعرفة كونية وفنون خالدة وثقافة مبهرة. وما نظن، نحن أبناء القرن الواحد والعشرين، انه من ابتكارتنا على صعيد مفردات الحياة اليومية فى النشاط الاقتصادى، إنما هو على أقل تقدير محض نسخ مطورة من نفس مفردات نشاط الحياة اليومية التى عاشتها أمم قبلنا منذ مئات السنين. ولكن، قبل أن نذهب لتدبر التاريخ، يتعين أن نوضح قصدنا من هذا التدبر، فنحن نهدف، من ضمن ما نهدف، إلى إزالة الضبابية التى تكتنف تصوراتنا عن المجتمعات ما قبل الرأسمالية، لأن الشائع أن ذكر اصطلاح الرأسمالية، أو الرأسمال، أو الرأسمالى يستتبع مجموعة من المفاهيم تشير إلى خصائص عديدة ومتباينة، ومن ثم مشوشة لأنها غير محددة، فقد تشير إلى المنافسة والاقتصاد الحر. وقد تشير إلى نظام كف فيه الإنسان، ولو جزئياً، عن الإنتاج بغرض الاشباع المباشر، وأصبح يُنتج من أجل السوق. وقد تشير إلى ذلك الرجل المغامر أو المخاطر الهادف إلى الربح. وقد تشير إلى سيادة النقود فى المبادلات اليومية. وقد تشير إلى نظام تمتلك فيه طبقة معينة الثروة على حساب باقى طبقات المجتمع التى أنتَجت هى هذه الثروة. وقد تشير إلى روح عصر كل ما فيه صار محلاً للبيع والشراء حتى الأخلاق! وقد تشير إلى حقبة هيمنة الصناعة، أياً كان نوعها وأياً كانت تقنيتها، على الهيكل الاقتصادى. وقد تشير إلى أن النمو الاقتصادى يرتكز على المزاحمة وعلى المبادرة الخاصة، على فن شراء كل شىء بأرخص ثمن وبيعه بأغلى ثمن. وقد تشير إلى كل ذلك، أو بعضه. وربما غيره. ولكن، أياً من هذه السمات أو الخصائص التى تشير إليها المفاهيم المذكورة أعلاه لا يمكن فى الواقع أن نطمئن إلى أنها تميز النظام المعاصر المسمى بالرأسمالية عن غيره من نظم اجتماعية واقتصادية عبر مراحل التاريخ البشرى. لماذا؟ لأننا حين نبحث بعمق وتأمل، كما سنرى، فى آثار ووثائق ومراجع العالم القديم والوسيط، حتى القرن السادس عشر، على الأقل فى: بلاد ما بين النهرين، ومصر القديمة، وفينيقيا، واليونان، وروما، وبيزنطة، والقيروان، وقرطبة، وفاس، سنجد مادة خصبة للغاية نعى من خلالها كيف كانت مجتمعات هذين العالميّن تعرف، ودون التباس، الإنتاج، والتبادل، والتراكم، والفائض، والمضاربة، والربح، والتجارة، والنقود، والصكوك، والسندات، والأسهم، والتمويل، والاعتمادات المصرفية، والأثمان، والثروة، والأسواق، والرأسمال، والتضخم، والاحتكار، والتوريد، والسلع، والفائض، والاستيراد، والتصدير، والحرفيين، والفلاحين، والعمال، والصناع، وتجار الجملة وتجار التجزئة، ورجال المال، وأرباب الأعمال، والصيارفة، والصراع الطبقى، والملكية الفردية، وملكية الدولة، والمصنوعات على اختلاف أنواعها، والصناعات الحربية الثقيلة، والعمل المأجور، والعمل الزائد، والأجور، والمرتبات،...، إلى أخر ظواهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية اليومية فى عالمنا المعاصر. فإذ ما تساءلنا: ما الذى يميز إذاً النشاط الاقتصادى فى عالمنا اليوم؟ أى ما الذى تتميز به الرأسمالية كنمط إنتاج سائد على الصعيد الاجتماعى العالمى؟ وقيل لنا: إن ما يميز الرأسمالية هو سيادة ظاهرة الأثمان، أو أن الإنتاج يتم من أجل السوق، أو أن النشاط الاقتصادى فى الحياة اليومية تهيمن عليه المبادلات النقدية، أو أن ظاهرة بيع العامل لقوة عمله تسيطر على العملية الإنتاجية. أو أن المؤسسات المالية والنقدية والعمليات المصرفية صارت ظاهرة سائدة. فلا بد أن نشك فى صحة هذه الأمور جميعها كمميزات للنظام المعاصر، ويتعين ألا نرتاح على الإطلاق لكونها تمثل إجابات مقنعة. لأن كل هذه الأمور، كما سنرى، مسبوقة تاريخياً، وعرفتها، وبوضوح، المجتمعات السابقة على عالمنا المعاصر. وفى مقدمة هذه الظواهر الرأسمال، بأنواعه الثلاثة، كما سنرى أدناه، عبر تاريخ النشاط الاقتصادى للبشرية. ومن هنا فما نرغب فى التأكيد عليه هو أن الرأسمالية كنظام اقتصادى معاصر لا تنفرد بمظاهرها ومفرداتها. والاقتصاد السياسى كعلم منشغل بالرأسمال، لم يظهر بظهور الرأسمال، وإنما ظهر حينما هيمن الرأسمال بفعل قانون التناقض. والأن، فلنتدبر التاريخ، فلنتدبر كيف سار. (2) فنحن نجد أن القانون البابلى، ابتداء من القرن التاسع عشر قبل الميلاد، قد نظم بدقة ووضوح شديدين: مجموعة من العقود التى تحكم العلاقات القانونية، والاقتصادية، والمالية، والشخصية...، بين أفراد المجتمع من جهة، وبين أفراد المجتمع والدولة من جهة أخرى؛ فنجد تنظيماً رائعاً لكل من البيع، والمقايضة، والكفالة، والقرض، والرهن الحيازى، والرهن العقارى، والضمان، والشركة، والإجارة، والعارية، والإئتمان، والوكالة العادية، والوكالة بالعمولة، وعقود العمل، وهو ما يعنى أمرا فى منتهى الأهمية وهو أننا أمام مجتمع متطور إلى حد كبير على الصعيد الاجتماعى والاقتصادى وتسوده علاقات التبادل، ويتبدى تطوره بصفة خاصة على صعيد علاقات الرأسمال التى استحقت اهتماماً تشريعياً خاصاً ينظم أسعار الفائدة وتوزيع الأرباح بين الشركاء فى عقود الشركات والمضاربات التجارية. وتدل الوثائق على أن المجتمعات السومرية والأشورية قد تجاوزت أيضاً مرحلة المجتمع البدائى واقتصادات المنزل منذ عهود بعيدة، وتطورت من النقود السلعية إلى النقود المعدنية، اى التبادل النقدى، على الأقل منذ الألف الأول قبل الميلاد. ونجد تقنين أشنونا، أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، يحدد فى المادة الأولى والثانية الأثمان النقدية لمجموعة من السلع الضرورية مثل السمن والزيت والصوف والنحاس والملح، وتحدد المادة الثالثة والرابعة أجرة الأشياء مثل السفينة والعربات، كما تتضمن تحديد أجرة الملاح، وأجرة سائق العربة. والمادة الخامسة عشرة تمثل لنا دليلاً قاطعاً على معرفة المجتمعات فى العالم القديم للرأسمال، فقد نصت المادة المذكورة على:"لا يجوز للتاجر أو بائعة الخمرة... أن يتسلم من عبد أو أمة فضة أو حبوباً أو صوفاً أو زيتاً كرأسمال للمتاجرة". وتكرر المادة الواحدة والعشرون استخدام كلمة الرأسمال، فقد نصت:"إذا أقرض رجل رأسمال من الفضة، فسوف يقبض ماله وفائدته بنسبة1/6شيقل وست حبات للشيقل الواحد من الفضة". ويمكننا أن نعرف كيف كان تقسيم العمل المأجور وبصفة خاصة فى مجال النشاط الزراعى، فالمادة السابعة تحدد أجرة الحاصد، والمادة الثامنة تحدد أجرة من يذرو الحنطة أو الشعير. والمادة الحادية عشرة واضحة فى تنظيمها للعمل المأجور، الذى يبيع قوة عمله، إذ نصت على:"ان أجر الأجير لمدة شهر مقداره شاقل من الفضة". وعلى الرغم من أن المادة الرابعة عشرة، للأسف، لم تصل إلينا كاملة، إلا أنه من الممكن أن نفهم منها أنها تعالج أجرة عن عمل بالإنتاج، أو أجرة بالنسبة، إذ نصت المادة على أن:"أجرة... شيقل واحد من الفضة إذا جلب خمسة شيقلات من الفضة، وإذا جلب عشرة شيقلات من الفضة فتكون أجرته شيقلين من الفضة". واهتم قانون حمورابى، بإجارة الخدمة؛ فقد كان يمكن استئجار رجل لزراعة الأرض بأجر سنوى، ويقدم المالك أدوات العمل كالماشية، ومواد العمل كالبذور، فقد نصت المادة 253 على:"إذا استأجر رجل آخر ليشرف على حقوله..". الأمر الذى قد يمثل نموذجاً لبيع قوة العمل الحرة. وبوجه عام نجد لدى حمورابى تنظيماً لأجور بعض الحرفيين مثل البنائين والخياطين والنجارين والبحارين والرعاة، فقد نصت المادة 273 من تقنين حمورابى على:"إذا كان رجل قد استأجر أجيراً فسوف يعطيه 6 "شى" من الفضة يومياً من بداية السنة حتى الشهر الخامس وأما من الشهر السادس حتى نهاية العام فسوف يدفع 5 "شى" من الفضة يومياً". وقد عددت المادة 274 من التقنين بعض أنواع الصناع وأجورهم:"إذا أراد رجل أن يستأجر صانعاً فإنه يدفع إليه يومياً كأجر... من الفضة وكأجر لصانع الطوب 5 تشى من الفضة وكأجر للنساج... شى من الفضة وكأجر لصانع الأختام... شى من الفضة وكأجر لصانع الجلود... شى من الفضة وكأجر لصانع السلال... شى من الفضة وكأجر للبناء... شى من الفضة". والمادة 257 تعالج استئجار رجل لمزارع، والمادة 258 تنظم استئجار راجل لراعى غنم. ويتعين أن نلاحظ أن تقنين حمورابى يفرق بوعى بين البيع والشراء والمقايضة، وبين السلع والأموال(م4) كما يفرق بين أجرة الطبيب البشرى والطبيب البيطرى(م215-225) وطبقة الصناع مذكورة بوضوح، فنقرأ فى المادة188:"إذا أخذ عضو من طبقة الصناع ولداً متبنى وعلمه حرفته فله الحق ألا يرده". ولم يغفل التقنين إجارة الأشياء وحدد أيضاً أثمان استئجارها. وقد ميز قانون حمورابى أيضاً ما بين الأملاك الخاصة وممتلكات الدولة. والمادة 272 تعالج استئجار العربة فقط دون السائق. وتنظم المواد من 269 حتى 271 إستئجار أدوات الإنتاج فى الحقل، إذ يمكن أن يستأجر لرجل ثوراً للدرس والتذرية، أو حماراً، أو نعجة، أو ثيراناً. (3) ونعرف من الكتاب المقدس ، ان إبراهيم، له السلام، اشترى مقبرة بأربع مئة شاقل فضة (تكوين15:24) كما نعرف أن إتمام عملية البيع والشراء بواسطة النقود الموزونة كان سائداً على الأقل فى العهد القديم (تكوين27:37) ونتعرف أيضاً إلى الأوزان التى تستخدم فى تحديد وزن السلع: الجيرة (خروج13:30) والبقع (تكوين 24:12) والوزنة (خروج25:38) والمنا (حزقيال 12:45) وشاقل الملك (صمويل الثانى26:14) وكذلك نقابل مكاييل الحبوب مثل: الحفنة (إشعياء12:40) واللج (لاويين10:14) والفورة (ححى16:2) والحومر (لاويين27:16) والصاع (ملوك الثانى6:25) والهين (خروج29:40) أيضاً نجد قياسات الأطوال: الإصبع (أرميا21:52) والقبضة (استير21:52) والشبر(حزقيال28:16) والذراع (التثنية11:3). ونجد أيضاً العملات المستخدمة فى التعامل اليومى، لكننا، وفقاً للعهد القديم، لم نزل، كما ذكرنا، أمام العملات الموزونة الشاقل (ملوك الأول17:10) والقسيطة (يشوع24:3) والمنا (أيوب16:9) ومع العهد الجديد ننتقل إلى النقود المعدودة: الفلس (مرقس42:12) والدينار (متى2:20) والدرهم (لوقا8:15). ويمكننا، وفقاً لمخطوطات البحر الميت، أن نستكمل صورة ولو تقريبية عن بعض مظاهر النشاط الاقتصادى فى المجتمع آنذاك، وبعض أدواته: فنعى أن المجتمع يعرف ظاهرة الأثمان وأن المعاملات تتم بالفضة كوسيط فى التبادل:"وقد دفع بالفضة الثمن الكامل للأرض" وكذلك نعرف أن الجزاءات المالية كانت تدفع بالفضة: "من يشنع بسمعة عذارء يتم تغريمه مئة شاقل من الفضة". و"الرجل الذى يضاجع فتاة يعطى لوالدها خمسين شاقل من الفضة". كما يعرف المجتمع البيع والشراء النقدى:"ففتح المخازن حيث كان يوجد قمح السنة الأولى وباعه لأهل البلد مقابل الذهب" ويعرف أيضاً التجارة والأرباح:"فى السبت... لا تناقش مسائل الأموال والأرباح" كما أن الأجور كانت ظاهرة معروفة:"أجر يومين على الأقل فى كل شهر، إنما عليهم أن يدفعوه للمفتش وللقضاة". أما بالنسبة للأموال بوجه عام نجد أنها مكروهة كقاعدة عامة:"ويل لكم، أيها الخطأة، لأن ثروتكم كانت تجعلكم تظهرون عادلين، فى حين أن قلبكم كان يقنعكم بالخطيئة". "إن حب المال يقود إلى عبادة الأصنام" ."إذ كان يوجد شخص يكذب فيما يخص الأموال، ويقوم بذلك عن دراية، فإنه يفص عن وسط طهارة الكثيرين مدة عام، وسيعاقب بربع غذائه" (4) وفى مصر القديمة، نجد أن الفرعون يتربع بمفرده على رأس النظام، يليه مباشرة وزيرا الجنوب والشمال، ويأتى بعدهما باقى وظائف الدولة العليا، يلى هؤلاء فى الهرم الوظيفى رجال الصف الثانى فى قطاعات الدولة والأقاليم مع العمد والرؤساء المحليين وهيئات المعابد الصغرى، حتى نصل إلى كاهن القرية. وكان بجوار هؤلاء الموظفين الرسميين من مختلف الدرجات مجموعة كبيرة من الحرفيين المتخصصين فى مختلف المجالات كالفنانين والمثالين والصياغ والزجاجين وصناع الأدوات المعدنية والنجارين والاسكافية والخزافين ممن تحتاج إليهم ظروف المعيشة اليومية. هؤلاء تضاف إليهم فئة الجنود اللازمين للحروب والدفاع. إن هذا النظام الهرمى الراسخ يتعين أن يجد الأساسيات اللازمة لحياته من مأكل ومشرب وملبس...إلخ، ولما كانت مصر القديمة تنحصر ثروتها الرئيسية فى الأرض الزراعية فقد كانت طبقة الفلاحين بنوعيها، مزارعين ورعاة، هى التى تكون القاعدة العريضة التى يستند إليها هذا الهرمية الاجتماعية فى تدبير حياتها اليومية. ويعنى كل ذلك أن الزراعة تمثل النشاط الزراعى السائد، وفى الوقت نفسه يعنى أن عدد لا يستهان به من المصريين لا ينتج طعامه بنفسه، إنما يعتمد على غيره فى سبيل هذا الإنتاج. وبالتبع يجد التبادل السلعى مساحة واسعة جداً كى يفرض وجوده. وتوضح المراسيم الملكية كيف كانت إجارة قوة العمل، فلم يكن كل العمال أرقاء، ولم يكن كل العمال أو الفلاحين عبيداً للدولة أو للفرعون، إنما وجد أيضا العمال الأحرار، فالعمال الزراعيون الأحرار، فى مقابل أجر، كانوا يؤجرون قوة عملهم لصالح رب العمل، سواء كان الدولة أو أحد الملاك العاديين. وتحدثنا بردية يرجع تاريخها إلى نهاية الدولة القديمة (2100 ق.م) عن صور النشاط الاقتصادى المختلفة: إذ نجد الحداد، والفلاح، والصائغ، والنجار، وقاطع الأحجار، والحلاق، ومقتلع البردى، والفخارى، وعامل البناء، والبستانى، وعامل الحقل الأجير، والنساج، والصياد، والوقاد، والاسكافى. ووجود هؤلاء لا يعبر فحسب عن تجاوز المجتمع اقتصاد المنزل، أى الإنتاج بقصد الاشباع المباشر، وإنما أيضاً يشير إلى قوة عمل مأجورة. وسلع وخدمات تُنتج من أجل السوق. كما يشير إلى التخصص وتقسيم العمل. وبوجه عام، يمكننا أن نشاهد فى مصر القديمة حياة يومية لا تختلف روحها وهمومها عن حياتنا المعاصرة، بالتوازى مع مشاهدتنا لشتى انواع الحرف والصناعات المتطورة، والورش الضخمة. وكما نجد تجار الجملة، وتجار التجزئة، والصناع الأحرار، نجد العمال فى كل الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالفرعون أو المعبد أو الأشخاص العاديين. وبغض النظر عن مشكلات العملة، التى لن تتبلور إلا خلال النصف الثانى من الألف الأولى قبل المسيح، فلا شك ولو للحظة أن المجتمع عرف ظاهرة الثمن، ومن ثم التبادل، كما عرف ظاهرة الأجر، وتبلور مختلف الظواهر المرتبطة بالتجارة والمضاربة. (5) أما الفينيقيون فى القرن السادس قبل الميلاد، الذين تميزوا بالتجارة البحرية على نطاق واسع، وبسطوا سلطانهم على بحار العالم القديم، حتى صار البحر الأبيض المتوسط بحيرة فينيقية، من سواحل لبنان حتى إسبانيا، التى استعمروها، فقد كانوا يرتحلون بتجاراتهم من ميناء إلى آخر مستبدلين بجزء من حمولتهم منتجات البلد الذى يبيعون فيه. فإذا نزلوا ببلد أبعد باعوا ما اشتروه، وكانت هذه السفن ترسو عند هذه النقطة أو تلك من نقط الساحل وتبقى بها أياماً أو شهوراً أو سنين حتى تتخفف من حملها، وما كان يزيد الإقبال على تجاراتهم نوع السلع الراقية والثمينة والنادرة التى كانوا يعرضونها، مثل الزجاج الدقيق والحلى والأقمشة وأدوات الترف، فلقد عرف الفينيقيون كيف يطورون قبل كل شىء حرفاً كثيفة الصادرات كصناعة الزجاج والنسيج، أو كفروع تصنيع المعادن المختلفة المصنعة من مواد خام مستوردة رخيصة الثمن. وفهموا كذلك كيف يكيّفون أنفسهم ببراعة مع متطلبات السوق، على غرار ما يفعله عادة مُنتج، هو، فى الوقت نفسه، تاجر. فلم يتخصصوا فى إنتاج سلع نوعية مرتفعة الأثمان وحسب، بل قدموا كذلك عرضاً سلعياً متنوعاً يغطى حاجات عموم الناس. وأنتجوا سلعاً رخيصة يرجح أنها قامت على المحاكاة والتقليد، بيعت إلى جانب أقمشة الأرجوان النفيسة. كما عرفوا كيف يزيدون تصريف منتجاتهم بالبحث المستمر عن أسواق جديدة وفتحها. كما استخدموا خبراء يعملون فى الخارج لإدارة شكل من أشكال الاقتصاد الخارجى لا شك إذاً أننا أمام عدة ظواهر تسترعى انتباه الباحثين فى تاريخ النشاط الاقتصادى. فنحن أمام حركة تصدير واستيراد، وتجارة هدفها الربح وليس تبادل سلع بسلع بغرض الاشباع المباشر، على الأقل من جانب الفينيقيين. كذلك نحن أمام عملات مسكوكة من الذهب أو من الفضة، وسلع مصنّعة، وعلى درجة عالية من الجودة. وسوق، وبائعين ومشترين ووسطاء فى هذا التداول، هم فى الواقع تجار مستثمرون. كما نجد أثمان اتفاقية وأخرى رضائية بين البائعين والمشترين والمشاركين فى النشاط التجارى بوجه عام. ويمدنا سفر حزقيال بمادة ولو أولية تمكنّا من التعرف على كيف كانت حركة التجارة، وأنواع السلع، والأسواق فى "صور" التى كانت أهم المدن الفينيقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط آنذاك، فنعرف، من سفر حزقيال، أن صور كانت من أجمل وأعظم مدن العالم القديم، على الاطلاق، وأن التجارة العالمية التى اتخذت من صور مركزاً كانت تجارة عالمية بالمعنى الحرفى للكلمة، فنجد تجارة واسعة فى المنسوجات والمصنوعات على اختلاف أنواعها من حلى وأوانى وكماليات، نجد أيضاً أفخر أنواع العطور والأخشاب والتوابل والبخور والمعادن والأحجار الكريمة والأدوية والحبوب والأغنام...إلخ، كما نعرف كيف كانت أسواق هذه المدينة العظيمة ملتقى صناع وعمال وتجار وسلع ونقود العالم، وأهم مكان عالمى متحضر لتصدير واستيراد أرقى وأنفس منتجات العالم الشرقى القديم، عبر أساطيل بحرية عملاقة متخصصة فى النقل التجارى الدولى بقيادة الفينيقيين الذين ملكوا البحر المتوسط. (6) وفى بلاد اليونان القديم، فى القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ظهرت عملية سك النقود الفضية. وكادت أثينا أن تحتكر النقد الدولى المتداول بعد أن صارت أكبر مصدر للمسكوكات الفضية فى العالم القديم ونحن نعرف أن صولون قرر تخفيض قيمة العملة حينما قرر إلغاء الرهون العقارية التى تقررت على صغار الفلاحين وعجزوا عن سدادها وكانت الإسكندرية تُنتج للعالم المتحضر كله الورق والكتان والعطور والفخار وبعض أنواع المنسوجات والسلع الزجاجية ونوع خاص من الحلى والمجوهرات والأوانى الفضية التى عم استعمالها فى العالم القديم. أى أن الإنتاج لم يكن بغرض الاشباع المباشر إنما كان من أجل التصدير. من أجل السوق الدولية. وهو ما يفترض منتجين، وغزارة فى الإنتاج، وتخصص وتقسيم للعمل. كما يفترض من باب أولى تنظيم صارم للعملية الإنتاجية ومن ثم التجارية؛ ولقد كان الإغريق تجاراً مهرة، وهم أول من أبتدع نظام قرض المخاطرة الجسيمة، ومؤداه أن رأسمالياً يقرض مالك السفينة ما يحتاج إليه من نقود لتجهيز السفينة وشراء البضائع. فإذا وصلت السفينة إلى بر الأمان استوفى المقرض مبلغ القرض وفائدة مرتفعة قد تصل إلى 20 بالمئة أما إذا غرقت السفينة لم يكن للمقرض أن يطالب مالك السفينة بشىء ويعفى الأخير من رد ما اقترضه. إن السمة التى يعتبرونها حاسمة فى المجتمع الرأسمالى المعاصر والمتعلقة بانفصال الريف عن المدينة ويكتبون الرسائل الجامعية فى دور الرأسمالية فى هذا الفصل، نجد أن هذه الظاهرة بارزة بوضوح فى آثينا ومعبرة تعبيراً دقيقاً عن الطبقية بوصفها نظام اجتماعى راسخ. ونجد أنفسنا مباشرة أمام نفس الإشكالية الفكرية التى سوف يتعرض لها ديفيد ريكاردو بالتحليل فى مطلع القرن التاسع عشر، كفكرة مركزية فى بنائه النظرى، وهى الصراع بين رجال الصناعة الذين يريدون خفض أثمان المنتجات الزراعية ورجال الزراعة الذين يرغبون فى رفع أثمان هذه المنتجات. وعلى الرغم من ارتكاز المجتمع الأثينى على العمل العبودى، كظاهرة سائدة فى العالم القديم بوجه عام، إلا أن العبيد الأرقاء فى اليونان كانوا إلى حد ما أسعد حالاً، فى بعض الفترات التاريخية، فكما كان للرجل الأثينى العادى أن يملك عشرات العبيد يعملون فى منزله أو حقله أو حانوته، كان للعبد، وهذه ملحوظة مهمة، أن يشتغل بالأجرة فى وقت فراغه من عمل سيده ليكسب من المال ما يمكنه من شراء حريته من سيده. وظاهرة الأجر واضحة فى المجتمع الأثينى، على الرغم من هيمنة العمل العبودى على مجمل النشاط الاقتصادى فى المجتمع، فيمكننا أن نجد الأطباء والمثالين والمعلمين يأخذون أجراً مثل البناءين والنجارين والنحاسين والنقاشين والخزافين والنحاتين والخراطين وغيرهم من الحرفيين والصناع الأجراء. أى أن الأجور تدفع لمَن يقدمون الخدمات كما تدفع لمَن ينتجون السلع. عرف المجتمع الآثينى إذاً إجارة الخدمة. وتوجد بردية تعود إلى القرن السادس، محفوظة فى متحف مكتبة الإسكندرية تحت رقم 572، تنص على عقد تدريب على حرفة، وعلى الأجر. ويصبح من المؤكد لدينا، فى ضوء الآثار والوثائق العديدة، أن الجزء الأكبر من الإنتاج لم يكن من أجل الاشباع المباشر، إنما كان يتم من أجل السوق. وطالما كنا فى السوق فيتعين أن نجد مباشرة أمامنا منظومة الظواهر المرتبطة بالسوق من أثمان ونقود ومبادلة وطلب وعرض وتجار تجزئة وبالطبع رأسمال، ورأسمالى يستثمر أمواله. (7) وحينما ننتقل إلى روما فى القرن الأول أو الثانى بعد الميلاد، فسنجد النساجين الأحرار والأرقاء قد جُمعوا فى مصانع صغيرة لا تُنتج للأسواق المحلية وحدها بل تُنتج كذلك بغرض التصدير. وكانت الصناعة فى أيدى صناع مستقلين يشتغل كل منهم فى حانوته الخاص، وكان معظم هؤلاء الصناع من الأحرار، ولكن كان إلى جانبهم، بحكم التكوين الاجتماعى، عدد من المحررين وعدد آخر من الأرقاء. ونلمس بوضوح كيف كان التنافس شديداً بين الصناع الأحرار والصناع الأرقاء وهو الأمر الذى أدى، فى بعض الأحيان، إلى خفض أجور الصناع الأحرار، ومن ثم انخفاض مستوى معيشتهم، وبالتبع تدنى المنتج النهائى نفسه. ويمكننا أن نرى منافسة المؤسسات الصناعية الكبرى التى نشأت ونمت فى بعض الضياع الزراعية الكبرى، لحوانيت المدن ومصانعها، فبعض هذه الملكيات التى يستحوذ عليها الأغنياء، أخذت فى القرن الثانى فى انشاء المصانع وتنظيمها لإنتاج السلع لا بقصد استهلاكها محلياً فى المزرعة، بل من أجل بيعها وتداولها(37). أى أن الإنتاج كان من أجل السوق وليس بغرض الاشباع المباشر. وعلى الصعيد النقدى والمالى كان اصدار العملة المضمونة من أهم مقومات الأعمال المالية فى روما، والتى ستصبح فيما بعد أهم مركز مالى آنذاك، وستصبح عملة روما هى سيدة العملات على الصعيد العالمى، حتى بعد أن صارت عملة التداول العالمية حتى آقاصى آسيا. وكان اقراض المال من أقدم الأعمال، وكان أقل سعر للفائدة لا يقل عن 12%، ومع الوقت أصبح أحد الشوارع المجاورة للسوق العامة حى رجال المصارف، وازدحمت فيه حوانيت المقرضين والصيارفة مبدلى النقود(38)، فقد ظهر على نطاق واسع احتراف أعمال المصارف واقراض الأفراد العاديين الأموال. وكان الائتمان وما يتعلق به من عمليات مصرفية ومالية قد اكتمل تطوره فى مدن الامبراطورية. تساوق كل ذلك بتحول الاقتصاد بشكل نهائى إلى اقتصاد المبادلة النقدية المعممة. وقد تطلب نمو التجارة والصناعة وتزايد عدد ملاك الأراضى الذين يقطنون المدن، مقادير من النقد استمر تزايدها، لإمكان استغلالها فى انماء أى مشروع أو مؤسسة، وفى ادخال وسائل التحسين اللازمة لذلك، ومن ناحية أخرى تكدست فى أيدى كثيرين من رجال المال مقادير كبيرة من النقد؛ ومن ثم أصبح اقراض المال حرفة يزاولها كل من الأغنياء ورجال المصارف العاديون، فانتشرت المصارف الحقيقية فى جميع أرجاء الامبراطورية سواء ما كان منها للأفراد أو للبلديات. وكان المواطنون فى وسعهم أن يقترضوا بضمان الأرض والمحاصيل الزراعية والأوراق المالية، والعقود الحكومية، كما كان فى وسعهم أن يقترضوا لتمويل المشروعات التجارية والرحلات البحرية. وكانت هناك شركات مساهمة أهم ما كانت تقوم به من الأعمال هو تنفيذ العقود الحكومية التى يبرمها الحاكم بعد أن تقدم إليه العطاءات. وكان أصحاب هذه العطاءات يحصلون على المال اللازم لقيامهم بهذه الأعمال ببيع ما لديهم من الأسهم والسندات للجمهور فى صورة أجزاء صغيرة أى أسهم. وكان نظام الضرائب محكماً بفضل التجارب والخبرات المتراكمة من العصر الهيلينيستى، فكانت الضرائب تجبى عن الأرض الواقعة فى نطاق المدينة وعن العقار المقام فيها ثم عن الوارد والصادر، ثم نظير احتراف التجارة وابرام العقود والمعاملات التجارية والانتفاع بالأسواق بدفع أجرة للحوانيت التى تملكها المدينة، وعن مختلف الأملاك الثابتة التابعة للبلدية. وهو الأمر الذى أدى إلى ارتفاع ايرادات المدن وبصفة خاصة المدن الكبيرة، بيد أن جانب كبير من هذه الايرادات كان يذهب إما كأجور لصغار الموظفين وإما كمرتبات للموظفين الأحرار. وكان من الشائع قيام الأغنياء وكبار رجال الأعمال بتحمل نصيب من النفقات العامة للمدينة، وما يمكن التأكيد عليه تاريخياً هو أن القرن الثانى كان عصراً ظهر فيه الأغنياء أو الموسرون وانتشروا فى أرجاء الامبراطورية ولم يكونوا ملاكاً للأراضى على نحو متواضع بل من كبار الشخصيات وأصحاب رءوس الأموال على نطاق واسع، ولم تكن التجارة فقط أهم مصدر لهذه الثروات الطائلة، إنما كان للصناعة أيضاً، فى بلاد الغال بالأخص، الدور المهم فى تكوين هذه الثروات. (8) وإذ ما إنتقلنا إلى الشرق البيزنطى فى القرن السادس، فسنجد أن هذا القرن كان من أعظم عهود تجارة الشرق، فالإمبراطورية كانت عهد انسطانيوس والسنوات الأولى من حكم بيت يوستينوس فى حالة من الرخاء المنتعش، كما أن الطريق من الشرق كان يمتد بين شعوب سادها النظام، وكان الحرير لا يزال يسير براً بصفة رئيسية خلال فارس إلى محطتى المكوس الإمبراطوريتين عند نصبين ودارا. ومن ثم ينقل ليصنع فى القسطنطينية أو فى المصانع الموجودة بصور وبيروت. "وسيطرت بيزنطة على جزائر صقلية وكريت وقبرص وسردينية وجزر البليار وتحكمت فى المضايق ذات القيمة الحربية الهامة الواقعة على طريق التجارة بين الشرق والغرب وصار اشراف القسطنطينية البحرى دقيقاً وكاملاً بفضل قيام أسطولها بدورات تفتيشية على سواحل الأعداء. فالأثمان، كظاهرة، نجدها معروفة بوضوح، كما النقود، حيث نقرأ فى مقدمة الباب الثالث والعشرين من مدونة جوستنيان:"يتم البيع بمجرد الاتفاق على الثمن". وفى الفقرة الأولى:"يجب أن يكون هناك ثمن، فإن البيع لا يتم أبداً بدون ثمن. كما يجب أن يكون الثمن محدد". أما الفقرة الثانية فقد جاء فيها: "يجب أن يكون الثمن من النقود المضروبة". وكان كل شىء محدداً. فلم يكن يجوز تسليف النقود إلا بنسبة محددة من الأرباح. وكانت نسبة الأرباح قبل عهد يوستنيانوس اثنى عشر بالمئة. ولم يكن يوستنيانوس يسمح بنسبة الاثنى عشر بالمئة إلا على الأموال المقترضة للاستثمار فى الأعمال التجارية والبحرية، ولا يجوز لمقرضى الأموال المحترفين وهم الصياغ عادة أن يسلفوا إلا بربح قدره ثمانية بالمئة، فأما الأشخاص العاديون فيسمح لهم بستة بالمئة، على حين لا يسمح لكبار الأثرياء إلا بأربعة بالمئة فقط. وكانت الرقابة التى تمارسها الدولة على التجارة والصناعة تتم عن طريق نظام للنقابات. وكان لكل صناعة نقابتها، ولا يجوز لأى إنسان أن ينتسب إلى نقابتين فى وقت معاً. وكل نقابة تعين رئيسها. وكانت النقابة هى التى تشترى المواد الخام التى تلزم الصناعة وتقسمها بين أعضائها الذين كانوا يبيعون السلع المصنوعة فى مكان عام معين بسعر محدد بديوان الوالى. وكانت ساعات العمل وأجور العمال تقرر بنفس الطريقة. وكان الخبازون والجزارون الذين كان تموين المدينة يعتمد على كفايتهم خاضعين لإشراف دقيق. وكانت أسعار المواد الغذائية يحافظ على انخفاضها قسراً حتى فى أيام المجاعات. وكانت المخابز احتكاراً للدولة. (9) وإذ ما نظرنا إلى شمال أفريقيا فى القرن التاسع سنجد مجتمع متطور فعلاً يسود فيه الإنتاج من أجل السوق، والتبادل، كما تهيمن فيه النقود على مجمل النشاط الاقتصادية. سوف نقابل مجتمع قد غادر منذ فترة تاريخية طويلة جداً الاقتصاد المعاشى، وصار يعتمد على الريف فى غذائه بشكل أساسى، ومن ثم نجد الاتجاه نحو الاستقرار، وأصبحت الحوانيت هى الأماكن الرسمية المخصصة لكى يعرض التاجر بضاعتِه، ومن المحتمل أن يكون هو الذى صنعها باستخدام قوة العمل المأجورة، أو ربما يكون اشتراها ويُعيد بيعها رغبةً فى استرداد نقوده التى دفعها فى سبيل هذا الشراء، بالإضافة إلى ربح محدد، بيد أن القاعدة العامة تظل هى توسط التاجر فى حركة البيع والشراء بلعب دور الوسيط بين المنتِج وبين المستهلك؛ وقد نجد السلع التى يعرضها تخص مُنتِج آخر، كما نرى أيضاً السلع القادمة من المناطق الزراعية للبيع فى المدينة، أى أن هناك ثمة فصل تاريخى ما بين الريف والمدينة. وهو الأمر الذى سوف تعرفه أوروبا بعد ذلك بمئات السنين. كما نلاحظ حركة السلع، أياً ما كانت أشكالها، يُصاحبها ظهور عُمال أُجراء وربما بالمعنى الذى سوف يطرح نفسه أيضاً بعد ذلك بعدة قرون، أى ثمة إمكانية لوجود العمل المأجور، مثل عمال الطحن والخبازين والخياطين، أى أن قانون الحركة العام الحاكم لأداء التنظيم الاقتصادى والاجتماعى آنذاك أشبه ما يكون إلى قانون الحركة الحاكم لعالمنا اليوم. نرى أيضاً الخراز الذى يصنع الخف. ان هذا الصانع إنما يُنتِج سلعته، أى الخف، ليس من أجل الاشباع المباشر، وإنما ينتِج للسوق، ويتأكد ذلك حين نُلقى النظرة على حوانيت مدينة القيروان فى القرن التاسع، فسنجد ثمة حانوتاً يبيع أثواباً، أى أن هناك ثمة إنتاج للسوق وليس للاشباع المباشر، فتتبدى هنا قيمة المبادلة بجوار قيمة الاستعمال، بل ومن الممكن أيضاً أن نرى الأثواب المنتَجة للسوق مكدَسة بداخل الحانوت لدرجة احتوائها لحشرات نتيجة هذا التكدس الراجع لفيض إنتاجى من نوع ما. نحن باختصار أمام سوق وتداول نقدى وريف ومدينة وفصل تاريخى بينهما، مع وجود مجتمع موازى يمتنهن الصيد، وبصفة خاصة الحيتان، وثمة عمال وأجراء ورعاة وصناع، وثمة أجور، وثمة فنادق، وثمة مطاعم، وثمة توريد، وثمة ضرائب، وثمة دولة قوية تبسط رقابتها على النشاط الاقتصادى فى المجتمع من أجل الحفاظ على الأسواق(52) وضمان إلتزامات المتعاملين من خلالها على إختلاف صفاتهم، من مشترين وبائعين، وموردين، وصيارفة، وتجار، وأجراء، وصناع، وعمال وأصحاب الأعمال والحوانيت... فلم يكن المجتمع ساكناً، بل المجتمع بأسره، فى حالة حراك دائم، ويحكم النشاط الاقتصادى بداخله قانون حركة الرأسمال التجارى، ويتأكد ذلك لمن يبحث فى علاقات التجارة الدولية آنذاك على طول ساحلى البحر الأبيض المتوسط، فى شمال أفريقيا والمدن الساحلية فى أوروبا القرون الوسطى. (10) أما الشرق الإسلامى فى القرن العاشر، فنجد فى فارس المراكز الصناعية الكبيرة، فنسيج الكتان فى كازرون، ومعامل السكر وصناعة القطن فى خوزستان، وفى مرو ونيسابور نسج الحرير، وفى سابور صناعة العطور، كما وجدت مصانع الورق بدمشق وطبرية بفلسطين، وبطرابلس بالشام. وبوجه عام كانت المدن الكبرى، مراكز صناعية منتجة لمختلف أنواع السلع من أجل السوق المحلية، والدولية أيضاً، وكانت الوحدات الإنتاجية التى يمتلكها صاحب الرأسمال صغيرة إلى حد ما، ولكننا نجد أيضاً العمال المأجورين الذين يعملون فى هذه الوحدات الإنتاجية، أما الصناعات على نطاق واسع فهى التى تنتج للحكام أو للجيش كالترسانات، والمشاغل الملكية، ومعامل السكر (11) وإذ ما توجهنا غرباً ناحية قرطبة(55) فى حدود القرن العاشر والحادى عشر، فسوف نجد أسواق متطورة تسودها مبادلة نقدية معممة من جهة، وتخصص وتقسيم للعمل من جهة أخرى؛ فلقد وجدت الأسواق المتخصصة فى أرجاء الأندلس؛ فهناك أسواق الزياتين، والعطارين، والخبازين، والسماكين، والشوائين، كما سنجد أسواق كاملة متخصصة فى تجهيز وبيع الأطعمة الجاهزة للعاملين بالأسواق من عمال وحرفيين وتجار. فى الوقت نفسه نجد شتى أنواع الصناعات والحرف فهناك الصاغة والنجاريين والصباغين والخياطين والفخارين وغيرهم من أرباب الصناعات والحرف. وهؤلاء يستخدمون أجراء. يدفعون لهم أجور نقدية. وكل ذلك يعنى أننا أمام رأسمال، ومبادلة نقدية وإنتاج، وبيع وشراء، وأجر، وربح،.... إلى آخر المظاهر التى نراها بوضوح فى أسواقنا اليوم. بل يمكننا أن نقول وبمنتهى الاطمئنان أننا أمام اقتصاد حر بالمعنى الحرفى والفنى للكلمة. (12) وإذ ما ذهبنا إلى فاس فى شمال أفريقيا فى القرن الخامس عشر، فسوف نترك الحسن الوزان، المعروف باسم ليون الأفريقى (1495-1550) يحكى لنا ماذا رأى فى الأسواق هناك:"... نقابات الحرفيين بفاس مفصول بعضها عن بعض، وأشرفها يوجد حول الجامع وبالقرب منه. وهكذا يشغل العدول حوالى ثمانين دكاناً... وإلى الغرب من ذلك نحو ثلاثين دكاناً للكتبيين، وإلى الجنوب بائعو الأحذية الذين يشغلون قرابة مائة وخمسين دكاناً، يشترون الأحذية والخفاف بالجملة من الخرازين، ثم يبيعونها بالتقسيط. ولا يبعد عنهم كثيراً الخرازون الذين يصنعون أحذية الأطفال، ويبلغ عدد دكاكينهم نحو خمسين دكاناً. وفى شرقى الجامع مكان باعة أوانى النحاس... وأمام الباب الرئيسى للجامع فى الجهة الغربية يوجد باعة الفواكه الذين يشغلون نحو خمسين دكاناً... وبعدهم الشماعون... ثم العقادون... وبعد ذلك تجد بائعى الأزهار يبيعون الليمون والحامض أيضاً... ويبلغ عدد دكاكينهم نحو العشرين... ويأتى بعد بائعى الأزهار بائعو اللبن... يشترون اللبن من البقارين الذين يعلفون الأبقار لهذه التجارة ويرسلون كل صباح اللبن... فيبيعه اللبانون فى دكاكينهم، وما بقى لهم منه فى المساء والصباح، اشتراه منهم تجار ليصنعوا منه الزبد من بعضه، ويتركوا البعض الآخر يتحمض ليبيعوه للزبائن لبناً حامضاً ورائباً... يأتى بعد اللبانين بائعو القطن الذين يبلغ عدد دكاكينهم ثلاثين. وإلى الشمال منهم بائعو مصنوعات القنب كالحبال وأزمة الخيل والخيوط والشرائط الرفيعة. يأتى بعد ذلك صانعو النطق الجلدية والخفاف والأزمة الجلدية المطرزة بالحرير للخيل أيضاً. وتجد بعدهم صانعى المشدات الذين يصنعون أغمدة السيوف والمواسى وأغطية صدور الخيل، فبائعى الملح والجبص يشترونهما بالجملة ويبيعونها بالتقسيط، ثم بائعى الأوانى الخزفية ذات الصنعة المتقنة والألوان الزاهية... ويبلغ عدد دكاكينهم مائة... ثم نصل إلى مجمع الحمالين، ويبلغ عددهم ثلاثمائة حمال، ولهم أمين أى رئيس، يختار كل أسبوع من يجب عليهم أن يشتغلوا ويكونوا رهن إشارة الجمهور طوال الأسبوع. يجمع هؤلاء الرجال ما ربحوه من مال فى صندوق... ويقسم المال بين الذين اشتغلوا عندما ينتهى الأسبوع... ويشتغل هؤلاء وهم لابسون ثياباً قصيرة ذات لون واحد، ويلبسون خارج أوقات عملهم ما يشاؤون... ويأتى إلى جهة الشمال سوق الخضر... ثم سوق الدخان حيث تباع الفطائر المقلية فى الزيت... ولبائعى الفطائر فى دكاكينهم عدة آلات وغلمان، لأنهم يصنعونها بعناية فائقة، ويبيعون منها يومياً كمية كبيرة... ويباع كذلك فى السوق اللحم والسمك المقليان... ويأتى بعد ذلك باعة الزيت والسمن المالح والعسل والجبن الطرى والزيتون والليمون والجزر... ودكاكينهم مليئة بأوانى الخزف المايورقى، تفوق قيمتها قيمة ما تحويه من بضاعة. وتباع جرار الزبد والعسل بالمزاد، والدلالون حمالون مختصون يكيلون الزيت عندما يباع بالجملة. وتسع هذه الجرار مائة وخمسين رطلاً، والخزافون ملزمون بصنعها فى حجم هذه السعة تماماً، فيشتريها منهم رعاة المدينة ويملأونها ثم يبيعونها من جديد... وعلى مسافة قريبة يوجد الجزارون فى نحو أربعين دكاناً مرتفعة على شكل دكاكين الحرف الأخرى، يفصلون اللحم ويزنونه فى الموازين. ولا تذبح البهائم فى دكاكين الجزارين، بل فى مجزرة بجوار النهر حيث تسلخ وتحمل إلى الدكاكين بواسطة حمالين تابعين للمجزرة. ولكن قبل أن تحمل الذبائح لا بد من عرضها على المحتسب الذى يأمر بفحصها ويسلم بطاقة مكتوباً عليها السعر الذى يجب أن يباع به اللحم. ويلزم الجزار أن يلصق هذه البطاقة على اللحم بحيث يتمكن الجميع من رؤيتها وقراءتها. ونجد بعد الجزارين سوق الأقمشة الغليظة البلدية محتوياً على نحو مائة دكان. وإذا أتى أحدهم بقطعة فماش ليبيعها، فعليه أن يسلمها لدلال يضعها على كتفه ويذهب من دكان إلى آخر منادياً على الثمن. وعدد هؤلاء الدلالين ستون... ويحقق هؤلاء أرباحاً طيبة. ويأتى بعد ذلك صقالو الأسلحة من سيوف وخناجر ورماح... ويقوم بعضهم بصقلها وبيعها، ثم الصيادون يصطادون السمك... ويوجد بعيداً من هناك بائعو الصابون السائل... ولا يصنع هذا الصابون فى المدينة، بل فى الجبال المجاورة... وعلى مسافة أبعد نجد باعة الدقيق... ثم جماعة بذور الحبوب والخضر... وبعدهم باعة التبن... ثم سوق خيط الكتان... فإذا سرت من سوق الدخان على خط مستقيم وجدت صانعى الدلاء الجلدية التى تستعمل فى المنازل التى بها آبار، ويشغلون نحو أربعة عشر دكاناً. ثم صانعى الظروف التى يخزن فيها الدقيق والقمح، ولهم نحو ثلاثين دكاناً، ثم الإسكافيين وبعض الخرازين الذين يصنعون نعالاً خشنة للفلاحين وعامة الشعب، ويشغلون نحو مائة وخمسين دكاناً. وبعدهم صناع التروس... ثم الذين يغسلون الثياب، وهم من فقراء القوم، لهم معامل ثبتت فيها أوان كالأحواض فى الكبر..." ويمكننا أن نستخلص من حكى الوزان ما يلى: نحن أمام مجتمع تجاوز منذ عهد بعيد اقتصاد المنزل. وأصبح الإنتاج، كقاعدة عامة، من أجل السوق وليس من أجل الاشباع المباشر. كما أن الرأسمال، وبصفة خاصة التجارى، يؤدى الدور الحاسم فى تبادل السلع فى السوق. والأمر المهم الذى نستخلصه أيضاً هو أن عالمنا المعاصر لا ينفرد بظاهرة بيع قوة العمل، إنما نفس الظاهرة نجدها بوضوح فى السوق الفاسى. بالإضافة إلى ذلك نجد سيادة ظاهرة الأثمان. وانفصال الريف عن المدينة، والبادية عن الحضر. كما نفهم أيضاً من حكى الوزان أن الدولة مارست رقابة الجودة، وبسطت سلطانها على الأسواق وأحكمت رقابتها بصفة خاصة على الأسعار والحيلولة دون انفلاتها من جهة ومنع الاحتكار من جهة أخرى.
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما قبل هيمنة الرأسمال
-
نقد قانون القيمة عند ماركس
-
تاريخ الرأسمال
-
كل شىء متوقف على كل شىء
-
السلفيون ووهم تطبيق الشريعة
-
المنهج والتجريد والعلم والاقتصاد السياسى
-
بعد أن تحول العالم والكاهن إلى شغيلة فى عداد المأجورين
-
اقتصاد سياسى بلا ماركس. هكذا يعدمون عقولنا
-
المختصر فى تاريخ بلاد فارس - الجزء الثانى
-
المختصر فى تاريخ بلاد فارس
-
لينين: الرأسمال المالي والطغمة المالية
-
نمط إنتاج آسيوى؟
-
رأسمالية الذهب والدم
-
فى التجريد
-
فى المنهج
-
تحالف الأضداد. فنزويلا نموذجاً
-
الاقتصاد الإيرانى
-
الفكر الاقتصادى من التجاريين حتى النيوكلاسيك
-
المختصر فى تاريخ السودان
-
الاقتصاد السودانى
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|