|
قراءة من سفر التطور – كرة القدم شاهدا ً.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4413 - 2014 / 4 / 3 - 22:51
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
"كأس العالم"، مجموعة ُ مباريات ٍ شاملة لكل القارات تتكرَّر ُ كل أربع ِ سنين، ينشغل بها العالم ُ أجمع، يُبرمج ُ ملاين ٌ من الناس حياتهم بحسب ِ جدول ِ حدوثها، تمتلئ ُ الكافيهات بالشباب من الذكور (على الأكثر) و الإناث (بنسبة ٍ أقل) لمشاهدتها، تُعلن حالة ُ "الطوارئ" نظريا ً،و قبلها كانت قد تسابقت الدول على احتضانها، يتسمَّر ُ مئات الملاين بل المليارات أمام الشاشات، تتسيَّد ُ التحديات الأحاديث، تبرز ُ التوقعات، تنشط ُ العقول في التحليل، يجري الأدرنالين، تُصرف ُ المليارات، العالم ُ كله "يختلف"، تختفي الولاءات ُ القبلية و الوطنية و الدينية و تضمحل ُّ في فترة ِ انعقادها، ظاهرة عجيبة "تُصيب" الناس، تــَـــتَّـــسِم ُ بالإثارة، الترقب، التوقع، الأمل، الرغبة، الغضب، العنف، الفرح، الحزن، خيبة الأمل، النشوة، اللذَّة، اللامنطقية الساحرة الخلابة لكن الفاعلة المُؤثرة المُستحوذة "القادرة"، في "انتماء" و "كبرياءٍ" فُجائين، يجمعان من لا يجمعهم شئ، حول "لٌعبة".
لا شئ َ منطقي ٌّ في كرة القدم، مجرَّد ُ عشرين َ رجلا ً يركضون َ خلف قطعةٍ من الجلد المَخيط، منفوخة ٍ بالهواء، يضربونها من مكان ٍ لمكان، يتقاذفونها فيما بينهم، يجرون وراءها، ليودعها عشرة ٌ منهم في المساحة الخاصة للعشرة الآخرين، يحرسها رجل ٌ يستميت ُ كي لا تُودع َ قطعة ُ الجلد ِ عنده. صناعة ٌ تُدر ُّ أموالا ً طائلة، صناعة ٌ بدون منطق بدون عقل بدون غاية ٍ إيجابية، بدون هدف ٍ سامٍ و لا حتى هدف ٍ بمعنى الهدف، سوى تسجيل ِ "الهدف".
لماذا ننسجم ُ مع كرة ِ القدم؟
في ماض ٍ سحيق ٍ موغل ٍ في القدم، عندما كان جنسنا البشري الـ Homo، و قبل َ أن يتطوَّر َ إلى النوع العاقل Sapiens، يعيش ُ في قطعان بشرية ٍ تعيش ُ بالصيد و الالتقاط، كان الذُّكور ينطلقون لأيام ٍ تاركين الإناث َ في المخيَّم، ليُحضروا "اللحم" و هو مُكوِّن ٌ ضروري ٌ للنمو و البقاء. كانت ِ المُهمَّة ُ الذكرية ُ صعبة ً شاقَّة ً تتطلَّب الكثير َ من المهارات:
- كانت المهارة ُالأولى هي "المعرفة"، معرفة َ "ما هي" الحيوانات التي يمكن ُ صيدها "أكثر َ" من غيرها، معرفة َ "أين تُوجد ُ" تلك الحيوانات، معرفة َ "كيف تتصرف ُ" تلك الحيوانات، و ما هي خصائصها، و معرفة "الطريقة" التي يمكن ُ صيدها بواسطتها.
- المهارة ُ الثانية هي "التنسيق" بين أفراد قطيع الصيد البشري الأول، "التنظيم" و إن كان بدائيَّا ً بين أفراد ِ المجموعة "الصائدة"، هذا التنسيق الذي يعرف ُ كل ُّ فرد ٍ فيه دوره، المُستطلع، و المُطارد، و الرابض مُنتظرا ً مجئ َ "الصيد" الذي يطارده الأفراد المُطارِدون ليأتوا به إليه، ليضرب الرابض و المطارد ُ و المستطلع ُ معا ً مُنهين المهمَّة.
- المهارة ُ الثالثة هي "التَّحمـُّل و المُتابعة" Stamina، و هي مهمَّة أساسية، طوَّرها القطيع ُ البشري ُّ الأول لكي تكون الأداة ُ التي بواسطتها يستطيع ُ أن ينفِّذ َ كل المهارات السابقة، خصوصا ً أن الحيوانات المنوي صيدُها كانت تمتاز ُ بسرعة ٍ كبيرة و قدرة ٍ على المناورة، و شراسَة ٍ جسدية لم تكن مُتوفِّرة ً له.
مرَّر الذكور هذه الصفات َ في جيناتهم ِ بواسطة آليات التطورو الانتخاب الطبيعي إلى الجنس Homo فالنوع منه ُ البشري ُّ العاقل Homo Sapiens، و ترسَّخت فيهم بالممارسة "الألفية"، و بقيت موجودة ً معنا حتى على الرغم أنَّ نمط المعيشة في القرن الماضي أو القرون القليلة الماضية قد اختلف، فهذا الاختلاف هو "ضئيل ٌ" جدا ً مُقارنة ًمع هذه الملاين من السنين التي قضاها أسلاف ُ نوعنا في المُطاردة و الصيد.و لهذا ما زال النوع ُ البشري مُستثاراً بالأدرنالين، و رغبة ِ الصيد، رغبة ِ المطاردة، لذَّة الصيد، لذَّة تحديد الهدف، و لذَّة الجري وراءه، و نشوة "تحقيق" الهدف و العودة بالنتيجة.
إن كرة َالقدم "لُعبةَ الصيدِ" القديمة ما زالت تحيا في ذكورنا، إنَّها الشاهد ُ على تاريخنا، الشاهد ُ على تطور ِ نوعنا من وسط ِ المعاناة الطبيعية، من وسط ِ العَوَزِ و الحاجة للغذاء و إلى البقاء، على ما اكتسبناه ُ من تكُّـُيف ٍ و قدرة و منهجية. ذكرونا ما زالت "تركض"، "تُنسِّق"، "تصيد"، "تُسجِّل ُ الأهداف" في الخصم، تصيده، تُنهيه، لتحيا هي، إنها التَّطور الذي يُظهر ُ نفسه، يصيح ُ "هذا ما كان" و "هذا ما زال"، إنها لُعبة ُ "الكبرياء" الذي هو أساسُ البقاء و حفظ ِ النوع.
"كرة ُ القدم" ما زالت "فخرَ" القطيع ِ الصائد العائد إلى "إناثه" بعلامة ِ استحقاقه لـ "ذكوريته" التي تجعله ُ مقبولا ً من مجموعة ِ الإناث ِ في القطيع الباقية للالتقاط في محيط ِ "مُخيَّم ِ المجموعة"، هي "علامة الجودة"، هي "ختم الصلاحية"، "مٌفتاح ُ قبول ِ" الذكر عند الأنثى، هي العلامة ُ التي يُشهرها أمام الأنثى الأولى أنه "صالح" أنه " قادر" أنه "فاعل" أنه "مؤثر"، فتستقبله ُ إناث ُ القطيع، تلك الإناث اللواتي كُن َّ الطبيبات الأوائل، الكاهنات الأوائل، فتستقبله بالـ "الرضى" و "المُوافقة".
مهما حاولنا فهم "كرة القدم" على أساس ٍ حديث، سنفشل. فهي ليست حديثة، إنَّها ترجمة ٌ للقديم الموغِل ِ في القدم، إنها شهادة ٌ مكتوبة في الجينات عن خصائص النوع و طريقة ِ حياته الماضية، فلا ينفع ُ معها الحديث ُ عن "لا منطقيتها" أو "سطحيتها" أو "تفاهتها"، و لا تُفسِّرها مفاهيم ُ العقل ِ المُستمدَّة ُ من مظاهر و حضارة القرن العشرين و الحادي و العشرين، فنحن ُ نُخطئ ُ التشخيص إن فعلنا، لأن التشخيص َ الصحيح يجب أن يكون بيولوجيا ً تطوريا ً علميا ً و ليس بأي ِّ شكل ٍ من الأشكال "حضاري" "عقلاني"، أين العقل ُ في قطعة ٍ من الجلد ِ المَخيط المنفوخ بالهواء يجري وراءها عشرون رجلا ً؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لا أستسيغ ُ هذه اللعبة على المُستوى الشخصي، و لا تستهويني، لكن تستهويني بشدّة ٍ لعبة ُ الكرة الطائرة، و حين أٌفكَر ُ فيها فهي صورة ٌ أُخرى من "الصيد"، صورة ٌ سريعة، فيها "استقبال ُ" التحدّي ثم "إعدادُ" الرَّد، ثم "ضربُ" الهدف، و تحقيقه في مرمى الخصم، بقوة و شراسة و فعل ٍ واضح سريع مُنهي، تام لا يستتبع ُ بعده ُ شيئا ً، كانت الكرة الطائرة و بالنسبة ِ لي و ما تزال "الصورة الأمثل" للبشري الصائد، الذي لا يُشبهُه اليوم إلا "روح" الذِّئب الرمادي Canis Lupus، ذلك الحيوان الذي أجد أنني أتقاربُ معه جدا ً و أعشقه، لأنه خير ُ ما يُمِّثِّل ُ في الطبيعة مفاهيم الشجاعة و العائلة، و العمل الجماعي.
_________________
لمزيد ٍ من القراءة: من سفر الإنسان - المرأة http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=388472
قراءة من سفر التطور – من الكرومانيون حتى اليوم. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=389100
قراءة في سفر التطور – عندما عوى الذئب http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=387084
من سفر التطور – أين ذهب الشعر؟ http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=393039
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار 4 (من وحي الألب
...
-
ماري
-
من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات 2
-
خاطرة - قرف ُ المازوخية عند المُستسلمة
-
عودة حركة 24 آذار – تعبير ٌ عن الرأي في الوقت الخطأ
-
صور ٌ من الكراهية – عن الموقف من الأستاذ سامي لبيب
-
قراءة في الوحشية – الوجه الآخر للإنسان
-
قراءة في الشر – مباعِثُه، مظاهره، و ارتباطه بالدين و الألوهة
-
في اللاهوت و حرية الإنسان
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟ - 3 (من وحي ال
...
-
لماذا يُقتل رائد زعيتر؟
-
قراءة في تحريم الخنزير
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين 2
-
في تحرير المرأة – مُمارساتٌ عملية للتمكين
-
قراءة في الإنسان.
-
لما ضحكت موناليزا
-
في تحرير المرأة – انتفضي سيدتي الآن
-
داعش – فرض الجزية على المسيحين في الرقة السورية
-
قراءة في القداسة – بين الجذر الديني و الاستحقاق الإنساني
-
في نفي النبوءة - رؤية في الجذر النفسي للنبوءة و نقد آليات ال
...
المزيد.....
-
فيضانات غير مسبوقة تجتاح بريتاني الفرنسية والسلطات تدعو للحذ
...
-
رئيس أركان الجيش الجزائري يبحث مع وفد -الناتو- سبل تعزيز الح
...
-
روسيا تدين أعمال المتمردين في الكونغو الديمقراطية
-
رئيس وزراء سلوفاكيا يهدد زيلينسكي بمنع المساعدات المالية لأو
...
-
وفد حماس يبحث مع المخابرات المصرية تطورات ملف التهدئة بغزة
-
العقل المدبر وراء -ديب سيك-: من هو ليانج وينفينج؟
-
بانتظار قرارات القضاء.. البحرية الإيطالية تنقل إلى ألبانيا 4
...
-
احتجاجات حاشدة في دالاس ضد سياسات ترامب للهجرة وترحيل الأسر
...
-
العراق.. الأمين العام لمنظمة -بدر- يعلق على إقالة رئيس هيئة
...
-
رويترز: صور تظهر تشييد الصين منشأة كبيرة للأبحاث النووية
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|