|
امتلاك الحقيقة
حازم شحادة
كاتب سوري
الحوار المتمدن-العدد: 4410 - 2014 / 3 / 31 - 10:09
المحور:
الادب والفن
كان امتلاك الحقيقة واحتكارها، وما زال...أبرز ما يدللُ علينا كجماعات تنتمي إلى منطقة تآكلتها النزاعات والحروبُ عبر آلاف السنين، وليس غريباً عن طباعنا أن نحلل لأنفسنا تفسير المجريات والوقائع وفق رؤانا ومداركنا ومعارفنا وخبراتنا الشخصية والاعتقاد الراسخ بأنها الحقيقة المطلقة، دون الأخذ بعين الاعتبار المنطلق الآخر الذي تتخذه الجماعة المقابلة و تعتبره ـ هي أيضاًـ الحقيقة المطلقة وتعتمد في ذلك على ما نعتمد عليه من فكر إلغائي متطرف أكسبتنا إياه ثقافة الانتماء للقبيلة والدين والطائفة وهي من دون أدنى شك من أسوء الإنتماءات التي يمكن للمرء أن يتبناها عن سابق تفكر واقتناع أو عن غير ذلك.
نحنُ ندفع ضريبة باهظة كوننا أبناء المنطقة التي صدرت للعالم بأسره جميع الأنبياء المعتمدين على الرغم من أن مساحة هذا الكوكب شاسعة إلى درجة غير معقولة والمسافة الممتدة بين أقاصي اليابان مروراً بآسيا وأوروبا حتى الوصول إلى أقاصي الأمريكيتين تضم بين جنباتها آلافاً من الأقوام والقوميات والأعراق والتي ولأسباب لا يعلمها أحد لم تشهد تنزيل أي نبي أو رسول يمكن أن يطلق عليه (نبي من أنبياء الله) حتى مع وجود أشخاص مقدسين لدى غيرنا من الأمم (بوذا على سبيل المثال) فنحن الذين نطلق على أنفسنا أبناء الديانات السماوية نرفض رفضاً قاطعاً أن يكون أولئك المقدسون لدى غيرنا من الأمم على علاقة مباشرة مع (الله) الذي نؤمن به.
إن طبيعة التفكير هذي جعلت من أدمغتنا تربة خصبة للإنكار والإلغاء ومعاملة الآخر باعتباره ضالاً وخاطئاً وله جهنم وبئس المصير، أما نحن فقد حجزنا مسبقاً أماكننا المريحة في جنات عدن التي تجري من تحتها الأنهار، وقام جهابذة الدين عندنا بتوزيع شهادات الإيمان والكفر على الناس وإشاعة هذه الثقافة بين العامة حتى غدوا هم بدورهم قادرين على الإفتاء وتوزيع شهادات الإيمان والكفر كيفما اتفق وبغض النظر عن كون الأكثرية فيهم لم تقرأ كتاباً خارج مناهج الدراسة هذا إن كانت متعلمة في الأساس.
مما يلاحظه المتمعن في هذه الديانات السماوية أنها لا تقتصر على إلغاء أبناء باقي الديانات (غير السماوية) بل إنها تلغي بعضها بعضاً، فاليهود إلى الآن ما زالوا بانتظار المسيح لأنهم يؤمنون إيماناً راسخاً بأن عيسى بن مريم ليس من وعد (الله) بإرساله كي يخلص البشرية من آلامها، وأبناء المسيحية ما زالوا حتى هذا اليوم لا يؤمنون بالنبي محمد كرسول آت من عند الله، وبالمقابل يقول المسلمون أن اليهود حرفوا في الزبور والتوراة على هواهم كما أن المسيحيين حرفوا في الأناجيل وأن المسيح لم يصلب إلى غيره من التناقضات التي يكيلها أبناء كل دين على غيرهم من أبناء الديانات الأخرى..والتي يفترض بها أن تكون (سماوية)..أي لا مجال للتحريف والتزوير فيها، وما زال أتباع كل دين من هذه الأديان يؤمن وبكل قوة وشراسة أن الجنة لهم وحدهم وسائر خلق الله إلى الجحيم.
ولأن المؤمنين من أصحاب هذه الديانات (السماوية) يحملون في جيناتهم الفكرية نفي الآخر لم يكتفوا بإلغاء غيرهم من باقي الأديان، بل امتد الأمر عندما تم تشتت الدين الواحد إلى مذاهب وطوائف إلى إلغاء أخوتهم من أبناء نفس الدين لكن المختلفين عنهم بالطائفة أو المذهب، ولم يتردد أبناء أي مذهب أو طائفة في تبني هذه الأفكار وترسيخها كعلامات ارتكاز، بل إن كلاً منهم على استعداد للقتال والقتل في سبيل إلغاء الآخر واعتبار هذا العمل يصب في سبيل الله الذي حصل كل منهم على حقوق الملكية الحصرية للتحدث باسمه دون التفكر في أنه ما من أحد استطاع أن يثبت معرفته الشخصية بـ(الله) وبالتالي لا يحق لأحد حتى الإدعاء أنه مؤمن أو غير مؤمن.
طريقة التفكير القائمة على هذا الأساس كانت وما زالت أهم ما يتسلح به من يريد اغتصاب هذه المنطقة من خلال استغلال حالة التفتت والكراهية والعداء التي يكنها أبناء كل منطقة لأبناء المنطقة الأخرى ومن خلال دعم هذه الجهة على حساب الجهة الأخرى، ولأن التاريخ لا يكذب فها هو ما جرى في لبنان عام 1861 يعيد صياغة نفسه بأدوات القرن الحادي والعشرين وتتم محاولة تسويقه في سوريا مع مراعاة الطرق الحديثة في دعم الطوائف وتغذية الكراهية بين أبناء البلد الواحد تحت مسميات سياسية تنطلي علينا لأننا من أمة (لا تقرأ).
ما حدث في لبنان قبل أكثر من مائة وخمسين عام هو إعلان كل دولة أوروبية دعمها لطائفة من طوائف الإسلام أو المسيحية ومساندتها في القتال ضد الطائفة الأخرى، وهم (الأوروبيون) دائماً ما يكونون مستعدين لدعم أي شيء يساعد في إراقة الدماء، وها هم يمتطون صهواتنا منذ مئات السنين ويلعبون في سوريا خلال هذه الأزمة دوراً لا يقل شناعة عن جهلنا وتخلفنا سوى أن هذا الدور يعود عليهم بالمكاسب ويعود علينا بمزيد من الإنحطاط العجيب.
يطيب لأصحاب التفكير الرومانسي من بعض المثقفين والكتاب أن يصوروا ما يحدث في سوريا على أنه صراع طبقي وسياسي ولا علاقة للدين به من قريب أو بعيد وفي أحسن الأحوال إن اعترفوا بهذا الصراع الديني فإنهم يقللون من شأنه وكأنه مشكلة بسيطة لا تلبث أن تحل من تلقاء نفسها، متعامين عن الجذور التاريخية لهذا الصراع والتي أصبح اقتلاعها بحاجة إلى معجزة حقيقية لأنها غدت من السمات المميزة لشعب هذه المنطقة الذي وللأسف الشديد ما زال يتنفس ديناً عند الصباح..ويتنفسه عند المساء، وفي أغلب الأحيان ما يكون هذا التنفس بالطريقة الخاطئة عن طريق الأذنين لا عن طريق العقل.
كما يطيب لبعض أصحاب التفكير المتعصب في السلطة أن يصوروا ما يحدث في سوريا على أنه صراع ديني وفقط، متعامين عن المشاكل السياسية والاقتصادية التي أنهكت كاهل الطبقتين المتوسطة والفقيرة الآخذتين بالتصادم كتصادم المجرات ولأن مجرة الطبقة الفقيرة هي صاحبة النجوم الأكثر فإن الغلبة ستكون لها، ولأن التاريخ واضح فقد علمنا أن ازدياد الأفراد المنتمين لهذه الطبقة واحدٌ من أهم الأسباب في حدوث الإنفجارات العنيفة في المجتمع والسياسة والاقتصاد.
إن هذا ما يعود بنا إلى ثقافة الإلغاء التي تطرقنا إليها والتي نمتاز بها كأحفادٍ لأسلافٍ متخاصمين، نعتز بإصرارنا على التمسك بالخطأ..لا بل إننا نباهي به لنثير قرفنا من بعضنا بعضاً وفي الطرف الآخر لنثير ضحك واستهزاء من يتربصون بنا منذ زمن بعيد، وفي استمرار الأزمة السورية صور جلية لتمسك كل طرف من الأطراف بفكرته المؤلهة دون إبداء أي استعداد حتى للحوار وفق قواعد وضوابط تخرج البلد من هذه المتاهة الدامية، وعلى ما يبدو أن هنالك عناصراً في كلا الجهتين تستهويهم رائحة الدماء ولا يريدون الخير لأحد إلا بمقدار ما يخدم مصالحهم.
كيف لنا أن ندخل في جنان الحرية ونحن عاجزون عن تقبل الآخر..عن محاورته..عن معرفة الطريقة التي يرى بها الأمور واحترام ذلك حتى وإن كان يتعارض مع ما نراه نحن...كيف لنا بهذه العقلية أن نبني مجتمعاً مدنياً يُعامل فيه الإنسان وفقاً لإنسانيته وأخلاقه وعلمه وأدبه دون النظر بأي شكل من الأشكال إلى ما يؤمن به من معتقدات دينية...كيف لنا أن ننهض بسوريا العظيمة دون أن تكون هي انتماءنا الأول والأخير....
#حازم_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
راياتك بالعالي يا سوريا
-
لمَ لستم سعداء؟
-
طريق النحل
-
عَزفٌ مٌنفَرد على أوتَارِ رُوح
-
أنا حازم شحادة
-
المُقَامِر
-
دعوةٌ للاعتذار
-
أشبَاح
-
شَيءٌ مِنَ البحر
-
جلجامش
-
المُعَاتِبه
-
دكتوراه
-
صعود المطر
-
مطرُ الشام
-
في صلنفة بين الأغنياء
-
رِهَانُ الشِّعر
-
في بيتِ لميا
-
قصيدةُ حُبٍّ لدمشق
-
يا ماريا
-
تركتُ يدَ أمّي لأَجلِك
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|