طلال قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4409 - 2014 / 3 / 30 - 21:37
المحور:
الادب والفن
ضحك الدكتور مارت, وهو يقول: "تتحدث وكأنه أحد الكائنات الغريبة التي ستجري عليها فحوصاتك وتجاربك".
ابتسم دونيس قائلاً: "الأمر مثير فعلاً, النفس البشرية مليئة بالكثير, هي الوحيدة القادرة على إثارتي؛ لذلك توجهت لهذا التخصص في العلوم الإنسانية" صمت قليلاً, ومالت شفتيه إلى ابتسامة خفيفة ومثيرة, ثم واصل حديثه قائلاً: "كان مثيراً للإعجاب عندما أخبرني بأحد افتراضاته الغريبة حول تفسيره لما يحدث له".
"ماذا افترضَ؟".
"افترضَ أنه يعتقد أحياناً بأنه يحلم! أي أنه حالياً واقع في حلم له. كان افتراضه مضحكاً ومثيراً للخوف والإعجاب".
"ماذا؟ يحلم؟!" ضحك مارت وواصل, قائلاً: "تقصد أنه جعلنا مجرد شخصيات ضمن قالب حلمه! لا أستطيع تخيل نفسي مجرد شخصيه وهمية في حلم أحدهم!" استمر بالضحك " إنَّ خياله واسع ومثير فعلاً, وماذا قلت له؟".
"بالتأكيد وضحت له أنَّ الأمر مستحيل, فللحلم سياقات وإحداثيات غير متوازنة ومتوافقة, أخبرته أنه لا يمكن أن يكون في حلمه بكيان مستقل وأكون أنا أيضاً بكيان مستقل وحر في نفس الوقت" صمت قليلاً, وكأنه يفكر في الأمر ثم, قال: "وبالتأكيد نقاشي هذا الآن معك "مارت" يثبت أننا كيانان مستقلان عن حلم أحدهم. الكثير مما يثبت بطلان هذا الافتراض. أخبرتك بموضوع افتراضه هذا الآن على سبيل أن افتراضه مثير للخيال والإدهاش".
"هل أقتنعَ بما قلته له حول بطلان الحلم؟".
"بشكل ما أظنه أقتنع, حتى أنه اقترح علي بشكل مفاجئ ما يدل على أنه بدأ يفكر بواقعية بعيداً عن فرضية الحلم تلك".
"ماذا اقترح؟" وهو يقطب جبينه..
"أقترح أن أتأكد من هويته الحقيقية كإبراهيم وأعطاني أرقاماً يحفظها وعناوين, وتفاصيل أخرى كلها يعود إلى ما يزعم أنه يثبت أنه من اليمن, وقال لي أنْ أبحث وسوف أكشف حقيقة إنه إبراهيم, كان يقول ذلك ببراءة واقتناع تام".
"أمر غريب! أنه مهووس فعلاً. ماذا ستفعل؟".
"سأعمل على هذا الأمر الذي طلبه, لأساعده على الاقتناع والوعي بمشكلته كحل أولي حين يجد أن كل شيء يثبت أنه جاك".
"أن تجعل المريض يعرف أنه مريض".
"نعم,".
"وهل شرعت بالبحث في المعلومات التي أعطاها لك؟".
"لم أبدأ بشكل رسمي, لكن هناك ما فاجأني قليلاً, بقليل من البحث وجدت أن الأرقام التي أعطاها لي تعود إلى اليمن فعلاً, مع ذلك هذا لا يثبت شيئاً إلى الآن, فربما تكون هذه الأرقام مجرد أرقاماً عالقة في ذاكرة جاك اللاواعية -المحفوظة مسبقاً- وإسقاطها بطريقة وسياق مختلف. على كل حال سأبحث في أقرب وقت في كل ما لدي, حتى نثبت له بشكل موثَّق بطلان ادعاءاته الوهمية".
"أثرت فضولي بحالتك الغريبة هذه! يبدو أني سأتابع بشغف, آملاً أن تُخْلَق معجزةٌ جديدة على عالمنا" قال ذلك مبتسماً باستظراف.
"معجزة جديدة! مثل ماذا؟. يا صديقي, لقد ولى زمن المعجزات لأن العلم والمعرفة حلت مكانها اليوم. المعجزات لم تكن تظهر إلا حيث يتفشى الجهل والضعف. مثلاً: حالات «السرنمة* (السير اثناء النوم)» بسبب الجهل وفي زمن الجهل كان الإنسان يفسرها على أنها تلبس روح شريرة تصيب النائم فتجعله يتحرك ويتكلم متحكمة به وبجسده؛ بينما العلم يفسرها اليوم على أنها حالات نفسية ودماغية, أي قصور في الدماغ وكيمياء الدماغ في إخماد حركة الجسم أثناء النوم بدافع من الأحلام والدوافع اللاواعية, وحالات كثيرة كشلل النوم*(الجاثوم), والديجا فو*(شوهد من قبل) كانت تفسر بتفاسير أسطورية وخرافية واليوم يفسرها العلم بشكل واقعي وتجريبي بحت بعيداً عن الأرواح والتفسيرات الميتافيزيقية*(ما وراء طبيعية)" قال ذلك الدكتور كارتر وهو يتراجع للوراء ويشعل سيجارته.
"عدنا من جديد إلى جحودك وماديتك كارتر" مبتسماً بمكر واصل حديثه: "أعرف كم أنت عنيد في هذه المسألة, وكم أنت معتنق لعقيدة العلم والتبرير المنطقي. أنا جرَّاح يا كارتر, وأواجه تشريح الأعضاء الإنسانية دائماً, حتى بات الإنسان يبدو لي كدمية تحركها الهرمونات والأعصاب والسيالات والعضلات بشكل أتوماتيكي ومادي؛ لكن رغم هذا أُفضل فكرة الإيمان الرومنسية التي تُضفي على هذه الدمية روحاً وغاية ما, هكذا تستمر حياتي بتوازن ورضى. تخيل أني أعالج مجرد دمى! كم سيبدو الأمر مضحكاً وبليداً! لكن فكرة الإيمان تمنح من أعالجهم قيمةً، وتمنح عملي قيمةً مثالية أيضاً, مع الراتب الذي أتقاضاه طبعاً" قال الدكتور مارت كل هذا باعتزاز, وبطريقة تبدو مسرحية.
رد كارتر بهدوء وهو ينفخ سيجارته "انظر, كونك تريد وتتمنى وترغب بأن تجعل لحياتك قيمة ومعنىً مثالياً ورومنسياً أو غائياً فهذا شيء؛ وكون الحقيقة بعيدة عن غالب أمنياتنا وتبريراتنا ورومنسياتنا؛ شيء آخر.. فالحقيقة لا توجد حيث نرغب أو نكره بل توجد حيث هي, وهنا مشكلتنا: إننا نرى الحياة كما نتمنى ونريد, لا كما هي. نرى البشر بهالات مقدسة, لأننا نريد ذلك بدلاً من أن نراهم مجرد دمى حية تعيش وفق ميكانيكية معينة؛ لأن ذلك يصدمنا ويخيفنا ويجعلنا نشعر أن العالم لا معنى له، وأن عملنا على الحياة أيضاً لا معنى له, وأن تعبنا ووجعنا وتناقضاتنا لا معنى لها؛ كل ذلك يجعلنا نشعر بالخيبة" أخرجَ سيجارته من فمه وهو ينفث دخانها, و يمدها أمام وجهه وكأنه يتحدث معها, قال مواصلاً حديثه:
"كوني أشرب هذه السيجارة الآن, فأنا لا أكتفي بأن أتصورها مجرد دخان ضار وكربونات ومواد عفنة وسامة, لكني وبطريقة ما أُضفي عليها مبرراً رومنسياً- كما تقول - بأنها خلابة ومثيرة ومريحة لنفسي ومظهري, وأتناسى كل حقيقة علمية تقول إنها ضارة جداً. هذه طبيعتنا نحن البشر يا مارت. أنظر حتى أنا لدي خرافاتي تجاه هذه السيجارة, خرافاتي ومبرراتي التي تعيقني عن رؤية السيجارة بحقيقتها البشعة والصادمة فقط".
"هل أنت متأكد أنك طبيب نفسي هه! أنت بمثل تفسيراتك القاسية هذه لمرضاك ستحيلهم إلى الفزع والجنون, وتسلبهم أبسط الحمايات النفسية الدافئة والموجودة في الإيمان. بالتأكيد أنت تعرف جيداً ما أعني؟ يا رجل, هذا جنون ستضيفه إلى أمراضهم النفسية!".
"لا تقلق, ليس كل ما أؤمن به بهذه التجريدية أقوله لكل مرضاي, بل هنالك أساليب في العلاج النفسي أستخدم فيها ما يسمى بـ «العلاج بالوهم*» وأحياناً أستخدم الأدوية الوهمية والإيمانية. وبالحديث عن الجنون بيني وبينك, أليس الجنون الحقيقي أن يعبد الإنسان أصناماً ويخافها, أن يعبد ويقدس بقراً ونيراناً وفأراناً وصوراً وأصناماً معلقة لأشخاص وأشكال؟! أليس الجنون أن تقول لشخص اشرب دم المسيح؛ وهو ليس إلا نبيذاً أحمراً؟! أليس الجنون أن يكون ذلك الإنسان الذي عانى في طفولته كل معاناة الأطفال وعجزهم.. وعانى في شبابه الإهانات القاسية والبذيئة وأنتهى أمره بالصلب بلا حول أو قوة, أليس الجنون أن يكون ذلك الإنسان المعذب والمهان والمصلوب إله اليوم, أو ابناً للإله؟! أليس الجنون أن يعتنق ويصدق المليارات من البشر مثل هذه الخرافة الركيكة والمتناقضة التي تلاعبت بها الكثير من الحضارات والثقافات والأساطير عبر التاريخ وبكل وضوح!؛ أليس جنوناً أن يتوجه أكثر من مليون مسلم ليدوروا ويجروا ويهتفوا متوسلين حول مكعب حجري أسود ويسجدوا له معتقدين أنه بيتاً للرب, وأن ذلك الزحف والتزاحم والجري والصراخ سيرضي الرب الذي خلق هذا الكون بكل تعقيده وعظمته.. يخلق كوناً عظيماً ثم يطالبهم بعبادته بطرق وطقوس بدائية ومثيرة للغرابة؟!, أليس الجنون أن يعتقد الإنسان أنه موجود في هذه الحياة البائسة فقط لأن أبانا الأول آدم أكل تفاحة؟! تفاحة يا رجل تُسببُ لنا كل هذه المعاناة والحيرة والصراع والأزمات!, أليس كل هذا وأكثر هو عين الجنون من الناحية المنطقية والعقلية؟!".
وهو يشير بيديه كمن يدافع عن نفسه, قال مارت: "يا صديقي تمهل! لمَ كل هذا الهجوم؟! أتفق معك أن في الكثير من الطقوس والمعتقدات الدينية الكثير من التناقضات والخرافات, لكن من الممكن أن يجد الإنسان طريقاً وأسلوباً معتدلاً ومقنعاً في الإيمان. ما أعنيه هو...:_" رن منبه الاستدعاء الخاص بالدكتور مارت, وانحنى برأسه منتبهاً وحمله بيده, قائلاً هو ينظر إلى الجهاز: "يبدو الحديث شيق، وكعادتك ما تزال عنيداً بحوارك. لدي الكثير من الحجج لأقولها لك, لكن يجب أن أذهب الآن فلدي حالة بانتظاري, حالة إنسانية مقدسة هه, سنكمل حديثنا في وقت لاحق, إلى اللقاء كارتر الفيلسوف".
وقف مبتسماً, ومودعاً الدكتور كارتر.
"إلى اللقاء" رد كارتر وهو ينظر إلى بقايا سيجارته التي أطفأها قبل قليل عائداً إلى شروده وكأنه يعيد الاستماع للمحادثة التي جرت بينه وبين الدكتور مارت..
#طلال_قاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟