|
حدود الدهاء القطري ومآزقه
عصام الخفاجي
الحوار المتمدن-العدد: 4409 - 2014 / 3 / 30 - 02:39
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
"الدهاء"، "بعد النظر"، "الإستقلالية" وحتى "الحكمة" هي بعض من الصفات التي تكيلها التقارير الصادرة عن مراكز أبحاث غربية لسياسة قطر الخارجية. الأسس التي تنبني عليها هذه التوصيفات معروفة للقارئ العربي: دولة يوازي عدد سكّانها سكّان بلدة ثانوية في مصر أو سوريا أو العراق استطاعت أن تنسج شبكة علاقات واسعة مع حركات إسلامية على امتداد العالم العربي، تموّل حكومات أفريقية، تتقدّم للعب دور الوسيط في الصراعات الداخلية في لبنان وفلسطين والسودان وحتى في العلاقة بين حكومة حميد كارزاي وطالبان في أفغانستان، تمارس نفوذا على منظمات دولية يتجاوز حجمها بنسب فلكية مكّنها من انتزاع حق استضافة بطولة العالم لكرة القدم عبر صفقة تفوح منها روائح الفساد، وأخيرا، وليس أقل أهمية بالتأكيد، امتلاك عائلتها الحاكمة قناة "الجزيرة" ذات التأثير الواسع على الرأي العام والتي صارت مكوّنا تتعرف به الإمارة بحيث أن مسؤولا خليجيا بارزا وصف قطر بأنها"300 نفر وقناة تلفزيونية". بين عرض الوقائع وبين تفسيرها وتقييم السياسة الخارجية لقطر، أو لأي بلد آخر، بون شاسع. إذ لابد من وجود معيار أو معايير محددّة تعيّن أهداف تلك السياسة تتيح التساؤل فيما بعد عما إذا كانت المواقف تتساوق مع تحقيق تلك الأهداف أو ترتدّ عليها. ومن دون ذلك يكون إطلاق أوصاف الحكمة والدهاء والإستقلالية شبيها بالأوصاف التي يطلقها مراهق خرج للتو من مشاهدة عرض سينمائي مثير. من بين 192 دولة، تحتل قطر المرتبة 156 من حيث المساحة. ومعظم الدول التي تليها هي جزر في المحيطين الهندي والأطلسي فضلا عن إمارات وكيانات أوربية شبه مستقلة مثل الفاتيكان. ومع أن احصاءات السكان التي تعتمدها الأمم المتحدة تشمل المقيمين الأجانب على أراضي الدولة فإن قطر تقبع في المركز 141 من بين 196 دولة. شهد التاريخ والعالم المعاصر دولا شديدة الصغر ابتلتها الجغرافيا، أو أنعمت عليها، بالوقوع بين دول كبيرة متنازعة وذات قوة عسكرية كبيرة نسبيا وهذا هو حال قطر اليوم. مكّنت هذه الجغرافيا سويسرا من كسب اعتراف القوى الأوربية بها كدولة محايدة حتى حين كانت تلك القوى تخوض معارك طاحنة فيما بينها. وتشكّلت دول أخرى لاوجود تاريخيا سابقا لها وبعضها ذات مساحات كبيرة بفضل تلك الصراعات مثل أوكرانيا وبلجيكا ويوغوسلافيا السابقة. باختصار، ليس ثمة مسار ومصير واحد للدول الواقعة بين قوى أكثر بأسا عسكريا منها. لكن التجربة التاريخية تبين أنها تكون أحسن حالا في ظل توازن خصمين وأكثر عرضة للخطر إن انفرد أحدهما بفضائه الإقليمي. هنا لاحاجة لإستحضار التاريخ الأوربي لأن مثال الكويت التراجيدي يقدّم درسا ثمينا. في حدود أطلاعي، سعت كل الدول الموصوفة هنا إلى تعظيم أمنها بنسج علاقات متشابكة مع أكبر عدد من البلدان مركّزة في الأساس على التشابك الإقتصادي ومتّبعة حصرا سياسة التعاون مع الحكومات لا مع قطّاعات محددة من الشعوب، وهذا ما جعل القوى الإقليمية والدولية المتصارعة ذات مصلحة في الحفاظ على استقلالها. تقدّم عُمان مثالا نموذجيا لستراتيجية ناجحة في هذا المجال إذ حافظت على علاقات جيدة مع إيران مع كونها عضوا في مجلس التعاون الخليجي ذي السياسة المغايرة. سياسة مكّنتها من لعب دور وسيط مقبول بين الغرب وإيران ولاعب يتحاشى الإستعراضات الإعلامية. كما يقدم حماس المجتمع الدولي لتحرير الكويت مثالا مهما على نجاح مثل هذا الخط السياسي. لكن عالمي السياسة والإقتصاد الوحشيين لايتيحان للدول حظوظا متكافئة، فما تستطيع الإمارات العربية المتحدة الثرية فعله ليس في متناول يد البحرين الفقيرة. تشذّ قطر عن هذه القاعدة بشكل نافر إذ تحاول لعب دور "القوة الناعمة" soft power على المستوى الإقليمي، أي قوة لاتنسج علاقات ترابط وثيقة بهدف حماية أمنها القومي، بل تسعى إلى إقامة مناطق نفوذ لها واستخدام ثروتها الطائلة لحشد حركات سياسية عربية، إسلامية وأفريقية وراء قيادتها والعمل على إيصال تلك الحركات إلى مراكز الحكم أو إلى مواقع مؤثرة في دولها. وهي حالة فريدة، في حدود اطلاعي كذلك. أين تكمن قراءة قطر الواهمة للعالم؟ أرجّح أن الإمارة انطلقت من فهم صحيح للحقائق التي أوردت لكنها ارتكبت وترتكب خطايا فاضحة في ترجمة هذا الفهم عمليا، خطايا فاقمها شعور بالنشوة نجم عن نجاحات ثبت أنها شديدة القصر زمنيا. إذ ليست مصادفة أن احتضان حركة الإخوان المسلمين بشكل مفضوح منذ انقلاب الشيخ خليفة آل ثاني على أبيه في منتصف التسعينات تساوق زمنيا مع انفتاح الولايات المتحدة عليها بعد أن أظهر فوزها في الإنتخابات المحلية الجزائرية أن لها قاعدة جماهيرية كبيرة في المنطقة. وكان لهذا الإنفتاح، كما نعلم، تأثير كبير على تعديل سياسات الإخوان باتجاه التخلّي عن السلوك العنفي للوصول إلى السلطة واعتماد الطرق السلمية، نظريا على الأقل. تجلّت خطيئة قطر في جانبين: أولهما أنها لم تدرك الفارق بين ثقل الولايات المتحدة وبين خفّة وزنها متوهّمة أن القدرة على التأثير ليست مجرد خزائن مالية تنفتح للموالين، بل هي قدرة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية وحضارية. كل هذه العناصر، لا عنصر كيس المال، هي ما تعكس الثقل السياسي الدولي لبلد ما وتترجمه. يتّجلّى هذا الفهم الصبياني عندما نلاحظ أن الدول التي تمتد أصابع قطر إليها بشكل ملموس تعاني كلها من مشاكل مالية حادة: مصر، السودان، الأردن، موريتانيا، الصومال وقطاع غزة. تتفرّع خطيئة سياسة قطر الخارجية الثانية من الخطيئة الأولى. فقد فتحت الولايات المتحدة وبريطانيا أقنية حوار مع حركة الإخوان المسلمين بوصفها لاعبا من بين لاعبين مهمّين عدة في الساحات السياسية للمنطقة مادّة بذلك جسورا متفاوتة المتانة مع كل منهم. ولم يخف الغرب أن العالم العربي المثالي في نظره هو ذلك الذي تحكمه نظم لبرالية تؤمن بالإقتصاد الحر والقيم العلمانية. لكن عددا لاحصر له من استطلاعات الرأي والدراسات بينت أن الحركات التي تتبنى رؤى كهذه قليلة التأثير في الرأي العام لبلدانها. وعلى هذا الأساس شرعت الولايات المتحدة في محاولة نجحت إلى حد بعيد في تليين خط الإخوان بوصفهم قوة صاعدة. ووجد الإخوان في هذا الإنفتاح فرصة ذهبية لإقناع الغرب بأن نظم الحكم التي قد يحكموها ستكون صديقة لهم. من هنا، فمن التبسيط بمكان اعتبار الإخوان المسلمين "عملاء" للغرب بالمعنى الفجّ. قرأت قطر هذا التطور بطريقة بدائية وانتهازية في آن: مادامت القوى المدنية بعيدة عن الوصول إلى الحكم، فإن الإسلام السياسي المعتدل سيحكم المنطقة. وبما أن الإسلام المعتدل هو الإخوان، فلابد من إلقاء كل الثقل وراء الحكّام القادمين. ولم يكن تجاوب الإخوان مع هذه الرؤية أقل انتهازية. ففي مقابل تحول قطر إلى حاضنة لهم، وافقوا على حل فرعهم المحلي هناك عام 1999. صارت الدعوة في أعين الأخوان واجبا إسلاميا في العالم كله إلا قطر. أما للقطريين فصار مسعى الإخوان للعب دور سياسي في كل مكان موضع ترحيب بشرط أن يكون خارج بلدهم. وعندما اندلعت ثورات ربيع 2011 ترجمت قناة الجزيرة هذه الستراتيجية بما يليق بناطق رسمي حكومي. لم تكن قطر مع الثورات، بل كانت مع الأخوان الذين التحقوا بالثورات. لم تكن مع الجمهرة العفوية، بل هي استغلت شعبيتها لتوجّه أنظار الجمهرة إلى الأخوان بوصفهم القادة "الطبيعيين". نجحت تلك السياسة موقتا لأنها بنت على خط سياسي عَبَر الحد الفاصل بين الإنتهازية واللا أخلاقية من دون عقاب بل صفّقت ولاتزال تصفّق له جمهرة كبيرة . لم يحصل في التاريخ (بحدود اطلاعي عليه من جديد) أن شنّت دولة الحرب على أخرى فيما كان إعلامها يدافع عن العدو. لكن هذا مافعلته قطر. حين رفضت تركيا والسعودية السماح للقوات الأمريكية باستخدام قواعدها وأراضيها لشن حرب إسقاط البعث في العراق كان يمكن للصراع مع صدّام أن يتّخذ مجرى آخر. من قاعدة العديد القريبة من الدوحة انطلقت القوات الأمريكية ومن قناة الجزيرة في الدوحة انطلقت بيانات التنديد بأمريكا وحربها ضد العراق الشقيق. قلت هذا في البرنامج السياسي الأول والأخير الذي شاركت فيه في الجزيرة (ساهمت بعدها في برنامجين ثقافيين). اتصلت بي المذيعة وكنت واشنطن وألقت عليّ دروسا في الوطنية، وحين تحدّثت عن الأمر "انقطع الإتصال لأسباب تقنية". لا أظن أن علينا انتظار إجابة المؤرخين على سؤال: هل بنت الإمارة منظومة تحمي سيادتها وتؤمّن لها حرية الحركة والمناورة؟ ثماني عشرة سنة فقط مضت منذ اختارت قطر ستراتيجية نجحت بامتياز في جذب أنظار العالم إليها. لكننا نرى منذ الآن أنها اختارت ورقة يانصيب ولم ترسم سياسة. من حق قطر أن تشعر بالأمان لأن جذب أنظار العالم في هذا العصر لن يكون فاتحة لأحلام استعمارية على طريقة القرنين السابقين. لكن على الدولة التي تخوض هذا الطريق توقع أن ينظر العالم إلى عوراتها أيضا مثل تسليط الأضواء على الوضع شبه العبودي للعمال الأجانب الذين يبنون منشآت بطولة كرة القدم وبناها التحتية والشبهات التي لاتزال تحوم حول كيفية حصولها على حق تنظيم تلك البطولة على أراضيها. إسأل عربيا، أين تود أن تعمل أو تقيم؟ أراهن على أن الجواب لن يكون في قطر، بل في الإمارات العربية. راجع أعداد المستشفيات والمدارس والمباني العامة التي أقامتها إمارات خليجية في الدول العربية وستجد أن حصة الإمارات العربية تفوق نظيرتها القطرية عشرات المرّات. تابع الندوات والمقالات التي يحلم فيها مساهموها بمستقبل بلدانهم (مع قدر كبير من الوهم بالطبع) ولن تجد أحدا يتحدث عن "نموذج قطري" بل عن نموذج إماراتي. تلك هي القوة الناعمة حقا. توِتر: @isamalkhafaji
#عصام_الخفاجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في رثاء الثورة السورية
-
رسائل نصّية عن سيرة العراق في ربع قرن
-
عن روحاني وغورباتشوف وما بينهما
-
تفويض الفريق
-
عن مجابهة الظلم بالطغيان
-
التآلف الطائفي: لمحة عن خطاب منافق
-
عن دكتاتور الإعلام والثقافة عموما
-
حديث الملموس - في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي
-
في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي - حديث النظرية والتاريخ
-
عن خيط فاصل بين الثورة والحرب الأهلية
-
أنا مشبوه!
-
عن جاذبية السلطوية في العراق
-
عصام الخفاجي - مفكر أكاديمي وباحث في العلوم الاجتماعية - في
...
-
سورية: لو انتصر الجلاد!
-
إطروحات حول معنى اليسار ودوره في عصرنا
-
هل ولّدت الثورة المصرية يسارا جديدا؟
-
موضوعات حول مستقبل اليسار في العراق
-
مأزق النظام السياسي العراقي: تأمّلات في خيارات الديمقراطيين
-
((حزب الله)) وسياق المنطقة: هل يتحرر لبنان من محرريه؟
-
رسالة قصيرة من عراقي مفجوع: إصح يا أبا إسراء
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!!
/ محمد الحنفي
-
احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية
/ منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
-
محنة اليسار البحريني
/ حميد خنجي
-
شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال
...
/ فاضل الحليبي
-
الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
مراجعات في أزمة اليسار في البحرين
/ كمال الذيب
-
اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية
/ خليل بوهزّاع
-
إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1)
/ حمزه القزاز
-
أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم
/ محمد النعماني
المزيد.....
|