|
قصة قصيرة : الصديقان
بديع الآلوسي
الحوار المتمدن-العدد: 4406 - 2014 / 3 / 27 - 23:55
المحور:
الادب والفن
في النصف الأول من القرن الثامن عشر وتحديدا ً عام ( 1739 ) ، ولد ( براكاش الملقب ب ( فينشو )1 في مدينة دلهي بشمال الهند ، وترعرع قرب ضفاف نهر ( يامونا ) . كانت أمه إنسانة رقيقة ، تحرق البخور كل يوم وهي تردد : الحياة تستمد نسغها ليس من الصيت الفارغ بل من الحلم. هي من أورثه حب الموسيقى والرقص . في ليلة حالكة وقبل ثلاثة أيام من موتها المفاجئ ، وبينما هما يعزفان على القيثارة ، قالت له عبارة حفظها في قلبه حتى مماته : إذا كنت قد عبرت المحيط فلا يعني الأمر أنك قد انتصرت عليه .
في الأربعين من عمره وبعد أن عاد من جولته في جبال الهملايا ، تخلى عن متاع الدنيا ووزع ثروته على الفقراء والتحق بمعبد صغير يسمى ب (اللوتس )2 . معتقدا ً أن السلام الضروري سوف يجده بين البشر المسالمين . هنالك ، وبفترة وجيزة ، تمكن بأن يحظى بثقة واحترام كل الرهبان الذين كان شعارهم : يجب أن لا نفكر إلا في اللحظة الآنية . بعد خمس سنوات صار من حقه أن يدلي برأيه الحكيم لزوار المعبد الذين طالهم الإثم أو الألم . صحيح ، انه لا يتمتع بدهاء كبير ، ولا يتكلم إلا عند الحاجة ، لكن شخصيته الغامضة كانت تسحر الجميع . بعد أن تعمد قلبه بالتقوى والورع ، بدا له أن قول الحقيقة يسبب المزيد من المتاعب ، لذلك بدأ يبتعد عن الرهبان ، وما أن يلم به الضجر حتى يذهب إلى حديقة القردة ويعزف بقيثارته ألحانا ً تذكره بمغامراته مع صديقه الأقرب إلى نفسه( تانيشان ) . وبغض النظر عما يقال عن علاقته بصديقه الذي يعيش على السرقة والقمار . فأنه يتصدى للرهبان كلما حاولوا الإساءة لتانشيان ، و يقول بسخط : ـ انتم لا تعرفونه . جاء صديقة ذات مرة لزيارته ، دخل إلى المعبد كمهرج شجاع ، وكان يقبع على كتفه ببغاء رمادي ، وقال له متسائلا ً وبحزن : لماذا لا تتبعني يا براكاش ، لكي نكتشف الحقيقة معا ً ؟. اندهش من تلك الببغاء الذكي الذي ردد : بماذا تحلم ( كورما ) الآن ؟ . الرهبان في المعبد لا تروق لهم هذه العلاقة ، فأغلبهم لا يتذكرون من تانيشان سوى ذلك اللقيط او الشاب النذل ، الذي يتباهى بأيهام الفتيات بالحب ومن ثم يتركهن ، وهو يصرخ بتلك الجملة التي تعرفها كل نساء قرية ( راليغان سيدهي ) : جئت إلى هذا العالم لأفسد قلوب النساء وتدميرهن .
انتهت العشر سنوات في المعبد بسرعة ، تعلم خلالها كثيرا ً من الأناشيد الدينية القديمة ، ومارس كثيراً من العبادات والتلاوات التي ترافق تقديم القرابين ، وكذلك أصغى إلى الأغاني التي ينشدها المريدون أثناء أقامة الصلوات وتلاوة الأدعية ، كما أنه قد قرأ كثيرا ً من مقالات السحر والرقي الهندية القديمة .
في السنتين الأخيرتين حصل على لقب الراهب المبارك ، وركز جهوده على فكرة التسامح الديني ، والتآخي بين الهندوس والمسلمين والسيخ والمسيحيين ، وبدأ يمارس شعائر كل هذه الطوائف على حد سواء
لكنه في الشهور الثلاثة الأخيرة ، حدث تغير في حياته ، فصار يخلو إلى نفسه ويقوم بجلسات تأمل طويلة ، محاولا ً التخلص من تلك الجملة ، فهي تطارده وتكاد أن تخنقه، كان يمشي على العشب سادرا ً، متذكرا ً ما قاله صديقه في آخر لقاء : أنت جبان يا براكاش . وهكذا لم يكن أمامه من خيار سوى أن يتدبر أمره ، ظل لليال طويلة قضاها يتفحص ما يزمع القيام به ، عثر في كلمات تانيشان على الكثير من الصدق ، ولم ينس عبارته الصادمة ، حينما حذره قائلا : ـ لم تجد الحقيقة في المعبد . لذلك قال في خلده : هل يمكن أن يكون تانيشان هو( البوذا)3 من دون أن أدري ؟ .
ترى من كان بوسعه أن يتصور هذا التحول الرهيب . لا أحد سوى تانيشان . ما أن تسرب خبر تنازله عن لقب المبارك بين الرهبان حتى عم حزن يشبه الحداد في المعبد . في الوقت ذاته ، كان متيقنا ً من أن لو سمع صاحبه بالخبر لغنى بأعلى صوته أغنيته البذيئة ، تعبيرا ً عن فرحه الذي لا يوصف . ثمة ثلاثة أسئلة أثارت الحيرة في قلب براكاش وتأملها جيدا ً : لماذا جاء قراره متأخرا ً ؟ وهل خضوعه لطقوس المعبد الصارمة كانت ذات جدوى ، وكيف لم يقاوم ذلك الروتين الذي يبعث في نفسه على الملل .
في الشهر الأخير تخلى تدريجيا ًعن كل المهام التي تثقل كاهله ، حينها أحس بنوع من الارتياح لم يسعد به منذ عشر سنوات . وبدأ يواظب على العزف تحت ظلال ( الأزدرخت)4 متذكرا ً فكاهة تاينشان ومرحه وحبه للقردة ، التي كان يقول عنها : هؤلاء هم أصدقائي الحقيقين يا …. إن أكثر ما أدهش الرهبان في المعبد ، هو أنهم كانوا يشاهدونه في الأسبوعين الأخيرين يقضى نهاراته تحت المطر ، في آخر يوم ومع مغيب الشمس حسم الأمر نهائيا ً ، وصار هاجس الرحيل أمرا ً واقعا ً . عاد إلى مهجعه و تمدد على سريره ونام كطفل وليد ، متنعما ً بحاله تشبه( النيرفانا)5.
إن ما أذهل كبار الرهبان وأوقعهم في الارتباك هو هذا التحول العنيد والمليء بالأسرار ، لكنهم تابعوا مهمتهم ، محاولين وعظه وإقناعه بالعدول عن هذه الفكرة المجنونة . كان يصغي لهم مثل( يوغي)6 خَبَر معنى الانسجام بين الجسم والعقل والنفس . قال كبير الرهبان وأكثرهم وقارا ً: ـ هل لك أن تكشف لنا عن الدافع الحقيقي والمنطقي لهذا القرار؟ في البداية شعر براكاش ببعض الحرج ، معتقدا ً أن ما سيقوله سوف يجرح مشاعرهم ، لذلك اكتفى بتلك العبارة الغامضة : وجودي هنا صار يسبب لي ألما ً . أمضوا ساعتين ونصف يتناقشون ، من دون أن يكون أمامهم طريق آخر ، ابتغوا معرفة : كيف سيتمكن من تدبير أموره في هذه الجبال الموحشة ؟ … ولكن قبل أن يفترقوا قال أحدهم وكان يشد مئزرا ً يستر به عورته : ـ أيها الحكيم المبارك ، سوف لا تجد خارج المعبد سوى الحمقى والأوغاد والسفلة . أحس براكاش انه يقصد بصورة مباشرة أو غير مباشرة تانيشان ، لكنه لم يجب وفضل الصمت . في صباح اليوم التالي أستيقظ رهبان المعبد ، فلم يجدوا سوى ورقه صغيرة تركها على طاولة مكتبه ، كتب عليها : أجل ..لا يفسر الحرية إلا الحرية . وبهذا ترك المعبد وتوجه إلى ذلك المكان ، حاملا ً معه قيثارته متأبطا ً كتابه المفضل عن السحر . كان منذ ثلاث سنوات يحلم بالانزواء في نهاية وادي الجنادب ، توجه إلى هنالك باحثا ً عن مبتغاه . يطلق رعاة قرية ( راليغان سيدهي) على الكهف الصغير ، الذي التجأ أليه بمغارة الدببة ، ولكن ما ان استقر بها حتى صارت تحمل اسما ً جديدا ً هو : صومعة براكاش . هنالك وجد فأرة بيضاء ، تسللت من جحرها واستقرت في حضنه ، وبما أنه يؤمن بتناسخ الأرواح ، فأنه أعتقد أن روح حبيبة صباه قد تقمصت شكل تلك الفأرة ، لذلك أطلق عليها ( كورما ) ، والتي صارت تسرح وتمرح بسلام في تلك الصومعة ، حيث يقوم بإطعامها بيده ، وفي أحيان كثيرة تأكل معه في إناء واحد ، وتعامل معها ككائن مقدس . بعد شهرين ، شعر أنه قد ولد من جديد ، عندما عثر على نفسه الضائعة التي عقد معها تصالحا ًلا زَيْفَ فيه ، في تلك العزلة الباذخة بالسلام صار يحاول أن يتحرر من الأفكار السلبية والعقيمة ، التي تثقل قلوب البشر بالهموم والمواجع . بدأ يحس بخلو قلبه من شوائب البغضاء ، لكنه في كل يوم يستيقظ ، يسأل كارما : ــ لماذا لا يريد تانيشان أن يعترف بأن الألم تؤججه الرغبات . صحيح انه بات منفصلا ً عن وجود الآخرين ، إلا انه قد وجد أصدقاء جدد وحقيقيين منهم : الجنادب الخضراء ، وخرير الماء ، وشجرة التين ، والنار ، والماعز البري ، والدب سامبا ، وطبعا ً الشمس والقمر كانتا من أحب الأصدقاء إلى نفسه . نعم ، صارت المفردات الصغيرة للطبيعة أهم الموضوعات لجلساته التأملية ، وصارت بديلا ً عن كل ما قام به في المعبد من جلسات مبهمة تتمحور وتركز على التأمل في الذات . كانت هنالك سيدة طيبة النفس تمر به مرة ً كل عشرة أيام ، أنها (نيشا ) ذات الشعر المعقوص كذيل حصان ، تأتي لتجلب له البيض والعسل الأسود وقليلا ً من ما يتصدق به أهالي القرى المجاورة ، كان يقول لها بصوت واهن : ـ لماذا تكلفي نفسك يا غاليتي ، أن الغابة تتصدق علي َ بأكثر مما أستحق . لكن نيشا المسرفة في طيبتها ، كانت تمازحه وتضحك أحيانا ً، و تذرف الدموع احيانا ً اخرى ، حيث تقول له وهي تنظره بفضول : ـ أني احبك أيها المجنون . كان يبتسم ويجيبها دائما ً : ــ وأنا أحبكم جميعا ً. في كل مرة تأتي لزيارته ، كان يسألها عن تانيشان الذي صار يلقبه الناس ب (شيفا )7 . كانت تتعجب من سر هذه العلاقة الغريبة بينهما ، فهي لم تدرك عمق صداقتهما أو سببها . لذلك كانت تكتفي بالقول : ـ يشاع بين الناس ، انه أصبح أكبر مقامر في دلهي . غير أنها في أغلب الأحيان كانت تصمت حين ترى الحزن باديا ً على عيني براكاش ، وأحيانا ً تردد بعض الكلمات لتبث المرح في نفسه : ـ أنه عجوز مثلك ، الفارق الوحيد انه يقضي كل ليلة من حياته مع امرأة .
ذات مساء وبينما هو يتأمل أثر ذلك الجرح المندمل على كف يده اليمنى ، تذكر تانيشان وكيف جرح كل منهما نفسه ووضعا الجرح على الجرح ليختلط ويتعانق الدم بالدم ، حينها قال تانيشان : الآن أطمأن قلبي ، الآن تأكد لي بأنك سوف لا تنساني . في عزلته نسى كثيرا ً من البشر الطيبين والأشرار لكنه لم ينس صديقه ، وكيف له ان ينساه وهو الذي أنقذه ذات يوم من ذلك الإحساس الهائل باليأس . لذلك و منذ أن وصل إلى صومعة الدببة لم يستطع التحرر أو إسكات هاذين السؤالين : ـ هل تعلم كم أحبك يا تانيشان ؟ ، ومتى ستخصني بالزيارة ؟ كانت الأيام تمر كغيوم يطاردها تنين . وذات مساء وبينما هو منشغل بجمع الأغصان ، تسرب إلى ذهنه صوت يغني بشجن ، صوت ألفه منذ الصغر ، أرتجف لسماعه قلبه فرحا ً ، أحس أن هذا الإيقاع من الإنشاد لا يصدر إلا من قلب صديقه ، ترك ما يشغله محاولا ً التأكد من ما يسمعه ، بدأ الصوت يتضح ، وتحول الى صراخ يزعج كل الكائنات التي في الوادي ، أحس أن روح عنيفة تصرخ مستنجدة ً ، كغريق أصابه الهلع ولم يبق في عينيه سوى الدهشة. في هذه اللحظات المضطربة ، براكاش لم يسمع بوضوح سوى : ـ أينك يا مَن قتلتك الحكمة الزائفة ؟ .. كادت تلك الكلمات أن تصرعه ، مؤكدة ً تلك الحقيقة التي بسببها قاطعهُ أهالي راليغان سيدهي ، إذ حقد عليه كثيرا ً منهم ولم يغفروا له حادثة تركه المعبد واختياره ذلك المسلك الفردي .
صار يلوح ويذرف الدموع فرحا ً ، مجيبا ً بنفس الكلمات التي كانا يتبادلانها حينما يكونان سعيدان : أنا بانتظارك يا طيب القلب . كانت خطوات يانيشان تدك الأرض وتدلل على جسارته ، وعيناه يتطاير منهما الشر أو الغضب من كل البشر ، أتى هذه المرة قابضا ً بيده اليسرى على بندقية صيد قديمة ، وما أن رأت الببغاء وجه براكاش حتى بدأت تردد : بماذا تحلم كورما الآن ؟ . أحس بالأسى ، متوقعا ً أن صاحبه جاء لمحاصرة صديقة الدب سامبا وقتله ، أو للتمتع بصيد الماعز البري ، الذي يأتي كل مساء ليرتوي بسلام من عين الماء القريبة من الصومعة . كانت السماء حبلى بغيوم قرمزية ، وهما يتعانقان بحرارة لم يعهداها ، قال تاشيان : ـ أني لم أجد صديقا ً يليق بي سواك ، أتيت لأبوح لك بكل شيء . ظن براكاش أن صاحبه ، ربما تمادى في مغريات الحياة ، لذا جاءه أخيرا ً ليصغي إلى نصيحة تجنبه ذلك الألم الناتج عن فوضى الحواس . لم يتوقع أبدا ً ان صاحبه يبيت له أمرا ً مريبا ً ، لذلك كان يصغي الى ثرثرته السمجة وحماقاته البذيئة التي اعتادها منه ، وكان يحسده أحيانا ً ، لأنه يعرف جيدا ً أن تانيشان يحمل قلب أسد وعقل غوريلا ، وانه طاهر برغم تعرضه للإهانة والحيف . وحين تأججت النار في الموقد الذي كان أمام الصومعة .. سأله : ــ لماذا جئت اليوم ؟ .. أني أنتظرك هنا منذ ستة أشهر . أبتسم ثم أردف : ـ لكن كان قلبي ينبؤني أنك ستحضر . كاد تانيشان أن يقول له ، أني أفكر فيك دائما ً ، لكني آتي في اللحظة المناسبة ومتى أشاء . أما براكاش فقد واصل محاولاته لقراءة ما في عيني صاحبه أو حقيقة ذلك الكابوس المخيف ، وشعر بالانزعاج أكثر حين رآه يمسك بكلتا يديه وبشدة على بندقيته ، حين حدق بوجه صاحبه رأى يأسا ً مخيفا ً، جعله يتساءل في خلده : ما الذي جرى لك يا صاحبي ؟ كانت عيناهما تتقاطان بخشية وحذر . تانشيان لا يريد لصاحبه ان يعلم بما ينوي فعله . كذلك براكاش ، كان يقضا ً لما يتربص به ، محاولا ً تجاوز هاجس الخوف عبر تكرار تعويذته السحرية . قال المقامر وهو يضحك : أنا غريب الأطوار ، كما عهدتي . هنا غير براكاش نبرة صوته وقال مبتسما : وأنا غريب الأطوار أيضا ً . لكن أكثر ما أضحكهما هو ما يتردد من أقاويل تؤكد أنهما أكبر فاشلين في رالغان سيدهي . وعادت بهما الذكريات إلى أجمل اللحظات السعيدة والنادرة ، التي قضياها بمغازله الفتيات على ضفاف نهر يامونا . تحدثا معاً أحاديث مسهبة عن تلك الصبية الحسناء الوديعة كورما ، التي وهبت قلبها لهما معا ً، و لشدة اهتمامها بها كانا يلقبانها ب ( كاماديفا )8 ، لأنها كانت تثير مشاعرهما بدغدغات ناعمة ، لذلك نسيا كل النساء و لم يبق في خلديهما سوى عطر كورما الساحر، التي انتحرت لتطفأ نار الغيرة المفترسة في قلبيهما . اخرج تانيشان من حقيبته الجلدية زجاجة أنيقة ، وشرع بالحديث قائلا ً : ـ أنها أفضل خمرة ، لكنها لاذعة . بعد أن أرتشف عدة جرعات أردف قائلا ً : ـ أن حياتنا لم تعد تطاق . ـ ما الذي يشغل بالك ؟ من المؤكد إنهما خاضا تجارب مختلفة وجريئة ، جعلتهما مُختلفي المزاج ، خاصة ً في التعامل مع موضوعتي اللذة والغضب . نعم ، أن المغامر الملعون كان يفكر بهاجس ملعون ، فقد قرر أن يقتل صاحبة ، لأنه يحبه ويشفق عليه حد الجنون . بعد أن انطفأت النار ، دخلا إلى الصومعة . كانت نصف شمعة تتوسطهما وتنير لهما طريق الأحاديث . مع أن نوبة الغضب لم تهدأ في قلب تانشيان، لكنه فرح ما أن سمع صاحبه يقول له بمحبة : ـ أجلس ! هيا اسمعني أغنية عاهرة المدينة . لحظتئذ ، أغمض تانيشان عينيه الشريريتين وأجاب بهدوء عجيب : ـ يعلم ( كريشنا)9 لماذا لا أستطيع غناءها اليوم ، لكني أ ُفَضل ُ أن تعزف لي معزوفتنا المفضلة . ـ التي تحبها كورما ؟ ، تعني معزوفة الغراب الأسود والغراب الأبيض ؟ ـ نعم ، ربما تساعدني على تجاوز المحنة . كان يوما ً مكفهرا ً والرطوبة تتغلغل في العظام . كانا يقاومان كل ذلك بمزاج متقلب ، لكن براكاش أحس أن ضحكات صاحبه الهستيريه لم تنم سوى عن وجع غامض أو فكرة مجنونه يتعذر عليه التكهن بها . ودون تردد ، مد تانيشان يده التي أظهرت بوضوح ذلك الجرح القديم، وقال بتوسل : ـ أرجوك ، أحتسي قليلا ً من هذه الخمرة الذهبية . ـ هل نسيت ، إني زهدتها.. أحس المقامر بالأهانه ، جحظت عيناه ، تعالا صوته ، حتى أن الفأرة كورما بدأت ترتعد ، وبوجع قال : أشرب اليوم لأجلي واترك الزهد ، وإلا قتلتك . تطلع ببرود براكاش بصاحبه ، اخذ القنينة وتأملها وردد كلماته السحرية ، وبدأ يحتسي على مهل ، لا خوفا ً من الفكرة المجنونة بل إكراما ً لحضور أعز صديق لديه. وعاد يصغي إلى روح صديقه ، الذي باغته بتلك الجملة التي ما أن سمعها حتى فتح عينيه كمن يستفيق من إغفاءة مزعجة : ـ يجب أن نضع حدا ً للألم بعد أن فقدنا الرضا . صمتا بعض الوقت ، حينها فكر براكاش بما يجب قوله : ـ باسم الجرح والقسم الذي تعاهدنا عليه معا ً ، بماذا تفكر يا تانيشان ؟ حينها شعر المقامر بالارتياح ، لذلك ودون تردد قال : ـ أشعر أننا كجرذيين محاصرين . صمت ثم أردف : ـ أنني لم اعد أحتمل تفاهات الحياة ، إلى متى نتحمل الألم يا براكاش ؟ ـ هروبي من المعبد ، خير جواب على سؤالك . حاولا ولساعتين أن يفكراً بتلك التفاصيل المزعجة ، التي وإن اختلفا على تفسيرها ، لكنها في نهاية المطاف كانت تعود بهما إلى جذر ذلك السؤال : هل قلق الحياة سيطاردنا في العالم السرمدي ؟ سار كل شيء على ما يرام ، بعد أن تحاورا حول كلمات البوذا التي تقول : تجاوز الغضب بالحب . لكن تانيشان بدأ ينظر إلى الشمعة وينفخ فيها محاولا ً إطفاءها . قررا ترك الصومعة لكي لا تسمع كورما وتموت من الألم ، وكذلك فأنهم خرجا ليتنفسا هواء الغابة والربيع . حينها كان تانيشان كذئب جريح لا يريد أن يحيد عن التفكير بتلك القضية التي ما أن قالها لبراكاش حتى فرك عينيه غير مصدق : ـ اني خسرت كل شيء ، ، ولم يبق لي غير حبي لك . صمت ثم قال بوجع : ـ ستقول أني مقامر أحمق ، يفضل الانتحار والهرب . كان خرير الماء ينساب بين الأدغال منذهلا ًمما نطق به تانيشان ، كذلك الجنادب الخضراء صمتت ما أن سمعت براكاش يقول : ـ فضيع كل ذلك ، لكني أجد أنك صادق وجريء ..صمت تم أردف : ـ أرجوك تريث ، وأعلم بأنه ليس لي صديق سواك . خيم هدوء عجيب ، كان القمر يلقي عليهما بنوره الحزين ، ذارفا ً الدموع بسببهما ، حينها أراد براكاش أن يقول لصاحبه ، إن عذابات الحياة تطهرنا .. لكن قلبه خفق وبحذر قال : ــ أرجو أن تنحي البندقية جانبا ً . لم يفكرا بالأكل أو يقلقهما البرد كثيرا ً ، اكتفيا في تلك الليلة الموحشة بالخمرة اللاذعة ، التي أهاجت روحيهما وأزالت تلك الحواجز التي اعترضت طريقهما . كان الزمن يمر بسرعة ، والمقامر لم يتمكن من البوح بما في قرارة نفسه . رغب أن يوصل لصاحبه أن لكل إنسان طاقة للتحمل ، وأن إنهاء الألم دلاله على الشجاعة . تحول الليل تدريجيا ً إلى سديم مذهل مصبوغ بضوء القمر الفضي الفاتن ، لكن ما يدعو إلى الذهول أنهما شعرا باليأس والأمل في آن واحد . في تلك الأثناء استرسل تانيشان في الحديث مطولا ً، أجهد نفسه ليعبر لصديقه عن مفهومه للحب ، وكيف انه لم يعشق من النساء إلا كارما التي لم يلمسها أو يلوثها بمخالبه القذرة . لحظة الصمت والشكوى الطويلة ، أحالت براكاش وأعادته إلى نقطة الصفر ، وكيف كان لقاءهما الأول ، فهو لم ينس ذلك النهار. كان حينها لم يتجاوز الخمس سنوات ، حين خرج يبحث في الغابة عن نبات( الغاجا)10 ، ليهديها لأمه التي كانت تكابد الألم ، متمنيا إعادة الابتسامة والمرح إلى نفسها ، وبما انه لم يكتشف بعد مسالك الدروب ، فقد ضاع في الأدغال ، أنها تجربته الأولى في التمادي والذهاب بعيدا ً ، صار يبكي ، لا خوفا ً من الذئاب بل من إحساسه الهائل باليأس ، لكن في لحظات التيه تلك سمع صوتا ً يغني أغنية ً بذيئة ، حينها تشبث بالأمل ما أن رآه ، حتى ابتسم له ذلك الصبي ، الذي بذكاء وفكاهة قال له مشيرا إلى السماء المدلهمة : ـ أنا من سأدلك على الطريق ، لكن إعلم ، إن لم تتوقف عن البكاء ستنزل الصاعقة وتقتلك . منذ تلك الحادثة ، وهما يحتفلان كل سنه بيوم لقاءهما ، ويرددان نفس الجملة : حمدا ً لكريشنا ، إننا سنبقى جسدين بروح واحد . في الساعة التاسعة من تلك الليلة وقبل أن تشرف قنينة الخمر على الانتهاء ، قال براكاش وهو يعاني من غم عميق : ــ لقد أنذرتك من التمادي بالملذات . ـ لكني شرحت لك حين افترقنا آخر مرة ، أن الحياة كزهرة اللوتس . لم يجرؤ براكاش أن يجيب بشيء ، لأنه يعرف جيداً تلك الحقيقة ، التي تؤكد أن وردة اللوتس تطفو على سطح الماء لكن جذورها تتغلغل في قعر المستنقع وتتغذى من الخيسَة النتنة . سرت في جسده قشعريرة إثر تصويب فوهة البندقية نحوه ، على الرغم من ذلك استجمع شجاعته وقال بهدوء : ـ فعلا ً يا صديقي تانيشان . قبل منتصف الليل بقليل ، انبثقت عن ذهنيهما تفاصيل قصة تثير البكاء والضحك في آن واحد . حينها فقد براكاش سلسله أفكاره بدأ يتلعثم بكلام غير مفهوم ، لكنه ختم حديثه قائلا ً : ـ أقول لك كل ذلك لأجنبك ما تنوي القيام به . داهمت تانيشان أفكار كثيرة وتوقع أن سره على الأرجح قد أنكشف ، لكنه رد باسما ً : ـ ماذا تريد أن تجنبني ؟ كانت هذه المرة الأولى التي تمنى براكاش رؤية وجه صاحبه ، لكن الظلام الرمادي لم يمنحه هذه الفرصة ليتأكد أن كان مبتهجا ً أو عبوسا ً ، بالرغم من ذلك ، وبحذر شديد قال : ـ أنتبه . ـ أنتبه إلى ماذا ! ، أنت ساذج يا براكاش. أثارت تلك الكلمات موجة ً من الحزن في روح براكاش ، الذي عالجه بصمت طويل ، مرددا ًفي خلده تعويذته السحرية التي تعلمها من سحرة جبال الهملايا . من المؤكد أنه أرد أن يقول له أشياء كثيرة ، منها : مفهومه حول الانسجام الذي تعلمه من خرير الماء ، وعن طاقة الحب التي تعلمها من الفأرة البيضاء ، كما تمنى أن يوصل له رؤيته عن السكون والحركة التي تعلمها من القيثارة، وأحب أن يكشف له أن العالم امتزاج كينونتين هما الذكورة والأنوثة . كانا شبه ثملين ، لذا أرجأ الحديث عن دور الحواس في تشويش الروح وإرباكها ، حتى أن براكاش لم يقل له تلك الكلمات التي تقول : ( إن المعلوم في هذا الكون ، يلعب مع المجهول لعبه التخفّي ) 11 . بعدها صمتا وكأن الكلمات فرت من ذهنيهما ، وبقى كل منهما جالس على صخرته يتأمل نجمة بعيدة باهته ، فجأة ً وبدافع غريزي توثب تانيشان متحفزا ً ، ودون أن يقول أي كلمة وداع ، حث الخطى هاربا ً . حتى أن براكاش لم يعد يسمع سوى ما يردده الببغاء : بماذا تحلم ( كورما ) الآن ؟ هذا الرحيل المباغت والبارد كالثلج ، أربك صفاء ذهن براكاش ، وزاد من حيرته ودهشتة ، حين تذكر قول تانيشان : ثق أننا لا نعثر على السلام في أي مكان . بعد ثلاث دقائق ، وبينما هو يهم بالدخول إلى صومعته ، سمع تلك ألإطلاقه التي أفزعت كورما ، ودون شعور منه ، صرخ جزعا ً ، كمن خلعوا فؤاده من بين ضلوعه : آه .. لماذا كل ذلك ... ؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انتهى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فينشو : اسم آلهة في الهند ، ويسمونه الحافظ ، مهمته الحفاظ على العالم 2 ـ اللوتس : نبات مائي مزهر ، زهرته مقدسة عند الهنود ، لأنهم يعتقدون أن الإله فيشو وكذلك البوذا قد انبثقا من زهرة اللوتس 3 ـ البوذا : هو ( سيدهارتا ) الذي ولد سنة 568 ق م ، وهومؤسس الفلسفة البوذية لأنه نال لقب الحكيم أو المستنير
4 ـ الأزدرخت : شجرة يطلق عليها في الهند اسم (صيدلية القرية) وقد يمتد عمرها في الغابة إلى ألمائتي سنة 5 ـ النيرفانا : هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل لها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق ، وصفها بوذا : أنها حالة السلام التام للروح . 6 ـ اليوغي : هو من يمارس اليوغا وهي مجموعة من الطقوس الروحية القديمة أصلها الهند، وتهدف الى اتحاد روح الفرد بالروح الكونية 7 ـ شيفا : هو إله الهلاك والفناء والدمار 8 ـ كاماديفا : إله الحب في الهند ، وتؤدى له الرقصات كي يعود إلى الحياة ، بعد أن أحرقه الإله شيفا وحوله إلى رماد . 9 ـ كريشنا : يعني الأسود أو المظلم أحد آلهة الحضارة الهندية الكبار ، وقيل أن كريشنا كان له 16 ألف زوجة ومات عندما أصابه صياد بطريق الخطأ في قدمه ومات بسبب السهم المسمومة . 10 ـ الغاجا :نبات ذو تأثيرات مخدرة وله تسميات عديدة منها (ماريغوانا ) 11 ــ هذه البيت من الشعر ، مستل من قصيدة للشاعر طاغور
10/10 / 2013
#بديع_الآلوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة : لعنة النزيف
-
قصة قصيرة : القط همنغواي
-
قصة قصيرة : الومضات الخرافية
-
قصة قصيرة : قولوا له أن يتركني
-
قصة قصيرة : ما الحكمة
-
قصة قصيرة : متاهة الخلود في الهور
-
قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين
-
قصة قصيرة : غواية الفيسبوك
-
حديقة كيفين
-
قصة قصيرة : نجمة في القلب
-
خفقات ناي غريب / البوح الثالث
-
خفقات ناي غريب / البوح الثاني
-
خفقات ناي غريب / البوح الأول
-
قصة قصيرة :عجيبة هي الحياة
-
الرأس
-
صباح أسمر
-
هواجس : اللومانتية 2011
-
الأركان الضرورية للإبداع
-
طريق التغييرالى(( اين))
-
وجهات نظر عن ......
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|