سامح نجيب
الحوار المتمدن-العدد: 1251 - 2005 / 7 / 7 - 09:35
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
خلال السنوات القليلة الماضية ومع التزايد المضطرد في عدد المنظمات الحقوقية والتنوع الكبير في أنشطتها برزت قضية التمويل كإحدى القضايا الخلافية المهمة في أوساط اليسار. يناقش سامح نجيب عددا من الإشكاليات الأساسية الخاصة بقضية التمويل.
تثير قضية التمويل الأجنبي والذي تعتمد عليه كثير من المنظمات غير الحكومية العاملة في المجال الحقوقي, تنويعة واسعة من الإشكاليات والتساؤلات والشكوك. سنحاول في السطور التالية طرح رؤية اشتراكية لهذه القضية الخطيرة.
التمويل وأهداف الإمبريالية
إن أغلب المعارضين للتمويل الأجنبي في أوساط اليسار المصري ينطلقون في هذا الموقف من مبدأ مناهضة الإمبريالية. فغالبية الجهات المُمَوِلة إما أوروبية أو أمريكية, وكثير منها مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بحكومات الدول التي تنتمي إليها، وبالتالي فقيامها بتمويل منظمات غير حكومية في العالم الثالث, سواء كانت تنموية أو حقوقية, لا يمكن أن ينفصل تماماً عن المصالح الإمبريالية لتلك الدول.
في هذا المجال يستحيل التمييز بين ما يسمى بالتمويل المشروط والتمويل غير المشروط، وهو التمييز الذي يركز عليه المدافعون عن التمويل الأجنبي. فهؤلاء يطرحون أن التمويل يكون مقبولاً طالما لا يتدخل الممول الأجنبي بأي شكل من الأشكال في القرارات المتعلقة بالنشاط وبمجالات إنفاق الميزانية.
ولكن التمويل ليس مجرد مبلغ يدفعه الممول ثم يذهب إلى حال سبيله، لكنه عملية يتم تجديدها بشكل دوري, إما سنويا أو نصف سنوي، أو مع كل مشروع أو نشاط جديد. وللمنظمة المُمَوِلة بالطبع الحق المطلق في تجديد التمويل أو وقفه وفقاً لتقديرها لما تم إنجازه ولما يتم التخطيط له. ومن السذاجة تصور أن الجهات المُمَوِلة تتخذ قراراتها فقط على أساس معايير الكفاءة والتقييم الموضوعي لأداء المنظمة المُمَوَلة. فمن البديهي أنها تُدخل في حساباتها المضمون السياسي والاجتماعي والثقافي لنشاط المتلقي للتمويل ومدى توافق هذا المضمون مع اتجاهات وأهداف الجهة المُمَوِلة.
أي أن "المشروطية" هنا لا تأتي بالضرورة من خلال شروط علنية تطرح بشكل مسبق، بل من خلال رقابة ذاتية من قبل المنظمات المتلقية للتمويل والتي تضطر إلى صياغة تقاريرها وخطط عملها وفقاً لما تتصور أنه "مقبول" أو "مطلوب" بالنسبة للجهات المُمَوِلة. وهي رقابة ذاتية يمكن تشبيهها بما يحدث في الصحافة البرجوازية والرسمية في العالم العربي. فالصحفي يقدر ما هو مقبول أو غير مقبول لدى رئاسة التحرير و"يُفَصِل" مقالاته أو تحقيقاته وفقاً لهذه المعرفة, دون أن تكون هناك بالضرورة شروط وقواعد فجة وعلنية.
ولا يمكن أيضاً فصل قضية التمويل الأجنبي عن اللحظة السياسية التي تمر بها منطقتنا. فالإمبريالية الأمريكية تعلن بوضوح أن للمنظمات غير الحكومية دوراً محورياً في مشروع الشرق الأوسط الكبير. وتراقب المخابرات المركزية الأمريكية عن كثب حركة الأموال المتجهة لهذه المنظمات في منطقتنا بحجة الحرب على الإرهاب. وفي ظل هذه المعطيات، هل من الممكن أن نطرح أن التمويل الأجنبي، الأوروبي والأمريكي، يمكن أن يكون منفصلاً عن المخططات الإمبريالية للمنطقة العربية؟
مؤسسة فورد والمخابرات المركزية
هناك بالطبع مؤسسات تمويلية ذات صلات مباشرة ووثيقة وتاريخية مع المخابرات المركزية الأمريكية. ولعل أشهر هذه المؤسسات هي مؤسسة فورد. فلنلقِ نظرة سريعة على تاريخ هذه المؤسسة التي تلعب دوراً أساسياً في تمويل الكثير من مشاريع المنظمات غير الحكومية في مصر.
أسس هذه المنظمة هنري فورد وكان مالكاً لشركة فورد للسيارات، وكانت الأهداف المعلنة لهذه المؤسسة "الخيرية" نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والثقافة وحل مشكلات التنمية في البلدان الفقيرة. ووصل رأسمال المؤسسة في الخمسينيات إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار. ولكنها لم تكن بطبيعة الحال مجرد مؤسسة خيرية بل تداخل نشاطها بشكل مباشر مع نشاط المخابرات الأمريكية. وأصبح أغلب ما تموله من مشروعات يدخل في إطار محاربة الشيوعية في ظل الحرب الباردة المتصاعدة آنذاك. والارتباط بالمخابرات لم يكن فقط على مستوى الأهداف بل أيضاً على مستوى الإدارة المباشرة. يكفي ذكر أن مدير المؤسسة بين 1952 و1954 كان ريتشارد بيزل، الصديق المقرب من ألان دالاس رئيس المخابرات المركزية, وقد أصبح مستشاراً خاصاً لدالاس في يناير 1954.
وفي 1954 تولى جون ماكلوي إدارة المؤسسة، وكان قد شغل قبل ذلك عددا من المناصب مثل مساعد وزير الدفاع ورئيس البنك الدولي والحاكم المدني لألمانيا المحتلة ومحامي لشركات البترول العملاقة في وول ستريت! وقد أسس هذا الرجل مكتباً خاصاً في مؤسسة فورد للتنسيق مع المخابرات المركزية. ومولت المؤسسة عشرات الآلاف من المشاريع الثقافية والحقوقية والتعليمية في مختلف أنحاء العالم واستوعبت الآلاف من مثقفي العالم الثالث. وكان كل ذلك في إطار الحد من انتشار الشيوعية ومد الهيمنة الأمريكية عالمياً وفي مختلف المجالات.
ومن المثير للدهشة أنه حتى مجال الفن التشكيلي لم يسلم من محاولات الهيمنة من قبل فورد والمخابرات، فقد أنفقا الملايين لدعم أعمال من المدرسة التعبيرية التجريدية للمساهمة في الحد من نفوذ المدارس الفنية الأوروبية المتأثرة باليسار.
وفي نهاية الستينيات نُشِرت في الصحف الأمريكية فضائح وتفاصيل علاقة المؤسسة بالمخابرات, مما اضطرها إلى إجراء بعض التعديلات في أسلوب عملها. ولكن دون أن يؤثر ذلك على جوهر نشاطاتها, بل جَعَل علاقاتها مع المؤسسات الحكومية الأمريكية العلنية, مثل هيئة المعونة الأمريكية, أكثر "شفافية".
وقد اعتبر البعض أن انتهاء الحرب الباردة وزوال مخاطرها على الهيمنة الأمريكية قد غير من طبيعة وأهداف المؤسسة، خاصة في ظل المجهود الضخم الذي بذلته لإعادة اكتساب الشرعية كمؤسسة خيرية مستقلة ــ بما في ذلك المشاركة في المنتديات الاجتماعية العالمية. ولكن ما حدث بالفعل هو تحويل مركز نشاطها من الحد من تأثير الشيوعية إلى الحد من "الإرهاب" والحركات الإسلامية مع الاستمرار في محاربة اليسار وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية وآسيا. وفي الحالتين يظل جوهر نشاطها هو خدمة مصالح الهيمنة الأمريكية في العالم وخاصة في منطقتنا المشتعلة.
الجماهير والمنظمات غير الحكومية
سيقول البعض أن مؤسسة فورد ليست نموذجاً لكافة الجهات المُمَوِلة, وإذا كانت فورد تخدم المصالح الإمبريالية فهناك العشرات بل المئات من المؤسسات المُمَوِِِِِِِلة التي تعارض سياسات الإمبريالية، بل وتشارك في الحركات المناهضة للحرب والاستعمار. فلماذا لا نقبل التمويل من هؤلاء؟ ألا يشكل مثل ذلك التمويل نوعاً من التضامن الأممي الذي لا يجب أن يعارضه أي اشتراكي؟
للرد على هذا السؤال علينا التطرق لجانب آخر من القضية وهو علاقة المنظمات غير الحكومية بالجماهير. ففي حالة المنظمات الخيرية الإسلامية أو المسيحية مثلاً تكون هذه العلاقة واضحة المعالم. فالعمل الخيري يستهدف تقديم المعونة أو الخدمات للفقراء. وهو عمل ذو طبيعة نخبوية وسلبية يساعد على إبقاء الوضع الاجتماعي على ما هو عليه. فبدلاً من تحريض الفقراء لنيل حقوقهم، يتم التأكيد على أفكار العجز والضعف وانتظار ما يمن عليهم به الأغنياء سواء من الخارج أو من الداخل.
وقد أدى نجاح الحركة الإسلامية في الارتباط بالجماهير من خلال العمل الخيري وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية وغيرهما منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى تأثر بعض قطاعات اليسار بهذا المنهج الخدمي النخبوي. وبدأ العديد من هؤلاء في تكوين منظمات غير حكومية ذات طابع خدمي أو حقوقي. ومما لا شك فيه أن انهيار الإتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية التقليدية المرتبطة به قد ساهم في دفع بعض اليساريين في هذا الاتجاه.
هناك ارتباط عضوي بين الوسائل والأهداف في أي نشاط سياسي أو اجتماعي. فإذا كان الهدف هو تقديم خدمة لقطاع من الجماهير، تصبح وسيلة التمويل لتحقيق هذا الهدف مسألة ذات طابع تقني. فتقديم خدمة قانونية مجانية مثلاً يستلزم مكتب وعدد من المحامين المتفرغين وبعض الأجهزة والباحثين. وهذه المستلزمات تحتاج إلى رأسمال أولي وميزانية سنوية ويمكن حساب هذه الأشياء بدقة ويتبقى بعد ذلك البحث عن الممول. ولا يوجد في هذا النموذج أية علاقة بين متلقي الخدمة وبين وسائل جمع التمويل. وهذا الانفصال يؤكد الطبيعة النخبوية لمثل هذا النشاط. فالمتلقي لهذه الخدمة ليس مشاركاً واعياً في النشاط, والذي يشكل التمويل جزءاً حيوياً منه, بل هو فقط "الموضوع" السلبي للنشاط.
ولعل ما يؤكد الطبيعة النخبوية لهذه العلاقة بين كثير من المنظمات غير الحكومية المُمَوَلة والجمهور هو ما نراه في أنشطتهم الدعائية, وهو الذي يسمى عادة "التوعية" أو "رفع الوعي" ــ نقتصر في هذا المقال على مناقشة الجانب المتعلق بالتمويل, ولكن أحد الجوانب التي لا تقل خطورة وسلبية هو عالم المصطلحات المترجمة حرفياً من الإنجليزية والتي تشكل منظومة أيديولوجية إصلاحية ولا طبقية، مثل حقوق الإنسان, التمكين, التشبيك... إلخ.
هذه المنظمات تقوم بنشر الكراسات والكتب والمجلات, ولكن ولأنها تحصل على تمويل خارجي لهذا النشر, فهي تقوم بتوزيعها بشكل مجاني. لنقل مثلاً أن إحدى هذه المنظمات تريد إصدار مجلة دورية حول حقوق المرأة. كيف تحدد عدد النسخ التي تحتاج لطبعها؟ كيف تحدد حجم وشكل المجلة؟ الذي يحدد هذه الأشياء هو حجم التمويل الذي تتلقاه المنظمة من أجل هذا النشاط. والقارئة لا تدفع ثمن المجلة ولا تساهم في تنمية مواردها وشبكة توزيعها.
قارن ذلك بمجموعة نسائية لا تحصل على تمويل خارجي وتريد إصدار مجلة مماثلة. فهي لا تستطيع ذلك إلا بجمع الاشتراكات والتبرعات والتي يحدد حجمها حجم دائرة النشطين الملتفين حول هذه المجموعة. ويحدد ذلك بدوره حجم شبكة التوزيع الممكنة وبالتالي حجم جمهور القراء المتوقع. هكذا تكون الإجابة على سؤال كم نسخة وكم صفحة, مرتبطة بشكل مباشر بحجم شبكة النشطين وإمكانياتهم. إذا كانت تلك الإمكانيات لا تسمح إلا بإصدار 200 نسخة من نشرة من أربع صفحات, فهذا ما يجب البدء به. وكلما توسعت دوائر النشطين وجمهور القراء، كلما زادت الإمكانيات وزاد التوزيع وتطور حجم ومضمون المجلة. والقارئة التي تدفع ثمن المجلة وتجمع لها التبرعات وتعرف أن بقائها وتطورها يعتمد بشكل أساسي على دورها الفعال, هل يمكن مقارنتها بتلك التي تصلها مجلة مجانية لا تعرف شيئا عن تمويلها ولا تلعب أي دور في بنائها؟
التمويل إذن ليس قضية تقنية، بل هو قضية سياسية تحددها علاقة النشطاء بالجمهور, وبدوره يحدد التمويل شكل تلك العلاقة. فإما أن يرتبط الهدف والوسيلة بالتمويل الأجنبي والنخبوية والانعزال عن الجمهور، أو أن يرتبطا بالتمويل الذاتي بمشاركة النشطين والجمهور وخلق حركة حقيقية قادرة على البقاء والنمو.
اليسار والتمويل
ولكن ماذا عن موقف اليسار الماركسي من هذه المنظمات الحقوقية المُمَوَلة والنشطين بها؟ صحيح أن الإمبرياليتين الأمريكية والأوروبية تريدان استخدام هذه المنظمات لخدمة مصالحهما في المنطقة. وصحيح أن التمويل حتى إذا كان قادماً من جهات "محايدة" فهو يخلق منظمات ذات طابع خدمي ونخبوي يتناقض مع مشروع بناء حركات جماهيرية مستقلة وواعية. ولكن هل يعني ذلك ضرورة مقاطعة كافة هذه المنظمات والنشطين بها؟ أليس للحركة الجماهيرية وتطورات الصراع الطبقي تأثيراً داخل بعض هذه المنظمات؟ وهل يمكننا وضع كافة هذه المنظمات في "سلة رجعية واحدة"؟
للرد على هذه التساؤلات علينا وضع نشأة وتطور هذه المنظمات في سياقها السياسي والاجتماعي. فقد انخرط الكثير من الماركسيين السابقين في منظمات حقوقية مُمَوَلة خلال بداية التسعينيات. ولا يمكن قصر أسباب ذلك الانخراط على الفساد والإغراءات المالية التي كان يقدمها العمل في تلك المنظمات. فقد كانت فترة بداية التسعينيات فترة تراجع حاد لليسار بشكل عام كان من أهم مظاهره انهيار الاتحاد السوفيتي, والضعف المزمن للحركة الشيوعية المصرية منذ نهاية السبعينات, والاستسلام النهائي لمنظمة التحرير الفلسطينية, وهيمنة مشاريع الليبرالية الجديدة وضعف المقاومة لها. فكل تلك العوامل لعبت دورا مهما في خلق مناخ من الإحباط والتخبط في أوساط كوادر اليسار وأدت إلى فقدان الثقة في الماركسية وفي دور الطبقة العاملة وفي مشروع الثورة.
تزامن ذلك مع تبلور نظريات اجتماعية إصلاحية تصف نفسها بالواقعية, كنظرية "الحركات الاجتماعية الجديدة" ونظرية "المجتمع المدني". وشكلت هذه النظريات جسراً للتخلي عن مبادئ ومفاهيم الماركسية الثورية، مثل ضرورة بناء الحزب الثوري، والدور القيادي للطبقة العاملة، والربط بين قضايا الاضطهاد والصراع الطبقي، وبين النضال اليومي من أجل الإصلاحات وبين المشروع الثوري.
وفي كثير من الأحوال كان ذلك التخلي بمثابة رد فعل مباشر ليس فقط لما بدا في ذلك الحين انتصارا نهائياً للإمبريالية والرأسمالية عالمياً بل أيضاً للطبيعة المشوهة والستالينية للحركة الشيوعية المصرية. فغياب الديمقراطية الداخلية والتجاهل الفعلي لقضايا الاضطهاد بحجة ثانويتها والتصورات الميكانيكية الجامدة للعلاقة بين الصراع الطبقي وباقي قضايا المجتمع, كل تلك التشوهات لعبت دورا مهما في هروب كثير من الكوادر إلى مشاريع إصلاحية تركز على قضايا ملموسة ومحددة و"واقعية" وقابلة للتحقيق من وجهة نظرهم.
إلا أن الظروف الموضوعية التي أدت إلى حالة التخبط والإحباط في أوساط اليسار لم تدم طويلاً. فلم تكن تلك اللحظة هي نهاية التاريخ كما تمنى فوكوياما. فمع نهاية عقد التسعينيات وبداية القرن الجديد، أصبحنا نشهد تطورات مهمة على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي. فأولاً فشلت سياسات السوق والليبرالية الجديدة في العديد من دول العالم، بما في ذلك دول الكتلة الشرقية السابقة وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية (انهيارات 1997 و1998). وثانياً انهار مشروع السلام البرجوازي، والذي مثل الركن الأساسي لاستقرار منطقتنا العربية، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بكل ما تحمله من آمال للتحرر والتغيير. وثالثاً عادت الحروب الإمبريالية للسيطرة على مصادر الطاقة والأسواق والتنافس بين الكتل الرأسمالية الكبرى لتبدد كل الأوهام حول أننا نعيش في عالم ما بعد الرأسمالية أو ما بعد الإمبريالية. ورابعاً اندلعت حركات فلاحية وعمالية مناهضة لسياسات الليبرالية الجديدة في مختلف أنحاء العالم, خاصة في أمريكا اللاتينية. وخامساً اندلعت حركة عالمية مناهضة للعولمة الرأسمالية والحرب وشهدت عديد من العواصم في مناطق مختلفة مظاهرات جماهيرية غير مسبوقة في حجمها وفي تنوعها.
وعلى المستوى المحلي أيضا لم تبق الأمور على ما كانت عليه. فقد أدت سياسات الليبرالية الجديدة التي تبناها النظام خلال التسعينيات إلى انهيار اقتصادي شامل، وتضاعفت البطالة وأصبح شبح الجوع يخيم على ملايين العمال والفلاحين الفقراء. ومن ناحية أخرى تفجرت موجات متتالية من الغضب الجماهيري ضد المذابح في فلسطين والعراق وضد موقف النظام المتواطئ مع الإمبريالية والصهيونية.
وكان لهذه التغييرات المهمة تأثيرات عميقة في أوساط اليسار المصري بما في ذلك بعض اليساريين السابقين المنخرطين في المنظمات الحقوقية المُمَوَلة.
ففي حين ارتمى البعض في أحضان النظام بالمشاركة في المجلس القومي لحقوق الإنسان، وأصبح شغلهم الشاغل تجميل صورة النظام والتعاون مع أجهزته الأمنية، وقرر البعض الآخر الارتباط المباشر بالإمبريالية من خلال القنصليات ومنظمات حقوق الإنسان التابعة لوزارات الخارجية الأمريكية والأوروبية ــ وصل بالبعض الأمر إلى الالتقاء بالقنصل الأمريكي في القاهرة بحجة التشاور حول قضايا المجتمع المدني في مصر ــ فإن أقلية من النشطين في المنظمات الحقوقية المُمَوَلة رفضت هذه التوجهات وارتبطت بالحركات المناهضة للنظام وللإمبريالية والصهيونية وشاركت بشكل فعال في الحركات الاحتجاجية وفي اللجان الشعبية.
هل يمكن أن يكون الموقف من هؤلاء هو نفس الموقف الذي نأخذه تجاه من ارتموا في أحضان الدولة والإمبريالية؟ ألا تخلق التحولات الحادة الجارية على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية فرزاً حتى في أوساط المنظمات الحقوقية الُمَمَولة؟ ولكن إذا كان علينا أن نميز داخل هذه الأوساط, بين الأقلية التي ترتبط اليوم بالحركة والأغلبية التي نجحت الدولة والإمبريالية في استيعابها, فعلينا أيضاً ألا نتغافل عن التناقض الذي تقع فيه هذه الأقلية بين رغبتها في الارتباط بالحركة والنضال فيها وبين منظومة التمويل التي تظل جزءاً منها.
#سامح_نجيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟