صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 4404 - 2014 / 3 / 25 - 12:29
المحور:
كتابات ساخرة
إذا إستطاع أي فرد إستدعاء معلومات بعد أن كان قد رتبها وخزنها فهذا يعني أنه مارس عملية التذكر التي تُعد من النشاطات النفسية التي يستطيع هذا الفرد من خلالها إسترجاع تشكيل الأحاسيس والأفكار في الدماغ وكذلك الحوادث التي حدثت له في الماضي,والمعلومات التي إكتسبها وسجلها في ذاكرته بفعل ما يحصل من مؤثرات جديدة. وتتم عملية التذكر في فترة زمنية قصيرة.وكلما طالت هذه الفترة كانت الإستجابة لإستحضارالمعلومات أضعف وبالعكس. والتذكر يُمَكِن الفرد من معالجة المشاكل التي تصادفه وذلك بالإستفادة من الخزين الذي يحمله فيجعله قادراً على حسن التصرف وتجاوز الحرج إذ يكون سريع البديهة. وتنمو الذاكرة وتزداد قوةً مع تقدم العمر بعد الولادة إذ يتنامى الدماغ وتتنامى معه الذاكرة حتى تصبح للدماغ مقدرة على فهم المعاني فتتضاعف قوة الذاكرة وتتطور من شكلها العضوي الى الشكل الإرادي القائم على إستدعاء الذكريات لمناسبة معينة أو لحدث أو لظرف معين وإختيار التصرف الذي يناسبه. وخزن الذكريات أما أن يكون بطريقة مادية تنتج من البنى الفيزياوية والكيمياوية والفيزيولوجية للدماغ,أو أن تكون خزناً ديناميكياً يتولد عن تيارات كهربائية عصبية أو موجات كهرومغناطيسية وهو يمثل الذاكرة العاقلة.
أما النسيان فهو فقدان الذاكرة أي فقدان القدرة على التذكروعدم التمكن من إستدعاء المعلومات والمهارات والخبرات التي مر بها الفرد وذلك عندما يحتاج إليها.وهذا ما يحدث عند تزاحم المعلومات والأحداث وتكدسها بالدماغ بالقدر الذي يجعله غير قادر على إستيعاب وإستضافة معلومات أخرى . وعادة ما يحصل النسيان بسبب مرض مثل الزهايمر أو إصابة دماغية معينة أو ربما بعد تعرض الإنسان لصدمة إنفعالية أولصدمة جسدية (ميكانيكية) مؤثرة على الدماغ. أما النوع الذي ينتج عن صدمة نفسية والذي يسمى قمع الذاكرة فهو ليس نسياناً بالمعنى التقليدي لأن المعلومة في هذه الحالة تبقى محفوظة, لكن الذاكرة (وخاصة من النوع القريب) هي التي تزول من العقل الواعي على عكس ذاكرة المدى البعيد. وبإختصار فإن أسباب النسيان هي أما صحية أو نفسية أو تكوينية.
الذي دفعني لطرح هذا الموضوع ولو بإختصار وعلى عجالة ,هو ما يصيب صاحبي الأستاذ (غانم) الذي يعاني من النسيان القاتل وعدم التمكن من التذكر لا للأسباب التي تم سردها حسب, وإنما لأسباب أخرى غير ما ذُكِر,وهو يحاول بكل الجهود تحاشي ما يبعث على النسيان حتى إنه إمتنع عن تناول جميع الأغذية التي تحتوي على الكالسيوم بعدما قرأ في إحدى الصحف بأن تناول الكالسيوم يُعد أحد الأسباب في ضعف الذاكرة, كما أنه واضب على زيارة الطبيب لغرض زيادة إفرازات الإدريالين الذي يساعد على تثبيت وترسيخ الذاكرة وحفظ الأحداث والذكريات المثيرة و المؤلمة نفسياً و عصبياً.و حرص على تناول سمك السلمون واللحم البقري الطازج الخالي من الشحوم والذي ينهض بالقدرة على التذكر .وأكثر من تناول الخضروات والفاكهة الطازجة و تناول أقراص فيتامين(ب) كومبلكس والمأكولات البحرية,وإبتعد عن تناول الأطعمة الجاهزة والمعلبة المسببة للنسيان ,صار أحد رواد دكان صغير لبيع الأعشاب فأخذ يشتري إكليل الجبل والزعفران وخليطه مع الجوتوكوا,وكذلك الزيوت غير المشبعة كزيت الكتان ,وأعشاب الجنكة والزنجبيل والزبيب...الخ. ومع كل هذا فقد تخذله هذه المأكولات ليقع أحياناً فريسة للنسيان وما ينتج عنه من إحراجات وضياع وخاصة بعد أن يقوم بإحتساء العرق اللعين وأخواته من بيرة مثلجة أو ويسكي(سكوج) أو نبيذ أحمر معتق مع تناول (مزة) من اللبن الناشف واللبلبي المهروس المضاف إليه عصير الليمون الحامض. وفعلته هذه توقعه في مواقف النسيان المحرجة لكنها تؤجج فيه روح النكتة التي تبعث على الضحك القاتل فهو رجل من النوع اللطيف الذي ينشر الفرح والسرور على كل من يجالسه وينادمه. يتميز بالنكته الحاضرة التي يطلقها دون تكلف مما يفقد سامعيه السيطرة على أنفسهم الى الحد الذي يطلبون منه الكف والتوقف وعدم الإستمرارفي هذا الوصف الكوميدي لأحداث يسردها بتمكن هزلي رائع وقد إضطر أحدهم الى تغيير ملابسه الداخلية بعد سماعه إحدى تلك النكات !. ونكاته التي يطلقها ليست من النوع التقليدي ,فهو لا يحكي نكتة على هيئة قصة تنتهي بمفاجئة (تسمى الضربة) تجلب الإبتسام أو الضحك لسامعيها بل هو يمتلك المقدرة على السرد الكاريكتيري المتواصل في أي موضوع يتكلم فيه وبذلك يستطيع إضحاك حتى الحزين أو الكئيب إضافة الى تمكنه أيضاً من إرتجال الشعر الشعبي الساخر والذي يطلقه في أثناء سرده دون جهد أو تكلف,فهو نديم رائع .وهكذا فقد كنا في أثناء حجزنا من قبل الحرس القومي والأمن العامة بعد إنقلاب شباط الأسود 1963 نمضي معه أوقاتاً تنسينا ما نحن فيه من إكتئاب ونحن محشورين في حجرة صغيرة في مركز للشرطة يطل على نهر الفرات وقد أغلقت نوافذه بالطابوق لمنع دخول الشمس إلينا لنبقى في ليل طويل. وبعد إطلاق سراحنا وجد بعضنا نفسه مفصولاً من الجامعة وآخرون أغلقت محلاتهم , الموظفين منا تم نقلهم الى أماكن بعيدة عن سكناهم. أماأستاذغانم وهو المعلم التربوي المتميز في تدريس الصغار الذين تعلقواً به وأحبوا درسه لما يمتلكه من روح مرحة وحب ورعاية لهم وفهم لمتطلباتهم النفسية والعقلية فقد تم نقله الى مدرسة تقع في مدينة بعيدة عن سكنه وأهله وبأمر وزاري ظالم,فغاب عنا بعد أن شد الرحال فإفتقدناه كثيراً وحزنا لذلك,ولم يعد إلينا إلا بعد إنقلاب 18 تشرين الثاني 1963 وقد جلب معه وعاءاً كبيراً ملأه بعرق مركز من صنع محلي في تلك المدينة التي نقل إليها.
لقد إستبشرنا جميعاً لدى سماعنا بمقدم (غانم) إذ يعني هذا حضور المرح والضحك والشعر الهزلي والغزلي وكل ما يبعث على الفرح والسرور والسعادة مع حبيب الجميع الذي بوجوده يلتم شملنا. وماهي سوي سويعات حتى أطل علينا في المقهى المعتادة وقد إحمر وجهه ولمع جبينه وحدقت عيناه قليلاً ويبدو أنه قد أسرف في تناول اللبن الناشف واللبلبي المهروس الممزوج بعصير النومي الحامض,وبعد الحضن والقبلات والسؤال عن الصحة و الأحوال جلس ليحكي لنا قصة رحيله الى مكان عمله الجديد.......وخلال الحديث سألناه عن إسم المدينة التي نُقل إليها فأجاب على الفور إنها ...إنها.........ثم سكت وأخذ يحاول أن يتذكر إسمها ثم مال برأسه نحو الأسفل ووضع يديه على صدغيه وأخذ يكرر إن إسمها يبدأ بحرف الزاي إنها (ز......ز......ز...). وبغية مساعدته على التذكر سألناه هل هي زاخو؟ .فأجاب ب (لا)....أهي زرباطية؟؟ لا..لا.أهي الزعفرانية أم الزبير؟؟ لالا..لللا لا أرجوكم دعوني أتذكر.....وأخذنا جميعاً نذكر له كل أسماء المدن العراقية التي يبدأ إسمها بالحرف( زاي ) مستفيدين مما تعلمناه في دروس الجغرافية ,وكان بمعيتنا صديق مختص بالجغرافية وله معرفة وإطلاع واسع بجغرافية العراق فشاركنا ذاكراً كل ما إستطاع تذكره من مدن وقرى عراقية يبدأ إسمها بحرف الزاي وحتى النائية منها في شمال العراق وجنوبه ووسطه وشرقه وغربه ماراً بالمدن التي يسكنها العرب والأكراد والتركمان والأزديين والشبك والأكراد الفيليين وجميع المدن التي سكانها من الآثوريون أوالصابئة المندائيون وبقية الأقليات (عفواً المكونات) المتآخية في وطننا الذي وحدته المحاصصة الطائفية التي لم تكن مقيتة حقيرة ولا للحظة واحدة أبداً !!!وبقيادة قوى الخير المتلاحمة المتراحمة ومن الذين يخافون ألله ورسله ,أصحاب الضمائر الحية (حية...) الذين لايفكرون إلا بمصلحة الرعية فهم غير طائفيين إطلاقاً, لا يسرقون ولا يزورون شهاداتهم ولا يكذبون والعياذ بألله.... لكننا ومع كل تلك المساعي لم نستطع الإهتداء الى إسم المدينة التي نُقِل إليها أستاذ غانم الذي كان يرد علينا بالنفي كلما ذكرنا إسم أية مدينة عراقية ويطلب منا تركه ليتذكر لوحده.وفجأة إنتفض ورفع رأسه بطريقة الرجل المنتصرقائلاً... تذكرتها........................................... هبهب.... !!!!!.
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟