|
المثقف المصري .. طموحات وأشواك
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن-العدد: 4403 - 2014 / 3 / 24 - 08:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
عندما نحاول توصيف حال المثقف المصرى، فعلينا فى البداية الإشارة إلى أن المقصود بالمثقف هو منتج المواد الثقافية من الشعر، والقصة، والرواية، والكتابة المسرحية، والنقد، وأدب الطفل، والترجمة و الأغنية، والدراما، والتمثيل، والموسيقى، والسينما، والفنون التشكيلية، وفن المسرح وغيرها، كما أن الأمر يقتضى الاعتراف بأنه ليس بالإمكان الحديث عن المثقف المصرى بوصفه شخصاً واحداً أو جماعة واحدة، لأنه أشخاص وجماعات وفرق، ولكل منها ملامح ومشاعر وتواريخ ورؤى وأفكار وأحلام، بل وأمراض أيضا.
وقبل الحديث عن أحوال جماعات المثقفين يمكننا التقاط بعض الإيجابيات التى تمثل صورة مشرقة للثقافة المصرية، من ذلك كثرة لافتة فى عدد الموهوبين، خاصة من الشباب وتحسن كببر فى حركة النشر، وإقبال متزايد من القراء على مطالعة شتى ألوان المعرفة، وتألق فى الفنون التشكيلية، وزيادة نسبية فى عدد الجوائز ومحاولات لا بأس بها لترجمة المنتج الأدبى، وخدمات مؤسسية رسمية ومدنية، مثل التفرغ و تنظيم الندوات والمؤتمرات، وفى المقابل هناك تراجع واضح فى منابر النقد والتقييم والغربلة، لفرز الغث من السمين، حتى لا تبدو الحياة الثقافية كما هى الآن أقرب إلى الفوضى، وقد اختلط فيها الحابل بالنابل حتى غم المشهد على القارئ والكاتب معا، وهناك أيضا انهيار مفجع فى حال الأغنية التى كانت دائما أحد مصادر الإمتاع والمؤانسة بالنسبة لجمهور عريض فى مصر والعالم العربى، وما جرى فى مجال الأغنية جرى مثله فى المسرح والسينما والموسيقى، كما أن حال التليفزيون المصرى يمثل صدمة حقيقية للمثقف الذى حلم طويلا بتليفزيون جاد ومثقف يشارك فى الارتقاء بأذواق الجماهير، ويسهم فى إنضاج رؤاهم ومفاهيمهم، إلا أنه على العكس من ذلك يستدرج المشاهدين بأدواته ليهبط بهم، ويسطح نظراتهم للحياة والقيم، ويقطع علاقتهم بالفنون والآداب الرفيعة، ويصرف عيونهم تماما عن المستقبل، وأولى عتبات التقدم تتجلى فى التعامل مع مفردات المستقبل.
هذا عن المنتج، أما عن روح الأديب وفكره، فهو يعانى معاناة ثقيلة الوطأة بسبب ظروف العيش، لم يكن يعانى مثلها فى عقدى الخمسينيات والستينيات، حيث تطحنه الآن بلا رحمة المطالب الاجتماعية والأسعار المجنونة ذات الأنياب، وهو فى صدارة محدودى الدخل، كما أنه لابد يعانى كثيراً من اضطراب المنظومة السياسية، وهى تنعكس على فكره وحياته بشكل فادح، فهو، أراد أم لم يرد، متورط ولو بالفكر فى المجريات السياسية التي لا تفتأ تندلع نيرانها منذ ثورة يوليو 1952 وأكثر الكتاب والفنانين تعذر عليهم الفصل بين الخاص والعام ومن ثم اشتبكوا بدرجات متباينة مع الأحداث السياسية التي شعر كثير من المثقفين أن أغلبها يتسم بالالتباس والغموض واضطربت المواقف إزاءها لأن الوطنية لدى الحاكمين تداخلت مع المصالح ، وأثرت الحسابات الدولية على المبادئ ، فإذا كان المثقفون اختلفوا حول جدوي الوحدة مع سوريا في فبراير 1958 و خوض الحرب لنصرة الثورة اليمنية في سبتمبر عام 1962فقد اتفقوا على أن غياب الحرية يعد من الأسباب الأساسية لهزيمة 1967 كما اتفقوا على رفض الفكر الذى يحكم الدولة بعد حرب1973 والذى تجلى بشكل مثير للشك فى الرهان على رجال الأعمال الذين يملكون كل شىء، وبالتالى يحكمون ويتحكمون فى كل شىء،كما اتفق أغلبهم على رفض اتفاقية كامب ديفيد المشئومة وسياسة الانفتاح التي تم التخطيط لها ارضاء لأمريكا والغرب أكثر من ضرورتها لرفع مستوي المعيشة للجماهير التي عاشت سنوات تحت خيمة الاشتراكية الكابحة للأحلام الرأسمالية. وبرغم المتغيرات ووهم المنابر الذي يرسم هيكلا كرتونيا للأحزاب في عهد السادات كان المثقف أكثر من شعر بالإحباط بسبب غياب الديمقراطية الحقيقية، وعدم وجود تداول للسلطة على أى مستوى، والأهم أنه مطعون بشدة بخنجر تهميشه المتعمد فى كل المجالات، إذ لا يعتد برأيه إذا عزمت أية جهة مناقشة أية قضية، بل هو دائما خارج كل الحسابات، وكان هذا هو الملمح الرئيس للعلاقة بين المثقف والسلطة إبان حكم مبارك. عندما انتفض الشباب في ثورة يناير2011 أسرع المثقفون إلى الشوارع والميادين يعمدون هذه الهبة الشعبية وانطلقوا يشاركون الجماهير غضبهم الجميل واحتجاجهم النبيل ضد السلطة المستبدة والفاسدة التي جثمت كالاحتلال الأجنبي على قلوب المصريين لنحو ثلاثين عاما كان خلالها الشعب كالميت الحي أو الحي الميت فلا فرق ، بالكاد يعيش وينام في صمت ولا يسمع له العالم صوتا كأنه غادر التاريخ مع أنه من صُناعه الأوائل ، في الوقت الذي كان فيه الحاكم المحروم تماما ورجاله من الثقافة يفخر بأنه جنّب البلاد بحكمته كل الحروب التي أهدرت دماء وأموال المصريين أيام عبد الناصر. كانت هذه هي بعض ملامح السياسة التي شغلت الأذهان وأثرت بدرجات مختلفة على عقول المثقفين ومواقفهم ، وكانت بالطبع ذات آثار متعددة ومتباينة على الإبداع الأدبي والفنى ، وكانت الرؤي الفكرية والفنية من ثم غير متجانسة ولا تكاد تشملها ألوان متقاربة بحيث يستطيع التاريخ السياسي أن يستلهم من أدبيات نصف القرن سمات أساسية للمرحلة من خلال المنتج الثقافي إلا في فترات قليلة ، ولم تكن السياسة وحدا هي المسئولة عن هذا العجز في استنطاق المنتج الثقافي تماثلا ما في الرؤي بل كان المثقفون أنفسهم بحكم الاختلافات الكثيرة غير المبررة والتي تفتقد النظر العميق والأحكام التاريخية والموضوعية ذات تأثير كبير في تعذرالوصول إلى أحكام شبه قطعية لأي منجز سياسي أو اجتماعي.
ومن المؤكد أن هذا المنعطف التاريخى الملتبس يحاصر المثقف فى مناطق فكرية ونفسية تعسة، يشعر معها بأنه بين المطرقة والسندان، فهو مستنفر بالرغبة فى التعبير عن الخلل السياسى بنص جمالى، لكنه إما أن يوضح فيقع فى المباشرة، أو يتجاهل الواقع فيتهم بالتخلى عن القضية، وهكذا بدا المثقفون كأنهم مصنفون بذواتهم، إذ قرر البعض رفض الاعتداد بما يجرى، وليذهب الوطن إلى الجحيم انتصارا لما يتمنون من فن وجمال، وهناك من قرر العمل على إنقاذ المجتمع من حفرته مضحياً بما يتصوره المجد المزعوم، وهناك من يخشى المواجهة مع العصا الغليظة للسلطة إذا ارتدى ثوب المباشرة، وصنف رابع آثر أن يربى الأولاد ويوفر لهم القوت، ولا بأس أن يوفر المدارس الأجنبية والمصايف، ولو من موائد الدولة فأقبل مرتاح الضمير على دخول شرانق وخدمات السلطة الثقافية التى سماها البعض الحظائر ، والحق أن الدولة لم تؤسسها ولكنهم المثقفون الذين تم اختيارهم لتصدر المشهد هم من أسسوها وجمعوا المنتفعين من المثقفين وقدموهم للسلطة الرسمية على صوانى ذهبية بوصفهم الوجوه المشرقة لعهدها البازغ ، وكثير منهم يعى جيداً أن أدنى محاولة لطرح رؤيته بصدق معناها حرمانه من كل المزايا والمنح.
إنها بالقطع حيرة وجودية بقدر ما هى حيرة ثقافية، وكثيرا ما تضرب المثقفين بعنف وتبسط أمامهم أرضاً زلقة تتسبب فى تبديد الوقت والفكر وتخلخل مشاريع الإبداع، ونادراً ما يدرك هذا المسئولون عن الثقافة. ولعل من هموم الكاتب الثقيلة التى قد لا يشعر بها البعض، رغبته فى التواصل مع العالم الأدبى والمعرفى فى كل أنحاء العالم الذى يقرأه ويتابعه باهتمام، لكنه لم يملك لا المال ولا الوسائط كى يصبح جزءاً من هذا الكون المعرفى الذى يمكن أن يفتح له الآفاق الأرحب، ويحفزه على أن يشارك ويتأمل ويدعم ويشتبك مع الحراك الموّار، لأن الكاتب والفنان يشعران دوما أنهما وإن كانا منتميين لوطن بعينه، فالعالم أجمع أيضاً وطن لهما.. وما يحدث فى الرقعة الواسعة يخصهما على نحو من الأنحاء..والكاتب بالذات وبحكم ثقافته المتجددة يأسى للمحزونين فيه ويفرح للهانئين منه ،وقد يتحقق بعض التواصل للفنان المصرى والعربى، لكن الشاعر والروائى لا يتحقق له شىء من ذلك إلا فى حالات نادرة ومحفوفة بما يندى له الجبين..
على أن المثقف الجاد لديه أيضاً، وقبل هذا كله مشاغله المهنية التى تسبب له قلقاً فكرياً وفنياً، مثل الصراع الدائر بين الشاعر والقصيدة، وبين كاتب القصة القصيرة ومستقبلها ومحاولاته الدءوب للبحث عن صيغ تشكيلية جديدة مراوغة فى العادة، وكذلك كاتب الرواية، مما يدعونا للمغامرة بالقول بأن بعض الكتاب المصريين مؤرقون أكثر من اللازم بالشكل، ولديهم الأسباب الوجيهة، لذلك فى مقدمتها إدراكهم لأبعاد الحضور الجمالى وأهميته التاريخية والفنية.
ولا نستطيع بحال التنكر لتأثير غياب العدل على المثقف الذى يرى أن البعض هم أصحاب الحظوة الذين يتمتعون بكل شىء، ومثلهم أرباب الصوت العالى، أما الموهوبون الذين يبدعون فى صمت فما أسهل على المسئولين أن يهنئونهم بصمتهم ويشجعونهم على الرضا بالظل الظليل.. يحدث هذا كثيراً عند اختيار الفائزين بجوائز الدولة، وترشيح الوفود الممثلة للثقافة المصرية ومشاريع الترجمة، وحتى مجرد حضور افتتاح معرض الكتاب، أى أن الأسباب كثيرة للكمد والإحباط ثم نسأل عن السر فى مرض الكتاب وموتهم .
#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شذوذ قطر (2)
-
شذوذ قطر (1)
-
سد الفراغ
-
جراتسي
-
الناصرية ضد الهزيمة
-
حميدة ولدت ولد
-
ما الذي يهدد حياتنا ؟
-
25 يناير ليست ثورة
-
عبد الناصر واليوسفي
-
كيف نقضى على التتار؟
-
- كناري - مجموعة الخميسي الفاتنة
-
السيسي ومعايير اختيار الرئيس
-
فى مديح الجمعة
-
في رحاب السيد المسيح
-
-قصة ما ئلة-
-
أيام أمى الأخيرة فصل من رواية -دولة العقرب-
-
حساب الأرباح والخسائر لعام 2013
-
الحياة ... مشكلة جمالية
-
أ رَ د تُه جَبَا نا
-
الترجمة وصورة مصر في الثقافة العالمية (2)
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|