أحمد الكيال
الحوار المتمدن-العدد: 4402 - 2014 / 3 / 23 - 20:15
المحور:
الادب والفن
يتمدد علي سريره , يطالع المطر الذي يهطل بكثافة من النافذه , يقوم و يفتح درج مكتبه , يفتش في أشياءه القديمة , يخرج شريط أغاني كتب عليه " كوكتيل " , يخرج إلي الردهه يستأذن الوالده في أن يغلق المسجل , الذي يستخدم منذ سنوات كمذياع , علي تردد واحد ( إذاعة القرآءن الكريم ) .
يضع الشريط في المسجل , و ينظر إلي النافذه , المطر يتزايد في الخارج , الأغنية الأولي كاظم الساهر :
- أخاف أن تمطر الدنيا و لست معي , فمنذ رحلت و عندي عقدة المطر .
تصدمه الأبيات التي لم يسمعها من وقت طويل , منذ فقد حبيبته و توقف المطر , يتحدث إلي نفسه :
- هذه فرصتي , لقد وقف الشبان في وجه الموت , ألن أستطيع أن أواجه المطر وحيداً !!
يبدل ثيابه و يلبس معطفه , يبحث في مخزن ملابسه القديمة و يخرج قبعة المطر , ينفض عنها التراب , يقف أمام المرآءة و يبتسم :
- كم أفتقدك .
ينزل السلم مسرعاً , ثم يقف أمام الباب متردداً , قطرات المطر تحدث دوي رصاص في أذنيه , يغمض عينيه و يدفع جسده إلي الخارج رافعاً رأسه إلي السماء , تبتل جبهته فيشعر بالأمان , يبتسم ثم يسير .
الشارع خاوي من الماره , السيارات قليلة , مستمتعاً بالسير تحت المطر , ينفض عن ظهره ذكريات الماضي المؤلمة , يتجه إلي النيل ليرصد إلتقاء مياه السماء بمياه الأرض , المطر يتزايد و هو لا يبالي .
علي النيل يجد إمرآءة عجوز , تفترش الأرض و تبكي , يقترب منها , يضع يده علي كتفها بحنان :
- لماذا تبكي يا أمي ؟
تنظر إليه العجوز و تبكي , يتأثر أكثر :
- حسنا , كيف أساعدك يا أمي ؟
ترد العجوز :
- هكذا أنت تعذبني , ليتك قذفت بقطعة النقود المعدنية في حجري , أو أنك دعوت لي أو حتي لم تلتفت , و لكنك قلت أمي ؛ فذكرتني بالميت أبوهم , من يقولون نفس الكلمة عندما يشتد بهم الجوع .
تتساقط دموع الفتي يتفحص جيب معطفه فيجد منديلاً , يخرجه و يمسح دموع العجوز ثم يساعدها علي النهوض , قاومته في البداية :
- إتركني يا بني , هناك من يجب أن أجلس هنا من أجلهم .
يرد عليها :
- أرجوك يا أمي , تعال معي لا تقلقي .
في طريقه إلي المنطقة الفقيرة , التي دوما ما تفصلها بعض أمتار عن مناطق الأغنياء , تتسمر العجوز أمام مطعم الفول , ثم تقول :
- أحضر لنا فولاً و فلافل و بعض الخبز .
يرد الفتي :
- لا يا أمي سأحضر لكم الدجاج .
ترد في إستنكار :
- أتريدهم أن يتذوقوا اللحم , ماذا سأفعل بعد ذلك ؟
يرد متأثراً :
- سأحضر لهم اللحم كل أسبوع .
تنظر إليه مبتسمة :
- ربما تسافر يوماً أو تنشغل عني , إذا كنت فعلاً تريد مساعدتي فإعطني ثمن الدجاجة , و أنا سأحضر به طعاماً رخيص الثمن , سيكفي الأفواه المفتوحه في المنزل لمدة إسبوع .
يعطي العجوز المال و يشتري لها الطعام الرخيص الذي طلبته , يوصلها إلي بيتها القديم , يقبل يدها , ثم يرحل .
يعود إلي النيل , المطر لم يتوقف , يمتزج داخله شعور بالحزن و شعور بالرضا , يسمع ضجه كبيرة , يسرع بخطواته ليعرف ماذا يحدث ؟ رجل معلق علي صليب خشبي , مغروزة في يديه المسامير , دمائه تصبغ الرصيف من تحته , متجمهر أمامه عدد من الناس البعض يرجمه بالحجاره و البعض الأخر يشاهد , الأصوات تصرخ إرجموا الشيطان !! .
يقترب أكثر , الرجل ملامحه جنوبية , كلما قذف بحجر تبسم , و كلما سبه الراجمون نظر إلي السماء .
إقترب الفتي من أحد المتفرجين , و قد إحمر وجهه من الغضب :
- ألم يكن هذا الرجل يساعد الفقراء ؟
يرد المتفرج ببرود :
- بلي , إنه الشيطان .
يزداد غضب الشاب :
- ألم يبني هذا الرجل مسجداً ؟
يرد المتفرج بنفس اللهجة :
- بلي , لم يكن يطلق لحيته , شيطان رجيم .
يضع الشاب يديه علي كتفي المتفرج و يرجه بغضب و يصرخ :
- ألم يحبه والدك ؟ ألم يكن صديقه ؟ ألم تتعلم في منزله الذي تركه للمدينة ليكون مدرسة ؟ ألم تعمل في مصنعه ؟ ويحك أكان أبوك ليقف صامتا إن رأي هذا ؟؟
يجهش المتفرج بالبكاء :
- بلي بلي , و لكنهم قالوا أنه الشيطان .
إنتبه الراجمون لصراخ الفتي و قبل أن يتعاطف المتفرجون مع حديثه الواقعي هتفوا ضده و أحاطوه :
- أنه أحد عبدة الشيطان , أمسكوا به , لا تتركوه يهرب فيخرب عقول الناس .
يمسكون به , ثم يصنعون له صليباً أخر , لقد كان الخشب معهم , حتي يعلم الجميع أن من سيتعاطف مع المصلوب سيصلب معه .
علقوه علي الصليب , و صرخ الفتي عندما دقوا المسامير في يديه , نصبوا الصليب بجانب الرجل المنعوت بالشيطان , أحس الفتي بالراحه بعدما كان يعتقد أنها بداية العذاب , أدار وجهه للرجل و إبتسم .
الرجل مشفقاً عليه :
- لماذا لم تحنها ؟
الفتي مبتسماً :
- الإنحناء مر .
الرجل :
- من يقول ( لا ) لا يرتوي إلا من الدموع !
الفتي :
- يا سيدي كيف أحلم بعالم سعيد , و خلف كل قيصر يموت قيصر جديد .
الرجل حزيناً :
- و خلف كل ثائراً يموت : أحزان بلا جدوي , الودعاء الطيبون هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدي لأنهم لا يشنقون .
الفتي يهز رأسه :
- لم يرحم الشجر , لقد قطع الجذوع , و لم يأتي الربيع , و لم نشم في الفروع نكهة الثمر .
الرجل في حزن :
- لقد تركت زوجتي بلا وداع .
الفتي مبتسماً :
- و لم يتعلم طفلك أبداً الانحناء .
الرجل :
- البحر .. كالصحراء .. لا يروي العطش .
الفتي رافعاً رأسه للسماء :
- المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال ( لا ) في وجه من قالوا ( نعم )
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال ( لا ) .. فلم يمت ..
و ظل روحاً أبدية الألم !
حجرا مقذوف يرتطم بقوة برأس الفتي , يفتح عينيه ملقى على سريره , المنبه علي الأرض قد تحطم , بعدما وقع من علي شباك السرير ,علي صدره كتاب مفتوح ( الأعمال الكامله للشاعر الجنوبي ) مفتوح علي الصفحة الثالثة و الثمانين , يغلقه ثم ينحيه جانباً , ثم يفكر :
- من هو الشيطان الحقيقي ؟ أهو المصلوب ؟ أمن يرجمونه ؟
يفزع عندما ترتطم قطرات المطر بالنافذه , ثم يخبو تحت الغطاء و يغمض عينيه , يسأل نفسه :
- هل سأخرج اليوم ؟ .
#أحمد_الكيال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟