|
ميزات الهوية الارثوذكسية للشعب الروسي
سيلوس العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 4401 - 2014 / 3 / 22 - 13:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ان ما يميز روسيا عن غيرها من الدول ويجعلها تختلف عن دول آسيا واوربا بنفس الوقت، إن صحّ التعبير، أن الشعب الروسي ليس بالآسيوي وليس بالاوربي ، بل هو اوربي وآسيوي في نفس الوقت، ويشكل رابطا بين هذين العالمين. حفاظ الشعب الروسي على هاتين الصفتين، ميّزه في تاريخه وفي مسيحيته وفي حياته الروحية عن غيره من الشعوب. بكل تأكيد مثلت هذه كلها عوامل لاغنائه ، لكن الميزات والاختلافات لم تبعده من بعض التوترات في كثير من الأحيان ومن الصراعات في بعض الأحيان، مع الغرب (المتمثل بالثقافة الكنسية الرومانية خاصة والغربية عامة) ومع آسيا (المسلمة وغير المسلمة ) . وهذه الميزة الفريدة يراها البعض كلغزٍ أو معضلة خاصة بروسيا وشعبها. تتجلى هذه المعضلة في سرّ الثقافة الروسية المسيحية ـ لكن غير الاوربية ، وفي كون روسيا تتبع النسخة (أو الطريقة) البيزنطية للارثوذكسية الشرقية ، وهذه بدورها ليست رومانية (كاثوليكية) وليست بروتستانية (إصلاحية). صورة روسيا المسيحية الفريدة هذه ساهمت في زيادة صعوبة الكثيرين لفهم مكانة الكنيسة الروسية ودورها في تطور شعبها حيث كان لهذه الكنيسة عبر التاريخ دوراً حاسماً مميزا عن ذلك الذي للكنيسة الرومانية. وهناك ميزة أخرى في المسيحية (الكنيسة) الروسية التي تجعلها تختلف عن غيرها من الكنائس (حتى عن الكنائس الارثوذكسية الأخرى في العالم) لا تقل أهمية من المميزات السابقة ، وهي كون الكنيسة الروسية كنيسة (الصمت) ويصف البعض الغربي أحياناً هذا الصمت بالغريب. هذا الصمت تأملي، يعبّر عن روحانية واونطولوجية خاصة بهذه الكنيسة ، يتمثل بدور الفن والايقونة والموسيقى الكنسية وفن عمارة الكنيسة في طقوسها وممارساتها اليومية كتعبير عميق عن ايمانها الذي لا يقتصر على القراءات والكتب الطقسية والكلام المكتوب الذي تتصف به غالبا الكنيسة الرومانية والبروتستانتية. هذه الميزات في الكنيسة والمسيحية الروسية والتي تميزها بشكل حادّ عن باقي الكنائس ، جعلت منها كنيسة معزولة (بالمعنى الايجابي) محصنة ، لتميزها عن باقي العالم المسيحي . فقلما حدثت اللقاءات (إلا مؤخرا وهي قليلة) بين ممثلي هذه الكنيسة مع كنائس أخرى عبر التاريخ، وبنفس الوقت فانها كانت كنيسة مسالمة لم تُظهر أي عداء أو صراع أو تسابق مع كنائس العالم المسيحي الأخرى. واستمر حال هذه الكنيسة هكذا لغاية أواخر القرن التاسع عشر. وأثرت الثورة البلشفية على الكنيسة الروسية كثيراً حيث جعلت منها مرجعاً سلبياً فقط ، كما أظهرت هذه الثورة عداءها الواضح وأحياناً المبالغ فيه ضد هذه الكنيسة. عانت الكنيسة الروسية الكثير من التحديات عبر تاريخها وعبر المتغيرات السياسية في تاريخ روسيا. وعانى المسيحيون الروس أحياناً من التوتر بين هويتهم ومواطنيتهم وقوميتهم ـ بين أن يكونوا أوفياء لمواطنيتهم وولائهم وحبهم لوطنهم ولقوميتهم وبين انتمائهم لجماعة ايمانية مسيحية محددة. الحال هذا يعتبر جزءا من الضغط أو التوتر بين الكنيسة والسلطة (الدولة). ولكن يبقى التوتر الأكثر قوة، ذلك الذي حصل بين اللينينية والمسيحية ، الذي وصل الى درجة الممارسة التعسفية ضد الارث الروحي الروسي الممتزج بوطنيته وحبه لوطنيته، انقلبت هذه الممارسات سلبياً وتدريجياً على الحكم الشيوعي السوفيتي إن لم تصبح إحدى أسباب فشله وسقوطه لاستلابه وتغريبه الشعب الروسي عن الـ (دي إن أي) الروحية والقومي الذي يتصف به هذا الشعب، ونعلم جميعا بصعوبة واستحالة استمرار تغريب أي شعب كان عن مقوّم أساسي في تكوينه ، فما بالك بالشعب الروسي الذي أصبحت ارثوذكسيته جزءا من تركيبة الشخص الروسي إن كان مؤمنا أم لا . فحصل دائماً وإن كان بشكل مستتر (باطني وغير ظاهر) الصراع بين حرية الروح الروسية المسيحية والدولة الشمولية التي أغفلت متعمدة ، بل احتقرت إن صح التعبير، الجانب الروحي ذي الارث العميق والبعيد للشعب الروسي. ويكفي أن نرجع بالذاكرة والمشاهد التي رأيناها للشعب الروسي كرد فعل بعد سقوط الحكم الشمولي، كيف اندفع الكثير من الروس الى الكنائس والى الأديرة القديمة الروسية والى الممارسة الروحية التقليدة الروسية ، صورة تعبر بشكل ما عن تعطش وجوع الشعب لما قد تم حرمانه منه وتغريبه عنه لفترة عقود من القرن العشرين. إن الحديث عن بدء المسيحية في روسيا تاريخياً يعود بنا الى العقود الأخيرة من الألفية الاولى للميلاد وليس أبعد من ذلك، الى عام 988 م . لكن الحدث المهم هو حوالي عام 1015م ، حيث كان للأمير فلاديمير الكييفي (من كييف) الدور الأول في تحديد هوية المسيحية في روسيا. حين قام فلاديمير بالطلب من المبشرية المرسلين المتواجدين حينها في شبه جزيرة القرم بالمجيء الى بلاده، وتم منذ حينها وضع أسس تأسيس الكنيسة الروسية، هذه الكنيسة كانت تحوي عناصر مسيحية شرقية وغربية في آن واحد في حينها الأول. فروسيا في القرن العاشر الميلادي مثّلت الرابط الحيوي التجاري بين الغرب وآسيا، ساعدها في ذلك أنهارها، الدنيبر والفولغا والبحيرات المتعددة التي كانت الطرق التجارية المائية للتجارة العالمية حينها بين اليونان والعرب والافرنج والاسكندنافيين ودول آسيا ، الذين كانوا يتجمعون في كييف ومدن روسيا الكبرى الأخرى. وكان جوار روسيا الذي يحيط بها يدين بديانات وايمانات مختلفة : العرب والفرس بالاسلام، الخزر باليهودية، اليونانيين بالارثوذكسية ، الافرنج والاسكندنافيين بالمسيحية اللاتينية. محيط مختلف متعدد من الديانات والقوميات والانتماءات المختلفة. يذكر المؤرخون الكنسيون بأن الأمير فلاديمير طلب مشورة مساعديه وحكماء من شعبه ، وبعدها إختار (أو قرّر) أن يرتبط شعبه بالكنيسة الارثوذكسية الشرقية، لأنه راى فيها الملائمة بشكل أكبر لمزاج وحساسية وطبيعة الشعب الروسي. فالتقليد المسيحي البيزنطي ليس مؤسساتياً كالكنيسة الرومانية الغربية. كما أن التقليد البيزنطي لا يركّز كثيراً على الادارة وتحديد وضبط السلوك في كل صغيرة وكبيرة كالتقليد اللاتيني الهرمي السلطوي. لكن التقليد البيزنطي تقليد ابتهاجي جذل يتميز بجمالية العبادة وجمالية الممارسات الروحانية ويركز على الرحمة الالهية والغفران. ويبدو أن هذا الاختيار جعل من الروس (دائماً) في سباق فني و روحي ، حيث وجدوا في التعبير عن أفكارهم وايمانهم ومشاعرهم الروحية والدينية عن طريق الموسيقى والالحان والألوان والترتيل والتصميم الفني والمعماري وفن الايقونات اسلوباً حيوياً ، بل أكثر حيوية لهم، وليس من خلال التعبير عن طريق الكتب والتأليفات النظرية في المعتقدات. كما يبدو أن اختيار فلاديمير للمسيحية الارثوذكسية البيزنطية الشرقية كان موفقاً ومرحباً به لدى الشعب الروسي الذي تحوّل بأغلبيته الى هذا الايمان.
#سيلوس_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جوهر الحكمة أن تُدرك كم أنك بعيد عن الحكمة
-
لليهود تاريخ في شبه جزيرة القرم واوكراينا
-
الزوجات يصنعن الرجال والحكومات من يصنعها ؟
-
رسل : حامل صليب السلام وحب البشرية
-
من تاريخ يهود روسيا : يهود جبال القوقاز
-
الألعاب الأولمبية الشتوية على أرض الابادة الجماعية للشركس
-
النبي ايليا وجمال المرأة
-
رابي يهودي يضع يديه على رأس البابا
-
رحلة مع ايليا النبي : لماذا يفعل الله هكذا بنا ؟
-
مَن منّا غير مصاب بداء العنصرية ؟
-
مار صموئيل : قمر من أقمار يهود العراق
-
تفجير سيناغوغ الامبراطور
-
التباعد بين يهود الشرق والغرب في الحقبة الهللينية
-
من أيام الخبز البغدادي في الهند
-
من التراث اليهودي: الحاخام باشي والبطريرك وسرقة كيس المال
-
من التراث اليهودي : السيناغوغ 2
-
من التراث اليهودي : السيناغوغ
-
خباثات يمكنها تقريب نهاية النظام الايراني
-
الكنيسة المارونية اللبنانية في خندق واحد مع محور الشر
-
اصلاحات آية الله بشار الاسد
المزيد.....
-
فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني
...
-
إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش
...
-
تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن
...
-
الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل
...
-
تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
-
بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
-
تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال
...
-
-التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين
...
-
مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب
...
-
كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|