|
الرماية ركيزة أساسية في التراث الشعبي المغربي.
حسام هاب
الحوار المتمدن-العدد: 4400 - 2014 / 3 / 21 - 18:31
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يعتبر التراث الشعبي أحد الركائز الأساسية المشكلة للهوية الحضارية ، و الثقافية لأية جماعة بشرية أو مجتمع ما ؛ نظرا لأنه تجسيد لأفكار هذا المجتمع و وجدانه و تصوراته . و تبرز من خلال هذا التراث هوية أي مجتمع باعتباره يشكل عنوانا لشخصيته التاريخية و الثقافية ، و يوضح معالم كيانه و ملامح وحدته الاجتماعية و الاثنوغرافية ، و يعكس بنيته الثقافية و الفكرية و الذهنية ، و يندرج في اللحظة التاريخية المكونة لنسيج العلائق الاجتماعية ، و أنماط الوعي الاجتماعي . فهو معلم مشع في هذه اللحظة التاريخية لأنه ينطوي على إمكانات هائلة في الابداع و الممارسة الثقافية الشعبية . و من ثم فإنه نافذة مشرعة تطل منها الثقافة و الأدب في أي مجتمع على أفق مغاير نحو الارتباط بالانسان وواقعه الاجتماعي و الثقافي . من هذا المنطلق تبرز أهمية دراستنا لموضوع ظاهرة الرماية في المغرب باعتباره يمثل جزءا من التراث الشعبي المغربي ، الذي تعرض معظمه للضياع و الاندثار نتيجة لتهميشه ، و قلة الاهتمام به سواء على مستوى جمعه و تدوينه ، أوعلى مستوى دراسته أكاديميا . و أيضا لكون الرماية مازالت حاضرة ومتجذرة في المجتمع المغربي بمختلف مظاهر حضورها ، باعتبارها من الفنون الشعبية الفاعلة في التراث العربي الاسلامي المشكل للهوية الحضارية و التاريخية المغربية ؛ كما أن الرماية تشكل مصدرا مهما من مصادر دراسة التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي للمغرب من خلال تفكيك بنياته السوسيوثقافية و الاقتصادية ، و معرفة العلاقة البنيوية لفن الرماية كتراث شعبي ببنيات المجتمع المغربي التي تشكلت طيلة مساره التاريخي ، على مستوى تراثيته ، و ابداعه الفرجوي ، و تعبيره عن مكنوناته النفسية و الذهنية الداخلية من خلال الفنون الشعبية الفولكلورية التي يعتبر فن الرماية من أبرز تمظهراتها. لهذا تعتبر ظاهرة الرماية من الظواهر القديمة التي ترجع جذورها إلى البدايات الأولى للإنسان ، حيث أن لها علاقة وطيدة بالصيد و الدفاع عن النفس . فالإنسان البدائي ارتبطت حياته بالصيد لضمان قوته اليومي، و الدفاع عن نفسه ، و دفع الضرر عنها في مجتمع يسوده الصراع من أجل البقاء . و استعمل الإنسان لذلك أدوات بدائية كالحجارة و العظام . و من ثم بقيت الرماية ملازمة للإنسان عبر التاريخ ، و تطورت أساليبها بتطور المجتمعات البشرية ، فظهرت الرماح و السهام و المنجنيق ووسائل الدفاع الحديثة . و أصبحت لهذه الظاهرة وظيفة في نشر الديانات و الثقافات ، بعد أن كان دورها مقتصرا على الدفاع عن النفس حيث كانت تدخل ضمن الخطط العسكرية باعتبارها فنا من فنون الحرب . عرفت ظاهرة الرماية في المغرب تطورات أساسية ارتبطت بتمرحل فترات تاريخه . فموقعه الاستراتيجي في منطقة التمفصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط ، و تواجده في منطقة إلتقاء هذا البحر مع المحيط الأطلنتيكي ، جعله يشكل عمقا استراتيجيا حاسما و قاعدة تأسست عليها العديد من الحضارات و الثقافات الإنسانية ، مما مكنه من القيام بدور تاريخي في منطقة شمال إفريقيا على مستوى الأحداث و التحولات التاريخية و الحضارية التي شهدتها منطقة البحر الأبيض المتوسط . فهذا الفضاء كان طيلة تاريخه عرضة للأطماع الأجنبية للإستيلاء عليه منذ الفينيقيين ، مرورا بالقرطاجيين ، و وصولا إلى الرومانيين . مما جعل لزاما على سكان المغرب أن يعرفوا ظاهرة الرماية و يتقنوها ، خاصة في ظل تواجد حضارات محلية تمثلت في الممالك الأمازيغية . هكذا أصبحت الرماية خلال هذه الفترة مرتبطة بالدفاع عن الأرض ، و الكيان و التصدي لأي غزو أجنبي هدفه السيطرة على المغرب . لهذا لا يمكن أن نربط ظاهرة الرماية في المغرب بمجيء الفتح العربي الإسلامي ، و الذي يؤكد هذا الطرح هو ما عرفه هذا المجال بكياناته السياسية و موارده البشرية و الاقتصادية من صراعات و حروب و معارك عسكرية بين مختلف الكيانات السياسية التي كانت بمنطقة غرب البحر الأبيض المتوسط ، إضافة إلى الصعوبات الجسيمة التي واجهت الفاتحين العرب أثناء مرحلة الفتوحات الاسلامية لبلاد المغرب ، حيث قوبلوا بالرفض و المواجهة العسكرية من طرف الممالك الأمازيغية ، مما يبرز مدى تجذر ظاهرة الرماية في المغرب و عدم ارتباطها بالفتح الاسلامي للمنطقة . كان ظهور الدولة الاسلامية المركزية في بلاد المغرب ، بداية مع المرابطين ثم الموحدين فيما بعد إشارة على بداية ارتباط الرماية بالعمل العسكري ، و الجهاد على وجه الخصوص خاصة أن المغرب بحكم موقعه الجغرافي القريب من بلاد الأندلس ، كان محطة انطلاق مختلف الجوازات المرابطية و الموحدية . و ظلت الرماية عنصرا أساسيا في الجهاد خاصة خلال فترات ضعف الدولة المغربية ، و بالضبط خلال المرحلة الانتقالية بين نهاية الدولة المرينية و بداية الدولة السعدية ، حيث عرف المغرب مجموعة من الصراعات السياسية الداخلية ، و أصبح عرضة للهجمات البرتغالية و الاسبانية ، مما أدى إلى تبلور إجماع شعبي حول ضرورة الجهاد في ظل ضعف الدولة الوطاسية . و المثير للانتباه خلال هذه المرحلة هو ارتباط الرماية بحركة الزوايا ، و الحركة الجهادية ، و ذلك راجع للفراغ السياسي الذي كان يعيشه المغرب آنذاك ، حيث تكونت تجمعات تعليمية في كل من الشماعية و شيشاوة تتدرب على السلاح الناري لمواجهة المحتلين . و عرفت الرماية في هذه المرحلة ، طفرة نوعية من حيث الأساليب و الأدوات المستعملة ، و استبدلت الآلات التقليدية للقتال بالآلات الجديدة خاصة البنادق . مع الدولة السعدية استحدث الجيش المغربي فرقة للمدفعية ، صار أصحابها يعرفون بعساكر النار ، حيث يعملون في الرماية بالمدافع و البندقيات ، كما ظهرت تشكيلات شعبية تتدرب على الرماية بالبنادق لاستخدامها في الدفاع عن البلاد . و قد أصبح لهذه التشكيلات الشعبية مع مرور الزمن ، نظام خاص و صارت لها قيادات عليا تتألف من رئيس يسمى شيخ الرماة ، و مساعد له يحمل لقب مقدم ، و الاثنان معا بالإضافة إلى سائر الرماة يخضعون لقوانين متعارف عليها . و بهذا ظهر مجموعة من رؤساء فرق الرماة في شمال المغرب و جنوبه ، خاصة في تطوان و شيشاوة و بلاد سوس و بلاد أحمر ، ساهموا في عمليات الجهاد ضد الغزو الأجنبي ، خاصة ضد الاسبان في شمال المغرب . و أدى تطور الرماية في المغرب إلى ظهور مدرستين للرماة : مدرسة الشمال التي حملت لواء الجهاد ضد الاسبان ، و مدرسة الجنوب التي تمتاز بالالتزام التعليمي ، و عدم الطموح إلى الحكم ، و كان هذا من أسباب استمرارية رماية الجنوب و امتداد تعاليمها إلى الوقت الراهن ، كممارسة طقوسية احتفالية ، و تجسيد رمزي لفن الرماية . خلال فترة الدولة العلوية كان المخزن المركزي يتعامل مع مدارس الرماية ، حيث كان المولى إسماعيل يبعث بغلمانه ليتعلموا الرماية على يد أشياخها ، خاصة في مدرسة الرماية الحمرية . و استمر السلاطين العلويون على هذا النحو حتى أيام المولى الحسن الأول ، الذي تعلم في هذه المدرسة و أرسل إليها أبنائه ليتعلموا فيها ، و يتدربوا على ركوب الخيل و الرماية ، حسب ما جاء عند ابن زيدان في كتابه : " إتحاف أعلام الناس ج 2 ". لكن التحول الجوهري بالنسبة لوظيفة الرماية وقع بعد حصول المغرب على استقلاله، حيث أصبحت مجرد احتفال سنوي أو موسم يقام في القرى و المداشر ، بعد أن دخلتها عادات و تقاليد جديدة ، لتصبح بذلك الرماية و مواسم الرما من الأنشطة الطقوسية الاحتفالية داخل المجتمع المغربي . يظهر من خلال تتبعنا للمسار التاريخي لتطور ظاهرة الرماية في المغرب ، أنها مرت من مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى : كانت خلالها الرماية وسيلة من وسائل الدفاع عن حوزة الوطن ضد الغزو الأجنبي ، و ركنا أساسيا في الجهاد خاصة خلال فترات ضعف الدولة المغربية . و المرحلة الثانية : تحولت خلالها الرماية إلى نشاط طقوسي فولكلوري ، تجسد من خلال مواسم الرمى التي مازالت تحتفل بها بعض مناطق المغرب سنويا خاصة في سوس ، الشيء الذي يدفعنا إلى استنتاج مدى التحول الوظيفي و الدلالي الذي عرفته ظاهرة الرما ، و الذي لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة تاريخية ، سوسيولوجية ، أنثروبولوجية للتراث الشعبي باعتباره لبنة أساسية من لبنات بناء هوية المجتمع المغربي الثقافية و الحضارية ، خاصة لما يحمله هذا التراث و الفولكلور الشعبي من تصورات دينية ، و اجتماعية ، و اقتصادية ، و ثقافية تعكس ذهنية الانسان المغربي ، و رؤيته للمفاهيم المؤطرة لثقافته ، و مجتمعه و محيطه السوسيو اقتصادي .
#حسام_هاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع المؤرخ المغربي ذ- الطيب بياض حول إصدار النسخة العربي
...
-
الذكرى 53 لسقوط حكومة عبد الله إبراهيم ( 20 ماي 1960- 20 ماي
...
-
خطب الملك محمد الخامس خلال مرحلة الاستقلال: مدخل لدراسة العل
...
-
بمناسبة الذكرى 54 لتأسيس الحركة الاتحادية: الحركة الإتحادية
...
-
ملاحظات على هامش الشريط الوثائقي: المهدي بنبركة... اللغز
-
تاريخ الزمن الراهن بالمغرب : المفهوم و الإشكاليات
-
-قداس السقوط-... ما قيمة الثورة السياسية في مجتمع تعوزه الثو
...
-
قراءة في كتاب الأستاذ عبد اللطيف الحناشي : المراقبة و العقاب
...
-
قراءة في كتاب : -في الثورة و القابلية للثورة- لعزمي بشارة ال
...
-
المؤتمر الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( 25-26-
...
-
رؤية الأنا للآخر في الخطاب السفاري المغربي خلال القرن 19 م :
...
-
خطاب الرحلات السفارية المغربية خلال القرن 19 م : -الرحلة الا
...
-
نظرة في إشكالية المعرفة التاريخية
-
زمن العبث السياسي
-
بمناسبة الذكرى 46 لاختطاف المناضل المهدي بن بركة في الحاجة إ
...
-
أرنستو تشي غيفارا : جدلية المناضل الثوري و المفكر الإنساني
-
مفهوم المجتمع المدني : النشأة و التطور التاريخي
-
بمناسة الذكرى 52 لتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( 6 شت
...
-
الشباب الاتحادي : مسار و آفاق الاشتغال داخل حركة 20 فبراير
-
حركة 20 فبراير : بين مصداقية التغيير و حتمية الإصلاح
المزيد.....
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|