أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثامن عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر















المزيد.....


الفصل الثامن عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر


سعدي عباس العبد

الحوار المتمدن-العدد: 4399 - 2014 / 3 / 20 - 19:44
المحور: الادب والفن
    


كان الشارع يقودنا او كأنّه يمشي معنا .. او كأنه يسحلنا بحبل من المجاعة .. كان الكلب يمشي على اليمين ، فاغرا فكيّه كأنه يضحك بانياب ناصعة ... ولسانه المندلق للخارج ..كأنه يخرج من كوّة..يلهث طرفه الدبق في الهواء او في الشارع ..تمرّ عليه عيون المارة ..تمرّ علينا نحن الثلاثة انا . والكلب . والمغنّي ..تضغط عيونهم علينا بقوّة ، فنصير موضوعا طريفا ، يسلقونه خلال لحظات على موقد النميمة والسخرية ...وهم يتلمضون في الشارع ذاهلين ..! يصدر الكلب نباحا فاترا سريعا ، ثم يعفبه عواء ممدودا لما يلمح قطيعا من الكلاب الفقيرة ! الضالة الجائعة يعبر الشارع خائفا مضطربا .... ننعطف نحن الثلاثة في زقاق يقودنا إلى آخر ، يفضي بنا هذا الآخر إلى ساحة ..وثالثنا كلبنا يتبعنا ، نسمع اصوات شجار عند نهاية الزقاق الذي كان يتراجع على مهل ..فيما كانت اصوات الشجار تتلاشى كلما ازداد توغلنا في الساحة ، ثم يغيب في هواء الصباح مخلّفا بقايا طنين يحوم ..ثم ما يلبث ان يتضاءل في اسماعنا ..اسماعنا نحن الثلاثة ..ندخل زقاق ..لم اطالع وجوه قاطنيه منذ قرابة اكثر من شهرين ...
اشاهد إمرأة متلفعة بثياب سود ملفوفة على كامل بدنّها ، تقتعد دكة حجرية تتصدر باب ب [ طلاقتين ] ..انبثق على مقربة منها رهط من اطفال برزوا على حين فجأة بابدانهم الضامرة ووجوههم الصفر واسمالهم الرثة ..ركضوا ناحيتنا ..كأنهم يتدفقون من فراغ ! هرعوا في لهفة حالما لمحونا ... تحلّقوا حول الكرسي ..وجعلوا يزدادون اقترابا من الكلب بوبي الذي كان ودودا حيالهم ..استند بعضهم الى الكرسي .. فشعرت اني اغرق او اتلاشى .فشعرت اني اغرق او اتلاشى عن عيون المحسنين او المتصدّقين ..اتلاشى وراء سياج شكّله الاطفال عبر اكتافهم المتراصة ....سياج دائري حجبني عن الرؤية .... سمعت المرأه تنهر الاطفال وتطلب اليهم ان يدعو الشحاذ او الجندي سابقا ... يفتّش عن رزقه ..ولكنهم كانوا يزدادون عنادا واقترابا من الكرسي المتحرك ..الى ان صادف مرور احد الماره ، فازاح او هدّم السياج عبر شتائم ناهرة مؤنبة اطلقها في وجوه الاطفال ...فبانت ملامحي ..ملامح الجندي المتسول !! ..
كأني خرجت من غيمة كثيفة كانت تخيّم عليّ ..فيما شرع المغنّي المشرد باطلاق نداءات مكرّرة يطلب عبرها إعانة الشحاذ او الجندي القديم المعاق ... كان النداء يتصاعد ، قوّيا شجيا كأنّه ينبجس من اعماق جريحه موغلة في الجراح .. نداءات ممعنة في الحزن والشجن والاستغاثة ...نداءات تطوي مسافة طويلة لتبلغ نهاية الزقاق ...
فتطل رؤس آدمية من نوافذ ..وابواب ..تتطلّع صوب النداء الشجي الذي يشابه الغناء ....
رؤس كأنها تبزغ من الجدران ..من شقوق وكوات مطمورة ..كأنها تنبجس من رطوبة بيوتات تشبهنا نحن الثلاثة .......... بيوتات حفر الفقر عميقا في مفاصلها ..رؤس تطل ...كأنها تلمس الفقر لمسا مثل مخلوق مادي ملموس ! ...يتحسسونه باصابع ناتئه مجفّفة ...
فكانوا يلمسون عمق النداء المتدفق خلال نبرات المغنّي الشجية ..يلمسونه بقلوبهم وجراحهم واوجاعهم ...يتحسسون ذلك العمق الشاحب المترسب في الحياة الداخلية ..
في القاع ..في الاعماق الملتاعة ............
عند قدوم اول الليل او حالما يغادرنا نور العصر ..بخطواته المضيئة المتباطئة ، نغادر معه نمشي معه صوب الخرابة .نمشي معه صوب الخرابة ..........

في الطريق يبتاع المغنّي قنينة عرق عصرية ، ثم يعرج حيث فُتات المطاعم يعبأ منها داخل كيس نايلون ما يقيم أود الكلب ثم يبتاع ما يسد رمقنا ......
وعند الليل يتكرر الغناء بذات المناحه ويتكرر معه البكاء وانسكاب الدموع والأنين والكفر والشتائم والنحيب بصوت عال ..فيتصاعد عواء الكلب .. فنعوي معه ... نعوي معا نحن الثلاثة ........ عواء طويل طويل ممدود ... يطوي مسافات شاسعة شجية من الذكريات ..
عواء يتدفق من قلوب مثلومة متشظية ..عواء يخرج عميقا من ارواح وابدان وظلوع منهارة ..عواء كأنه يخرج او ينبثق من الأسنان في ذروة اوجاعها ..من ألمٍ خفي في الروح ..من وجعٍ مترسب في قاع عميقة من النفس ..من احزان تغوص عميقا في الوجدان والذاكرة ..
اوجاع حياة تسربت من بين اصابعنا في غفلة وغدر ..... تسللت من عند قدميّ ، غيلة وخديعة ! .... حياة برمتها تحايلت عليَّ وهربت بكامل مسرّاتها ! ..اختلست الخطوات من قدميّ ، وعطلتّني ... طعنتني بضربة واحدة قاصمة سُدّدت بقوّة على وترٍ من اشد الأوتار جمالا وعذوبة وديمومة ، وتر الوجود ...والروح ..وتر ذكورتي ..الذي كان في الليالي الخوالي ، يعزف ارق واعذب الألحان ... عزف الوجود السرمدي ..عزف النسل والطبيعة ...
قطعوا نسلي وكبدوني في حربهم الفضائحية خسائر مهولة ... فتحوا بوجهي منافذ كافرة تطل على حفر جهنم ، ففقدت المرأة __ بوصلتي في بحر الحياة والتيه __ المرأة التي كانت تمسك بدفة الوجود والحياة ، ..حياتي ..وتشد على الوتر ..لنعزف معا سمفونية __ وقت المسّرات السرمدي __ .............
بكى المغنّي ، بدموع من لهب متأجج ..وهو يلقم النار ما تبقى من نفاية متيبسة ..فالمح على نور اللهب دموعه تتلامع في وهج شديد البريق للغاية ... في تموجات مضيئة تسيل على خدوده..فيزداد شعاعها الوامض في الضوء .فيزداد شعاعها الوامض في الضوء الملتهب ، تتوهج في نور اللهب ، ..فاشعر كأنّي ، اتحسس اوجاع المغّني باصابعي ..
اتشمم رائحتها التي كأنها رائحة خشب رطب يتفحم ! ..فاشعر بذكريات طفولة ممعنة في البعد . تمتد في ذاكرتي وتحملني إلى مدى طويل ..تتوغل بي إلى ايّام ، نسيتها محفوظة في ملف الغياب والأمحاء ...........
كلما ارفع بصري ارى، دموع المغنّي المشرد ! ..كما لو إنّ عينيه نبعان لا يمسكان عن التدفق ........ أحتشدت خيوط من الدمع الملضومة بفصوص مائية رجراجة ! عند جانبيّ فمه وأرنبة أذنيّه وعند زاويتيّ خديّه الغائرتين المخسوفتين ... بدا في النور الفاتر يرتعش في انكماشة متشنجة ..بدا كأنّه يختنق في الهواء المشّرب برائحة رماد نفاذّة ..
اختفت النار ، تلاشت في الظلام الذي ران في الليل اللاذع الذي امتد ليشمل الخرابه بسكونه الموحش ........... فعوى الكلب ..عواء ينضح لوعة ووجعا ..تدفق موحشا من اغوار عزلة كلبية ..فبدّد السكون المخيّم على الارجاء . الممتدة في المدّيات القريبة .........
كان كلّ شيء في المأوى او الخرابة يوحي بالخراب واللاجدوى ......كان كل جزء فينا ..وفي الظلام ينطق باليأس واللامعنى ... وكل نبرة تخرج تحمل اثقال من الوجع والذكريات . حتى عواء الكلب يحمل في امتداده الفاتر نداءا عميقا من الذكرى ..اذا لم تكن ذكرى تتعلق بطفولته ،_ طفولة الكلب _ عندما كان جروا ..فانها على الاقل تتعلق بنا ..ونحن نرى في طفولتنا منظره الاليف الذي يبعث على الطمأنينة ... ساد سكون شامل حالما تلاشى عواء الكلب ..تبدّد في الظلام ........ فلمحت عينيه ترمقانني وهما ترسلان ذلك الشعاع الفاتر الودود الاليف ، كما لو انهما عينيّ صديق ..كأن هناك شيئا ، ما خفيّا يدور بخلده .. يريد ان يفصح عنه ..شيء لا يدركه احد سواه ...سوى ذاكرته الكلبية ..سوى ذاكرته الكلبيه ..فلم يستطع ان ينطق بذلك الشيء ، وسيبقى للابد غير قادر على فعل ذلك ... فطلبت من بوبي الكلب صديقنا الحميم .. ان يعوي .. يعوي بكل ما اوتي من جوع وقهر وضّياع وتشرّد ويأس ...
فكأنه استجاب لطلبي او تنبأ بما يدور في ذهني ..فاطلق عواءا ممدودا ،طويلا . تتخلله نوبات بكاء كلبية مليئة بالسكوت .. _ بكاء الكلاب لا يمكن ان يسبر غوره احد _ عواء متقطع ممعن في الحزن والدموع ..دموع تصب في مجرى غامض ..دموع غير منظورة ..عواء توغل عميقا ، يحفر في الظلام ..فكأني اسمع اوصال الكلب تتفتّت ..كأني اسمع عظامه تتكسر في طحن متوالِ !..فيمرّ في عينيّ خطمه الملّطخ بالسواد والسخام ، كأنه يتشظى ويتناسل الى عشرات الخطوم المسّخمة ....... فكرعت ما تبقى في بطل العرق ..عبأته دفعه واحده في احشائي ...فمرّ امام عينيّ طيف زوجتي ..مرّ مرورا خاطفا شاحبا ...ومض في ذاكرتي مثل شعاع نيزك ثم تلاشى على نحو غامض ..ثم اعقبه وجه المعنّي ..وجه مشّبع بالألم ..انهكه الغناء والذكرى والوجع والحنين ..كان السكون يحفر في تضاريس الظلام لما هوي رأس المغنّي الى الارض ..كانت السماء تتبدى فوق رأسه عبر شق في جدار الخرابه ، شق اقرب الى الكوة ..مثقلة بالنجوم والظلام ..مدّ المغنّي يده عبر الظلام ، ليمسح عن سحنته بقايا تراب ..فيما كانت اطرافه السفلى ممدوده الى اقصاها .... كان الكلب يدنو بخطمه من وجه المغنّي ... يتحسس شعره الرمادي الداكن .
ويمرّ على ذقنه النامي ..فسمعت المغني يقول سمعت المغنّي يقول ، وهو يغط في مجرى من النوم الحافي وسط التراب والسخام والجوع ..: اين انت يا أمّي ..دعيني اغفو عند حجركِ الدافىء ...إني اتفتّت من قسوة البرد ...الخرابة او الزريبة بارده ...عظامي تنخرها الريح ..حياتي كلّها باردة ..كم كنا سعداء ، متحابين ..يا لتلك الايام ...أمّي اين انتِ ...هل افتقدتني في رحلة الغياب ...وهل تتفقدين اشيائي ...تركتها كلّها هناك ...
كان الحلم يخرج من بين شفتيه ، متباطئا حزينا ..يتدفق على مهل وبنبرة فاترة ..وبكلام يقطر تعاسة ،............ بطل الحلم ..إمرأة غير منظورة ..تجسدها الكلمات الثملة بالوجع والجوع والعرق ...حلم ، كأنه فيلم بالصوت الحافي دون الصورة ...حلم بالاسود والاسود ..
يعرض على شاشة لسانه المجفّف باللون الاسود جدا ..لون غير مرئي .............
كان الزمن في الحلم . . يسيل على مهل في وعاء الكلام ... يمرّ في الذاكرة ..مثل نوافذ طائرة ..نوافذ تمرّ متتالية على فراغ عالق في فضاء ...... تنتقل اللقطات من مشهد إلى آخر في تعاقب غامض ...مشاهد تتوغل في مجرى من النسيان دون ان تترك اثرا محفوظا في ارشيف الذاكرة .. ثم يعقب الكلام ..خيط راعش من أنين اقرب ما يكون الى العويل ...
المغنّي يعوّل او يعوي في الليل ..يعوي على مقربة من الكلب ..والكلب يقعى جواره ..جنب خاصرة المشرد ..باسطا قائمتيه الاماميتين قبالة خطمه .. فيما كان المغنّي المشرد يلتم على حلمه على السخام والتراب والوجع ...يتكوّر داسا ركبتيه اسفل بطنه
متكوّر من قوّة البرد .. فبدا مثل كتلة مشّوهة في انكماشته ..في لمتّه على اطرافه
بدا مثل طفل يلتم في حجر أمّه ...يتدثر بظلوعها ، بحنانها ... كان البرد يمرّ علينا ساكتا دون ادنى نأمة ..يمرّ خلسة .........والهواء ساكنا ..مليئا بالصمت ...والبرد يسيل على جلودنا الحافية من دون ان يحدث ادنى وشيش ... يمرّ البرد على وجهي المشّوهعلى وجهي المشّوه ...برد لاذع يمرّ على روحي وعلى بدني ..يمرّ كانصال رهيفة ...، صاح المغنّي في الظلام ..: يا للبرد . فعوى الكلب . وانتصبت أذناه لأعلى ، واشرئب رأسه ..ثم اطلق هريرا فاترا ، تلاشى في الظلام
فيما راحت اصابع المشرد المتجمدة من شدة البرد تبحث عن ازرار المعطف ، كي تزررهم
او تغلقهم على بدن ناحل يحفر في عظامه البرد ..والوجع ..بدن ضامر معبأ داخل معطف رث مستعمل من مخلّفات الجيش ...ثم مالبث ان مد يده عبر البرد والظلام ، وناش بطل العرق الواقف عند رأسه فالتفت اصابعه في اطباقة رخيّة على عنق البطل ...وعب من رأس البطل جرعة طويلة..ثم القى برأسه فوق الوسادة ، او الصّرة المحشوة بخرق تالفة . قلت اخاطبه بلهجة ودودة __ : كنت تحلم ....... ماذا رأيت في الحلم ..؟ قال __ : لا ..
شيء .. لا شيء ...واضاف انت الذي كنت تحلم ...! تحلم بصوت عال ..كأنك تصرخ ! ..
تصرخ باستمرار ! ... او كأنك تهتف ..او تنادي على احد ..احد شاخص في البعيد ! ... تحلم او تصرخ ، كما لو تتوجع ...كأنك تحلم ذات الحلم ..تكرّره في دوران مغلق عند كلّ ليل ..ثم ردّد بنبرة خافته ..: يا إلهي اكاد اتجمّد .. يا للبرد ..كم بقي على طلوع الفجر ..
كم انا بحاجة للشمس ........ غدا سابقى تحت الشمس حتى حلول الظهيرة ... سنبقى نحن الثلاثة نتدفء ..لن نذهب للسوق في الغد ..ولا للشوارع ..قلت __ : ما زلت ترتجف .
كأنك تغطس عاريا داخل حوض من الثلج .. او كأنك في ثلاجة ..قال _ : انا دائخ ..الخرابة تدور برأسي ..تدور كالمراوح ..قلت __ : انت ثمل ....... ثم كوّر اطرافه ..لمّها حول بدنه . اسفل بطنه ..فاختفى وجهه .. غاب او تداخل في ذراعيّه المتصلين في التحام معقود حول رأسه ...........
في الصباح رأيت الشمس تغطي وجه المغنّي بوشاح ابيض من نور ، يسيل دفئا على جسده الضامر ..نور ينضح دفئا يغمر وجهه ..فيما كانت الشمس تتوغل عميقا في العظام
تتوغل بعيدا في البدن الطويل الممدود فوق التراب ... كان وجه المغنّي غارقا في الشمس تماما ..غاطسا في مجرى من نور ..قريبا من قائمتيّ الكلبوجهه غارقا في الشمس تماما ..قريبا من قائمتيّ الكلب الاماميتين المبسوطتين ..واللتين تلامسان ذراعيّ المغنّي المنسابتين او المفروشتين فوق التراب على مقربة من وجهه المعفّر بالتراب المسخّم . او المغطى بمنديل من تراب وسخام ..
لا اتذكّر متى رأيته ميتا ..! ؟ او متى عرفت ذلك ..؟ في اي لحظة مشمسة من لحظات ذلك الصباح المشرق ...ولكني اتذكّر كيف هويت بوجهي من على الكرسي ..مرّ خلالها وجهه مثل صعقة راعشة سرت في بدني ، فرجتني رجا ....اتذكّر إني دنوت بوجهي وأذني إلى قلبه وجعلت اتحسس يده بيدي ...اتحسس قلبه ووجهه ... اهبط برأسي برفق وخوف اتلمّس صدره ..خلال أذنيّ..فيهبط معي صمت مريع ... صمت مخيف يطبق على شفتيه وينشر السكون في بدنه ..... صمت يزيد من قوّة ذعري وهلعي ..ورعبي النامي باطراد ......... فبقيت عيناي جامدتان تبحلقان في عينيه المفتوحتين ...... كما لو انهما تريانني ... كانتا مفتوحتين على شمس حلم بدفئها .... فمات تحتها ..مات تحت الشمس .... مات من قوّة الجوع والبرد والذكريات والحنين ..فظلت رائحة الشمس والذكريات والحنين تضوع من بدنه ...بقي يرنو الى الشمس كما لو مازال يحلم بدفئها وهي تنشر شعاعها ..تنشر اشرعتها البيض على مرافىء وجهه وروحه ...وهي ترسل خيوطها البيض الدافئة تتحسس عظامه ...
لما لمست وجهه ، كان رطبا مشرّبا بالندى والسخام وبقايا ذكرى من حلم البارحة ما زالت تلمع في عينيه وسط سكون ، بدا ازليا مخيفا ...سكون سيظل يحمل ذكرى مرعبة .
سكون مهول سيبقى مطبوعا في جدار ذاكرتي امدا طويلا ..بينما انا اتملى وجهه ..رأيت بوبي الكلب يدنو متباطئا ... يتحسس خلال خطمه الذي لما يزل يطبعه السخام ، اطراف المغنّي الميت .كانت اطراف المغنّي الميّت ، مفروشة في ارتخاء وانسياب ..ممدده في سكون مهول ، لا تبدي حراكا ..فازداد خطم الكلب بوبي اقترابا ..فلامس وجه المشرد ... وكما لو شعر بما حدث للمغنّي ..ارسل عواءا طويلا ..عواء اقرب ما يكون إلى النحيب ..اقرب الى النعي ..كما لو يؤبن عبره ، صاحبي السكير او المغنّي او الصعلوك .او المشرد ...اطلق عواءا ممدودا رفيعا حزينا ، عواء جعل يتمدد في الهواء ..يتلوى في الريح ..يخفق في نور الشمس ..كما لو يرثي صاحبي وحالي وحاله ... فيما كانت عيناه تشّعان بريقا متموجا غائما برقائق مائية فاتره..وهو يرنو للشمس وللبنايات البعيدة الغارقة في اشراقات نور الصباح ..ينظر صوب الازقة وهي تنهض من نومها ، مغمورة بالشمس ... يرنو إلى السماء المحايدة البعيدة الساكنة في حيادها ..يتطلّع للشوارع ..في حركتها المزمنة ..للشارع السادر في في لغطه ...للشارع الذي كان يقودنا صباح كلّ يوم ..للشارع الذي لما يزل يغط في مجرى من الحرمان والانكسار والفاقه ..
للشارع ..الذي كم بدا الآن بعيدا ومقفرا ..غارقا في مجرى من الوحشة والشحوب والضّياع
والذكريات القريبة ....... ثم عوى ..! كما لو شعر بحاجته للبكاء ..فبكا عاويا ، تحت الشمس
شمس بدت غير اليفة غير ودودة ، وهي تلقي اطرافها الملتمعة فوق قمم جدران قريبة وعلى هامات اشجار ، بدت كأنها شاخصة في خلاء موحش ..وسط عراء مقفر ..شمس تلقي اطرافها الدافئة على وجه المغني المتجمد من البرد والموت .. تسفح نورها ينسكب في عيني المغنّي اللتين بدتا كأنهما تلقيان نظرة اخيرة على الكلب بوبي وعليّ انا صاحبه الذي بت اكثر يتما وضّياعا ....وعلى الاثر الحزين الذي تركه موته .على وجهه المشرّب ببقايا من نور الشمس ..بقابا تنبجس فاتره من لحظة موته الاخيرة ...
لحظة انطفأ بريق صوته الشجيحظة انطفاء بريق صوته الشجي . الذي احسه الآن في نور الشمس يتأجج وهو يتدفق لاذعا !! مشّبعا بالألم والذكرى والشجن !
كأني اسمع نبراته تنبثق حارة موجعه ..... تأتي من بعيد ... من اعماق الموت والنسيان والرماد ..تجيء من اغوار موغلة في الذكرى والدموع ..تذكي جذوة اللوعة في روحي ...
تأججها ، فتنسفح دموعي في هطول متعاقب غزير في نور الصباح ... في عتمة الروح ..فيغمر الخرابة او المأوى ضباب كثيف او هكذا كانت تبدو ، ! عبر الغشاوة المتهدلة على عينيّ ..فلم اسمع عبر الضباب المرين المخيّم على ارجاء المكان ..سوى صوت المغنّي ...
__ صاحبي الذي مات ..__ يخفق في في رياح الذاكرة ..يتصاعد شجيا في اسماعي ..
فاشعر باشرعة روحي تخفق عميقا في مرافىء العزلة والتيه والضّياع ..فاجثو عند الكلب بوبي ..ابرك خائرا خاويا قبالة خطمه وعيونه واشرع في بكاء مليء بالصمت واللوعة والقسوة ..فامد يدي عبر الشمس المشّعة في عينيّ بوبي ...اتحسس خطمه المسخّم كما لو استمد من تلك الملامسة الناضحة دفئا وعذوبة والمترعة بالألفة والعزاء طاقة من المواساة ..ابدّد عبرها الوجع الراكد وسط ظلوعي ..........
فما زال طيف المغنّي ماثلا بقوّة في عينيّ بوبي ..كما لو لم يمت ..بدا كأنه جزء حميم من الشمس التي احبّها ...جزء وديع من الازقة ... جزء لا يفنى ولا يزول من الشمس والليل والبرد والشوارع ..جزء اليف من غبار المدينة وذاكرتها وعلاماتها ..جزء من النهار والنجوم والتراب والمساءات البارده الطويلة ..... كان بوبي مقعى حيال الجثة التي كانت قبل الآن وجودا ينبض بالحياة والغناء والدفء والسحر ..وجودا حافلا حالما بالحرية والدفء والشمس ..كان بوبي مقعى إزاء الميّت ، بمواجهة الشمس التي انعكس نورها في عينيه الرخيتين فزاد من عتمة ملامحه ! المخضّبة بالسخام ....فبدا رثا عجوزا حزينا شاخ قبل الآوان !!......... شيخوخة تلوح في ارتخاء اذنيهشيخوخة منهكة تلوح في إرتخاء اذنيّ الكلب المتهدلتين ...... هذا اول صباح نكون فيه وحيدين ..انا وبوبي الكلب ..نعوم في مجرى من الصمت والبكاء ...وسط فضاء موحش من العزلة والذكرى ..وسنكون لاحقا اشد عزلة وبكاءا ..في الليالي الباردة الطويلة الزاحفة في الطريق ، الحاملة في احشائها السود مزيدا من الكدر والتعاسة ومقدارا عاصفا من الأنين والأوجاع والنحيب والفقدان .......
ولكنّه سيبقى معنا ..سيبقى صاحبي المشرد حاضرا بقوّة في شموس الصباحات التي تشرق على الخرابة وعلى بوبي ... سيبقى معنا طيفا وديعا اليفا يلازمنا كذكرى حميمة تعصف برياح النسيان ..مطبوعة على جدار الزمن ..تترد اصدائها في ليالي البرد والجوع ..
ذكرى لن تنطفىء جذوتها ... ذكرى يغمرها البرد والامطار والدموع والغبار ..الغبار الذي لا يشبه احدا سونا !!ذكرى تغمرها شموس الشوارع .. شموسنا انا والكلب ..شموسنا النابضة بوهج النهارات والغناء والفقر المعطّر بانفاس الازقة ، والوجع المر ..الازقة ملاذاتنا التي تحمل في غبارها ذكرى خطوات المغنّي ..الخطوات التي باتت بعيدة ...تفصلها عنا هوة من ظلام ..ظلام ابدي ينضح رائحة تراب رطب ..يفصلها مدى مهول من الغياب ، عن النهارات في خطواتها المضيئة على الارض ...ستبقى النهارات حزينة وغريبة بدون صاحبي المغنّي ...ستبقى مشحونة بالألم وملغومة بعزلة مفتوحة على مجرى مخيف من البكاء واليأس والتيه والضّياع .. عزلة تحاصرنا بجدار من الغياب واللوعة والفقدان ...
ستغدو المدينة والسوق والشوارع من دونه ، نوافذ من التيه والبرد والدموع والندم والحسرات والأنين ...سيبقى طيفه عالقا في كل اثر ...في كل ملمح من معالم المدينة ..
سيظل طيفه الذي ما انفك يلوح ليّ على الدوام



#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السابع عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السادس عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الخامس عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الرابع عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثالث عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثاني عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الحادي عشر . من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل التاسع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السادس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الخامس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الرابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثاني من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الاوّل من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- محض رأي عابر
- منظر من زاوية حادة
- مراثي الامهات


المزيد.....




- مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات ...
- الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و ...
- -أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة ...
- الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
- “من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج ...
- المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ ...
- بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف ...
- عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
- إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع ...
- تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثامن عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر