عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 4398 - 2014 / 3 / 19 - 21:16
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عاش في حوالي 200 بعد الميلاد ،امير فرثي اسمه فتك ، كان من اصل شكاني ، عاش في مدينة همذان عاصمة اقليم ميديا ، وكان متزوجا من سيدة حملت اسم مريم ، وكانت مريم تنتمي الى اسرة كمسركان، وهي اسرة امارة من اسر الدولة الفرثية ، كما انها كانت فرعا من فروع الاسر الاشكانية الحاكمة للامبراطورية الفرثية ، وهي الاسرة التي قدر لها ان تشغل دورا بارزا في تاريخ ارمينيا ، وعليه فان الدم الملكي الاشكاني الذي اسهم به الابوان قد سرى في عروق الابن الذي كتب لمريم ان تلده .
غادر فتك همذان ، واتخذ مقرا له في طيسفون ـــ سلوقية ، وهي العاصمة الامبراطورية ، وغالبا ماتنقل الاقطاعيون الكبار وتناوبوا السكنى بين مقراتهم الريفية ، والقصور الفخمة في العاصمة ، هذا ويبدو ان انتقال فتك من موطنه اقليم ميديا كان بصورة دائمة .
يخبرنا احد المصادر العربية [الفهرس ــ للنديم ] ، كان فتك يحضر في ,, بيت الاصنام ,, كما سائر الناس ، فلما كان في يوم من الايام ، هتف به من هيكل بيت الاصنام هاتف ( يافتق لاتاكل لحما ، ولا تشرب خمرا ،ولا تنكح بشرا ، تكرر ذلك عليه دفعات في ثلاثة ايام ، فلما راى فتك ذلك لحق بقوم كانوا بنواحي دستميسان ــ ميسان حاليا ــ معروفين بالمغتسلة( النص العربي جاء بكتاب الفهرست للنديم ابو فرج محمد بن ابي يعقوب اسحق المعروف بالوراق 380ه ـــ 990م عن حادثة بيت الاصنام كما اسماه ،يلاحظ ان هناك فارق زمني كبير بين وقع الحدث والذي حصل في بداية القرن الثالث ، والقرن العاشر الميلادي ـــ تاريخ تاليف الكتاب ـــ ،اي ان الفارق الزمني يقارب ثمانية قرون ، كما ان ليس هناك ادلة تؤيد ماذهب اليه النديم ،سوى مانقل اليه عن ..ومن.. والى فلان ثم فلان بدون ادلة منطقية تجعلنا نعتمد هذه الحادثة، كم ان هناك سبب ضعف هذه الرواية ،هو صيغة االعبارة التي تلقاها فتك من آمره ، لاتاكل لحما، ولاتشرب خمرا ،ولاتنكح بشرا ،تتكرر عليه في ثلاثة ايام ، هي في حقيقة الامر ،ان الديانة المندائية تمارس طقس الصوم لعدد من المرات خلال السنة ،يمتنع فيها افرادها عن ذبح الحيوانات واكلها ،والامتناع عن ممارسة الجنس او شرب الخمر والابتعاد عن الكثير من السلوكيات والتي تتعارض مع مبدأ هذا الطقس المقدس ,والتفرغ للعبادة .. ) ، ومهما يكن الامر ، فقد حملت مريم بعد مدة وجيزة من حادثة بيت الاصنام بولد سمته ,, ماني ,, ويمكن تحديد ميلاده على انه حدث في نيسان 216م..
وبالطبع نجد ان الاسطورة المانوية ، قد زخرفت هذا الحدث بكل انواع البشائر الاعجازية الرائعة ، فمن المفترض مثلا ان ام ماني قد علمت عن طريق الرؤى والالهامات بما قدر لابنها من مواهب وعظمة مقبلة ، زد على هذا انها راته يصعد الى السماء ثم يهبط منها ، وهذه المسالة الاخيرة هي الناحية التي تستبق قيام التقاليد الغريبة المتعلقة بصعود ماني الى السماء وتختلف الروايات حول تحديد مكان ولادة ماني ،ولكن الرواية الاصح هي في بلاد بابل الشمالية ..
سوآل يتبادر الى الذهن ، ماذا كان هذا الدين ؟ استنادا الى الظروف ، لابد انه كان دين طائفة معمدانية ، لان هناك تسمية وردت لدى الكاتب السرياني ثيودور بار ـــ جونيه ,, منقضي ,, و ,, هلي ــ هواري ,, وتعنيان على التوالي ,, الذين يطهرون انفسهم ,, و,, حلل بيضاء ,, . ويلاحظ ان العديد من طوائف الكهنوت قد استخدمت الاردية البيضاء مثل ,, البراهميون ، المندائيون ، والزرادشتيون ، والكهنة السريان في دورا ـــ اوريوس ,, .
تروي الكتابات القبطية المانوية كيف ان احد الحواريين سال ماني عن الكائنات السماوية التي يقدسها اهل الفطرة ، فاجابه ماني مشيرا الى الحياة الاولى ، والحياة الثانية ، وبلا شك الى الحياة الثالثة ايضا ,, النص لسوء الحظ مفتت في هذا المكان في النص القبطي ,, كما ان هذه التعاريف موجودة بدقة في الادب المندائي القديم . وعليه يقودنا تصريح ماني مباشرة الى المندائية ، وبفضل التواؤم الذي يميز كل من الميثولوجيا المندائية والمانوية ومظهرهما التأملي ، وطقوسهما الدينية والعديد من تعابيرهما المتخصصة يمكننا ان نفترض بكل ثقة ان,, فتك ,, قد انضم الى طائفة المندائيين في بلاد بابل الجنوبية ،وان ماني قد نشأ وترعرع في وسط هذه الطائفة المعمدانية .. وتواجهنا هنا بعض العقبات -;- لقد فرض على ,,فتك,, الالتزام ببعض مظاهر الزهد والتقشف ، وهي الامتناع عن تناول اللحوم ،وعن شرب الخمر ، والتزام باصول وضوابط الصيام ، والصلاة والتعميد بالماء الجاري حتى في اقسى الظروف المناخية ،ليتعود الصبر والجلد ، والمندائية كما هو معلوم من حيث المبدأ عقيدة تقشف ، و يلاحظ ان الكتابات المندائية تردد في اماكن مختلفة مواعظ ضد الجشع والطمع ، وكنز الثروات ،والزنى ،والربى ، والرياء ،والكذب والسرقة ، والقتل ، والاذلال ،والى ماهناك من تحذيرات ووصايا ،لذلك من الواضح انه كان لدى المندائية نزعة شديدة نحو الاخذ بمنهج حياتي متقشف وعفيف ، وفي هذا الوسط ترعرع ماني ، لذا فان الاستنتاج في البحث الجديد ،والذي يقول ,, نشأ ماني في جنوبي بلاد بابل ، وفي وسط طائفة معمدانية ،هي بلا شك الطائفة المندائية ، وهناك تلقى بوضوح مؤثرات كانت حاسمة لمستقبله . وتذكر المصادر ، بانه ولما تم لماني اثنتا عشرة سنة اتاه الوحي للمرةالاولى ـــ وكان هذا سنة 228، 229م ، وكان محتوى رسالة الرسول السماوي لماني ,, اعتزل هؤلاء القوم ،فلست منهم ، وعليك بالنزاهة ،وترك الشهوات ، ولم يئن لك ان تظهر لحداثة سنك ,, وبناء على ذلك هجر ماني الطائفة المعمدانية التي كان قد التحق بها ولازمها حتى تيك الساعة تمشيا مع ارادة والده ، هذا ويروي ثيودور بارـــ جونيه ، بان تلك الطائفة المذكورة انفا ، لم تكن قادرة على التساهل معه ، لذلك تخلصت منه ..
وبقي ماني يعيش في عزلة تامة ، وذلك تنفيذا لاوامر الرسول السماوي ، واستنادا الى التطورات اللاحقة يمكن الحكم انه امضى مدة الاعداد هذه في دراسة الاداب المقدسة التي كانت آنذاك متداولة في حضارة بلاد الرافدين ، وفي التأمل في جميع مادرسه ، ولابد ان هذا التأمل وهذه القراءة قد انضجتا قناعاته ، ومهما يكن الحال تم الان اكمال المرحلة لاعداده وتطوره الديني ، وهي المرحلة التي يمكن ان نسميها المرحلة المندائية ..
انتشار المانوية ليس في بلاد الرافدين ، موضوعنا القادم .
المصادر-;-
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المانوية ـــ المؤسس والعقيدة ـــ بوخ ـــ باريس 1949
مجلة معهد الدراسات الشرقية والافريقية ـــ لندن ـــ 1943
المانوية ـــ جيووايد نغرين
اوراق سرية عرفانية مصرية ـــ دورسي ـــ باريس 1958
المندائية ـــ كونتجن 1960 ـــ 1961
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟