وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4393 - 2014 / 3 / 14 - 14:23
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
(1 ):
كان زرادشت من الانبياء الموحدين الذين لم يذكرهم القران. ودعى القران اتباع زرادشت ب (المجوس )وتكتب في الفارسية القديمة مكوشMagush .
ان الله بحسب القران سيفصل بين المؤمنين الموحدين ومنهم المجوس وبين المشركين يوم القيامة :
(ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والمجوس والذين اشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة .ان الله على كل شيء شهيد ).
(سورة الحج – 17 ).
وقد نقل البلاذري في فتوح البلدان عن النبي محمد في حقهم :
(سنو بهم سنة اهل الكتاب ).
(2 ) :
تنسب الديانة الزرادشتية الى زرادشت , وهو النبي الايراني الذي عاش قبل المسيح بعدة قرون . ويدعى كتابه المقدس ( افستا ).وقد عرف اتباع الديانة الزرادشتية في العربية وفي القران الكريم باسم (المجوس ). وهو من اصل يعود الى اللغة البهلوية Magucia ولد زرادشت في اذربيجان , وهي مقاطعة تقع في الشمال الغربي من ايران في بلدة قريبة من ارمية , او هي ارمية نفسها . وقيل انه ولد في الري ( طهران). كان ابوه من اذربيجان وامه من الري . وقد انتشرت الزرادشتية في بداية امرها في مقاطعات ايران الشرقية , في نواحي بلخ لا في اذربيجان او في المقاطعات الغربية حيث ولد هاجر زرادشت الى بلخ حيث اكر م الملك ويشتاسف وفادته وقبل تعليمه , وكرس جهوده لنشرها . وكان ذلك السبب الرئيسي في انتشار المذهب حتى عم جميع البلاد .
يسود الاضطراب تاريخ ولادته كعادة كل الانبياء . الا ان القول السائد بين المحققين ان تاريخ ولادته لايتجاوز القرن السابع .
كتاب زرادشت ( افستا )مكون من خمسة اجزاء مستقلة او خمسة كتب يختلف تاريخ تدوينها ( قارن ذلك باسفار( كتب )موسى الخمسة .واقدم اجزاء الافستا يعودالى عصر زرادشت نفسه , وهو يشتمل على اقواله وتعاليمه . وهناك كتابان آخران يرد ذكرهما عادة كمرادفين لكتاب افستا وهما كتاب ( زند)و (بازند), زند في الفارسية تعني ( التفسير ), والمراد به تفسير كتاب افستا .اما كتاب بازند فهو تفسير كتاب (زند ) بلهجة من اللهجات الفارسية تقع بين البهلوية والفارسية الحديثة .
بظهور الاسلام انحسرت الديانة الزر ادشتية بحلول نهاية القرن الهجري الاول . ومنذ القرون الاولى للاسلام قامت فئات من الزرادشتية بالهجرة الى المتاطق الشرقية للبلاد ,ثم الى الهند والصين .
( 3 ) :
جذور وعقائدالديانة الزرادشتية
ان الزرادشتية تمثل انتقالا من مرحلة الاعتقاد بتعدد الالهة الى دور التوحيد . وفي الحياة المادية والاجتماعية تمثل تطورا من مجتمع يعيش على تربية المواشي والزر اعة البدائية الى مجتمع زراعي متطور , والى حياة مدنية فيها شيء من الرقي والتقدم .
ان اله زرادشت ( اهورا مزدا ) , ليس اكبر الالهة , بل هو الاله الوحيد القادر , الكامل , فقد كافح زرادشت في سبيل نبذ عقيدة التعددية الالهية , فانزل هؤلاء الالهة عن عروشهم وجعلهم في صف الضالين المضللين بعد ان كانوا يعبدون , ووصف اتباعهم بعباد الشياطين . وهذا هو السبب في ان كلمة ( ديو )التي كانت تطلق على الهة الاريين القدماء والتي لاتزال في اللغة الهندية تفيد المعنى نفسه ومنها اسم الله بالفرنسية , اصبحت في الفارسية بمعنى الشيطان .فاهورا مزدا في نظر زرادشت بمنزلة ( يهوه )في الديانة اليهودية .يعتقد كاتب المقال ان العكس هو الصحيح , اي ان اليهود اعتبروا ( يهوه )الاله الوحيد تاثرا بالزر ادشتية وليس العكس .
( 4 ):
جدلية وحدة النقيضين
اشتهرت الزرادشتية في الكتب الاسلامية بالمثنوية ( الثنائية ). ونسب اليها الاعتقاد بالهين اثنين :اله الخير وهو( اهور ا مزدا )واله الشر ( اهريمن ) . اما الزر ادشتيون فلا يرون في انفسهم غير موحدين , ولا يعتقدون بالمثنوية بالصورة التي تنسب اليهم .
لقد واجه الا نسان قديما ناموس التضاد , او جدلية وحدة النقيضين , وهي من اقوى قوانين الطبيعة .فالنور تقابله الظلمة , والصحة يقابلها المرض , واللذة يقابلها الالم .ان المشكلة التي واجهها الانسان هي :هل الذي خلق الاشياء الصالحة وعناصر الخير هو الذي خلق الشرور والمفاسد ؟لقد اعتقدت الشعوب الارية القديمة بمبداين , مبدا الخير ومبدا الشر , ان هناك فرقا رئيسيا بين ثنوية الايرانيين القدماء وثنوية سواهم من الشعوب . وهو يتلخص بان اعتقادهم بوجود آلهة الشر ليس معناه عبادة هؤلاء الالهة , او تقديم القرابين لهم والزلفى اليهم بالادعية والصلوات ارضاء لهم . بل بالعكس من ذلك , كانوا يدعون كل فرد الى ان يحارب الهة الشر حتى يتغلب عليهم وينتصر . عندما خرج زرادشت بتعاليمه , ودعا الناس الى عبادة الاله الواحد الاحد (اهورا مزدا ) خالق السماوات والارض لم يلغي فكرة الازدواجية بل جعلها اساسا لفلسفته. فلا يجوز في نظر زرادشت للانسان وهو يعيش في وسط الصراعات ان يبقى محايدا وشاهدا على الاحداث فقط , بل عليه نصر ة قوى الخير , ومحاربة قوى الشر .
يقول زرادشت في احدى مزاميره ( زبور – نشيد ديني ) مخاطبا اهور ا مزدا ( قارن ذلك مع آيات القران الكريم ):
(اياك اسال , اي اهورا مزدا , من هو ابو الصدق ؟ من اول كائن ارى الشمس والكواكب مسيرها ؟من الذي يجعل القمر بدرا مرة , وهلالا مرة اخرى ؟ من الذي اقر الارض والسماء فوقها , من خالق الماء والنبات ؟ من الذي علم الرياح والسحاب الجري ؟من هو خالق النور والظلمة ؟من هو رب النوم واليقظة ؟من الذي خلق الفجر والضحى والليل ؟وحمل المؤمنين على اداء الفرائض ؟ من هو خالق اله المحبة والسلام ارميثي ؟من الذي القى حب الاب في قلب الابن عن طريق العقل والعلم ؟ ) .ثم يقول بعد كل هذه الاسئلة :اي مزدا , انا اسعى لاعرفك جيدا بواسطة العقل المقدس , انت الذي خلقت الكل ).( افستا ).
وقد فسر الدكتور هوك وهو من العلماء المتخصصين في دراسة كتاب (افستا ) هذه الناحية في الديانة الزرادشتية بقوله :
( ان زرادشت النبي ,بعد اثبات وحدة الخالق وحدة لاتتجزا قام بحل رموز هذه المسالة التي شغلت الافكار في كل عصر وفي كل ديانة بتقرير مبداين متضادين وجدا في بداية الخليقة , وهاتان القوتان وان كانتا متضاربتين ومتعاندتين , الا انهما متحدتان متقاربتان في عالم الوجود, ولذلك سميتا بالقوتين التوامين ).
اننا لانرى في الديانة الزرادشتية الهة تشار ك اهور ا مزدا في الخلق والابداع , وانما نجد فيها ملائكة من مخلوقات على درجات مختلفة من القربة .
( 5 ) :
تقديس النار في الزرادشتية
ان النار لاتمثل عند الزرادشتيين ربا او الها معبودا , بل يرون فيها مظهر ا من مظاهر النور الالهي .ويجب القول ان تقديس النار ليس من وضع زرادشت , بل هو قديم جدا في تاريخ الشعوب الارية . وقد دعي ملك النار في ( افستا ) ب ( ابن اهورا مزدا ) , قارن ذلك مع لقب ( ابن الله ) في المسيحية . فاذا عدنا الى العصور السحيقة وجدنا الا نسان والذي كان يعيش تحت رحمة البرد الشديد والعواصف القارصة , فاذا بصاعقة تنزل من السماء فتضر م النار في شجرة . ويكتشف بذلك الانسان عنصر ا جديدا فيه الحرارة والنور معا .وهكذا يمكننا تفسير عقيدتهم بوصفهم النار هبة من السماء بتمجيدها وتقديسها تمجيدا وتقديسا لواهبها .ولكن سلطان الشر يحاول اطفاء هذه النار المقدسة , هنا يبدا دور الانسان بتقديم الوقود للنار الملتهبة وجعلها في مامن من العواصف . وهكذا تصبح رعاية النار وتقديم الوقود اليها من اهم وظائف القبيلة والاسرة .
يعتقد زرادشت ان الحياة الانسانية مزيج من عنصرين : الاول هو العنصر الترابيء المادي , والثاني هو الروح وهو العنصر الخالد .
( 6 ) :
ارتباط الديانة الزر ادشتية بالارض والعمل
ان الديانة الزر ادشتية تمثل تطورا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية , وبالاحرى تطورا في فلسفة الحياة .لقد ظهرت الزرادشتية في المناطق الشمالية في ايران حيث تقسو الطبيعة بشتائها الذي يستمر اكثر من خمسة شهور , وصيفها الجاف القليل الامطار . ولم تكن طبيعة حياتهم الزر اعية تسمح لهم بالانتقال من ارض الى اخرى , فهم مرتبطون بارضهم ارتباطا وثيقا . هذا الارتباط ادى لا الى تمجيد الارض فحسب , بل الى نوع من التقديس لها ولكل عناصر الطبيعة .هذا التفكير كان موجودا قبل زرادشت , اما الجديد عند زرادشئت فهو انه جمع بين الحياة الروحية وبين قواعدالحياة المدنية ( قارن ذلك مع الديانة الاسلامية ) . يحاول زر ادشت بتعاليمه ان يخلق مجتمعا زر اعيا صالحا , وقد استفاد من عقيدة وحدة النقيضين . فالزرادشتية تستخدم العقيدة بازدواجية القوى في سبيل تنشيط الحركة الاصلاحية النفسانية والحركة العمرانية والزر اعية . فما دامت قوى الخير والشر في صراع مستمرفعلى الانسان ان يكون ايجابيا الى اقصى حد .
تؤكد تعاليم ( افستا) على اعداد بنية سليمة تتلائم مع هذا المجتمع الزر اعي , لذا تسبغ تعاليم زرادشت على كفاح الانسان من اجل اعمار الارض مسحة من القداسة الالهية .
ان التكفير عن الاخطاء يكون في بعض الا حيان بتادية اعمال او تقديم مواد تنفع الناس ومنها , اعطاء رجال الدين مايلزمهم من الاسباب والادوات لانجاز وظائفهم . اعطاء الفلاحين الادوات الزراعية التي تنقصهم , اعطاء المحاربين ماينقصهم من انواع السلاح ,تنقية الارض من الاوساخ والموادالضارة وتحضيرها للزرع , حفر الترع وايصال الماء ز بناء الجسور ورش الاشجار وقتل الحيوانات الضارة للانسان .
( 7 ) :
الخاتمة
يرى كاتب المقال التاثيرات الكبيرة جدا للزرادشتية في الديانات الابر اهيمية الثلاث وهي : اليهودية , والمسيحية , والاسلام . والزرادشتية هي الاصل في التوحيد الذي وصلت اليه الديانات الابر اهيمية الثلاث .
من تاثيرات الزر ادشتية على سبيل المثال لاالحصر , الحكم الالفي في المسيحية , اي حكم المسيح على الارض لمدة الف عام وهو يمثل دولة المسيح او المهدي في نهاية التاريخ .
اعطى زرادشت شريعته على الجبل وهو يقوم بتجديدها كل الف سنة .. وعلى مثاله قام النبي موسى باستلا م الوصايا والشريعة من الله( يهوه )على الجبل , وكذلك القى المسيح موعظته وتعاليمه على الجبل وهي مدونة في الانجيل بحسب متى في خمس مواعظ طويلة تعادل كتب ( اسفار ) موسى الخمسة وكتب( الافستا ) الخمسة .
ان انتظار اليهود لمجيء المسيح المخلص الذ ي سيقيم مملكته , ملكوت العدل على الارض وفي السماء هوعلى طراز ملكوت زرادشت , كما ان تجربة يسوع مع ابليس نجدها في تجربة زرادشت مع اله الشر .
المصدر
كتاب (الديانات الشرقية القديمة :الزرادشتية – المانوية ) – تاليف : البروفيسورسيد حسن تقي زاده , والبروفيسور محمد محمدي ملايري – ط1 – 2014 – الناشر : المركز الاكاديمي للابحاث , العراق – تورنتو – كندا .
توزيع شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت – لبنان .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟