|
الشجرة تحتضن ابو عرب
وليد ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 4387 - 2014 / 3 / 8 - 14:40
المحور:
القضية الفلسطينية
دقائق قبل انتصاف ليلة الخميس – الجمعة.. يرن الهاتف.. من الجانب الآخر يأتيني صوتها متسائلا: - "شو برنامجك بكرا؟" - "مثل كل جمعة.. عمل مكثف.. تعرفين ان صحافة آخر الأسبوع تستهلك الكثير من وقتي." - "أريدك معي.." قالت.. وكان التأثر واضحا في صوتها.. وكشفت لي السر الذي احتفظت به حتى منتصف الليل: - - "اعددت نصبا تذكاريا لأبي عرب.. سأزرعه على أرض الشجرة غدا صباحاً.. " ادهشتني.. فهكذا هي، دوما تكون السباقة في المبادرة.. وهكذا هي، من مالها، ووقتها، وروحها، دوما تبحث عن أي بارقة تزرع الأمل وترسخ الوطن في عقولنا.. المحامية، المناضلة، الرفيقة التي عرفتها منذ أيام شبابنا في النضالات الشعبية والسياسية.. لا تزال كما هي، بشقاوتها، وتحديها.. لم تتغير.. نائلة عطية، ابنة البحار الحيفاوي والمناضلة التي تحدت كل القيود في قرية فسوطة.. أيام كان الانتماء الى الشيوعية "جريمة".. لا تزال بعد عمر طويل من النضال ومواجهة أشرس نظام أبرتهايد واوحش احتلال في ساحات المحاكم.. تحمل في قلبها شاطئ حيفا والكرمل... تحلق بين حيفا ورام الله كعصفور لا يعرف الكلل.. كما لا تعرف الصمت امام أي محاولة تستهدف تغييب الوطن.. لم يكن صعبا عليها اقناعي بترك العمل في أكثر الأيام اكتظاظا.. كيف لا وللحكاية ذلك العبق الفلسطيني الشامخ.. عندما جاء النبأ المشؤوم من حمص.. حول وفاة شاعر الثورة الفلسطينية ابراهيم محمد صالح (أبو عرب)، راعها ما كتبه أحدهم في نعيه، من أن بو عرب "ابن مدينة حمص"... فأطلقت عبر صفحتها على "الفيسبوك" أول صرخة لإحياء ذكراه في موطنه، وعلى الأرض التي ولد عليها.. صرخت: "الا يحق لنا ! فلنزرع بصمت شاهدا لأبي عرب. على تراب وطنه وفي مقبرة قريته...." وحددت: يوم الجمعة سنبدأ في ثرى مقبرة الشجرة المهجرة..." وأوضحت: "عزّ عليّ بعد قراءة رثاء أحد الأخوة نعي " ابو عرب" بقوله: ابن مخيم حمص!! انه المهجر المشرد من قرية الشجرة.." وتدحرجت الفكرة... كان هناك من تلقفها واطلق دعوة رسمية.. وكانت نائلة، كما هي، تعمل بصمت لتطبيق فكرتها.. بعيدا عن الأضواء... توجهت الى احد معامل الحجارة.. واختارت حجرا من حجارة القدس.. ليكون الشاهد على أرض الشجرة.. خلال ايام قليلة كان الشاهد جاهزاً... حملته في سيارتها.. غطته بكل ما استطاعت من كتب وملابس خشية اعتراضها على الحاجز.. وانطلقت لتجتاز الحاجز الفاصل بين شطري الوطن.. حين وصلت الى منزلها في حيفا.. ورن الهاتف في مكتبي.. عند انتصاف الليل: اريد منك مرافقتي... وكيف ارفض والمشروع يستحق مد ما يمكن من يد المساعدة لتحقيق اصرارها.. اجريت اتصالا مع شقيقي توفيق حصري.. واجرت هي اتصالا مع زميلها المحامي مصطفى الصح من عرابة، ومع الصديق نادر زريق من عيلبون.. فشكلنا خماسي المغامرة.. وقبل الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي كنا نقف على أرض الشجرة... وبدأت عملية البحث.. أين نقيم النصب.. ومن منا نحن الخمسة سيستطيع حمل هذا الحجر الثقيل.. ولكل منا أوجاعه.. زحفنا بسيارتنا في الطريق الوعري صعودا نحو اشجار الزيتون والصبر، الشاهد الباقي على فلسطينية هذا المكان... كانت روح ابو عرب معنا.. حملناها لندفنها هناك.. حيث كانت شجرة التوت التي افتقدها يوم اتيح له زيارة قريته قبل عقد من الزمان، بعد اكثر من نصف قرن من التهجير.. وحين وصلنا الى منتصف الطريق الصاعد الى القرية.. رأيت البريق في عينيها..: هنا، قالت، في ظل هذه الزيتونة سنقيم النصب... بعد دقائق.. كان الشاهد يقف شامخا، معلنا: "هنا في قريته الشجرة وُلد، ومن هنا هُجر، الشاعر الوطني إبراهيم محمد صالح (أبو عرب) في نكبة عام 1948. هنا دفنت روحه، وجسده في مخيم حمص للاجئين الفلسطينيين"... انتهت المهمة.. اعدنا ابو عرب الى وطنه، جسدنا حق عودته.. ولو رمزا يعانق تراب الشجرة... في ساعات بعد الظهر، كان مقررا اقامة الفعالية الأوسع التي دعت اليها "فلسطينيات" بعد تلقفها لفكرة كانت نائلة اول من طرحها.. اجرينا اتصالا مع بعض الأخوة من المجموعة، وابلغناهم ان ابو عرب ينتظرهم في الشجرة... كنا نعتقد ان التواصل بيننا وبينهم هو الحبل الذي يرسخ حضور ابو عرب على أرضه.. كنت مشغولا في عملي حين تلقيت محادثة في المساء من احد الأصدقاء يبلغني ما حدث.. البعض حاول تجاهل بالفكرة، والبعض حاول التسلق عليها.. واحداهن.. حاولت اخفاء النصب، بل وبكل استهتار.. الجلوس عليه.. حتى ردعها احد الحضور... صرخت: لماذا؟ لم يأتني جواب. وادركت. كم لا يزال بعضنا يعيش الانانية في روحه، ولا يرى صنيع الآخر.. تماما كما يغيب احترام الآخر.. ساعة الحدث.. كانت نائلة هناك، حدثتني: حين رأيت فعلة البعض، ومحاولتهم حتى منع الناس من معرفة ما فعلناه في الصباح، طلبت من بعض الشبان التوجه الى حيث وضعنا النصب واحضاره.. كانوا يحملونه كما لو يحملون جثمان أبو عرب، في مشهد مؤثر.. وطني بكل ما يحمله من معاني.. وصل النصب.. وتجمع الناس حوله.. واشتعلت الكاميرات، كل يريد التقاط صورة تذكارية الى جانبه.. الا ذلك البعض الذي حاول اخفاء الخطوة النضالية التي لا تقدر بثمن.. خطوة نائلة.. ازعجني جدا سلوك البعض.. حين رأيت صورا لهم على الفيس بوك يتغنون فيها بمشاركتهم في احياء ذكرى ابو عرب.. يقفون الى جانب النصب.. ويتنكرون لصانعته، لفرقة المغامرين التي تسللت الى القرية صباحا وزرعت الشاهد.. وحين تصفحت مواقع الانترنت في المساء.. ايقنت ان لا شيء يخفي الشمس... وشعرت برهابة الموقف وأنا أقرأ مقالة لزميل أردني توج مقالته على موقع "الدستور" الأردنية بعنوان: "أبو عرب يمارس حق العودة".. لقد تحدث الكاتب عن المبادرة النضالية لنائلة عطية.. ونشرت عشرات المواقع البيان الذي ارسلته اليها حول المبادرة... وجاءت ردود الفعل من كل انحاء العالم.. تحيي هذه المناضلة التي ترسخ الحضور الفلسطيني في كل ما تفعل... حين أطفأت جهاز الحاسوب، قبيل فجر السبت.. كان الحدث لا يزال ماثلا امامي ناظري.. استعدت الشريط في مخيلتي.. ورأيت نائلة، تقف بشموخ الى جانب الشاهد لتشهد.. هنا على ارض الشجرة، باق أبو عرب..
#وليد_ياسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما وراء المقاطعة الصبيانية من قبل النواب العرب لمناقشة اقترا
...
-
آخاب وايزابيل ونابوت العصر
-
عساف يرسم الفرح في رام الله
-
لماذا لا تكون امريكا هي التي استخدمت السلاح الكيماوي في سوري
...
-
في وداع المناضل الوطني نمر مرقص - كلمات قليلة في رجل شامخ
-
إنتفض..
-
العودة حق والتنازل باطل
-
النكبة – المحرقة والتثقيف الصهيوني لطلابنا في شبكة عمال
-
وللوقاحة، أيضا، حدود!!
-
ختان الأنثى - في النقب تقليد مستورد يرفضه المجتمع
-
بين روحي وروحك، فراشة..!
-
الحاجة فولا (فيليتسيا لانغر) تستحق من شعبنا الفلسطيني اكثر م
...
-
بين هنا.. وهناك (بحث عن الذات)
-
المواطنة في دولة الأبارتهايد
-
نقطة الصفر.. بين عامين!
-
سالم جبران.. وداعاً
-
توفيق طوبي الإنسان كما عرفته...
-
بوعزيزي شعلة الانتفاضة التونسية
-
مشاعر مختلطة في -أسبوع الآلام-
-
مجزرة أسطول الحرية ومسألة الارهاب!
المزيد.....
-
الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية: إعلان الأحكام العرفية وحالة
...
-
عقوبات أميركية على 35 كيانا لمساعدة إيران في نقل -النفط غير
...
-
كيف أدت الحروب في المنطقة العربية إلى زيادة أعداد ذوي الإعاق
...
-
لماذا تمثل سيطرة المعارضة على حلب -نكسة كبيرة- للأسد وإيران؟
...
-
مام شليمون رابما (قائد المئة)
-
مؤتمــر، وحفـل، عراقيان، في العاصمة التشيكية
-
مصادر ميدانية: استقرار الوضع في دير الزور بعد اشتباكات عنيفة
...
-
إعلام: الولايات المتحدة وألمانيا تخشيان دعوة أوكرانيا إلى -ا
...
-
نتنياهو: نحن في وقف لاطلاق النار وليس وقف للحرب في لبنان ونن
...
-
وزير لبناني يحدد هدف إسرائيل من خروقاتها لاتفاق وقف النار وي
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|