|
جدلية الذاكرة في سرد السيرة
أسامة غانم
ناقد
(Osama Ghanim)
الحوار المتمدن-العدد: 4386 - 2014 / 3 / 7 - 15:33
المحور:
الادب والفن
ثم فكرت بأنني سأتحمل ألمي الجسدي، ولن استعجل مغادرة الحياة، الى ان تقرر هي مغادرتي لأني أحب فيها: اوان الغروب، وساعة الشروق، اذا ما كنت صاحيةٌ بعد ليلة حب، بسببها لم أنم. ص5 الرواية
بهذا التحدي والامل يفتتح محمود عيسى موسى روايته الموسومة "بيضة العقرب"، ملقياً بالقارئ في ثنائية: الحياة/ الموت، المكوث/ المغادرة، الشروق/ الغروب. ومنذ البداية نقول باننا لن نستطع فهم النص، ما لم ندرس الترابط بين الكتابة السردية والظروف الاجتماعية – السياسية، مع العمل على قراءته قراءة نصية تفكيكية، تقع ما بين الذاتية والتاريخية، لانه بهما جعل نصه نظاماً يتنصص فيه التاريخ ، الذي: يتشظى، يتوحد، يتسرب في روحه، ويتفاعل مع الذاكرة السيرية. ان الايديولوجية السوسيولوجية لأي مجتمع قد اعتادت ان تجعل للعالم معنى ودلالة، وان الأحداث التاريخية "التاريخ هو الزمن" ما هي الا عبارة عن نصوص وثائقية، لابد ان تفك شفراتها، للوصول بها الى المنطقة الغامضة، للتأويل، من اجل اقتحام ونقد: المرجعية/المؤسسة/السلطة، وما نص "بيضة العقرب" الا نص سيكشف "الحضور الاجتماعي لعالم النص الادبي، والحضور الاجتماعي للعالم في النص الأدبي-جوناثان غولدبيرج". لقد قام الروائي/السارد بالاشتغال على الذاكرة، ذاكرة ذاتية، ذاكرة مجتمعية، الواقعة ضمن التاريخ للعالم، بمعنى انه تناول التاريخ الخاص لفرد (=سيرته الذاتية) ضمن التاريخ العام للمجتمع الدولي، أي قام بمزاوجة ما بين السرد الادبي والسرد التاريخي، فإنه في هذه الحالة يمنتج اللحظة الحاضرة باللحظة الماضية، بكل عمق في الرؤية، مع استغوارها بجمالية هكذا: السبت 17 مارس 2001 دخول الى المستشفى، سرير رقم 28، لتناول الجرعة السابعة. 17 اذار 1406 توفي في القاهرة العلامة ابن خلدون الذي كتب في مقدمته "اما بعد فان فن التاريخ من الفنون الذي تتداوله الأمم والأجيال، وتشد اليه الركائب والرحال، وتسمو الى معرفته السوقة والاغفال، وتتنافس فيه الملوك والاقيال ص199". يحاول النص ان يوصل لنا بان السارد يعلن: "انا جسدي" كما يقول مارسيل بروست، بجسدي او بجزء منه، اعبر عن ذاتي وعما يدور فيها، وبه اتعرف على الآخرين وعلى العالم، وبهذا الاعلان نعثر على تأكيد قوي على التأصيل الذاتي، الذي هو محاولة عنيفة لارباك الجسد، أي جسده، وذلك لكي يقوم بتحريره من تاريخ مرضه، هذه الإستراتيجية تسمح للروائي/ السارد ان يدعي انه غير مسؤول عن مرضه، قوى خارجية هي المسؤولة، لذا فهو يستفيد من هذا الطرح الغامض، للبقاء متفائلاً بنفي/ استئصال الجزء الخائن خارج الجسد/ الكل. الروائي هنا يجعل من سيرة الجسد (= خصيته المصابة) موضوعاً للتأليف، انه يعمل على خلقها ويحولها الى لغة "بالسرطان توفيت بيضة العقرب... ودفنت في مرطبان زجاجي ص63"، سيرة مملوءة بالألم، والمعاناة، والوجع، والقلق الحاد، والغربة... والصراع الباطني مع الذات ذاتها، ومع الاشياء المحيطة، ومع الافكار والرؤى...، لذا اطلق عليها رواية السيرة السرطانية، أي انها سيرته المرضية، ولعل القارئ يتسائل لما اطلق الروائي على روايته "بيضة العقرب" ، مع عنوان ثانوي اسماه "السيرة السرطانية" وعند قيامنا بتفكيك العنوانين يكونا بهذا الشكل: بيضة = الجسد العقرب = الانا السيرة = الذاكرة السرطانية = المرض – الجزء المصاب عندئذ تكون قراءتنا للعنوان هكذا: السيرة التاريخية لخصية السارد المصابة بالسرطان. على هذه القراءة تتأسس قراءة ثانية، قراءة شمولية، ترتكز على القراءة الأولى/الاضاءة، التي كانت العتبة/ المدخل للقراءة اللاحقة، وبها نطلع على كافة التداخلات: اجتماعية-سياسية-فكرية-فلسفية-تاريخية-اقتصادية، او بكلمة واحدة الامساك بالعجينة او بروح النص. عندئذ نكتشف ايضاً كيف كتب الرواية وبأي طريقة كتبت، فلقد كتبت بطريقتين: السردية والتشكيل، ونعثر على ذلك كلما توغلنا في القراءة، فالسرد والتشكيل متوازيان لايتقاطعان ولايتناقضان، بل انهما يؤديان وظيفة واحدة في الايصال والاتصال، يقول الناقد الفرنسي فيليب لوجون: "ان السيرة الذاتية، نص علائقي يلتمس فيه الكاتب من القارئ شيئاً ما، ويقترح فيه كذلك على القارئ النهوض بشيء ما"، اذن لابد من نشوء علاقة جدلية بين الكاتب والقارئ ليتمخض عنها رؤية متبادلة متبلورة بين الاثنين، مع تشكيل وتأسيس الوعي الذاتي والجماعي، ليكون له دوراً حاسماً في مسـألة التغيير، وفي طريقة التفكير، فالنص الادبي "يستقي قيمته من بنيته الابداعية، واصالته في رصد الواقع والانسان، وقدرته التحليلية، ومتانة اسلوبيته، وانتمائه الى ذاته، وتشكيله الجمالي، محمولاً على رافعة لها مرجعية واقعية ذات طابع نقدي وتشريحي – فضائحي لوقائع مزيفة او بالية . حيدر حيدر/مجلة عمان العدد 159 – ايلول 2008" أي ان الوعي بالذات هو الوعي بالتاريخ، وعندما يقترن الذات بالتاريخ تكون لدينا رواية مثل رواية "بيضة العقرب" التي جمعت فيها: النص الادبي = التخييل، السيرة الذاتية = البوح، التاريخ = الحقيقة. وبعد ذلك نصادف السؤال المهم والكبير المعبأ باشكالية سسيوثقافية في النص الذكرياتي: " لماذا نكتب؟ أحقاً، بان الكتابة اهم من الحياة؟! أفعلاً، انها اهم من المرض والالم والوجود والمعاناة ص36" تسأول يتأرجح ما بين اليقين والشك، تسأل يلتحم فيه الوجود واللاوجود، تسال عليه ان يختار وإلا وقع في العدم ما بين البصيرة والعمى، فمن هنا سوف تستيقظ، وتنبعث، الانوار المحجوبة بالعتمة، والرؤية الإنسانية، المرافقة للتأويل المتعدد، لتعدد المعاني والدلالات، الخارج من تعدد القراءات، ان التأويل في جوهره، يمثل اجوبة سيمائية لاسئلة يثيرها النص، ولكن تعترضنا إشكالية حالما ندخل المجال ذلك، ما هي حدود الحرية المتاحة لنا اثناء الممارسة التأويلية؟ انقول كما يقول السارد "ان الذي يكتب الان هو أنا- ص8"، نقول نعم ولا، لانها تساؤلات تعمل على توريط القارئ، ولانها تساؤلات ملتبسة، مختبئة، محيرة، تحتاج الى الغوص عميقاً في الذات وفي الوجود وتحتاج بصيرة ثاقبة، كما في المقطع 80 من الرواية، مقطع مؤلم ينخر في الروح بعيداً لغياب الاديب الكبير الاردني مؤنس الرزاز: بالغصة 8 شباط 2002 ليلة الجمعة في الساعة السابعة تماماً توفي مؤنس الرزاز في عمان "51 عاماً" ص365. ونكمل نحن يامحمود مقطع ملحق مع الاعتذار: تشرين الاول 2008 توفي محمد طملية المبدع الساخر حد اقتحام اللامرئيات. بنفس المرض توفى الزائر الدائم لبيضة العقرب.. ولكن في زمن لاحق، زمن آخر، ونتوقف عند كلمات المبدع عبد الله حمدان رئيس تحرير مجلة عمان "ان نجاح كتاباته الابداعية الساخرة وحضورها الفاعل كان مرده سبب في غاية الاهمية، وهو انه كان نسيجاً متفرداً في نضرته الى الحياة وعلاقته بمن حوله"، أيتذكر محمود عيسى ما كتبه عنه محمد طلمية وهو سجين مرضه في جريدة "العرب اليوم" 31 اذار 2001: "هل يمكن ان تموت كالآخرين؟ رجائي ان تقاوم، ان تعيش، ان تبقى الابتسامة الساخرة، ان تبقى اربد، ان تبقى انت. ص262". اسيكتب عنه في رواية قادمة كما وعد؟ اسيكتب عن سخريته الناضحة بالصراع الطبقي؟ وماذا سيكتب عن شيخ الكواتم مؤنس الرزاز؟ هما: غادرا ولكن بقيت اوراقهما تتوازعها الرياح.. ولتنضم الى الالواح الطينية، وليتشاركا مع انكيدو في رؤية كل شيء "شانقابا امورو"، وليبقى محمود يتجرع مرارة البقاء، ومصاحباً لكلكامش في البحث، رغم انه يعرف ان خلود الانسان في كلماته. ان المؤلف والراوي في الرواية، يستمدان افكارهما ورؤيتهما من محيط واحد، ويعود سبب ذلك الى ان الاثنين ينطلقا من بؤرة واحدة، في الوقت ذاته، ولكننا نستطيع بالملاحظة الدقيقة ان نعثر على اختلافات جوهرية بينهما من حيث المخيلة- القصدية- الاسلوبية، وهذا ما يدفع بالقارئ/ الناقد الى التأويل المستمد وجوده من ضرورة التمييز بين قصدية المؤلف ودلالات لغة الراوي، ولتعمل ايضاً على ان يكون القارئ/ الناقد "مرغماً على ان يفهم المؤلف اكثر من فهمه لنفسه – بول ريكو"، وعلى ان يلتقيا في نقطة الوجود التاريخي، لان وجودنا معناه وجود الآخرين، معناه العمل على وصف هذا الوجود، والسعي ايضاً الى تغييره، وهذا ما اشتغل عليه المؤلف محمود عيسى موسى في كل الرواية، وليثبت ان وعي الكتابة/ القراءة هو بالضرورة وعي تاريخي – انساني، ويتواصل بحرية مع التراث التاريخي كما في المقطع التالي: "رغم الضيق والالم وصعوبة الكتابة، وما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين في المخيمات والقرى والمدن من قتل وتنكيل واعتقال وهدمٍ للبيوت وتدمير للحياة، ورغم احداث 11 سبتمبر في امريكا وضرب افغانستان والمناخ المريض التي خيمت به على العالم والحشود الهائلة وجحافل آلتها العسكرية المنتشرة في مياه العرب وارضهم وهوائهم لضرب العراق مرة ثانية والعرب. ص325". فليس هذا المقطع، بوصفه قطعة من الماضي والحاضر، هو الحامل للتراث، بل للحامل للتراث هو استمرارية الذاكرة، أي تكوين ذاكرة دائمة، تصبح كاملة وحقيقية في حالة ان تكون مكتوبة. انها رواية ليس بطلها الحقيقي الخصية، بل ابطالها: الموت الذي تجول من الغلاف الى الغلاف في سماوات السرد، ابطالها الاصدقاء: الشاعر ابراهيم الخطيب، الأديب مؤنس الرزاز، الاديب هاشم غرايبة، القاص محمد طملية، الروائي ابراهيم نصر الله، العمة حمدة، الصديقة غير المسماة، فلسطين المجتاحة ليل نهار، زاردشت، الحلاج، "خرافة الحياة، وجدوى الخبث وحياكة المؤامرات وإيذاء الإنسان للإنسان- ص290"، ناجي العلي حنظلة، محمد الشرع، أي الحياة بكل ازمنتها وبكل اشخاصها وبكل صراعاتها، وسعادتها وبؤسها... انها رواية حياة – انسان خرج من الموت.
#أسامة_غانم (هاشتاغ)
Osama_Ghanim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار - في الملحق الثقافي لطريق الشعب
-
النصْ المتشظي في السرد المتجانس
-
سلطة الواقع في تحولات الانا / الضوء
-
سردية الرمز الغرائبي في جدلية الأنثى والذكر
-
رمزية الصورة الشعرية في تجربة معد الجبوري
-
قراءة سوسيوثقافية للحلاج
-
استراتيجية لعبة الاسطورة المعولمة
-
بنية الوعي الطبقي في الصورتين الواقعية والحلمية
-
ازمنة السيرة المتداخلة في ذاكرة النص والجسد
-
التجربة الجمالية والمكان في الرواية العربية
-
التجربة الجمالية والزمن في الرواية العربية
-
ازدواجية الجسد وشفراته السرية
-
شعرية التجريب في رؤية الانثى لجسدها
-
سلطة الجنس
-
الرؤية الغرائبية في سوسيولوجية الجسد
-
رواية - برهان العسل - قراءة سوسيوثقافية
-
اللعبة الايروتيكية وتحولات التخييل السردي
-
واقعية المتخييل السردي في التاريخ المؤول
-
تحولات حداثية السرد في المتخييل التراثي
-
قراءة في -جمهورية البرتقال-
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|