|
اغتراب السياب بين الام الغائبة والمرأة المستحيلة
نوال ناجي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 4384 - 2014 / 3 / 5 - 09:31
المحور:
الادب والفن
اجمع النقاد على كون بدر شاكر السياب حالة شعرية متميزة وشهاب ساطع في سماء الشعر العراقي والعربي... الا انه بالرغم من كونه كحال الشهب في سطوعه الباذخ وفي قصرعمره ... الا ان الشهب تنطفئ الى الأبد في اخر المطاف... والسياب لا يزال بعد نصف قرن على رحيله ماليء الدنيا وشاغل الناس . ولست في معرض التمجيد بعبقريته الشعرية الذي يصل حد الإفراط .. الذي قد يلجأ اليه البعض، او التنديد بنثره البائس او تحولاته الشخصية ونرجسيته لدرجة إغفال الجوانب الاخرى كما قد يفعل البعض الاخر . تقول الأديبة سميرة عزام: ( إعادة النظر في موقع السياب على خارطـة الشعر العـربي المعاصر يجب أن تتسم بموضوعيـة ترفض أن تجعـل من الشفقة التي أثـارها موت السياب أو النقمة التي بعثتها تقلباتـه في الحياة رائـدها للحكم عـلى شعره.) لذا سأحاول الا أخلط بين السيرة الذاتية والتاريخ الشخصي للسياب وبين قامته الشعرية التي ترسخت من خلال عبقريته في نظم القصيد اذ ان شعره ترك بصمات واضحة في التجارب الشعرية الاخرى وهنا نورد قول الناقد والأديب عبد الجبار البصري : ( ان جميع الشعراء الحداثين خرجوا من معطف السياب ). ويعتبر د. حاتم الصكَر : ( ان المتن السيابي يمتلك أكثر من ميزة تؤهله للتأثير المباشر في متون لاحقة وفي عمل الشعرية العربية ذاتها.. - فهو رائد حداثة مبكرة واضحة المعالم.. - ومنجز نص حديث يتوفر على المخالفة والابتداع.. - وصاحب رؤى تجسدت بنائياً في تقنيات قصيدته.. - ومثقف يصهر في نصّه قراءات لا يحدها اتجاه أو زمن أو جهة.. - ومتانة متنه الشعري ولغته وصوره وإيقاعاته ليست آخر المزايا التي جذبت الشعراء إلى عالمه فوقعوا في دائرة سحره..) ان المسار التطوري لتجربة بدر شاكر السياب الشعرية يتكون من اربع مراحل أساسية، سواء على مستوى الرؤية الشعرية أو البعد الفني الذي يجسد هذه الرؤية . مرحلة البدايات الرومانسية: وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية، والتي تجلت في أشعار مغرقة في رومانسيتها وذاتيتها ومغلفة بضباب من الشجن العميق والتفجع. لن نفترق هبت تغمغم : سوف نفترق روح على شفتيك تخترق صوت كأن ضرام صاعقة ينداح فيه وقلبي الأفق ضاق الفضاء وغام في بصري ضوء النجوم وحطم الألق
مرحلة الانتقال إلى الواقعية: وهي المرحلة التي اتسم فيها شعره بتناول مواضيع تخص العام من القضايا وغلب عليه النفس الإنساني الشامل وتزحزح قليلا عن الذاتية المفرطة التي اتسمت بها أشعاره السابقة، مع تطور واضح في اللغة الشعرية والأسلوب خصوصا بعد التراكم الكمي لمعارفه في الأدب العربي العالمي وخصوصا الأدب الإنكليزي متأثرا باليوت. وظهرت في هذه المرحلة البراعم الاولى لتجربة الشعر الحر حيث يعتبر النقاد ان قصيدة (هل كان حبا ) هي من أوائل هذا الشكل الجديد من الشعر. وهذه الأولوية في نظم الشعر الحر طالما كانت موضع خلاف عند النقاد الا ان السياب حسم الموقف بقوله : " ومهما يكن فان كوني أنا أو نازك أو باكثير أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم؛ وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه، ولن يشفع له أنه كان أول من كتب على هذا الوزن أو تلك القافية؟. أن الشعر الحر اكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر، انه بناء فني جديد، واتجاه واقعي جديد، جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسيكية ". وقد ظهر أيضاً النفس الملحمي في بعض قصائد هذه المرحلة ، كما في قصائد ( الأسلحة والأطفال، حفار القبور ) وكانت قصيدتا أنشودة المطر وغريب على الخليج بمثابة فتح جديد في القصيد العربي. من قصيدة (غريب على الخليج) واحسرتاه ، متى أنام فأحس أن على الوساده من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق ؟ بين القرى المتهيبات خطاي و المدن الغريبة غنيت تربتك الحبيبة وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه ، فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب تحت الشموس الأجنبيه متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديه صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب ،بين العيون الأجنبيه بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيه) والموت أهون من (خطيه) من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية قطرات ماء ..معدنيّة
المرحلة الرمزية او الأسطورية استخدام بدر للرموز الإيحائية والأساطير في شعره كان قفزة اخرى في لغة وتقنيات القصيدة وكانت أيضاً ايذان بالانتقال الى مرحلة جديدة اطلق عليها النقاد مرحلة الواقعية الجديدة التي يحاول بدر فيها ان يوجد تكاملا وانسجاما بين الواقعية والذاتية ويسمو بشعره الى آفاق جديدة غير مطروقة سابقة ، وبذا اثبت ريادته لهذا الشكل الجديد للشعر العربي. ومن القصائد التي تمثل هذه المرحلة ( مدينة بلا مطر - النهر والموت - في المبغى- المسيح بعد الصلب - ارم ذات العماد) من قصيدة المسيح بعد الصلب: بعدما أنزلوني سمعت الرياح في نواح طويل تسف النخيل و الخطى وهي تنأى إذن فالجراح والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل لم تمتني و أنصتّ كان العويل يعبر السهل بيني وبين المدينة مثل حبل يشدّ السفينة وهي تهوى إلى القاع كان النواح مثل خيط من النور بين الصباح و الدجى في سماء الشتاء الحزينة ثم تغفو على ما تحسّ المدينة
المرحلة الذاتية: عندما أعيا المرض السياب وكشر الموت له عن أنيابه انكفأ على ذاته ثانية وصار يستقي من الأساطير الدينية ما قد يحمل اليه العزاء. وقد سميت هذه المرحلة من شعره، عند بعض النقاد، بالمرحلة الأيوبية ، باعتبار ان السياب حاول ان يجد العزاء في التماهي بأيوب. ومن أشهر قصائد تلك المرحلة ( المعبد الغريق ـ منزل الأقنان ـ شناشيل ابنة الجلبي). في قصيدة العودة لجيكور يقول السياب: من الذي يسمع أشعاري فان صمت الموت في داري و الليل في ناري من الذي يحمل عبء الصليب في ذلك الليل الطويل الرهيب من الذي يبكي و من يستجيب للجائع العاري من ينزل المصلوب عن لوحه من يطرد العقبان عن جرحه من يرفع الظلماء عن صبحه و يبدل الأشواك بالغار
الاغتراب الابدي للسياب ظلت المرأة هاجسا موحياً ومؤلماً في حياة السياب الشقية فمنذ طفولته المبكرة عاني الحرمان من الحنان بفقدانه اول واهم الروافد العاطفية في حياة الصبي ، اذ توفيت والدته وهو في السادسة، وكان شديد التعلق بها، وانطبع احساس الحاجة الى الحنان في أغوار ذاته ، وهي نفس شاعر بالفطرة، بالغة الحساسية. ومما زاد الطين بلة ان أناخ الفقر بكل عسفه عليه وعلى عائلته، والفقر مع افتقاده لاى ملمح من ملامح الوسامة، عمق شعوره بالحرمان من عالم المرأة والحب. يقول بدر: ( لقد تحدرت من عائلة تملك بستانين للنخيل يشتغل فيها فلاحون يتقاضون الثمن من الناتج ). وفي قول اخر يتذكر بدر منزل الاقنان الذي كتب عنه الكثير من الشعر وأصدر قبيل وفاته ديوانا باسمه، ومنزل الاقنان هو الدار الذي كان يؤوي عبيد العائلة في زمان غابر، وذلك يشير الى عز قديم ذهب ادراج الرياح، اذ بيعت أملاك العائلة تدريجياً نتيجة الاحتكار الإقطاعي في المنطقة. واذ تتحالف كل الظروف على تحطيم ثقة السياب بنفسه لم يبق لديه سلاحاً يشهره ضد إحساسه بالقهر سوى الشعر. اما الملجأ الذي كان يفر اليه اثر خيباته المتتالية في الحب والحياة فهو قبر أمه والنخلة الفرعاء التي تظلله. يقول بدر في قصيدة أنشودة المطر" التي كتبها في 1953 : تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال: كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال قالوا له: "بعد غدٍ تعود" - لا بدّ أنْ تعود
ويقول في قصيدة "احبيني " التي كتبها في باريس عام 1963
ألتقط المحار أظنُّ فيه الدُرَّ، ثم تظلُّني وحدي جدائل نخلةٍ فرعاء فأبحث بين أكوام المحار ، لعلَّ لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمة ، وإذ تدمي يداي وتُنزع الأظفار عنها لا ينزُّ هناك غيرُ الماء وغير الطين من صدف المحار فتقطر البسمة على ثغري دموعاً من قرار القلب تنبثق
في تحليل نفسي للقصيدتين يقول احسان عباس : ( وهذه صورة تجمع بين الحلم والحقيقة فتجمع بين طرفي العمر، النشأة والموت. ذلك لأنها ليست محض مجاز شعري، يستخدمه الشاعر كما تستخدم الصور في التوضيح والتبيان على نحو تمثيلي، وحسبنا دليلا على ما نزعمه أن نقرنها بفقرة من رسالة كتبها الشاعر إلى صديقه خالد الشواف وهو يقضي الإجازة الصيفية في البصرة عام 1944- يقول فيها: " اكتب إليك رسالتي هذه بعد عودتي من سفرة - مضنية ولكنها جميلة - إلى الجانب الآخر من شط العرب؛ لو تراني وقد القاني الزورق على ارض رسوبية نبت عليها القصب والعشب المائي إذ أن ماء الجزر لا يوصل الزورق إلى الشاطئ - لقد خلعت نعلي وسرت في الطين، وانا اشق طريقي بين القصب، ثم وصولي إلى الشاطئ؟ إلى ارض لا اعرف منها غير أسماء بعض ساكنيها. وقفت وقدماي داميتان، ويداي مزينتان بالجراح على الشاطئ المقفر، أتلفت فلا أرى صدى، وأنصت فلا اسمع غير انين الريح، لقد نسج الخيال رواية عنوانها ( موت الشاعر )؟. ولو تحدثت لطال الحديث " . هذه التجربة الصغيرة التي خرج منها الشاعر " دامي القدمين مزين اليدين بالجراح " ، على مسافة غير بعيدة عن النخلة الفرعاء والقبر الذي يقع على الجهة الأخرى من النهر لم توح له إلا بفكرة " الموت " ؛ وهي نفس الصورة التي استوحاها من قصص الهوى المخفق، كلاهما ؟اعني الحب وهذه الرحلة - سفرة قصيرة المدى، لكنها متشابهتان في نوع الألم والجراح، وما تنزه الأصابع عند تشبث الشوك والحصى بها، لأنهما متشابهتان في البعد عن النخلة الفرعاء والقبر الذي يقع على مقربة منها ( قبر أمه ) وحين تحيا هذه الصورة نفسها في نفس الشاعر رغم السنوات الطويلة وعوامل النسيان الكثيرة فمعنى ذلك أن رحلة الحب ورحلة العمر - كانتا تنكمشان دائما إلى نقطة البداية، فإذا هما دائما عودة إلى الطفولة، إلى تلك النخلة الفرعاء نفسها التي ظلت تؤويه إليها وهو يبحث عن درة بين المحار فلا يجدها، وكل ما تجاوز هذه النخلة وظلها الوارف فهو ليس حبا، إنما هو إخفاق، أو موت على نحو ما؛ ولهذا كان كل حب مخفقا منذ البداية لأنه يمثل تجربة نمو، وكان الشاعر يقاوم هذا النمو دائما، لأنه يعني الانفصام عن جذع النخلة، وحسبنا ان نورد قوله في قصيدة السوق القديم التي كتبها أواسط الخمسينيات من القرن الماضي يضمنها ما يشبه الفلتات النفسية ذات الدلالة العميقة - دون ان يهمنا كثيرا أية حبيبة يعني : أنا أيها النائي القريب لك أنت وحدك غير أنى لن أكون لك أنت أسمعها وأسمعهم ورائي يلعنون هذا الغرام أكاد أسمع أيها الحلم الحبيب لعنات أمي وهي تبكي أيها الرجل الغريب )
في طريق عودة السياب من لندن الى العراق عام 1963، مر بباريس وقضى فيها أياما بصحبة بعض الأصدقاء ومنهم سيمون جارحي والصحفية البلجيكية الأصل لوك نوران، التى كان قد التقى بها في بيروت من قبل ، وكانت مهتمة بترجمة بعض شعره الى الفرنسية . وقد ساعده سيمون جارحي في استشارة طبيب فرنسي مختص بالاعصاب، ولم يختلف تشخيص الطبيب الفرنسي عن تشخيص الأطباء الإنكليز في ندرة مرض بدر وعدم توصل العلم آنذاك لعلاج له. كان السياب يقضي كل وقته في الفندق لتدهور صحته، وكان محاطا على الدوام بزهور القرنفل ولما اكتشف ان لوك نوران من تترك الزهور له كل صباح ، اهتز بعمق ، واكبر موقفها هذا، وكتب قصيدة " ليلة في باريس " يصف فيها شعوره تجاهها وتجاه هذا العطف ويؤكد على وعدها له بزيارة البصرة : عانقت كفك باليدين إلى اللقاء إلى اللقاء وذهبت فانسحب الضياء لو صح وعدك يا صديقه لو صح وعدك آه لانبعثت وفيقه من قبرها ولعاد عمري في السنين إلى الوراء
يقول عيسى بلاطة : ( وجد فيها تجسيداً لوفيقه " التي أحبها في الماضي وقد توفيت في شبابها قبل سنين " وبالتالي فهي حبه المثالي. وذلك لان الحديث عن وفيقة إنما كان أيضا حديثا عن أمه بطريقة ايحائية، فوفيقة تجمع في طبيعة حياتها وموتها بين بدر وامه ، فهي فتاة من عائلته ماتت أمها وتركتها يتيمة، كما حدث لبدر، ثم توفيت هي أيضاً في حالة وضع وتركت طفلا يتيما. فهي بشخصها تمثل مشكلة بدر وهي في موتها تمثل الام .) قرأ بدر القصيدة على لوك في اليوم التالي ، فتأثرت بشدة وأغرورقت عيناها بالدموع وعانقته متسائلة " أأستحقّ أنا کل هذا يابدر؟ " ففهم او توهم في فهمه انها تحبه ، فكتب له في اليوم التالي قصيدة "احبيني" وهي قصيدته العاطفية الاخيرة. يعتبر الكثير من النقاد، ان هذه القصيدة توثق سيرته العاطفية، والتي كان نصيبها الإخفاق المتواصل ، فأضاف ذلك الى غربته الكبيرة بفقدان أمه بعداً اخر شديد الايلام، اذ لم يتسع قلب اي من النساء اللواتي عبرن حياته الشقية ، لعاطفة نحوه هو بأشد الحاجة اليها لتعويض نقص الحنان الذي تغور عميقاً في ذاته, مما جعله يتنقل من محبوبة الى اخرى، جاريا خلف السراب مرة بعد اخرى، فمن وفيقة الى الربة الغابرة، الراعية هالة الى ذات المنديل الأحمر فذات الغمازتين الى " المنتظرة " لميعة عباس عمارة وأخيرا زوجته الغيرى إقبال التي لم يكن لها الحب الا عند اقتراب النهاية.
احبيني وما من عادتي نكرانُ ماضيَّ الذي كانا ، ولكن ..، كلُّ من أحببتُ قبلك ما أحبّوني ولا عطفوا عليَّ ؛ عشقتُ سبعاً كنّ أحيانا ترف شعورهن عليَّ ؛ تحملني إلى الصين سفائن من عطور نهودهن أغوص في بحرٍ من الأوهام والوجد فألتقط المحار أظنُّ فيه الدُرَّ ، ثم تظلُّني وحدي جدائل نخلةٍ فرعاء فأبحث بين أكوام المحار ، لعلَّ لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمة ، وإذ تدمي يداي وتُنزع الأظفار عنها لا ينزُّ هناك غيرُ الماء وغير الطين من صدف المحار فتقطر البسمة على ثغري دموعاً من قرار القلب تنبثق لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبُّوني . وأجلسهنَّ في شرف الخيال .. وتكشف الحُرق ظلالاً عن ملامحهن :
آه فتلك باعتني بمأفونِ لأجل المال ، ثم صحا فطلقّها وخلاّها .
وتلك لأنها في العمر أكبر أم لأن الحُسن أغراها بأني غير كفءٍ خلفتني كلما شرب الندى ورق وفتح برعم مثلتها وشممت رياها وأمس رأيتها في موقف للباص تنتظر فباعدت الخطى ونأيت عنها لا أريد القرب منها هذه الشمطاء لها الويلات ثم عرفتها : أحسبت أن الحسن ينتصر على زمن تحطّم سور بابل منه والعنقاء رمادٌ منه لا يذكيه بعث فهو يستعر
وتلك كأن في غمَّازتيها يفتح السّحرُ عيون الفُلِّ واللَّبلاب عافتني إلى قصر وسيّاره إلى زوج تغيَّر منه حالُ فهو في الحاره فقير يقرأ الصحف القديمة عند باب الدار في استحياء يحدثها عن الأمس الذي ولَّى فيأكل قلبها الضَّجر
وتلك وزوجها عبداً مظاهر ليلها سهر وخمرٌ أو قمار ثم يوصد صُبحها الإغفاء عن النهر المكركر للشراع يرفّ تحت الشمس والأنداء
وتلك وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها شربت الشِّعر من أحداقها ونعست في أفياء تنشرها قصائدها علي فكل ماضيها وكل شبابها كان انتظاراً لي على شطٍ يهوِّم فوقه المطر وتنعس في حماه الطيرُ رشّ نُعاسها المطر فنبهها فطارت تملأ الآفاق بالأصداء ناعسةً تؤج النور مرتعشاً قوادمُها وتخفق في خوافيها ظلال الليل أين أصيلنا الصيفيُ في جيكور ؟ وسار بنا يوسوس زورقٌ في مائه البلور وأقرأ وهي تُصغي والربى والنُّخل والأعناب تحلم في دواليها تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعه وغيَّبها ظلام السجن تؤنس ليلها شمعه فتذكرني وتبكي غير أني لست أبكيها
وآخرهن آه .. زوجتي قدري .. اكان الداء يقعدني كأني ميتُ سكران لولاها ؟
وهأنا .. كلُّ من أحببت قبلك ما أحبوني وأنت ؟ لعله الإشفاق لست لأعذر الله إذا ما كان عطف منه لا الحب الذي خلاه يسقيني كؤوسا من نعيم… آه هاتي الحب .. روَّيني به نامي على صدري انيميني على نهديك أوّاها من الحرَق التي رضعت فؤادي ثمة افترست شراييني أحبيني لأني كلُّ من أحببت قبلك لم يحبوني
و كأني بالسياب يؤرخ لسيرته العاطفية في هذه القصيدة الرائعة والمؤلمة في ذات الوقت ، وهي توحي للقارئ بمعاني شتى ، فهو يندب أخفاقه العاطفي المتواصل ، في الوقت الذي يكشف عن شماتة واضحة وقاسية بمصائر حبيباته السبع ، كأنه يثأر للحظات اللوعة والعذاب التي طحنته سابقا. والغريب والجديد الغير مسبوق أيضاً ان تكون هذه السيرة مقدمة لنيل الحظوة والحب عند المحبوبة الجديدة. لقد استخدم بدر سابقا هذا الأسلوب فقد قدم كشف حساب ماضي هواه للغرام الجديد، في قصيدة أهواء عام 1947 يقول مناجيا الحبيبة المنتظرة: سأروي على مسمعيك الغداة أحاديث سمّيتهن الهوى وأنباء قلب غريق السراب شقيّ التداني ، كئيب النوى أصيخي، فهذي فتاة الحقول وهذا غرام هناك انطوى أتدرين عن ربة الراعيات ؟ عن الريف ؟ عما يكون الجوى يعتبر احسان عباس: ( ان هذه الاعترافات ترمز إلى نقطة الضعف فيه لا إلى الثقة بالنفس، فقد كانت لذته الكبرى في ان يستعيد الماضي لا ليتخلص منه بل ليظل في صحبته. ) تتذكر لوك نوران وداعها للسياب قائلة : ( في 23 مايس 1963 غادر بدر باريس على كرسي متحرك من مطار أورلي فبدا بدر لنا وكأنه ذاهب ضد الزمن وضد الموت وعندما جاءت المضيفة لتأخذه إلى ذلك الجانب الغامض من المطار حيث لا يسمح بدخول أحد غير المسافرين، وعندما دفعت كرسيه الدراج إلى الباب فانفتحت دفتاه ثم أغلقتا مثل فخ، شعرنا بقلبنا يتوقف فقد اختفى بدر وهو عالق بابتسامة المضيفة بتجلد. كان قد التفت نحونا وهز يده ولكننا كنا نعلم أنه كان يغور في الفراغ. كان بدر يموت للمرة الأولى بالنسبة لنا.) يقول الناقد جبرا إبراهيم جبرا : ( كانت السنوات الثلاث الأخيرة من حياته فترة رهيبة عرف فيها صراع الحياة مع الموت. لقد زجّ بجسمه النحيل وعظامه الرقاق إلي حلبة هذا الصراع الذي جمع معاني الدنيا في سرير ضيق حيث راح الوهن وهو يتفجرعزيمة ورؤي وحبا، يقارع الجسم المتهافت المتداعي، وجه الموت يحملق به كل يوم فيصدّه الشاعر عنه بسيف من الكلمة... بالكلمة عاش بدر صراعه، كما يجب ان يعيش الشاعر، ولعل ذلك لبدر، كان الرمز الأخير والأمضّ، للصراع بين الحياة والموت الذي عاشه طوال عمره القصير علي مستوي شخصه ومستوي دنياه معاً.) عانى بدر طويلا من مرضه الوبيل وتفاقمت أوجاعه وآلامه فتوحد مع الألم وأنشد في بحران صوفي قصيدة سفر أيوب : لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبدّ الألم، لك الحمد، إن الرزايا عطاء وان المصيبات بعض الكرم. ألم تُعطني أنت هذا الظلام وأعطيتني أنت هذا السّحر؟ فهل تشكر الأرض قطر المطر وتغضب إن لم يجدها الغمام
وتطول رحلة العذاب بين مستشفيات لندن والعراق ثم يستقر به المقام اخيراً في المستشفى الأميري في الكويت بدعوة من صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي في6 تموز 1964 حيث أحيط بعناية واهتمام كبيران ، الا انه لم يعد في مصباح عمره الا القليل من الزيت ، وكانت ذبالته تترنح ، وبالرغم من عذاباته التي لا تطاق الا انه كان متوهج العقل مستمرا في كتابة الشعر ، فكتب قصيدة في غابة الظلام، طالباً "رصاصة الرحمة": أليس يكفي يا اله أن الفناء غاية الحياه فتصبغ الحياة بالقتام ؟ سفينة كبيرة تطفو على المياه؟ هات الردى ، أريد أن أنام بين قبور أهلي المبعثرة وراء ليل المقبرة رصاصة الرحمة يا اله
يقول عبد اللطيف أطيمش : ( سألت بدرا كيف تستطيع ان تكتب كل هذا الشعر وسط ضوضاء المستشفى وكثرة الزائرين ، فبادرني بقوله :- " أني انتھز دائماً بعض سويعات الفجر، فأنا لا أ-;-نام جيداً بسبب أ-;-وجاع جسدي. أ-;-نا أ-;-كتب عند الفجر، حين يكون السكون شاملاً مخيماً فوق ردھات المستشفى، في تلك اللحظات أ-;-حاول إ-;-دخال كياني وأ-;-حاسيسي في عالم آ-;-خر، فأحس بنفسي شفافاً، وأ-;-ن أ-;-وجاعي ھدأ-;-ت قليلاً وابتعدت عن مسارب جسدي، تلك اللحظات ھي لحظات إ-;-حساسي بالشعر، ھي لحظات نسياني لواقعي وآ-;-لامي والكتابة عن أ-;-حلامي ". بدا تعليل السياب ھذا وكأنه رد على تساؤ-;-لاتنا المحيرة حول قدرته على كتابة الشعر وھو في حالته البائسة ھذه، مريضاً مشلول الحركة. فقد كنا نندھش أ-;-نا وعلي السبتي وأ-;-صدقاؤ-;-نا الآخرون، من روعة تلك القصائد التي يكتبھا شاعر مشرف على الموت، كيف استطاع أ-;-ن يسيطر على لغته وأ-;-فكاره وھو يكتب بيد مرتعشة لا تقوى على الإمساك بالقلم، وعيناه متعبتان لا تدركان مواضع الأسطر على الورق.)
فارق بدر الحياة في المستشفى الأميري بالكويت يوم الخميس 24 كانون الأول 1964. في يوم استمر هطول المطر فيه بدون توقف كأني به يودع إنسانا تغنى به طويلا وأنشد اجمل وأروع قصائده فيه ، نقل جثمان بدر الى البصرة بصحبة صديقه الوفي علي السبتي، وصلت الجنازة العراق في اليوم الذي يحتفل العالم كله بميلاد السيد المسيح ، ولطالما تماهى بدر بسيرته . ووري الثرى في مقبرة الحسن البصري ولم يمشي في جنازته الا نفر قليل بصحبة المطر، المطر الذي ظل ينهمر .
#نوال_ناجي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|