أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - وصول غودو القسم السابع نسخة مزيدة ومنقحة















المزيد.....



وصول غودو القسم السابع نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4383 - 2014 / 3 / 4 - 11:00
المحور: الادب والفن
    




في محطة الشمال، لم يكن هناك وقت للضياع، وكل شخص هناك لسبب، وأهم الأسباب القدوم أو الإقلاع. كانت القطارات لا تتوقف عن الدوران في كلا الاتجاهين، والركاب يمارسون ما غدا طقسًا لديهم ألا وهو النزول من هذا القطار أو ذاك والصعود في هذا القطار أو ذاك، وكانوا على عجل دائم، شيء طبيعي أن يكونوا على عجل دائم والمكان محطة، أخيرة لبعضهم، وما قبل أخيرة لبعضهم. كانوا كلهم يتشابهون، في شكلهم، في مشيتهم، في نظرتهم، في حركتهم، في فعلهم، فعل مرتهن بسحب الحقيبة، بحملها، في ذمهم، في ذمتهم، في ذِمامهم، وكانوا كلهم لا يبالون ببعضهم البعض، ودافع ذلك كان المؤقت الذي يسيّرهم، كانوا في محطة الشمال لبعض الوقت، كانوا هناك مؤقتًا، وما كانت محطة الشمال سوى موقف للقطارات وللحياة بانتظار التحرك والتصرف والعبور إلى "أشغالنا". كل شيء كان يبدأ في محطة الشمال، لم يكن من الضروري أن نعرف ذلك، لكننا كنا نعيش ذلك دون أن نعرف، يكفي أن ننظر إلى الناس في حركتهم وسلوكهم، كان لكل منهم مشروع يبدأ هناك أو ينتهي، مشروع يمس الجوهر، جوهر الذات كجوهر الحياة، لهذا كان كل وجودنا يتوقف على حركة نقوم بها في محطة الشمال أو إشارة، على قرار نقطعه، على علاقة نقيمها أو ننهيها، على رأي نقره، كانت محطة الشمال فضاء كل مصائرنا، لهذا عزمتُ على المساهمة في الدفاع عن هذه المصائر، بتواضع شيطاني، وبالقدر الذي أستطيع عليه، أن أُشبع حاجات الناس، أن أجيب بشكل من الأشكال على ما ينتظرونه مني، ليس كلهم، بعضهم، فقط بعضهم، من يقع عليهم اختياري، فالأمر لن يكون بدافع الصدفة، لأن الصدفة لا قدر لها، ولأني أرمي إلى عقلنة ما يدعى بالعبث في هذا العالم، إلى إثبات أن العبث من صنع يدينا، هناك مفارقات، لكن المفارقات ليست العبث، فلم أكن شديد التشبث بالأصول.
ابتسمتُ لامرأة، لصورتها المتلاشية، امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمر نقلها. اقتربت منها، لم يكن يبدو عليها أنها تفاجأت باقترابي منها. "لا حقائب لديّ"، قلت لها. "أرى ذلك"، قالت لي. "لا بعير أركب ذنبه"، قلت لها. "أرى ذلك"، قالت لي. "لا عمل أغرق فيه حتى ذقني"، قلت لها. "أرى ذلك"، قالت لي. كانت حقائبها من الثقل بحيث صَعُبَ عليّ تحريكها، فالتفت من حولي لأقع على عازف غيتار شاب قوي البنية جالس على جدار. شُحْرور ناريّ. كان يعزف ويغني دون أن ينظر إلى أحد، كان يغمض عينيه، ويعزف، ويغني. كان يرد على حجة أو على هجوم، ويشعر بجسده يرتخي. قلت "للناس في ما يعشقون مذاهب"، وناديته، فتوقف عن العزف والغناء ناظرًا باتجاهي. أشرت إليه بالمجيء، فجاء. دون غيتار. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه واسعاً، ثم أقل كبرًا، بعد أن سحبت الأولى، ثم أقل كبرًا، ثم أقل كبرًا: كان قد وقع في الفخ. "احمل هذا إلى التاكسي، قلت للمغني. إلى التاكسي، أليس كذلك؟" سألتُ المرأة. "نعم، إلى التاكسي"، أجابت المرأة. "لن أرفع عيني عن غيتارك"، قلت للشاب. نظر إلى غيتاره، ونظر إلى الورقة النقدية، ودون تردد وضع الورقة النقدية في جيبه، وحمل الحقائب. تركته يبتعد مع المرأة، ووجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين. كانت الطفلة شبه غائبة عن الوعي، "بسبب القطار، قالت الأم، ابنتي لا تحتمل السفر في القطار." أخذت أبحث في جيبي عن قطعة سكر لم أذبها في قهوتي، وأنا في مطعم القطار، وكأن الأم فهمت. مالت برشاقة طبيعية، إشارة الرضى. أخرجت قطعة السكر، وأنا أقول ها هي. قبل أن تتناولها الأم، مزقتُ غلافها، كانت القطعة قطعتين، أعطيتها واحدة، ولكلب كان يمضي أعطيت الأخرى. شكرتني الأم، واختفت. كنت سعيدًا لأنني قدمت ما كنت أستطيع عليه من عون. مع رِعشة لَذة. كإبرة الراعي. وبينما كنت أتقدم مع القادمين، تعثرت بالكلب الذي أطعمته منذ قليل قطعة السكر ميتًا. جن جنوني، وأنا أبحث عن الأم وابنتها، كانتا قد اختفيتا تمامًا. أرغيت وأزبدت، ووقعت على المرأة صاحبة الحقائب التي أوصيت بها الشُّحْرور الناريّ. "ذاب عازف الغيتار كالملح في الخراء"، قالت لي، وهي تنشج. عدت بسرعة إلى المكان الذي ترك العازف فيه غيتاره، فلم يكن هناك غيتاره. وأنا أدور برأسي، وعيناي تقدحان شررًا، لفت انتباهي إليهما رجل وامرأة شديدا التجهم، كما لو كانا رفًا من الأسماك، ففهمت أنهما في وضع على وشك التفجر. التقطت أحد الملاكمين، وطلبت منه أن يقول للمرأة كلمات تسليها، إذ لديها مشكل، وهي ستكون لطيفة معه، وغمزته، فانفجر الملاكم ضاحكًا. كان عليّ رفع الجثة بأي ثمن. ذهب إليها بعضلاته المفتولة، وأخذ يرقّصها لها، فابتسمت، وبعد عدة خطوات ذهب عنها تجهمها. سحب الملاكم حقيبتيها عنها، وتمكن بعضلاته وحديثة أن ينسيها شجنها. اندمجت معه، وتعلقت بذراعه، ونسيت رجلها والعالم. لم يتابع رجلها شعوذة الأحاسيس حتى النهاية، بسبب مجموعة صاخبة من الشبان والشابات أخفت المشهد عنه. أخذتْ بعضُها برقابِ بعضِها. وهو على مقربة من شابين، أسود وأبيض، الأبيض أشبه بالأسود من الماء بالماء، يلعبان الشطرنج في حضرة الملوك، أخرج مسدسًا من جيبه، وضعه في رأسه، وأطلق، فسقط برأسه على رقعة الشطرنج، في الوقت الذي قال فيه أحد الشابين "الشاه مات!" شَغْرَبِيَّة؟ ليس تمامًا. تعثرتُ بأذيال الخيبة، وأنا أسقط على راهبة حبلى جاءها المخاض، أو هذا ما ظننته لما رأيتها على الأرض جاثمةً وسط القادمين، وهي تصرخ، وتضغط بطنها بين ذراعيها. لم أكن طبيبًا ولا ممرضًا، ولم أكن أفهم في أشياء النساء تلك، الولادة ليست في مركز اهتماماتي، الولادة عبث الحياة، وعلى الخصوص عندما تأتي في الوقت غير المناسب والمكان غير المناسب. ركبني الشيطان، كان عليّ أن أفعل شيئًا من أجلها، إذا ما تعقدت الأمور فقدت وليدها أو فقدها العالم هي وولديها. بشر أقل هذا شيء حسن، قلت لنفسي، لكنني رأيتني أحملها، وأركض بها، فهي حبلى، وهي راهبة، وهي على وشك الولادة. "أنا امرأة دين تريد أن تكون امرأة جنسية، تلعثمت المرأة، وها هي النتيجة!" "امرأة دين؟ أعدت دَهِشًا، أليسه ثوب التنكر؟" "وكل هؤلاء، ماذا يرتدون؟ تهكمت الراهبة، ثوب المسيح؟" وضعتها على مقعد، وذهبت أركض في طلب الإسعاف الذي لم أجده. بعد قليل، عدت مع منظفة المراحيض، قالت إنها لا تعرف شيئًا عن التوليد، وبين لا تعرف ولا تعرف يجب ارتكاب أخف الضررين. لكنني لم أجد الراهبة الحبلى، ووجدت نجيمة سينما تبكي، وَطُنٌّ من الكحل يسيل من عينيها. امرأة جنسية تريد أن تكون امرأة دين. ظننتها تبكي لبلاء، كانت تبكي، وتحدث نفسها قائلة: "بعد أن تركتني لن أغادر محطة الشمال، اليوم وصلت، ومنذ اليوم سأبقى، سأعيش هنا، سأموت هنا، سأجعل من كل العشاق الراحلين عشاقي، سأبكي مع كل المخدوعات، سأحب كل مراقبي التذاكر، سأنام مع كل سائقي القطارات، سأجعل من كؤوس القهوة الكرتون التي يرميها المسافرون فراشي ووسادتي، سأحلم بخطوط السكك الحديدية، سأغني مع الساعات، سأرقص مع الإشارات، سألوّح بيدي للقطارات، سأطرد الحمام لئلا أكنس من ورائه، سأحمل الحقائب لئلا يبدل الراحلون رأيهم ويعودون أدراجهم قرب حبيباتهم اللواتي كانوا يزمعون على تركهن، سأراسل كل العاشقات التعيسات مثلي وأحكي لهن عنك كي يبكينني، آه يا حبي الغادر، يا حبي المغادر، يا حب السكة الحديدية..." أردتُ بها رأفة، فجمعتها بين ذراعيّ ودًا وتحنانًا، فإذا بي أسمع أحدهم يصرخ بعصبية: "اقطع..."
"لماذا تجعل ماما تبكي، يا حبيبي؟" شهقت الأم، وهي تتشاغل عن الضجر. رمى صبي سمين جدًا الحقيبة الصغيرة جدًا التي يحملها على الأرض، وراح يضم أمه، وهو يبكي. "لا تبكي، يا ماما"، رجا الصبي، وهو يركبه الحياء. "لا تبك، أنت، يا حبيبي"، قالت الأم. "أنا أبكي لأنك تبكين، يا ماما"، قال الصبي. "أنا أبكي لأنك تبكي، يا حبيبي"، قالت الأم. "توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، يا حبيبي." "أتوقف عن البكاء إذا توقفتِ عن البكاء، يا ماما." "أتوقف عن البكاء إذا توقفتَ عن البكاء أنتَ، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء أنت أولاً، يا ماما." "توقف عن البكاء أنت أولاً، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء أنت أولاً، فأتوقف عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء أنت أولاً، فأتوقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." اقتربتُ منهما كي أقدم يد العون، العون الذي أقدر عليه، فانفجر كلاهما يقهقه منشغل البال.
كان الكل ينتظر الكل، والكل يودع الكل، في محطة الشمال، فلا يمكنك التمييز بين الواحد والآخر، إلا إذا كان الأمر متعلقًا بكبار الكرادلة الذين استقبلوا الراهبة الحبلى بثيابهم الكهنوتية، على طريقة فيلليني، استشفافًا لنوايا أنفسهم، باحترام وإكبار كبيرين، وهم يحيطون بها من كل جانب، وهم يمدون أياديهم لتطبع عليها القبلات المهيجة، وهم يجعلون من قصصٍ تحوي العجب العجاب أنفسهم. أما إذا كنت لا تعرف من تنتظر، فالأمر يمكن أن يصل إلى حد الكارثة، إلى الإشفاء بك على حافة اليأس. شيء لا يدخل في المعقول أن يرفع وكيل أحد الفنادق لوحة كتب عليها اسم النزيل المجهول في وجهك، بشيء من وقاحة لا تحتملها، فتعزم على تركه ليشق عباب البحر وحده. الجهل مهنته، وفوق هذا الوقاحة طريقته إلى المعرفة. حقًا! إن الإنسان كائن غير عاقل. كرر الأمر مع غيري، والكل يُعرض عنه. لاحظت أحدهم يخبئ نفسه على طرف اختباءَ شقيقة النُّعمان، كان يتابع وكيل الفندق بعينيه، ولا يجرؤ على المجيء إليه. حيرني أمره، وأنا لحيرتي، شق عليّ ألا أقول له. اقتربت من وكيل الفندق، وأشرت إلى المشكوك في أمره. ذاك الرجل هناك هو نزيلك، همست في أذنه. لم يفه وكيل الفندق بكلمة، عجل الذهاب إلى حيث أشرت، وبعد جملتين وثلاث إيماءات باتجاهي، عاد مع النزيل. لم أبق طبعًا في مكاني، رأيتهما يتجهان نحو باب الخروج، ويتوقفان على بعد عشرة أمتار من رجال شرطة كانوا يوقفون كل شخص يشتبهون فيه، ويفتشونه. حمّل النزيلُ وكيلَ الفندقِ ما كان يحمل، محفظة مستطيلة، وطلب منه أن ينتظره في الخارج ريثما يذهب إلى بيت الخراء. رأيته، وهو يخفي نفسه من وراء عمود، ويراقب ما سيفعله رجال الشرطة بوكيل الفندق، هل سيتركونه يمضي في سبيله؟ هنا كل المشكلة. فتحوا الحقيبة، كانت مليئة بالمكعبات البيضاء. أنا لا أتقن ضرب الرمل. ما لفت انتباهي وصول أحد الشبان، وهو يركض، ويلهث، ويتدافع في طلب الرصيف الذي غادره كل القادمين، ويترامى في أحضان الأقاقيا. تجدر الإشارة إلى أنه كان كمن يشاور ضميره. رفع قبعته السوداء الحريرية عن رأسه، وشدها إلى صدره حزينًا، تلفّت ببذلته السوداء المخططة من حوله عله يقع على المرء الذي جاء لاستقباله. عاد يلقي نظرة ثابتة على الرصيف الخالي، وبقي هكذا دون حراك، وكأنه جمد كحجر المرو. كما يشاء.
في محطة الشمال، كان مكبر الصوت لا يتوقف عن الكلام، هذا القطار وذاك، وهذا الموظف وذاك، والسيد فلان والسيدة فلانة، والإقلاع القادم والإقلاع ما بعد القادم، والوصول القادم والوصول ما بعد القادم، ويُرجى من المسافرين ويُرجى من غير المسافرين، وممنوع التدخين وممنوع غير التدخين: ممنوع القعود في الممرات للحيلولة دون عرقلة نقل الحقائب، ممنوع التجمهر أمام الأرصفة لترك المسافرين يمضون إلى قطاراتهم، ممنوع الانتظار طويًلا في مكان واحد لترويض القدمين على المشي، ممنوع ترنيق النوم في العينين، ممنوع الرَّهْو في السير – كما لو كنا أحصنة، ممنوع... ممنوع... ممنوع... كل شيء لا يُذكر، كل شيء عديم الأهمية، فهل سيمنعون التقبيل؟ قُبَل الوداع على الخصوص؟ القُبَل الحزينة؟ قُبَل الأقاقيا، هذا ما كنت أتمنى على الرغم من خطر التشيئة. القُبل الشيطانية نعم، القُبل الحزينة لا. كان فتى وفتاة يقبل أحدهما الآخر من حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وطبيب أسنان لم يكن بعيدًا، وحوض لصغار أسماك القرش التي مات والداهما، وأحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم بالكيلو: نصف هذا الكتاب أيضًا، ليس كافيًا، عشرون صفحة أخرى، صفحتان، هذا كثير، صفحة، نصف صفحة. في كل مرة كان طبيب الأسنان يريد أن يخلع سنًا يخطئ ويخلع أخرى، وفي كل مرة كانت أسماك القرش الصغيرة تريد أن تقوم بقفزة تتردد وتكسر أعناقها في قعر الحوض، فتكركر بنات الفرح، غير عارفة للحزن على الموتى، سلالتها باقية ما بقيت الحياة، لا شيطان تحتاج إليه ولا قبعة يضعون فيها البحر ولا إله. بدأ الفتى والفتاة يبكيان، فتقدمتُ منهما، وطلبتُ إليهما أن يسألاني أي شيء يجعلهما سعيدين. زين للفتى الشيطان، فنهض، وسدد ضربة إلى بطني. لف خصر الفتاة بذراعه، وغادرا المحطة. هذا جزاء الإحسان، كما يقال. ابن المومس! بعد قليل، عادت الفتاة بصحبة فتاتين أخريين، وكل منهن تسحب حقيبة. أخذن يقبلن بعضهن من ثغورهن فرحًا، ويشرن إلى الناحية التي ذهب الفتى منها غير مأسوف عليه، ويقهقهن، فنصبتُ للهوى الأنثوي المثلي تمثالاً. عُدن يقبلن بعضهن من ثغورهن فرحًا، ثم ما لبثن أن ذهبن، واختفين بين ذراعي جنازة مهيبة للقرشين الأبوين.
لم يكن كل ذلك لعبًا، كان كل ذلك كاللعب. أخذ أحد لاعبي الرُّغبي يلعب وحده، وهو يركض بكرته من هنا إلى هناك. لم يكن أحد يلعب معه، كان يطلب من المنتظرين لقطار قادم أو المنتظرين لقطار مغادر أن يلعبوا معه، ولم يكن أحد يلعب معه. كان يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، وكان يركض بكرته من أقصى المحطة إلى أقصاها، وفي كل مرة، كان يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها. جاء بعض العمال، وفتحوا مصرفًا بين الحقائب. نزلوا في المصرف، وتركوه مفتوحًا. ذهبت، وأغلقته. كان لاعب الرُّغبي يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، هكذا كان يفعل، كان يركض بكرته من أقصى المحطة إلى أقصاها، ثم يلقي بجسده وكرته على الحقائب التي تنتظر نقلها. سقط في المصرف، وأنا بين مصدق ومكذب، فقد أغلقته بيديّ هاتين. جاء رجال المطافئ، ورفعوه على نقالة، كان الدم يسيل من كل وجهه، وكان لا يتحرك. بعدما أنهى المكلف بنقل الحقائب نقلها إلى عرباته المتشابكة على شكل سلسلة، وقع على كرة الرُّغبي، قلّبها، وابتسم لها، ثم ضربها بقدمه، فطارت تحت سماء محطة الشيطان، ولم تسقط. تحير الشاب، وانتهى به الأمر إلى هز كتفيه، وسياقه للعربات. وهو يمر بشيخ هرم، رأى الكرة تحت إبطه. "وجدتها هناك، قال الشيخ الهرم، مجرد مصادفة، ليست لك؟ إذن سأقدمها لحفيدي." كان أول الصاعدين إلى القطار.
هناك أول من يصعد وهناك آخر من يصعد، هذا القول لأفلاطون. لفت انتباهي إليه مُقعد على ركبتيه حقيبة كرتون ينتظر، اقتربت منه، وسألته إذا كان ينتظر أحدًا، فقال إنه لا ينتظر أحدًا. سألته "من أحضرك؟" أشار إلى شاب يرتكز على حافة المِصعد الآلي. "جان، أجابني، ذاك الشاب الذي يقف هناك." "سأناديه"، اقترحت. "لا تنادِهِ، أجاب، إذا ناديته ما تركني أسافر." أدهشني منطقه، كان في محطة الشمال لأجل السفر، وجان من يُعنى بذلك. "سيغادر قطارك؟"، قَلِقْتُ. "سيغادر"، أكد. "متى؟" "لا أعرف." "والوجهة؟" "لا أعرف." "سأنادي جان." "أرجوك، لا تنادِهِ، لن يتركني أسافر." "أين تذكرتك؟" "مع جان، أو، ربما، كنت على خطأ..." بحث في جيوبه، فوقع على تذكرته. "ها هي"، قال. فحصتها، وعرفت الوقت والوجهة. "قطارك سيغادر بعد قليل، سأدفعك حتى الرصيف." دفعته، وهو لا يفوه بكلمة، ثم أقفل عينيه، وأغفى. أوقفته قرب القاطرة الخلفية، وذهبت أبحث عن العربة التي سيركبها بين العربات. التفتُ إليه، فوجدته يغفو دومًا. واصلت البحث، وعدت ألتفت إليه، فلم أجده. دفعني الخوف على الرجل إلى الركض، فوجدت جمعًا من الركاب والموظفين. كانت عربة المُقعد قد زلقت خلال نومه، وسقطت به من الرصيف المقابل في الوقت الذي وصل فيه أحد القطارات. لم يتصرف على هواه!
حقًا، لا حظ للناس معي، ومع ذلك، كان عليّ أن أفعل شيئًا للمسافر الذي لم يشتر تذكرة سفره بينما قطاره كان على وشك الرحيل. لنبرته العدائية، المتعالية، رفض له كل من كان قبله حق الأولوية، فالصرامة لا تقبلها إلا الصرامة. تمكنت على طريقتي من تأخير ساعة الرحلة، كان تصرفًا بغير عِوَض. "لقد تأخر موعد إقلاع قطارك"، طمأنه موظف شباك التذاكر، فتنفس الرجل الصعداء. لفّ على كعبه اختيالاً، وهو يلوح بتذكرته في وجوه الجميع، كالمنتقم، وكأنه يقول لهم يا أوباش الخراء، إن الأقدار معي. لكن الأقدار لم تكن معه، لم تكن مع أحد، كانت الأقدار مع الأقدار. لتأخر قطاره القسري، حصل اصطدام مروع بين قطاره والقطار الذي يليه. وهو صغير، لم يكن صعب المراس.
وعلى مقربة ليست بعيدة من الخفيّ، من المجهول، كان شاب أحمر الشعر يشد شعره ضد ماكينة تبديل النقود بعصبية. "ابتلعت الماكينة نقودي مقابل لا شيء"، كان يجمجم. أراد الاستعانة بشرطيين كانا يمران من هناك، لكنهما عبّرا عن عجزهما. "أنتما في خدمتي"، نبر. "خدمتك على قفانا، نبرا، هذا أصغر همومنا!" هو أيضًا كان قطاره على وشك الرحيل، وفي الشانزلزيه كانت الشمس. جاء أحد المتسولين غير الفاهمين في شئون ماكينات تبديل النقود، حاول ما حاول، ودومًا دون فائدة. في الحي اللاتيني كانت امرأة. ضرب الشاب ماكينة تبديل النقود بقدمه، وذهب غاضبًا. في قصر المؤتمرات كان أزنافور. "حقيبتك"، صحت من ورائه. لم يلتفت. عجلت الذهاب بالحقيبة إليه. "حقيبتك، نسيت حقيبتك"، قلت للشاب. "ليست حقيبتي، قال الشاب، لم تكن معي حقيبة." تركني حائرًا، وبعد عدة لحظات من التردد، فتحت الحقيبة. كانت ملأى بالنقود. عدت أبحث عن الشاب بعينيّ دون أن أجده، ولما يئست، إذا بإصبع تدق على كتفي. التفتُّ، كان الشاب. أخذ مني الحقيبة، وذهب. بعد عدة لحظات، دوت ثلاث طلقات. في بيغال كانت نورسة تختال على بساط أحمر.
هكذا يذهب البائسون بِشَرْبَةِ ماء دون أن يدروا أن الحظوظ شيء يُلمس، ربما كانت شيئًا لا يُدْرَك لكنها تظل شيئًا يُلمس. كالجدران. رفعت رأسي مع عدد ممن رفعوا رؤوسهم إلى الجنة تحت أقدام الأمهات، الأمهات؟ يا للعار والشنار! إعلان عملاق لفتاة يطير فستانها كاشفًا عن ساقيها المجنونتين فسقًا ودلالاً، الفاسقات والمدللات؟ يا للمجد والعلياء! كانت كل الأمم تتعلق بساقيها، كل المدن، كل الحضارات، كانت ساقاها يوم البعث، تعيد للموتى الحياة وتميت الأحياء، تنزلهم إلى الحضيض الأسفل وتعليهم في آن إلى القمم الشماء. الإعلان لم يكن مهمًا، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على تدمير الجدران، وإهانة الدمامة. كان الإعلان على مستوى واحد مع لوحة القطارات. إنجليزيات. إنجليزيات عذراوات كن ينتظرن تحتها، اليوروستار حتمًا، رأيتهن يصعدن إلى "الكون ستار"، إلى أعلى مرتبات الجمال، إلى جانب فتاة الإعلان الساحرة. كشفن عن سيقانهن، وتحولن إلى ربات للفسق والدلال. كنت أضحك من أعماق قلبي، من أعماق كِياني، وكنت أصهل، وكأني حصان أبيض يعدو على شاطئ لبحر لا نهاية له. غدا العالم كله مرتعًا، باريس ولندن ونيويورك وميامي وهافانا ومكسيكو ومكة ودمشق وبغداد والقدس، أضاف دلال سيقانهن إلى القدس ما كان ينقصها من قدسية، وفسق سيقانهن ما كان ينقصها من عفة. كان ذلك كمن يصقل أسلحة دماغه.
عندما هدأت المعاصي فيّ، ساقتني قدماي إلى نصف هرم مرفوع على رأسه، وعلى عتبته رجل تنبثق من صدره أصابع ميتافيزيقية مسببة له عظيم الألم. سألته الأمر، فأبدى لي عظيم يأسه. "لم أنجز بناء قبري، قال الرجل، وألمي بسبب السرطان الذي لدي في رئتي يسبب لي عظيم الألم والعذاب، فلا أنا قادر على إكمال البناء ولا أنا قادر على احتمال الألم." كان عليّ أن أعينه، أن أكمل البناء عنه أو أن أقتله. إذا ما أكملت البناء عنه لن أضع حدًا لعذابه، وإذا ما قتلته لن أكمل بناء القبر الذي ينشد دفن نفسه فيه. "أَكْمِلْ بناء قبرك خير لك مما أنت فيه"، قلت للرجل. "ولكن كيف؟ صاح الرجل، وعذاب جهنم الذي أنا فيه؟" "تدبر أمرك"، رميت كلماتي قبل أن أتركه. وهل للطائر الكاسر لجناحه أن يتدبر أمره؟ يتدبر. وهل للسمك السامل لعينه أن يتدبر أمره؟ يتدبر. وهل للنرجس الحارق لهيئته أن يتدبر أمره؟ يتدبر.
وبينما كنت أفكر في قسوتي اللامصدقة، الصليبية الشكل، الجهادية المحتوى، البعثية، دونما سرور طبعًا، ودونما تمييز الصالح عن الطالح، سمعت شابًا أسمر البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إنه لا يعرف، وأبدى أسفه. "اذهب إلى مكتب الاستعلامات"، أضاف. لم يذهب الشاب الأسمر إلى مكتب الاستعلامات، وأخذ يسأل المسافرين. اعتذر الكل، فجعل الشاب الأسمر قدمه تمضي بكل الأرصفة دون أن يقع على قطاره. لم يكن قطاره موجودًا، فلم تكن وجهة سفره معلومة. أخيرًا في مكتب الاستعلامات، قالوا له بين كل القطارت المقلعة لا يوجد قطارك، ولا وجهة سفرك، حتمًا أخطأت المحطة، هل هي محطة الشمال؟ حتى عندما نخطئ محطتنا تكون المحطة محطة الشمال، انصهار الشعوب فيها، وأنهار دموع الصفصاف المستحي فيها، وذكريات قطوف موز أريحا فيها.
تفاجأت بإحدى الفتيات السمراوات، وهي تسحب الشاب الأسمر من ذراعه، وتجري به إلى رصيف وهميّ. رصيف شيطاني من أرصفتي. من حظك أن القطار لم يقلع بعد، قالت الفتاة السمراء. شكرها الشاب الأسمر، وهو يدفع حقيبته من باب عربة القطار الوهميّ. بدأ القطار الوهميّ يتحرك، فقفز الشاب في العربة، وبعد قليل خرج بوسطه من أقرب نافذة، وراح يلوح بيده للفتاة السمراء إلى أن اختفى القطار الوهميّ تمامًا. جاءتني الفتاة السمراء، وشكرتني شكر من صنتُ عِرضه. ابتسمت لي، وقبلتني قبلة من حفظتُ مقامه. "لو لم يسافر لأضاع حظه"، قالت الفتاة السمراء. "ولكنه سيضيع حظه"، قلتُ. "لن ينجح في مسابقته؟" "لن ينجح." "إذن لماذا؟" "لأرضيك." "لترضيني؟" "شرط أول." "ماذا تشترط عليّ؟" "هناك من ينتظرنا في مقبرة القطارات." "هيا بنا." وسحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، وكل الصيد في جوف الفراء. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، رأيت فيه ممرضة بدينة، ترتدي ملابس ضيقة تكشف عن فخذيها السمينتين وثدييها السخيين. وكانت هناك بعض مكاتب مفتوحة فيها الكثير من الأحذية النسائية الجديدة أكعاب بعضها تتجاوز المتر. كانت الفتاة السمراء تنظر إلى حيث أنظر، ولا تعلق، تسحبني، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكك حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. "مصير الإنسان يبدأ هنا"، عَلَّقَتْ. "أنت تفضلين قضاء الصيف في الجبل"، عَلَّقْتُ. جاء من وسط مدينة الموتى الحديديين قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة سوداء، وبحبل يوجه خادمه المربوط من عنقه الرابط بوزرة بيضاء خصره، وهو يقول "يمينًا، يسارًا، حذار، انظر أين تضع قدمك، كدت تضرب بالقاطرة، إياك والسكة الحديدية، قدمك ستنحرف، قدمك، قدمك، قدمك..." كما لو كان يرى، وعندما يخطئ الخادم أو لا يستجيب كان يضربه بالسوط، فتنتثر الشمس في جبال الألب.
سألت الفتاة السمراء إلى أين هما ذاهبان هكذا، فأجاب القرصان أنه منذ فقدانه لبصره لا إلى مكان محدد، إنه يكتفي بشم طريقه، وهو يراها هكذا، بشمها، لهذا يقود خادمه ولا يقوده خادمه. "أليس كذلك، يا إنسانية؟" لم يجب الخادم، فضربه بالسوط، وأعاد السؤال: "أليس كذلك، يا إنسانية؟" لم ينتظر من خادمه جوابًا، فضربه بالسوط من جديد لينهار الخادم، ويأخذ بالبكاء والعويل. تقدمت الفتاة السمراء من الخادم، وأخذت تفكه، والقرصان الأعمى يرفع عن جفنه المغلق العُصابة السوداء، ويتظاهر بالنظر إلى ما تفعل. "لن تحرريه مني، أيتها الإنسانية"، صاح القرصان. "بلى، أجابت ساحرة إسبانيا، الإنسانية غاضبة لما تجد نفسها في الدرك الأسفل، وهي لهذا تُنشد الحرية." وما أن أنهت فك الخادم حتى دفعته تحت نظرات الرضى نظراتي، "انْطَلِقْ، صاحت الفتاة السمراء، أنت حر الآن." أخذ الخادم يعدو، والقرصان يبكي، ويقول "يا لها من إنسانية ظالمة، تتركني وحدي، وأنا الضرير." "هذا ما كنت تريدني أن أفعل"، قالت لي ابنة مدريد. "تمامًا"، أكدت. ونحن على وشك تركه، أنا والفتاة السمراء، سمعنا خطوات متباعدة من ورائنا، عندما التفتنا رأينا الخادم، وهو يميل برأسه، ويحاول إخفاء حقيقة أمره مع القرصان، عدم قدرته على التخلي عنه، عدم قدرته على التخلص منه، عدم قدرته على التخلص مما اعتاد عليه، شيء جميل اسمه الاستبداد. عقد الحبل حول عنقه، والقرصان يصهل، وهو في منتهى السعادة. "تعالي أقبلك، أيتها الإنسانية"، هتف القرصان، وهو يذرف دموع الفرح. أخذ يلثم الواحد الآخر من فمه، وما أن صرنا على بعد عشرة أمتار عنهما حتى عادت تصلنا لعنات القرصان، وصرخاته، وضربات سوطه على طريق العميان. كانت الحبال في كل مكان، القصيرة والطويلة، النحيلة والثخينة، تناولت الفتاة السمراء أمتنها، وألقت عليّ نظرات الامتنان، وكل مكان يَضج بالنور الباهر.
رأينا، أنا والفتاة السمراء، توأمين سياميين برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، وهما يزرعان شجرة يافعة محل أخرى كانا قد اقتلعاها من جذورها. رمت الفتاة السمراء الحبل المتين إليهما، فقالا لم تعد لهما فائدة منه الآن، عليهما انتظار أن تكبر الشجرة اليافعة، ليشنقا نفسيهما. شكراها، ورجواها أن تعود إلى أخذه. لم تنتظر الفتاة السمراء مني أن أنفجر ضاحكًا، فسألني المشوهان لماذا أضحك. قلت لأني قادر على عونهما دونما حاجة إلى كل هذه التعقيدات، يكفي أن يقررا ذلك. "اعتدنا الانتظار"، قالا. "أنتما تضحكانني، غضبت الفتاة السمراء، ذريعتكم ذريعة من يضاجع الهواء عندما يعجز عن مناداة بنت. هل أقرضكما ساقيّ لتحلا مسألتكما؟" "المضاجعة آخر ما نفكر فيه"، قالا. "ولكنكما لم تفهما شيئًا، يا دين الرب!" "المضحك في المشكلة أنهما لا يُضحكان"، قلت. أراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك. عادت سمراء مدريد إلى أخذ الحبل، وبعد عدة خطوات، رمته كجثة الثعبان، وهي تلعن غاضبة: سأرسل إلى هذين اللاطموحين ثعبانًا حقيقيًا يريح الإنسانية منهما.
قطعنا، أنا والفتاة السمراء، خطوط السكك الحديدية إلى عربة معلقة لا أدري كيف، عربة سوداء اللون، في الليل لا تُرى، وفي النهار لا شيء يُرى غيرها. ونحن نقف، أنا والسمراء الإسبانية، تحت نافذتها، انبجس دفق من البول، وانحنى رجل برأس أرمد الشعر ووجه متغضن لينظر إلينا، ونحن نحاول أن نتفادى الرحمة الصفراء بينما هو يقهقه، ويواصل التبول. نفض نفسه لما انتهى عدة مرات، ورفع بنطاله. "كنتم في المبولة دون أن أعلم، يا خراء الخراء!" قال الرجل، وعاد يقهقه. "لا شيء، أضاف الرجل، لا شيء غير بعض البول. المسألة ليست البول وإنما البنطال، عندما يسقط البنطال، ويكشف عن ساقين دميمتين كساقيّ، هذا ما يستفز المشاهد، وأنا كما تعلمان مع الاستفزاز. الاستفزاز شرطه الفاجع لا الفاجع شرطه الاستفزاز. وربما هذا أيضًا. هذا وهذا. لست أدري. ربما لسبب آخر. أجهله. هناك الكثير من الأشياء التي أجهلها. لا أعرف لماذا. هل لأنني أجهل أنه سيُكتب لها الخلود؟ هذا ما سيعرفه فيما بعد كل من هزأ بي. الخلود. هل الخلود هام إلى هذه الدرجة؟ الخلود شيء ثانوي. كقهوة الصباح كل يوم. شيء ثانوي. أهم من الخلود فعل يتطلب تحقيقه. فعل ضروري. ضروري ولا فائدة منه. هذه الحياة قحبة. المسرح لأنها قحبة، الكتب، الخراءات. الموت مسألة غيري. مسألة منايك الخراء. موليير وجويس وبورخيس. سنُنزل اليوم العربة. أرجو ألا تبدلا رأيكما، سنحطمها لو يلزم، فقد سئمت البقاء كل الوقت معلقًا. عليّ أن أنزل أولاً. ولكن كيف أنزل؟ إذا أنزلنا العربة وأنا فيها وتحطمت العربة سأتحطم معها. عدم جوابكما يشير إلى أنكما بدلتما رأيكما. سأتحطم معها إذا لم أنزل أولاً. ولكن كيف أنزل أولاً؟ هل تنزل العربة أولاً أم أنا؟ أنا أم العربة؟ إذا تحطمت العربة وأنا فيها تحطمت معها. ولو قلت لكما أنزلا العربة وأنا فيها وما يحصل يحصل سيكون ذلك بمثابة انتحار، بينما أنا لا أريد الانتحار. أنا ضد الانتحار. لهذا سيعيش التوأمان السياميان إلى الأبد دون أن يمكنهما الانتحار. لأني ضد الانتحار. سينتظران. إنها الطريقة الوحيدة ليحتملا شرطهما. سينتظران. لأنني ضد الانتحار. سينتظران وسيقطعان حياتهما دون أن يعلما أنهما يقطعان حياتهما لكنهما سيقطعان حياتهما. الانتحار بعد ذلك ليس مهمًا. الانتظار يعطيهما القوة على قطع حياتهما. هذا هو المهم، قطع حياتنا. مهما كانت. قطع حياتنا. حياتنا القحبة. هكذا نصنع إراداتنا. بالانتظار. إراداتنا المرتهنة. إرادات ليست إرادات. إرادات. فقط إرادات. إرادات الانتظار. الانتظار يصبح قوة العيش، جوهر الأشياء، الوجود، الزمان. الانتظار إلى الأبد، هذا هو الخلود. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. هذه هي الأبدية. يصبح للوقت معنى. معنى اللامعنى. هذا لا يهم. ما يهم أن يصبح للوقت معنى. أي معنى. أي لامعنى. إلى الأبد. الانتظار. الانتظار إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. ثم تنتهي الحياة. دون أن نشعر. الانتظار إلى الأبد. تنتهي الحياة مع شعور أنها لم تنته. هذه هي الحياة. الحياة شعور بعدم الانتهاء بعد أن تنتهي. شيء ما كالموت الذي يداوم على التنفس الحياة. شيء ما كالجناح الميت الذي يداوم على الطيران. جناح ميت الانتظار الحي. شيء ما كالعالم المعلق ونحن فيه. كيف ننزل؟ وهل ننزل؟ ولماذا ننزل؟ الانتظار إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. لماذا ننزل ولن يزول الانتظار؟ خطوط السكك الحديدية هي الانتظار. خطوط تمتد. تمتد إلى ما لانهاية. خطوط تمتد. تمتد. تمتد. خطوط تمتد إلى ما لا نهاية كالانتطار. خطوط دون نهاية. قدر جبار. كالموج. خطوط كالموج. كالبحر. تحيا ما بينها البشر. كالأسماك. تحيا. تموت. خطوط. خطوط تمتد. إلى ما لا نهاية. سمك. خراء. البشر سمك. خطوط السكك الحديدية أمي. الخرائية. خطوط. أمي. حديد. الحديد أبي. أبي خط خراء. أمي خطوط سكك الحياة. هذه الحياة القحبة. أنا قاطرة. قطار. قواد. أبي. أبي قواد. قواد. ابن قواد. أنا. قطار انتظر ولم يعلم كيف غدا قوادًا. كيف ننزل ونحن بانتظارنا مصير لا نريده؟ نصنعه بأيدينا ولا نريده. لأننا خراءات. كلنا. خراءات خرائية. لا شيء غير خراءات. لا الله ولا الشيطان. التخلي. العزلة. في عربة معلقة. لكل واحد منا عربته المعلقة. المسئولية. مسئولية الخراء. قواد. كأبي. كجدي. كابني. مصير نريده. قدر القطارات. ذهاب وعودة. مونوتونية. تَكرارية. كم مرة نقول نأكل في اليوم، نكدح، نخرأ، نشخ، ننكح، خاصة ننكح؟ عودة وذهاب وذهاب وعودة وذهاب وذهاب وذهاب وذهاب وذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. هل ننزل إذن إلى المونوتونية؟ إلى أكل الروح؟ من الداخل. إلى أكل الروح من الداخل؟ مونوتونية. انتظار إلى ما لا نهاية. من الداخل. أكل الروح. أكل الروح من الداخل. قتل الروح. مونوتونية. قتل الروح. قتل الروح. مونوتونية. قتل الروح. قتل الروح. قتل الروح. مونوتونية. انتظار. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد..."
اختفى الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه وهو يكرر "إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد..."، فأخذت أشتم وألعن: "لماذا أنا هنا إذن في هذا البلد الماخور؟ كان عليّ أن أُنزل العربة، كان علينا، أنا وسمراء إسبانيا، أن نُنزلها، كنا هنا من أجل إنزالها، فلا شيء يجب أن يكون أعلى من عربتنا. عليّ أن أحزم أمتعتي وأذهب. لكن لا أمتعة لي. هو أمتعته الكلمات الرمادية وأنا أمتعتي الأفعال الفائتة. امرؤ في غاية النباهة والذوق مثله. ها هو عنفه الأعمى! أنا ضد العنف الأعمى. قتل الجسد بالكلمات أو بالطلقات. ضد الإرهاب الثوري. من كل نوع. ضد أسنان البحر والبر والخراء. الخراء الثوري. لست أدري. تكلم عن كل شيء ما عدا الخراء الثوري. ذاك الذي تمضغه الأفواه وتقذفه الأقفية، فيلطخ الوجوه، يلطخ الكِيانات. ليس ذنبي إذا ما تلطخت كِياناتكم بخراءاتكم، فهي جزء من جوهركم. مصيركم المكتوب ومصيركم المصنوع. توقف عن تهشيم الآذان. لهذا أنا هنا في هذا البلد الماخور، لتقديم يد العون، فالناس على عجلة من أمرها. أليس كذلك، يا قحبة الخراء؟ انظري إلى طوابيرهم أمام صناديق السوبرماركتات. لأجل خرائهم الثوري. خراؤهم الخرائي. ما أعلم. وإذا بالصدفة أراد أحدهم عدم الانتظار، فحرمان فمه من المضغ، والأنكى حرمان قفاه من القذف. هذا هو أهم انتظار، انتظار كل يوم، الحياة. هذه الحياة القحبة ليست قحبة قحبة. الطوابير أمام صناديق السوبرماركتيات، الطوابير أمام شبابيك وكالات البطالة، الطوابير أمام مكاتب الضمان الاجتماعي، الطوابير أمام مواخير الوعود اللانهائية. كوعود الشياطين والآلهة وعود ملوك عصرنا للبشر. وعود قحبة. والأسوأ أن لا أحد أحسن من أحد. الأسوأ أنتِ، وأبدًا أنا. لهذا أنا هنا في هذا البلد الماخور. أنا البنوك الرقمية. بمعنى الإفلاس الحقيقي. يخرأ الورد في الحدائق، يشخ النحل في الأقداح، تضرط العصافير في الأفواه. كل هذه صور للإفلاس الحقيقي. للا تناهي. لأبدية الزمن. أبدية الإفلاس. أبدية الاستمناء. الرقمي. بدأتُ المللَ من كل هذا، إلا أنني هنا. على التأكيد أنني هنا، ولكن ليس إلى ما لا نهاية. والحال هذه، هذا لن يُغني عنكم شيئًا.
سحبني النار الأسمر من يدي كما يسحب حقيبته كالسر المغلق الذي لا يعرفه أحد غيرنا إلى حيث تسكن غير بعيد، عربة معلقة. وأنا أفكر حائرًا في أمر الصعود، وضعت ابنة الشمس سلمًا، وطلعت. وهي في منتصفه، التفتت إليّ، "أرأيت؟ قالت، يكفي أن تمتلك سلمًا." كان الأمر في غاية البساطة. كان السلم. لم يكن الجدار، كان السلم. لم يكن الحبل، كان السلم. لم يكن المنقار، كانت الحلمة. حبة الكرز، قَضْمُهَا قَضْمُ اللهب. أرتني صورًا لابنها الميت، لم يكن جميلاً مثلها، كان ميتًا. حتى ولو كان جميلاً كان دميمًا. كان ميتًا. ثم تعرت، وعرتني. أجلستني على سريرها في طرف، وجَلَسَتْ في طرف، وفرشت صور ابنها الميت ما بيننا. كان الموت ما بيننا، وبقينا هكذا صامتيْن جامديْن حتى هبوط الليل، فلم نقضم الماس، ولم نصعد على سلم القمر.
عدنا، أنا والفتاة السمراء، أدراجنا والمقبرة تتوهج بالأضواء، التقينا بالرجل الأرمد الشعر والوجه المتغضن، وعلى عينه عُصابة القرصان السوداء، حيانا تحية الغرباء قبل أن يعطينا ظهره، ويتجاوزنا إلى الشجرة اليافعة للتوأمين السياميين التي اقتلعها. جاءت طيور غريبة من الجهة التي ذهب منها، ووقفت على جثة أحد القطارات، وهي تتابعنا بنظراتها المُسَمَّرة، ونحن نسير على سور مقبرة القطارات القصير، دون أن تتحرك. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى عالم محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات، كانت الحياة، حياة اسمها الحياة العابرة. دفعتني ساحرة إسبانيا إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي تقول: "تبعًا لهذا النزول المجدي، سندخل عالم الكذب الصادق والكذب الكاذب." واجهني صف من الإفريقيين السود الأثرياء، وهم يحملون إفريقيين آخرين مدقعين في أقفاص يتركونها في المستودع. "يضحون بضحية، همست الفتاة السمراء، طريقة من طرقهم الأسطورية. البربرية." كان الإفريقيون الأثرياء يزينون صدورهم بقلادات ضخمة من الذهب، وأصابعهم بخواتم ضخمة من الذهب، وآذانهم بأقراط ضخمة من الذهب، وكانوا يرتدون أفخم الثياب، وأغلى الأحذية. "الإرهاب المضاد كل هذا الذهب"، أضافت ساحرة إسبانيا. على اليسار، رأيت كيف يبدل الإفريقيون الأثرياء قطع الماس والذهب بقليل اليوروهات من أمام شبابيك صرف كان الصرافون فيها كلهم صرافات بنات شقراوات، وكلهن يرتدين ثيابًا براقة كثياب الراقصات المصريات، ولم يكن بينهن رجل واحد. "الثورة المضادة"، علقتُ. "إلقاء الرعب في القلوب"، عَلَّقَتْ. واصلنا السير، أنا والفتاة السمراء، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها قرود أخذت أشكال الأرقام. "ليس هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال، قالت مرافقتي، عالم المجانين الرقميين والملعونين التكنولوجيين." لم تبتسم للعدم، كان العدم يبتسم لها. تقدمت من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح أخرجته من جيبي، وإذا بباب في داخلها أدى بنا إلى عالم هو بالفعل سفلي، عالم من القرود الرقمية. "كل هذا شيء مضاد للتخثر، مضاد للتجعدات، مضاد للتشنج، مضاد للحَبَل، مضاد للإنسانية المضادة"، ألقيت دفعة واحدة. كان القرود يملأون الدنيا، ويحكمون العالم. كانت حضارة القرود، حضارة الوحشية، فحضارة القرود تظل وحشية على الرغم من كونها حضارة. وحشية رقمية، لقرود رقمية. أدغال رقمية، لهذا كانت الأدغال الرقمية حدائق غناء. عقول رقمية، لهذا كانت العقول الرقمية مصانع وجامعات. عضلات رقمية، لهذا كانت العضلات الرقمية ملاعب ومسارح. "وكل هذا مضاد للسُّم، مضاد للصدأ، مضاد للسرطان، مضاد للضباب، مضاد للفساد، مضاد للعُثّ، مضاد للكُزاز، مضاد للزنجية المضادة"، ألقت الفتاة السمراء دفعة واحدة. أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال المعجب الحاسد لا الشاكر لفضل الآخر عليه، الحاسد والحاقد. الاستعمار الرقمي يبعث على هذا الشعور المومسي! وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي الذي يجدر دعوته بالعلوي، لِنَقُلْ العالي لمحطة الشمال والجنوب والشرق والغرب، ما هو معلوم بالضرورة. ثلاثة أماكن تتراوح بين الضروريات والكماليات أسرتني، المكان الأول للمافيا، حيث كان زعماؤها يستقبلون رجال العلم، ويغدقون عليهم الأموال الطائلة في سبيل تحقيق أعظم الإنجازات. باحثون وأمخاخ وعظماء يخضع الكون لهم خضوع الطبيعة لابن سينا فيما مضى. "الاضطراب العقلي يؤدي إلى الاضطراب الثوري"، علقتُ. "لأن هذا الخراء الأسمر من ورائه فرويد؟" سخرت الفتاة السمراء. "لماذا لا تُقَبِّليني، يا حبيبتي، أحسن لك؟" "لديكَ، يا حبيبي ما لا يُضارَع!" "ستحسدكِ كل السيقان في بيغال!" "بيغال حرية السيقان إذا كنت لا تدري، لا تُحسد، تكون، دونما حاجة إلى أي فرويد!" "تكون، تكون." "تعال إلى المكان الثاني!" للتجميل، حيث كان يدخل كل ذي عاهة ويخرج دونها. رأيت الأحدب يدخل بظهر أحدب ويخرج بظهر مستقيم كعرق البنفسج، الأحول يدخل بعين حولاء ويخرج بعين حوراء كعيون اليمنيات، الأصلع يدخل برأس أصلع ويخرج بحرير أسود أو أبيض أو أحمر أو أسمر أو أصفر أو أروع كحرير الشام. "هنا تنتهي دكتاتورية الحزبين، وتحل محلها الاضطرابات الاجتماعية"، قلتُ. "الاضطرابات العصبية، قالت، أتفق هنا مع فرويد، وشاربي البيرة في مقاهي ساحة الجمهورية." "فرويد، فرويد." "تعال إلى المكان الثالث!" للحب، المومسات فيه ذات رسالة إلهية للبعض وشيطانية للبعض الآخر، يُرِدن تثوير الرهبنة الأنثوية على طريقتهن، طريقة معاصرة ترضي كل الرغبات المقموعة، وتؤسس لعبادةٍ الجسدُ فيها يحل محل الروح. أعطين الراهبة الحبلى لهن مثالاً، ورفعنها إلى درجة القداسة. "سيضرمن الفِتنة"، قلتُ. "سيضرمن القلوب"، قالت. "بما أن الراهبة ليست راهبة"، أضفتُ. "بما أن الأقاقيا ليست أقاقيا"، أضافت.
أشارت الفتاة السمراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، وهم يقومون بعملية تضليل كما هي عادتهم. "هل تحبني؟" "أحبكِ، كساق في بيغال، أعظم حب." "أخشى على المومسات والراهبات استغلالهن من طرف هؤلاء الوحوش"، قالت الفتاة السمراء كمن تقول عن أخواتها. "اتركيهم يجدون ضالتهم ومبتغاهم، فترتاح الجمهورية منهم قليلاً. الجمهورية، ساقك الأخرى التي أحبها أعظم حب." "لم يكونوا يسعون وراء المتعة الهادفة للتحرر، كانوا يريدون المتعة الهادفة للتعبيد، أبناء المومس!" "أبناء زحل، يجدر القول، الحكمة ضالة الموزعين الآليين للكبابيد." دخلنا حقل سباق للقرود الرقمية، فراهنتُ على هذا القرد الرقمي أو ذاك، وكذلك فعلت الفتاة السمراء، وربحنا نحن الاثنين. "هذا لأنك تحبني"، قالت. "هذا لأنكِ حظي"، قلتُ. ضممتها إلى قلبي، وأضفت: "ليس هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال؟" سحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب "شيتسوها"، "تعال"، قالت لي، وهي تعطيني ضمانًا بقبلة على فمي.
أنزلتني السمراء الإيبيرية في مِصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف المتدينين المتزمتين، خليط من أتباع الديانات التوحيدية الثلاث. كانوا كلهم يشبهون بعضهم بلحاهم وثيابهم، بطقوسهم وصلواتهم، بأدعيتهم ونظراتهم إلى العالم، نظرات من ليس في رأسه شيء اللهم إلا الله، لا الله كما يُرى، وإنما كما هم يريدون أن يروه. لهذا لم يكن الله ليغضب منهم أبدًا على ما يفعلون من فراولة إنسانية، فالله الذي لهم ليس الله، كان الله الذي لهم هم، فكيف سيغضبون إذن هم أنفسهم من فراولتهم على أنفسهم. "الشمس ذهبية، كانوا كلهم يقولون، القمر فضيّ، الأرض سوداء، وأحيانًا بيضاء، وأحيانًا حمراء، وأحيانًا سمراء، وأحيانًا صفراء، كما يشاء الله." لم أكلم أحدًا منهم، كانوا يتكلمون كلهم خطابًا واحدًا بثلاث لغات يفهمونه، وكأنه يقال بلغة واحدة، لكنهم والحق لم يكونوا واحدًا. رأيت بينهم ملائكة يكذبون وشياطين يكذبون، ورأيت بينهم أطفال يكذبون وقطاع طرق يكذبون، ورأيت بينهم أنبياء يكذبون وجلادو أغشية مهابل يكذبون، ورأيت بينهم غزلان تكذب وذئاب تقول الصدق، ورأيت بينهم قططًا تكذب وكلابًا تكذب، ورأيت بينهم فراشات تكذب وضباعًا تكذب، ورأيت بينهم أثداء تعض وقضبان تتراخى، ورأيت بينهم خدودًا تخدش وأقدامًا تقف ولا تسير، تقف ولا تسير، تقف ولا تقعد، ورأيت بينهم بطونًا تهتف وأكفالاً تجاهد، ورأيت بينهم آياتٍ كتبوها دون أن يعرفوا الكتابة وأحاديث تلوها دون أن يعرفوا التلاوة، ورأيت بينهم مُدْرَجاتٍ ليست المدرجات ومزامير ليست المزامير، ورأيت بينهم أناجيل ليست الأناجيل وصلبان ليست الصلبان. تفاجأتُ بالفتاة السمراء وهي تصيح بهم لتبيعهم الرمان وهم لا يردون عليها ولا يقلقهم ما الرمان. "إنهم لا يسمعون شيئًا آخر غير صلواتهم، شيئًا أقرب إلى هذيان الاضطهاد"، قالت لي الفتاة السمراء، وهي تسحبني من يدي كما تسحب حقيبتها التي شاءتها لي، التي ملأتها بي، التي تضع فيها كل صلواتها وصلواتي، إلى المِصعد ثانية، لنصعد إلى الطابق الوسط، طابق بين وبين، الطابق الذي لم يكن طابقًا. كان الطابق سورًا يبدأ من الصين وينتهي في القدس القديمة، من ثدي إمبراطوري إلى قدم كنعانيّ. شغل بالي رجل وامرأة في شبه الظل، كل واحد في ناحية من ناحيتي السور، كانا يتحادثان دون أن يسمع أحدهما الآخر، كان الحوار يدور حول العفة والشرف والصمود، الكرز والفراولة والعنب. الأسمر. كان الرجل يشكو، ويقول لولا السور لكان إلى جانبها، لأحبها أكثر، للبى كل طلباتها، لصنع لها طفلاً... ومع مرور الدقائق والثواني أخذتُ أميز في الظل الخفيف بطن المرأة المنتفخ، كانت حُبلى، وكانت تبكي بِصَمْت، كانت حُبلى، وكانت تعرف أنه لا يعرف أنها حُبلى، وكانت تبكي بِصَمْت، كانت حُبلى، وكانت توافق رجلها على كل ما يقوله، وتتمنى كل ما يتمناه، وكانت تبكي بِصَمْت، كانت حُبلى، وكانت تبكي بِصَمْت...


* يتبع القسم الثامن



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصول غودو القسم السادس نسخة مزيدة ومنقحة
- وصول غودو القسم الخامس نسخة مزيدة ومنقحة
- وصول غودو القسم الرابع نسخة مزيدة ومنقحة
- وصول غودو القسم الثالث نسخة مزيدة ومنقحة
- وصول غودو القسم الثاني نسخة مزيدة ومنقحة
- وصول غودو القسم الأول نسخة مزيدة ومنقحة
- هاملت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
- هاملت القسم الرابع والأخير الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- هاملت القسم الثاني الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- علي الخليلي ابن صفي ابن بلدياتي
- هاملت القسم الأول الرواية الجديدة لأفنان القاسم
- قرصنوا إيميلي واغتصبوا اسمي
- كوابيس المجموعة القصصية
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس العاشر: الأحمر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس التاسع: الأصفر
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثامن: الأسود
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السابع: الدولة
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السادس: النفق
- القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الخامس: القَرض


المزيد.....




- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - وصول غودو القسم السابع نسخة مزيدة ومنقحة