|
أزمة أوكرانيا امتحان للقطبية الروسية
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 4381 - 2014 / 3 / 2 - 12:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أوكرانيا البلد" الأطراف" تمثل قصة تاريخ طويل من الوحدة الهشة، والصراع الخفي، الذي ما يلبس عند المنعطفات التاريخية الكبرى أن يعبر عن نفسه بصورة متفجرة بعض الشيء، لتعود من جديد سيرتها الأولى تستعد لتفجر جديد. ففي عاصمتها كييف ولدت أول دولة روسية( 980-1015) قبل أن يدمرها المغول في عام 1340، ليحكمها بعد ذلك البولونيون والليتوانيون لمدة ثلاث قرون تقريباً، لتعود بعد ذلك الأجزاء الواقعة شرق نهر الدنيبر إلى حكم الروس بعد أن هزموا البولونيين في عام 1685 ، لكنهم مع ذلك احتفظوا بالأجزاء الواقعة غرب الدنيبر تحت سلطتهم، لتتكرر هذه القسمة لاحقا بين روسيا والنمسا في عام 1772، وبين روسيا وبولونيا من جديد في عام 1920، قبل أن يحسم المسألة ستالين فيضم أغلب الأجزاء الغربية منها إلى أوكرانيا الأم تحت سلطة الحكم السوفييتي. لقد شاركت أوكرانيا روسيا تاريخاً طويلاً نسبيا، أمتد لنحو ثلاثة قرون، في إطار نوع من الاتحاد، ورغم الأصل السلافي المشترك للأوكرانيين و الروس وما نجم عنه من تشارك ثقافي واسع وعميق، بما في ذلك تحدث نحو نصف سكان البلاد باللغة الروسية، لكن الدولة الأوكرانية والشعب الأوكراني ظلا على الدوام محط تنازع داخلي وخارجي محكوم بتوجه ثنائي القطب واحد نحو الشرق، نحو روسيا، وواحد نحو الغرب، نحو أوربا وتحديدا أوربا الكاثوليكية. اللافت أنه عندما بدأ الاتحاد السوفييتي يتفكك في سياق مسار نهج البيروسترويكا الذي اعتمده غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي في عام 1985، لم يكن الأوكرانيون متحمسين للخروج منه، لكن بعد أن وجه بوريس يلتسين رئيس روسيا الفدرالية ضربة قاصمة له، لم يكن من خيار أمام الأوكرانيين سوى إعلان الاستقلال وقيام دولة أوكرانيا المستقلة وعاصمتها كييف. لقد واجهت الدولة المستقلة منذ يومها الأول مشكلات عديدة، بعضها يعود إلى طبيعة بنيتها السكانية والدينية، وما تنطوي عليه من احتمالات لتشغيل قوى التنافر الداخلي بين أتباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، وبين الناطقين باللغة الروسية واللغة الأوكرانية، وبعضها الآخر يعود لقوى الجذب الخارجي بين روسيا من جهة والدول الغربية من جهة ثانية بسبب تعارض المصالح. لقد كان من المفترض أن تدير اللعبة الديمقراطية قوى التنافر الداخلي، وقوى الجذب الخارجي وتتحكم بها، بما يحافظ على وحدة أوكرانيا واستقلالها، لكن التدخلات الخارجية في شؤونها لم تسمح لها بذلك، وهاهي اليوم تقف من جديد على مفرق طرق سوف يتقرر عنده ليس فقط مصير أوكرانيا كدولة موحدة ومستقلة، بل وكثير من العلاقات بين روسيا من جهة، والدول الغربية من جهة ثانية. منذ تفكك الاتحاد السوفيتي تعرضت روسيا لمزيد من التهميش في عهد بوريس يلتسين، وركزت السياسات الغربية عموما في حينه على دفع روسيا لتبقى متخلفة تلعب دور الحديقة الخلفية لأوربا، ومصدر للمواد الخام، وخصوصا النفط والغاز. لقد تجاهلت هذه السياسات، وخصوصاً الأمريكية منها قوة الوطنية الروسية الكامنة فتعاملت مع روسيا ليس بصفتها دولة عظمى بل دولة من العالم الثالث، واستفزتها في أكثر من مكان، وخصوصا في تلك المناطق التي كانت حتى حين تدور في الفلك الروسي، كما هو الحال بالنسبة لجمهوريات أسيا الوسطى السوفييتية السابقة، وفي البلقان وأخيرا في جورجيا وفي ليبيا. لطالما حذر الرئيس الفرنسي ميتران الولايات المتحدة الأمريكية من استفزاز " الدب الروسي" وإهانته، وتجاهل دوره في السياسات الدولية. لذلك ما إن استلم بوتين زمام السلطة في روسيا وهو الجنرال السابق في المخابرات الروسية، والمفعم بالوطنية، حتى بادر إلى الرد، وإعادة الاعتبار إلى روسيا بصفتها دولة عظمى لا يمكن لأحد تجاهلها. ومما ساعده في نجاح سياساته التفاف طاقم من الوطنيين الروس حوله، إضافة إلى حسن استغلاله للأزمة المالية الخانقة التي تفجرت في أمريكا وفي دول المنظومة الأوربية عموما، وجعلتها تنشغل في أمورها الداخلية أكثر. لقد ركز بوتين جل اهتمامه على تمتين الوضع الداخلي في روسا، في إطار قواعد الديمقراطية الروسية، متجاهلا حقوق مواطنيه عليه بمزيد من الانفتاح والحرية، ، ومن ثم ركز على إنعاش الاقتصاد، وتجنيب بلده أثار الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالدول الغربية، وقد حقق نجاحات ملحوظة على هذا الصعيد. لقد أخذ الاقتصاد الروسي في عهده ينمو بوتائر عالية قاربت السبعة في المائة، وصارت روسيا تملك ثاني أكبر احتياطي للعملات الصعبة في العالم بعد الصين. وبالتوازي مع تمتين الوحدة الداخلية لروسيا، ومع إنعاش الاقتصاد الروسي، لجأ بوتين إلى تحديث القوات المسلحة ليكتمل بذلك ثالوث القوة الروسية الأساس المتين لعودة روسيا كقطب في السياسة الدولية، ولم يبقى سوى انتهاز الفرصة المواتية للتعبير عن ذلك فكانت الأزمة السورية. لم تنشغل روسيا كثيرا بثورات " الربيع العربي" طالما كانت لا تزال تجري في بلدان عربية محسوبة بالأساس على الدول الغربية، ورغم معارضتها للتدخل العسكري في ليبيا، لكنها مع ذلك وافقت على قرار مجلس الأمن الذي أجاز ذلك. لكن ما إن تحرك الشعب السوري ضد نظامه مطالباً بالحرية والديمقراطية حتى وقفت روسيا بقوة إلى جانب النظام، و قدمت له الدعم السياسي والعسكري، وأمنت له الحماية ضد تدخلات الدول الغربية لإسقاطه عسكرياً. إن خصوصية الأزمة السورية الناجمة من حيث الأساس عن موقع سورية الجيواستراتيجي، وما ينجم عنه من تأثير على دول الجوار الأخرى، وكذلك العلاقة التاريخية بين روسيا وسورية، وبين إيران وسورية حليفتي روسيا، سمحت لروسيا أن تلعب دورا قطبيا في السياسة الدولية من جديد، بمساعدة كل من الصين ومجموعة دول البريكس الأخرى. اليوم لا أحد يستطيع تجاهل دور روسيا في السياسة الدولية، وإذا كان تفجر الأحداث في أوكرانيا بدفع وتحريض من الدول الغربية سوف يشكل ضغطاً جديدا على روسيا، إلا أنه من جانب آخر سوف يشكل امتحاناً جديداً لقطبية روسيا، وسوف تنجح فيه بلا أدنى شك. أوكرانيا بالنسبة لروسيا أهم بكثير من سورية، فهي تعدها جزءا من بيتها الداخلي، ومن مجالها الحيوي الاستراتيجي، لما لها من تأثير على أمنها وعلى مصالحها، لذلك لن تتخلى عنها أبدا حتى ولو تدخلت عسكريا فيها، وهي تمتلك فيها عناصر قوة لا تمتلكها في سورية. لا شك بأن الأزمة الأوكرانية سوف تزيح مؤقتا الأزمة السورية من واجهة المشهد السياسي الدولي مؤقتاً، لكنها مع ذلك لن تضعف من التشدد الروسي تجاه الحلول المطروحة لها في مؤتمر جنيف2. فسورية التي شكلت أزمتها بداية عودة القطبية الروسية إلى المسرح الدولي، لن تتخلى عنها روسيا ببساطة، تحت ضغط الأحداث المرتبطة بتفجر الأزمة الأوكرانية، بل على الأرجح سوف تزيدها تشدداً.
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشروع دستور للجمهورة العربية السورية
-
اعادة احياء البنى الأهلية في سورية
-
تفكيك النظام السوري
-
مركزية الرئيس في النظام السياسي السوري
-
مشروع دستور مقترح
-
السياسة عندما يرسمها الأمنيون
-
مؤتمر جنيف2 وأراء الناس به
-
المعلن والمستور في الخطاب الدبلوماسي الأمريكي
-
جهل مركب أم حملة إعلامية ظالمة
-
الواقعية السياسية تنتصر أخيراً
-
أوهام تعاند السقوط
-
مؤتمر جنيف2 وسقوط الأوهام
-
حظوظ مؤتمر جنيف2 بين النجاح والفشل
-
ويبقى للتاريخ قول....
-
أسئلة مشروعة
-
بانوراما الثورة
-
مذكرة تنفيذية لرؤية هيئة التنسيق الوطنية للحل السياسي التفاو
...
-
مثقفون وسياسيون رعاع
-
عفوا مانديلا نحن غير
-
للامنطق في - منطق الثورة والمعارضة-
المزيد.....
-
إليسا تشيد بحملة هيفاء وهبي ونور عريضة في مواجهة التحرش الإل
...
-
ماذا قال أحمد الشرع في أول خطاب له كرئيس لسوريا؟
-
حماس تؤكد مقتل القائد العسكري محمد الضيف، فماذا نعرف عنه؟
-
عاصفة قوية تضرب البرتغال وسيول من رغوة بيضاء حملتها الفيضانا
...
-
ما دور الهلال الأحمر المصري في دعم غزة؟
-
أمير دولة قطر في دمشق للقاء الشرع وبحث التعاون بين البلدين
-
تدريبات قوات الحرس الوطني الخاصة
-
مصر.. وزارة الطيران المدني توضح سبب تصاعد الدخان في صالة الس
...
-
العراق يؤكد دعم مصر ويرفض مخطط تهجير الفلسطينيين
-
ترمب: نتواصل مع موسكو حول كارثة الطائرة
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|