رام الله – فلسطين المحتلة
الأيديولوجية قناع يخفي الحقيقة أو يموهها. أو أن هذا ما تعودنا قوله لمعالجة الظواهر التاريخية الملغزة. ويتميز هذا العصر الجديد بتعمية كبيرة لم تتحقق من قبل. في عصور ما قبل الرأسمالية كان الاستغلال _ على الأقل بحسب وجهة نظر سمير أمين _ شفافاً. وذلك يعني أن الجهة التي تنهب كانت تمارس فعلها علناً وعلى رؤوس الأشهاد.
ولعلنا لا نستطيع أن نتظاهر بالاستغراب، ففي عالم كان فيه البشر يعتبرون العبودية نفسها أمراً طبيعياً لا يغدو هناك ضرورة لتعمية العدوان أو تغطيته بشكل أو بآخر. تلك عصور بربرية شاملة طالما قرناها بتعبير الظلام وما شابهه.
في ذلك الزمن السحيق بدا للبشر أن الاختلاف مسوغ كاف للاقتتال. فوجود من لا يشبهني في قليل أو كثير هو أم غير سائغ. ومن هذه الناحية بدت الطبيعة أكثر رحمة من نواحي عديدة. وقد تمكنت الحيوانات _ آكلة العشب على الأقل _ من أن تعيش جنباً إلى جنب في وئام وسلام. الإنسان فقط هو الذي شرع بمجرد أن انتصبت قامته في الاستيلاء على ما ينتجه غيره. ومن ناحية أخرى طفق يتخلص من الكائنات التي تبدو منافساً له على الموارد. وربما في هذا الإطار يمكن تصنيف بعض العادات الغريبة من نوع قتل البنات التي انتشرت في بعض المجتمعات البدوية والزراعية التي لم يظهر فيها أن الحاجة قائمة إلى عدد كبير من الإناث. كان لا بد من توفير اللقمة التي يمكن أن تضيع هباء بإطعامها للمرأة وخاصة أن الحاجة إلى كثرة من الأطفال منتفية.
بدخول الإنسان عصر الزراعة بدا واضحاً أن القدرة على إنتاج الخيرات المادية قد اتسعت، أي أن المجتمع يستطيع أن يترك جزءاً من أبنائه يتخصصون في أعمال غير الإنتاج، ولقد ظهر بذلك الشكل التقسيم الأول للعمل. كان واضحاً أن البشر لديهم نفس الميل الذي تحمله مختلف الكائنات الحية للسيطرة والزعامة. وبسرعة انفصل جزء من المجتمع عن القطاع الخاضع للحاجة المباشرة وبدأ يقوم بمهمات مميزة تتعلق بالدين والتنظيم والقيادة. وهو ما تم تسويغه بحجج ذات طابع ميتا فيزيقي أو باللجوء إلى القوة والإكراه الصريحين.
هذه السمات ربما أنها استمرت حتى زمن الحداثة، عندما اكتشف البشر فجأة أنهم جميعاً أحرار ومتساوون. وفي مركز الرأسمالية الحديثة ـ أوروبا ـ اتضح أن لا حاجة إلى قسر الناس على العمل أو على التخلي عن إنتاجهم بالقوة. لكن ذلك لم يتم تعميمه، وإنما اقتصر على أوروبا وحدها. ففي المستعمرات استمرت نفس الأساليب القديمة في انتزاع الفائض وتحويله إلى المراكز. ربما علينا أن نكتفي في هذه العجالة بذكر الإكراه الذي مورس بحق الصين عندما أجبرها الإنجليز على فتح أسواقها للأفيون في القرن 18. وكذلك استعادة العبودية على نطاق واسع في القرون الأخيرة لتمارس بشكل بشع بحق الأفارقة الذين تخصصت شركات حققت أرباحاً ضخمة في اصطيادهم وبيعهم إلى من يحتاجهم، خصوصاً المزارع الرأسمالي في الولايات المتحدة. خلال القرون الثلاثة التي سبقت القرن العشرين حدثت أشياء مريعة بالفعل، وفي خضمها تمت إبادة سكان القارة الأمريكية الذين تجاوزوا المائة مليون عن بكرة أبيهم. هكذا تغير وجه الكون، وما إن حل القرن العشرون حتى أطلت علينا الولايات المتحدة واضعة خلف ظهرها أيادي مغموسة في دماء الأفارقة وسكان البلد الأصليين. وبدأت التبشير في براءة واضحة بمبادئ الرئيس ولسون المشهورة بخصوص حقوق الإنسان، ومنها لسخرية الأيام حق تقرير المصير.
عاشت الولايات المتحدة الوريث الأعظم لتقاليد الرجل الأوروبي الأبيض عشرين سنة من الرياء الإنسانوي المخادع _ ما بين الحربين العالميتين_ ولكنها سرعان ما ملت ذلك الدور. وفي ح ع 2 (الحرب العالمية الثانية) كشفت وجهها للعالم الذي كان في جزئه الآسيوي غافلاً عنها، فضربت المدن اليابانية بالقنابل الذرية لأغراض غير ضرورية على أرجح التقديرات. كان تجريبها ـ أقصد القنبلة ـ هو الهدف الأساس فيما يرجح مؤرخو تلك الحقبة. وبعد الحرب لم يعد خافياً على أحد أن الإمبراطورية الأنجلوسكسونية التي لا تغيب عنها الشمس كانت مضطرة إلى التنازل عن عرشها لابنتها الصاعدة. وهذه بدورها أخذت على عاتقها فوراً مقاومة "إمبراطورية الشر" الشيوعية. وفي تلك المرحلة تم سن تشريعات عجيبة لمقاومة الخطر الأحمر مهما كانت التكلفة على الحريات باهظة_ وهذا ربما ما يمكن أن يعزي أصدقاء الديمقراطية الأمريكية الذي يظنون ما يحصل هذه الأيام بسب الحرب على القاعدة شيئاً خارقاً لقوانين الطبيعة _.
من الواضح اليوم أن وجود المعسكر السوفييتي بخيره وشره قد كبح جماح نزعة السيطرة والتوسع الأمريكية وأجبرها دوماً على التظاهر بالدفاع عن الحريات في مواجهة الشمولية الشيوعية. وفي هذا السياق أمكن تحقيق دولة الرفاه في الشمال _الغرب ودولة النمو في العالم الثالث والدولة الاشتراكية _ دولة توفير الحاجات الأساسية_ في عالم الكتلة الشرقية.
من جانبنا ظننا أن انهيار الكتلة الشرقية لن يكون أمراً خيراً على البشرية. ولكننا والحق يقال لم نتوقع العودة بهذه السرعة إلى عصر الاستعمار الصريح الذي يعلن على الملأ أن البشر عبيد لا يستطيعون الاعتراض على شيء. والحقيقة أن هذه أول مرة تتعرض فيها البشرية إلى استفراد قوة واحدة بالعالم على هذا النحو الحاسم. ونذهب إلى القول بأن توافر هذه القوة الهائلة يغري دون شك باستخدامها، خاصة بعد أن انهار القطب الآخر الذي كان يخلق التوازن الذي تسبب في انتشار كافة أنواع النفاق الأيديولوجي. اليوم بالضبط سقطت معظم _ ولا أقول كل _ الأيديولوجيات، وسفرت الرأسمالية تماماً لتعلن أنها ستمارس النهب المنظم للعالم/الجنوب كما تشتهى. وفي هذا السياق الجديد لا مكان لمن يريد الاعتراض. ولذلك فإن البعض يمكن أن يذهب إلى حد الدعوة إلى عدم مقاومة العولمة باعتبارها قدراً لا مجال لمقاومته إلا بالاستسلام له لعله يكون أقل بطشاً. وهو ما يذكر، للأسف، بالشيخ مؤنس في تل أبيب التي سالمت إلى حد أنها التعاون مع الهاجاناة، ولكنهم انقضوا عليها وشردوا سكانها. والأمثلة من التاريخ الأبيض مع الهنود الحمرـ حسب التسمية التي يفضلها الرجل الأبيض ـ لا حصر لها.
لسنا دعاة نهج عدمي يهدف إلى موت البشر أو معاناتهم المجانية التي لا تقود إلى شيء. وإذا تقرر بالفعل ونتيجة لاستقراء دقيق أن المحصلة النهائية ستكون واحدة في حال الاستسلام أو المقاومة، فإننا سنذهب إلى تأييد أنصار دعاة السلم/الاستسلام بلا تردد. ولكن إن كانت المقاومة ما تزال خياراً ممكناً قد يقود إلى إنقاذ البشرية من عبودية عصرية جائرة ومهووسة فإننا لا بد نعتقده الخيار الإنساني الوحيد.
لا بد أن علينا أن نقر الآن أكثر من أي وقت مضى بأن البشرية لم تعد تحتمل نمواً رأسمالياً يتقنع بقشرة رقيقة من الإنسانية. فالصورة أصبحت بادية الوضوح: إن الرأسمالية تسير بالعالم نحو الوحشية والعنف الذي يستدعي ردوداً وحشية ويائسة من الضحايا. لا مخرج على الأغلب إلا بكسر هذا الوضع الذي يكرس عبادة الربح كأخلص ما تكون العبادة. إنها عودة إلى البربرية ونظام العبودية الكلاسيكي ذاته، ولكن في صورة أكثر فظاعة بما لا يقاس بالنظر إلى تطور وسائل التدمير إلي درجة غير مسبوقة. على البشر اليوم أن يختاروا إما تجاوز هذا النظام مرة وإلى الأبد، وإما الفوضى والبربرية الشاملة.