أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - تاريخ الرأسمال















المزيد.....


تاريخ الرأسمال


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 4378 - 2014 / 2 / 27 - 12:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الرأسمال
(1)
الرأسمال. الرأسمالى. الرأسمالية. ثلاث كلمات، هى فى الواقع ثلاثة مصطلحات، يتم ترديدها بشكل يومى منذ 500 عام، فى أرجاء العالم المعاصر بأسره. لكن ذلك لا يعنى أبداً أن هذه الكلمات، تحديداً الرأسمال والرأسمالى، لم تظهر فى سماء العالم القديم أو العالم الوسيط. فلنتعرف الأن على مفهوم هذه الكلمات وتاريخها. فقط يتعين أن يكون لدينا الوعى، من البداية، أن مصطلح "الرأسمالية" هو من ابتكار الألمانى ويرنر سومبارت ( 1863-1941) فى القرن العشرين كرد فعل لتبلور مصطلح الإشتراكية(1). هو إذاً مصطلح حديث، وسياسى فى المقام الأول(2). ومعنى ذلك أيضاً أن تبلور هذا الاصطلاح جاء بالضرورة تالٍ تاريخياً لتبلور الاصطلاح الذى اشتق منه، وهو اصطلاح الرأسمال.
ولقد استخدم مصطلح الرأسمالية كل من لوي بلان(1811-1882) وجوزيف برودون(1809-1865) قبل سومبارت، ولكن من قبيل التوصيف العابر لمَن يستأثرون بالأموال الطائلة أو "يمتلكون الأرض".
أما ماركس فقد استخدم الكلمة أيضاً، لكنها ظهرت خافتة كمصطلح فى كتاب رأس المال(3) إذ لم يعره ماركس الاهتمام، ولم يستعمله كاصطلاح مستقل له دلالة معينة، وكان يستخدم عادة اصطلاح"نمط الإنتاج الرأسمالى" أو "عملية الإنتاج الرأسمالية". للتعبير عن العملية الإنتاجية التى ترتكز، لا على العمل العبودى أو الأرض، وإنما ترتكز على الرأسمال.
ولا نجد أيضاً لدى الكلاسيك(1623-1840) كتيار فكرى مركزى فى الاقتصاد السياسى، ذكراً للمصطلح؛ فهو بوجه عام غير موجود عند آدم سميث، أو ديفيد ريكاردو، أو غيرهما من كبار مفكرى الاقتصاد السياسى الكلاسيكى، إذ كان جُل انشغال هؤلاء منصباً على تحليل نظام تهيمن عليه ظاهرة الرأسمال، ليس كظاهرة طارئة، إنما كظاهرة فرضت هيمنتها. ومن ثم كان همهم تحليل الرأسمال نفسه كظاهرة تدور فى فلكها جُل ظواهر المجتمع الجديد. دون أن يكون فى أذهانهم رأسمالية المجتمع. لأن الروابط الاجتماعية لم تكن تحللت، والعلاقات الشخصية لم تكن تهاوت كليةً بعد.
(2)
فلنذهب إذاً إلى المعاجم والقواميس بحثاً عن معنى كلمة الرأسمال CAPITALوسنجد أن الكلمة، فى اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية، على الأقل، إنما تعنى: عاصمة، تاج العمود، حرف كبير، فائق، فاخر، عظيم، رئيسى، أساسى، رأسمال، وأصلها اللاتينى CAPUT أى رأس(5). ونلاحظ أنَ كل هذه المعانى التى تحملها المفردات المذكورة ذات دلالة واضحة على مقدار من الأهمية والمركزية والعلو المادى والمعنوى.
وتخلو القواميس العربية الكبرى، مثل: المحيط فى اللغة(6)، ومجمع البحرين(7)، ولسان العرب(8)، والقاموس المحيط(9)، وتاج العروس(10)، من أى إيضاح لغوى للرأسمال إلا عبارة: "ورأس المال أصله". على الرغم من معرفة اللسان العربى، كما سنرى، لهذه التركيبة اللغوية (رأس/مال) على الأقل منذ القرن السابع الميلادى.
(3)
ونجد عند برودل (1902- 1985) بحثاً أصيلاً يتعقب من خلاله تطور كلمة الرأسمال منذ العام 1211، ويرصد ظهور الكلمة على فترات تاريخية متقطعة، بصفة خاصة فى إيطاليا وألمانيا وفرنسا، عبر القرون الممتدة من القرن الثانى عشر حتى القرن السابع عشر، ونجد، وفقاً لهذا البحث، أن الكلمة كان لها استخدام عام يدل على الثروة المكنّزة، أو مبلغ من المال، أو مقدار دين، أو سلفة، أو أصول تجارة(11).
وأظن أن الأمر على هذا النحو إنما يعنى أن مستوى ظهور الكلمة حتى هذه الفترة التاريخية هو مستوى حقل التداول. إذ لا يوجد على صعيد المصطلح، حتى هذه المرحلة التاريخية، أى ارتباط ما بين كلمة الرأسمال وأى مفرد من مفردات تخص العملية الإنتاجية.
ويتعين أن ننتظر مجىء الكلاسيك حتى ينتقل مستوى ظهور الكلمة من مستوى حقل التداول إلى مستوى حقل الإنتاج؛ فقد أخذت الكلمة فى التبلور على يد مفكرى الاقتصاد السياسى الكلاسيكى، مثل جيمس ميل(1773-1836) الذى رأى أن الرأسمال سلعة معدة لإنتاج سلعة، أى أن الكلمة قد أخذت فى الابتعاد عن كونها مجرد تعبير عن مبلغ من النقود فحسب، إلى اعتبارها تعبيراً عن عملية إنتاجية كاملة تعنى إنتاج السلع بالسلع.
أما سيسموندى(1773-1842)، فقد رأى أن الرأسمال هو"قيمة تُضاعِف نفسها باستمرار بالإنتاج". وهكذا نقترب من الصياغة النهائية التى سوف يعلنها ماركس للكلمة على أساس من أن الرأسمال ليس مبلغاً من المال، إنما هو علاقة اجتماعية من جهة، ووسيلة إنتاج من جهة أخرى. والواقع أن ماركس، على هذا النحو، لم يبتكر فى الأمر شيئاً؛ إلا اعادة التصنيف، فقد تلقف من الاقتصاد السياسى الكلاسيكى المعنى الجديد، والنهائى، للرأسمال.
(4)
ويمكننا القول ان التطور الذى لحق استخدام كلمة "الرأسمال" لغةً واصطلاحاً فى أوروبا، وانتقال مستوى ظهور الكلمة من مستوى حقل التداول إلى مستوى حقل الإنتاج، قد جاء نتيجة عدة عوامل تضافرت على صعيد الواقع، منها تبلور الصناعة الحديثة وهيمنتها، وسيادة الإنتاج المتزايد من خلال الألة من أجل السوق، ومن ثم الاستهداف الدائم للربح، وتأزم الصراع الطبقى فى حقل اقتسام الناتج الاجتماعى بين كبار ملاك الأراضى (الريع) والرأسماليين (الربح) والعمال (الأجر) كصراع بين طبقات اجتماعية متناقضة فى حقل التوزيع.
وعلى صعيد الفكر صار الانشغال الرئيسى متركزاً فى حقل الإنتاج المادى للسلع، فى محاولة تقديم إجابات عن سؤالين محددين بدقة: السؤال الأول: كيف تزيد ثروات الأمم؟ وهو سؤال يتعلق بالإنتاج، وليس التداول. والسؤال الثانى: ما هى القوانين الموضوعية التى تحكم اقتسام هذه الثروات بين أعضاء المجتمع المنتِج لها؟ وهو سؤال منشغل بحقل التوزيع.
وفى المرحلة التى شهدت شروع ظاهرة الرأسمال فى فرض هيمنتها، بوجه خاص فى قطاع الصناعة الآخذة فى النمو، سنجد ثمة إعادة صوغ لمفهوم الرأسمال، فلم يعد الرأسمال يعطى معنى الغنى أو الثراء أو الثروة المكتنزة فى أقبية القصور، وإنما أصبح يُنظر إليه ابتداءً من دائرة الإنتاج، فروبرت ترجو (1727-1781)، وهو من كبار الفيزيوقراط، يعرّف الرأسمال بأنه"قيم متراكمة" (12).
أما روبرت مالتس(1766-1834)، وهو من الكلاسيك، يعرّفه بأنه رصيد الأمة الموظف فى الإنتاج وتوزيع الثروة.(13)، أو هو: ثروة متراكمة تجنى الأرباح بالإنتاج. كما أن جون ستيورات ميل (1806-1873) رأى أن الرأسمال هو المخزون المتراكم من إنتاج العمل(14).
ويحرز ج. ب. ساى (1767-1832)، فى إطار التصور العام للكلاسيك، تقدماً حينما يعتبر أن الرأسمال، المنتِج، يتضمن الأدوات والألات والمواد الخام ووسائل معيشة المنتِج، بالإضافة إلى النقود نفسها(15).
وعليه، يصبح من المستقر، فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، اعتبار كلمة الرأسمال، كاصطلاح، تعبير عن الثروة الموظفة فى الإنتاج من أجل الربح أو العائد. وهو معنى تم بناءه على اصطلاحات أخرى صارت مستقرة مثل العائد والإنتاج والقيمة. وبصفة خاصة "القيمة".
أى أن المعنى الذى سوف يعطيه الاقتصاد السياسى الكلاسيكى، الذى يتمفصل حول القيمة، كما سنرى فى ما بعد، هو المعنى الذى سوف تعتمده اللغة الإنجليزية وكذلك الفرنسية، ومن ثم سائر اللغات الأوروبية بوجه خاص(16).
ولذلك نجد فى موسوعة كولومبيا:"فى الاقتصاد السياسى الكلاسيكى يعد الرأسمال العنصر الثالث من عناصر الإنتاج إلى جوار العمل والأرض..."(17). ولكن فات الموسوعة الشهيرة أن توضح، لأن هذا مهم، أن اعتبار الرأسمال عنصراً من عناصر الإنتاج إنما جاء بعد جهود كبيرة من قبل مفكرى الاقتصاد السياسى الكلاسيكى بشأن"العمل المنتِج" و"الثروة". فالاقتصاد السياسى يُعرف العمل المنتِج بأنه:"العمل الذى يُنتج الثروة"، ومن ثم يعد العمل غير المنتِج للثروة عملاً غير منتِج على الإطلاق. وتجد الثروة مصدرها، فى التصورات الأولى لرواد الاقتصاد السياسى، مثل وليم بتى (1623-1687) وريتشارد كانتيون (1680- 1743) فى أمرين، أولهما: الأرض"كمصدر لجميع الثروات"، وثانيهما: العمل، الذى"يُنتج هذه الثروة". أو وفقاً لعبارة وليم بتى الشهيرة:"العمل أبو الثروة والأرض أمها". ويصبح من الضرورى أن ننتظر مئة عام تقريباً كى يتم اعتبار الرأسمال مصدراً ثالثاً للثروة على يد مالتس، إذ اعتنق مالتس التصور الكلاسيكى الذى رأى أن الثروة تجد مصدرها فى الأرض والعمل، كمصدرين رئيسيين، لكنه أضاف عنصر الرأسمال، على أساس أن العمل والأرض فى حاجة إلى الرأسمال، لأنه، كما يقول:"ضرورى من أجل إنتاج الثروة، فيمكن من ثم اعتبار الرأسمال مصدراً ثالثاً للثروة"(18).
(5)
وإذ نقبنا فى العالم الوسيط، ورجعنا إلى ما قبل العام 1211 الذى انتهى إليه برودل، فسنجد أن اللسان العربى، فى القرن السابع الميلادى، يعرف كلمة الرأسمال، وكمصطلح، قبل أوروبا، التى كانت حقل بحث برودل بمئات السنين، إذ فى الآية رقم 279 من سورة البقرة، نجد ذكراً صريحاً للكلمة فى صيغة الجمع؛ إذ نصت الآية على:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلِمون ولا تظلَمون". والمؤكد أن الرأسمال المذكور فى الآية، والذى سوف نقابله فى شبه الجزيرة العربية بوجه عام فى التاريخ الوسيط بعيد إلى حد كبير عن المعنى الاصطلاحى الذى تبلور فى أوروبا بعد ذلك على نحو ما أوضحنا أعلاه، أى الرأسمال الصناعى. ولن نصادف سوى نوعين فقط من الرأسمال، الرأسمال التجارى(19)، والرأسمال المالى الذى يرتكز على صرف النقود، أو إقراضها بفائدة. والأخيرة من الأمور المنهى عنها فى الذهنية المسلمة. ولذا كان لليهود الدور الجوهرى فى تطور هذا النوع من الرأسمال، ليس فى شبه الجزيرة فقط، وإنما فى أوروبا أيضاً، ثم الولايات المتحدة الأمريكية فى النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، بفرض سيطرتهم الكاملة على المؤسسات والأسواق المالية والنقدية على الصعيد العالمى.
فلنرجع إلى الآية، ونلاحظ فى البداية أن القرأن ذكر فى هذه الآية (رءوس أموالكم) ولم يذكر (أموالكم) أو (نقودكم) ونظن أن السبب فى اكتساب النقود صفة الرأسمال فى سياق الآية هو أن هذه النقود كانت مقرضة، بوجه عام، على سبيل التشغيل والإنتاج وليس الاستهلاك، وقد ذكر الرازى أربع روايات فى أسباب نزول هذه الآية(20)، الرواية الأولى: أنها نزلت فى أربعة أخوة من ثقيف، كانوا يداينون بنى المغيرة، والرواية الثانية، انها خطاب لأهل مكة وهو مجتمع بطبعه متاجر، والرواية الثالثة انها نزلت فى العباس وخالد بن الوليد، وكانا يسلفان فى الربا، والرابعة انها نزلت فى العباس وعثمان. وعند الواحدى ربما يتأكد تصورنا بشأن سبب استخدام كلمة الرأسمال وليس كلمة المال أو كلمة النقود فى الآية. لأن الأموال كانت مسلفة بغرض الاستثمار وليس الاستهلاك. كتب الواحدى:"قال عطاء وعكرمة: نزلت فى العباس وعثمان بن عفان، وكانا قد أسلفا فى التمر فلما حضر الجداد (أى وقت جنى الثمار) قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لى ما يكفى عيالى إذا أنتما أخذتما حظكما كله فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الأية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما"(21). فى هذه الرواية اكتسبت النقود صفة الرأسمال لأنها مقرضة على سبيل الاستخدام فى الإنتاج الزراعى على ما يبدو، فالمقترض هنا إنما اقترض كى يزرع التمر، بالضرورة كى يبيعه، وهو يطلب امهاله فى سداد الدين، ربما لأن آفة لحقت زراعته هذا العام أو أى سبب آخر أقعده عن السداد، ولكنه يعقد صفقة جديدة ابتداءً من ذلك؛ إذ طلب امهاله فى سداد الدين المستحق عليه، فى مقابل أن يدفع ضعف ما عليه من هذا الدين فى الموسم التالى للزراعة.
وحينما ننتقل إلى كتب التفاسير، المعتمدة من لدن المؤسسة الرسمية، بشأن الأية المذكورة، لا نصادف فى الحقيقة تفسيراً مريحاً، وبالكاد نلمح دلالة على أن الرأسمال هو(أصل المبلغ من غير زيادة) أو (أصل النقود بدون فوائد)، وهو فى الآية المذكورة بمعنى أصل المبلغ (المقرَض).
قال الطبرى، من علماء القرن التاسع: "القول في تأويل قوله تعالى (وإِن تبتم فلكم رءوس أموالكم) "إن تبتم" فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل،"فلكم رءوس أموالكم"، من الديون التى لكم على الناس، دون الزيادة التى أحدثتموها على ذلك رباً منكم، وعن قتادة في قوله:"وإِن تبتم فلكم رءوس أموالكم" ما كان لهم من دين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادُوا عليه شيئًا"(22).
وكتب القرطبي، فى القرن الثالث عشر:"روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى حجة الوداع: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون... فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: لا تظلمون في أخذ الربا، ولا تظلمون فى أن يتمسك بشىء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون ولا تظلمون في مطل؛ لأن مطل الغنى ظلم"(23).
وفى القرن الرابع عشر، كتب ابن كثير:"وإِن تبتم فلكم رءوس أموالكم لَا تظلمون". أي: بأخذ الزيادة وَلَا تُظْلَمُونَ أي: بوضع رؤوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه" (24).
أما الفقه فقد اعتمد رسمياً كلمة "الرأسمال" ضمن مفرداته الفنية، فنراها عند الشيرازى(1003-1083)(25)، وابن رشد(1126-1198)(26)، وابن قدامة(1146-1223)(27)، والبهوتى(1591-1641)(28)، فى شرحهم على الأقل لأحكام القروض أو الشركات. وابن خلدون، حين يناقش حرفة التجارة.(29)
وذكر أبو منصور الثعالبى(961- 1038):"حدثنى أبو القاسم الطهان الفقيه قال لما رجع أبو الفضل المحمى من الحج اتخذ دعوة دعا إليها اعيان نيسابور ووجوهها وفيهم أبو زكريا الحربى وأبو الحسين بن لسيان الفارسى رأس التجار وأديبها وفقيهها فأفضت بهم الأحاديث إلى أن أفاض ابن لسيان فى مدح التجارة وفضل واطنب فى مدحهم ثم قال من جلالتهم: ان لهم أمثالاً مستعملة بين السادة والكبراء كقولهم: الصرف لا يحتمل الظرف، ورأس المال أحد الرابحين، ...." (30).
(5)
وإذ ما نقبنا فى العالم القديم، فسنجد أن تقنين أشنونا، فى القرن الثامن عشر قبل المسيح، ذكر صراحة كلمة الرأسمال. وسوف نناقش مواد هذا التقنين لاحقاً.
(6)
حتى الأن كنا نبحث فى"الرأسمال". أما كلمة "رأسمالى" فهى تاريخياً، فى الرأى الغالب، ترجع إلى منتصف القرن السابع عشر حينما استخدمت لأول مرة فى صحيفة hollandsche mercurius الهولندية فى العام 1633، ومرة ثانية فى العام 1654. وفى العام 1699 جاء فى مذكرة فرنسية تناولت بالحديث ضريبة جديدة فرضها مجلس الطبقات فى الأقاليم الهولندية المتحدة، أن: "الرأسماليين مُيزوا عن غيرهم، فهم مطالبون بدفع ثلاثة فلورينات، بينما يدفع الآخرون ثلاثين سولاً فقط". كما أن جان جاك روسو استخدمها فى العام 1759 عندما كتب إلى صديق له يقول:"فلا أنا سيد من كبار السادة، ولا أنا رأسمالى، إنما أنا شخص فقير، وإنسان راض بحالى" (31)
كانت كلمة "رأسمالى" إذاً معروفة منذ زمن طويل ولكنها دائماً ما كانت ملتصقة بمفهوم المال والثروة والغنى، إذ نجدها تعنى أصحاب الثراء الواسع، أو أصحاب الثروات المالية، أو أصحاب السندات العامة. ولا شك فى أن اصطلاح الرأسمالى الأن صار يأخذ معنى مختلف نتيجة تطور اصطلاح الرأسمال نفسه، فلم يعد الرأسمالى إذاً ذلك الرجل الذى يكتنز الثروة، إنما أصبح ذلك الذى يُنتجها.
وحينما يذكر الرأسمال الآن فإنما ينصرف المفهوم مباشرة إلى الرأسمال الصناعى، وليس الرأسمال التجارى أو الرأسمال المالى. فلقد صارت كلمة الرأسمال، أو CAPITAL، تعبيراً عن الرأسمال الصناعى بوجه خاص. أى الرأسمال الذى يستخدم مواد العمل وأدوات العمل وقوة العمل فى سبيل إنتاج السلع من أجل السوق. ويتعين عند ذكر الرأسمال التجارى أو الرأسمالى المالى أن يتم ذكر كلمتى التجارى أو المالى كى يتم تمييزهما عن الرأسمال.
(7)
بعد أن بحثنا فى التاريخ، وحددنا المفاهيم إلى حد ما، وعرفنا أن الرأسمالية مصطلح مضاد للإشتراكية، وأن الرأسمال لم يعد مبلغاً من النقود، إنما صار يعنى علاقة اجتماعية تنتمى إلى حقل وسائل الإنتاج، وأن الرأسمالى هو ذلك الشخص الذى يُنتج الثروة بالثروة. أو السلع بالسلع. فإنه يمكننا الآن فهم، ولو أولى، لمَ أطلقنا على الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر حتى الأن اسم الرأسمالية.
فالواقع أن الرأسمال فى أبسط صوره، وربما أعقدها فى نفس الوقت، هو نقود. هذه النقود تتحول إلى أدوات عمل، ومواد عمل، وقوة عمل، من أجل إنتاج السلعة. فإذا كان هذا الإنتاج بغرض الاشباع المباشر للحاجات لم نكن أمام رأسمال ولا سلعة. إنما نقود فحسب، ومنتَج.
ولكى يصبح هذا المنتَج سلعة، يجب أن يكون قد أعد أساساً للتبادل خلال السوق. بمعنى أدق لكى يعتبر المنتَج سلعة يتعين أن يكون الإنتاج قد تم بالأساس من أجل البيع فى السوق، وليس للإشباع المباشر للمنتِج. وبنفس الطريقة كى نعتبر النقود رأسمالاً يتعين أن يكون شراء وسائل الإنتاج (أدوات العمل ومواد العمل) وقوة العمل، تم من أجل إنتاج سلع تُباع فى السوق. وإلا صرنا أمام عملية بيع وشراء بسيطة وعادية.
والنقود كانت تستخدم ابتداء من القرون الأخيرة من العالم القديم ومنذ بدايات العالم الوسيط، فى جُل عمليات التبادل والتجارة، ويمكن أن نرى بوضوح قيامها، وعلى أكمل وجه، بتأدية وظائفها كمخزن وكمعيار للقيمة، ووسيط فى التبادل، على الأقل ابتداء من القرون الأولى بعد الميلاد، وكان الهدف الأول والوحيد من وراء استخدامها عند مَن يملكوها من الأغنياء والنُخب بوجه عام هو زيادتها المستمرة (التركيم)، كما يفعل صديقنا الرأسمالى فى عالمنا المعاصر. ولكننا لا نطلق على الأحقاب التاريخية السابقة على الرأسمالية إلا اسمائها التى عبرت عن الظاهرة الأكثر هيمنة، فأطلقنا على الحقبة العبودية هذا الاسم، لأن الظاهرة التى سادت المجتمعات آنذاك، كما فى اليونان القديمة على سبيل المثال، كانت ظاهرة الرق، وكان من الملاحظ بجلاء أن تطور المجتمع نفسه يتم من خلال عمل العبيد فى السلم والحرب(32). وأطلقنا على الحقبة الاقطاعية هذا الاسم لأن الظاهرة التى سادت المجتمعات آنذاك، فى العالم الوسيط، هى الزراعة والملكيات الزراعية الكبيرة . الأمر الذى يعنى أن اطلاق الرأسمالية كمصطلح على عالمنا المعاصر إنما يعنى هيمنة الرأسمال كظاهرة. ولا يعنى هذا أن هذه الظاهرة فريدة تاريخياً، أو غير مسبوقة، إنما يعنى انها ظاهرة صارت مهيمنة. إذ لا توجد، ولن توجد، حقبة تاريخية خالصة، فكما عرفت المجتمعات العبودية الاقطاع، بل وعلاقات الإنتاج المشاعية أيضاً، جنباً إلى جنب، فقد عرفت المجتمعات الاقطاعية العبودية، وبالتبع ظلت الرأسمالية حقبة طويلة جداً بجانب الاقطاع واستعباد البشر(33)، ولم تزل أجزاء من العالم المعاصر تحكمها علاقات الإنتاج المشاعية. والظاهرة التى تهيمن على عالمنا اليوم هى ظاهرة الرأسمال، كعلاقة اجتماعية تنتمى إلى حقل وسائل الإنتاج.
نحن إذاً لم نطلق على المجتمعات السابقة اسم الرأسمالية على الرغم من اشتراكها معنا فى الكثير من السمات والخصائص التى جعلتنا نطلق على عالمنا المعاصر العالم الرأسمالى، لا لخلو المجتمعات السابقة هذه من قانون حركة الرأسمال، لأنه كان موجوداً بالفعل، إنما لعدم هيمنة هذا القانون على مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية اليومية. إذ الهيمنة كانت لمظاهر اجتماعية أخرى أشد ظهوراً وأكثر أهمية. وحينما يهيمن هذا القانون، الموضوعى. قانون حركة الرأسمال، يكون من المتعين تاريخياً أن نسمى عالمنا المعاصر العالم الرأسمالى، أى هو العالم الذى يحكمه ويهيمن عليه قانون حركة الرأسمال.
(8)
فلنفترض أن رأسمالاً (مواد عمل+ أدوات عمل+ قوة عمل) مكون من 10 وحدات، در ربحاً مقداره 3 وحدات. الأهمية هنا، اجتماعياً، ليست منعقدة للـ 3 وحدات، إنما للـ 10 وحدات. فالمجتمع هنا يدرك أن الـ 10 وحدات هذه يدور فى فلكها المجتمع بأسره. ولذلك يصبح مفهوماً لماذا اتخذت النقود الموظفة فى حقل الإنتاج كلمة CAPITAL للتعبير عنها، حيث تعنى(فائق، فاخر، عظيم، رئيسى، أساسى).
فى مجتمعات سابقة على الرأسمالية، وعلى الرغم من وجود نفس الـ 10 وحدات، والـ 3 وحدات، إلا أن المجتمع كان محكوماً بظواهر اجتماعية واقتصادية أكثر حسماً وبروزاً وأهمية. الرق مثلاً فى آثينا. أو الأرض فى أوروبا الاقطاعية، ثم هذه الـ 10 وحدات فى الرأسمالية.





#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كل شىء متوقف على كل شىء
- السلفيون ووهم تطبيق الشريعة
- المنهج والتجريد والعلم والاقتصاد السياسى
- بعد أن تحول العالم والكاهن إلى شغيلة فى عداد المأجورين
- اقتصاد سياسى بلا ماركس. هكذا يعدمون عقولنا
- المختصر فى تاريخ بلاد فارس - الجزء الثانى
- المختصر فى تاريخ بلاد فارس
- لينين: الرأسمال المالي والطغمة المالية
- نمط إنتاج آسيوى؟
- رأسمالية الذهب والدم
- فى التجريد
- فى المنهج
- تحالف الأضداد. فنزويلا نموذجاً
- الاقتصاد الإيرانى
- الفكر الاقتصادى من التجاريين حتى النيوكلاسيك
- المختصر فى تاريخ السودان
- الاقتصاد السودانى
- إيران: تقاطع الجغرافية والتاريخ والاقتصاد
- المختصر فى تاريخ الشيعة الفرس القديم والمعاصر
- التجريد كمنهج فى التفكير


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - تاريخ الرأسمال