|
لحن الغياب (قصة قصيرة)
سوزان التميمي
الحوار المتمدن-العدد: 4375 - 2014 / 2 / 24 - 09:59
المحور:
الادب والفن
دع شوقي إليكَ يأخذني لمجاهل عشقٍ أودعتها تراب النسيان من زمنِ.. اتركني كي أراك.. وارحل عني كي أستشعر وجودك.. كن موعدًا لا يحين ونداءًا لا يُسمع. أتمت كلماتها لتفيق على صوتٍٍ على الهاتف يصرخ.. توووت.. توووت.. تووووووت. فأدركت أنها كانت تحادث نفسها، وحتى هذا القرارَ المؤلم الذي أخذته بصعوبة لا تتناسب أبدًا مع سهولة لقائهما ومقدار تقاربهما في وقتٍ يعد وجيزًا بمعدلات الذكريات المشتركة التي قد تجمع بين اثنين وتضمهما بجناحي المحبة والتفاهم لم يسمعه منها، لكنه كان يريده، وكأنها كانت ذلك العبء الذي وضعه هو بنفسه على كاهل ذكرياته أملاً في النسيان.. أتراه بالفعل أراد أن ينسى.. ؟! أم أنها كانت له بمثابة مُسكن لصداع مشاعره المُزمن والذي ابتلعه لتبرئة ذمته أمام مُحاكمات قلبه. ألم يفكر كم ستتألم لو تركها.. ؟ غريب كان اللقاء، وسريعًا كان الفراق .. ارتجفت وهي تضع سماعة الهاتف لكنها لم تبكِ، بل ابتسمت بكل مرارات مرّت في العمر.. فما يضير الشاة سلخها بعد الذبح.. واتسعت ابتسامتها حين تذكرت كلماتٍ خطها على أوراقها فكتب" أحيانًا نقابل أشخاصًا نتمنى ألا نفارقهم أبدًا".. وتركها بعدها لتلتحف الذكرى وحدها. منذ اللحظة الأولي أدركت أنها لم تقابله، بل قابلت من يحمل اسمه ويشبهه.. يشتهي فيها السلوى دون أن يدري أن عمرها تسرب في تلك اللحظة من بين أصابعه، ومن لمسته الأولى حطم سدّ الحنان في أوردتها وجعل من كل حواسها روافده.. دون أن يعلم وجهته على طريقها. فارقته حين أدركت أن آدم لن يكون إلا لحوائه وإلا سيُقسِّم نفسهُ على كل من تلتقطها عيناه عوضًا عنها، لكنها كانت وحدها السُلوان.. قد يجتاحها.. أو يحتاجها لكنه أبدًا لن يسكنها. على جبال توبته استغفرت فيه عن كل خطاياها في حق إنسانيتها التي تناستها لأعوام، ووضعته على طريق قلبها المقطوع.. الغير ممهدٍ للعابرين، كانت مشاعرها معه كفهدٍ مضطرب، استيقظ بلا مبررٍ من غفوته ليجد من أيقظه قد فرّ هاربًا منه.. وحتى لم يعتذر عن إيقاظه – خطأً كان أو عمدًا- لكنه حتى لم يحاول الاعتذار. حين قابلها كانت في حفل صاخب، تجلس على طاولتها بمفردها رغم أنها لا يوجد في المكان من لا يعرفها، لكنها كانت وحيدة، خجلى، انتزع عنها الجميع أحرفها التي تسترها فالتجأت الصمت ملاذًا كي يعصمها من أصواتهم، لكنه وحده اقتحمها بنظرة دافئة واهتمامٍ مفتعل محاولاً إبداء شغفه بكلماتٍ ستنطقها، بنظراتٍ ستوليه إياها.. التقيا.. تقاربا.. تناقشا.. فواجهها بما خافت وتمنت، صرح لها بإعجابه بها، وأوضح لها كم اختلفت عن أخرياتٍ قابلهن وتقرّب منهن.. استمعت لأفراحه وبكت معه لأتراحه.. توسدت صدره وراحت في نومٍ لم تنم مثله طيلة حياتها، وكأنها "جايا" التي ما لبثت و أن وجدت ضالتها في ذلك ال... "أورانوس" وأن أول أطفالهما ستكون... "أفروديت".. التي تمنتها، سبقت معه الوقت وسرقها من جغرافيا الكون ليبدءا معًا كونًا جديد بلا أمنيات فكل الأحلام كانت قيد المنال، كل المُحال كان ممكنًا.. إلاه.. اعتدلت.. وقامت من جلستها بعد مكالمته، لتجد نفسها في مواجهة المرآة، تتحسس ملامحها وتتأكد أنها مازالت هنا، يفاجئها اسمه مباغتًا.. يخرج متقطعًا من بين شفتيها، ألأنه يبدأ بأه ألمها و ينتهى بدالة الديمومة على وجوده.. أعلن غيابه عن قربه، تجاوزت كل لافتات الخطر في مسارها إليه.. لتتنبه أنه ليس اسمًا نطقته.. ليس حروفًا.. بل معابر جبلية لسهولها النائية. أخذت خلال ساعاتٍ تحاول التشاغل عنه.. عن وجوده الخفي في الذاكرة، حاولت انتزاع بصماتمه الليلية من لياليها القادمة.. وكأنه لم يكن ولن يعد، وما ذاقته من شوقٍ له وهو بين ذراعيها.. كطفلٍ خائفٍ.. متردد.. كان حلمًا.. لم يكن.. لكنه كان. وانهمكت بعدها لأيامٍ في بروفات حفلتها التالية.. وبالرغم من وجوده معها لكنها تشاغلت به عنه، امتزج في أيامها خياله مع كل ما تقع عينيها عليه.. وسمعت صوته في كل مقطوعة.. فقررت أن تقتله لتنتهي منه، ولكن بعد الحفل.. بذلت كل قواها في استجماع قدراتها على الصمود كي لا يراه الحاضرون في ألحانها.. كي لا يعبث بأوتار "التشيللو" ليلمس أصابعها أثناء عزفها، فقد كان دومًا ما يفعلها أثناء البروفات، قبل الحفل بساعة جلست أمام المرآة تُسمع نفسها أنشودة غيابه كي تصدق أنه بالفعل ليس موجودًا.. وإذا بطرقاتٍ متقطعة على باب غرفتها.. تنهدت في مللٍ لمن يقطع عليها حفظها للحن الغياب.. - ادخل وإذا بها تلمح في مرآتها عيونه البنية، طابع الحسن في وجهه، سمرة الشمس في جبينه، هو.. نعم إنه هو.. تحركت ببطئ في مكانها وظلت عينيها محدقتان بالمرآة كي لا يختفي لو التفتت إليه فكم كانت تراه طوال الأيام السابقة رأى العين.. ثم ماتلبث ألا تجده، لكنها أخيرًا قررت أن تواجه هذا الآتي كي يرحل.. فاستدارت لتجد نفسها في مواجهة هذا الوجه الذي انتظرته أيامًا.. صدرها يوشك أن ينشق لتتطاير نبضات قلبها و تُنثر تحت قدميه.. وقبل أن يصرخ لسانها بكل كلمات الشوق في الدنيا.. فاجأها بقوله: - هو أنا قلتلك إني بح .. ؟؟ أسرعت يدها إلي شفتيه لتمنعه من أن ينطق بها، بكلمة انتظرتها وهي بين ذراعيه.. لكنه وقتها ضنّ بها.. أو أو لم يكن بالفعل يحسها، أجاء ليقولها الآن بعد إهدارها لدمه، فتسائلت قسماته وحاول أن يبحث في ملامحها الثلجية عن مبرر لما فعلت.. ولكن دون جدوى.. تلعثمت واردفت بهدوء: - بعد الحفلة. وقفت على المسرح و أشارت بيدها لعازف البيانو الذي يصاحبها بأن يبدأ، لكنها كانت تعرف في قرارة نفسها أنها كانت تحتاج تلك الثوانِ الآتية حتى تلملم أشلاء مشاعرها التي مزّقها حضوره قبل صعودها أمام الحاضرين، وأشاحت قليلاً بوجهها كي لا تتعامد عليه الخطوط الضوئية البيضاء القادمة من سقف المسرح، فإذا بخطٍ من نار يجرى على وجنتها، مالت والتقطت سلاحًا كانت تُعده لتلك الليلة، التقطته وصوّبت.. ....................................................................................................................................................................................................................................................................................... وإذا بالحاضرين جميعًا وقد وقفوا في أماكنهم وأخذوا في التصفيق حتى بعدما أُغلقت ستائر المسرح، فقد عزفت كما لم تعزف من قبل، أسمعت الجميع صوت غيابه في أوتارها.. خرجت من الباب لتجد من ينتظرها بابتسامةٍ عريضة وساعدين مفتوحين.. فضمت حاجبيها.. وأكملت سيرها متجاوزة ذلك الواقف، فهناك غائبًا ما ينتظرها بالخارج.. أو بالأحرى ذلك الغائب الذي عزفت لتقتله للأبد.
#سوزان_التميمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين الحكمة والحزن.. لحظة
-
ثلاثية الصمت (لون الحزن- ظل الوحدة- طعم الغياب)
-
الشخصية الفنية للمبدعات التشكيليات المصريات
-
أثر البيئة الاجتماعية والموروث الحضاري في الأسلوب الفني
-
عزيزي الرجل الشرقي
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|