|
المجتمع المغربي كبنية تناقضية
محمد جلال
الحوار المتمدن-العدد: 4374 - 2014 / 2 / 23 - 22:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لعل أول ما يثير القارئ في هته المقالة هو العنوان - المجتمع المغربي كبنية تناقضية - ، وقد يعترض معترض ، فيقول ، انه من غير الجائز حصر المجتمع داخل بنية واحدة ، فالمجتمع بدلا من ذلك هو بنى وطبقات ، وقد يكون هذا الإعتراض صحيحا في سياقات محددة ، لكن عندما نحاول رصد نبض المجتمع ، من حيث هو تجلي لكيان سياسي و ثقافي و هوياتي ولغوي واحد ، فإن الأحرى بنا هو دراسته بما هو بنية كاملة معلنة وواضحة . إن المجتمعات البشرية قاطبة ، مرت خلال تاريخها بمحطات تباينت فيها سبل العيش ، وتعددت فيها أوجه الحياة ، لذا فإننا نرصد إختلافات هيكلية بين المجتمعات ، وحتى في ذات المجتمع الواحد فإننا نرصد هذا التغير عندما ننظر الى ماضي وحاضر هذا المجتمع ، بحيث تلعب الشروط والمتغيرات التاريخية مفاعليها في توجيه نمط الحياة داخل المجتمع ، ويمكن تفسير هذا التغير برده الى شروط الواقع الذي يحياه البشر داخل مجتمعاتهم ، فالحديث عن المجتمع الوسطوي لا يستقيم دون النظر الى شروطه الواقعية التي سادت فيه ، ولا يمكن جعل المجتمع القروسطوي مثلا نموذجا يقاس عليه ، سواء كان هذا القياس يتوجه الى المجتمعات السابقة أو الى المجتمعات اللاحقة على هذا المجتمع ، وبالمثل فإن أي محاولة لإسقاط أي رؤية لأي نموذج من المجتمعات البشرية على مجتمع آخر لن تكون سوى ضرب من العبث ، بحيث أن كل مجتمع كما أسلفنا الذكر هو نتاج لمتغيرات وشروط واقعية تنعكس على سبل الحياة في فيه . لكن الافت للنظر في المجتمعات السابقة هو أنها تتوحد كلها في نسق اجتماعي متماسك ، نسق يعبر عن توجه ثقافي وسياسي وديني ..واحد هنا نكون أمام مجتمع يقدم نفسه كبنية منسجمة تبرز بجلاء القيم السائدة والأفكار المنتهجة فيه ، وبذلك لا يعسر علينا التعرض لهذا المجتمع قصد استجلاء معالمه وفحص قيمه ، إلا أن المجتمع المعاصر لا يقدم نفسه على هذا الحال ، ذات الشيئ ينسحب على المجتمع المغربي الذي نرصده كبنية تناقضية ، مجتمع يصل التناقض فيه حدا يعسر معه تحديد عناصر الجدة والأصالة ، في مقابل عناصر التجديد والمعاصرة . من سمات المجتمع التناقضي أنه يقدم نفسه كشيئ معقد وغامض ، وتكون الواقعة الإجتماعية فيه رهينة بقوة عناصر الجذب القائمة ، فيتحدد بذلك سير المجتمع قياسا الى القوى الأكثر حضورا والأكثر تحكما ، فيسلم المجتمع بهته القوة تسليم علماء القرن السابع عشر بالمطلق النيونتني ! ، واللافت للنظر في المجتمع المغربي هو أنه مجتمع يعاني من الإستيلاب ، والأكثر لفتا للإنتباه هو أن هذا المجتمع يرفض الإعتراف بكونه واقعال تحت السلب ، بل يقدم نفسه بدلا من ذلك كمجتمع متشبث بهويته ، وأي هوية هي ؟ .
المجتمع المغربي بين الإنغلاق والإنفتاح : ---------------------------------------- مما لا مراء فيه أن المجتمع المغربي هو مجتمع تاريخي عريق ، مجتمع تعاقبت عليه حضارات عديدة وسمت تاريخه بالغنى الثقافي والحضاري ، فكان بذلك منارة مشعة وصل نورها أنحاء شتى من ربوع المعمور ، وقد إغتنت بقاع عديدت ونهلت من هذا الغنى الحضاري للمغرب ، لكن هذا الغنى لم يقدر له الإستمرار بفعل عوامل تاريخية أساسها التغير والصيرورة التي هي جوهر التاريخ ، ولسنا هنا بصدد عرض للتاريخ المغربي ، بقدر ما يهمنا التعرض للمجتمع المغربي المعاصر بما هو مجتمع تناقضي ، مجتمع تنخره التناقضات على كافة الأصعدة . لقد كان المجتمع المغربي في الأمس القريب ، وتحديدا قبل حقبة الإستعمار الأجنبي في مطلع القرن العشرين، مجتمعا سمته البارزة هو التشبث المطلق بالهوية التاريخية ، هوية شكلها المجتمع ذاته في مسيرته التاريخية وأضحى متشبثا بها وسائرا في سبيل تطويرها ، فكان العالم هو العالم بكتاب الله وسنة نبيه ، ولم يكن يفهم العلم خارج هذا النطاق إلا ما لا يكاد يذكر ، وكانت الكتاتيب القرآنية تشكل مراكز راقية للعلم والمعرفة ، فكان الطلاب يتحلقون حول الفقيه أو العلامة طالبين العلم والمعرفة ، ولم تكن أسئلة الإنفتاح على الآخر تقض مضجع الإنسان المغربي بقدر ما يهمه فهم ذاته ، ومع توالي السنين استيقض هذا الإنسان من سباته بعد أن باغثه المستعمر جالبا معه النار والدمار ، فإندهش هذا الإنسان المتقوقع على ذاته من هؤلاء البشر الشقر القادمين من البقاع القاصية ، ولم يكن ليفهم أن هؤلاء الوافدون مروا في الأمس السحيق بظلامية قاتمة إخترقتها الحداثة التي شكلها فلاسفة ومفكرون تعلموا من التاريخ العبر والدروس ، حداثة رفعت شعار العقل والحرية والإنفتاح ، ولم يكن هذا الإنسان المعتكف في الكتاتيب بقادر على تصور وجود مجتمعات خلف المحيط لولا المبادلات التجارية القائمة التي حملت معها آثارا من ذينيك الوجودين الذين يفصلهما المحيط ، وبعد أن دخل المستعمر مع مطلع القرن العشرين ، علما أن هؤلاء الوافون سبق لأسلافهم الحضور ، لكن طراوة الذاكرة المغربية حالت دون توثيق ذلك الوفود ، اهتز كيان المجتمع المغربي ، وارتعب من هول الواقعة ، فكان الإندهاش والخوف من الجديد الوافد من أهم العوامل التي سهلت على المستعمر القيام بمهمته التي آتى من أجلها ، وبعد أن فهم هذا المجتمع ورص ما بقي من صفوفه كان قد فقد الشيئ الكثير . حمل المستعمر معه ثقافته الجاهزة ، ثقافة مكنته من تحقيق طموح الإستعمار ، ثقافة شكلها هو ذاته بتطلع جامح نحو السمو والتطوير ، وبعد أن وجد مجتمعا مغايرا متشبث بثقافة لا ترقى الى مصاف التقدم والإبتكار ، بدأ هذا المستعمر في إرساء دعائم ثقافته ، فحلت المدرسة بدل الكتاتيب القرآنية ، وبدأ الناس يلبسون معاطف شبيهة بتلك التي يلبسها المستعمر ، بدل أن يلبسوا الجلابيب التي يشكلونها هم ذاتهم ، فما كان للإنسان داخل هذا المجتمع سوى أن يخضع ويستسلم لهته الثقافة الوافدة من الأقاصي بكل سهولة ، ومع تتالي الأيام بدأت هته الثقافة تقدم نفسها كثقافة رسمية توارثها الأجيال ، وبعد أن غادر المستعمر هذا المجتمع ، لم يكن هذا المجتمع بقادر على التخلي عن هته الثقافة الوافدة والتي عمرها فيه بعض عقود ، لكن بالمقابل من ذلك كان قادر على التخلي عن جزء كبير من ثقافته التي شكلها لقرون وقرون . سمة الإغلاق كانت الطابع العام للمجتمع المغربي المتشبث بتاريخه ، باغثه الإنفتاح من حيث لا يدري ، فسلم به واندفع نحو تمجيده والإقتداء به والسير عليه .
المثقف المغربي كتجلي لأزمة الإستلاب : --------------------------------------- كان الإنبهار جليا على وجوه الفئة المثقة داخل المجتمع المغربي في حقبة ما بعد الإستعمار ، إنبهار من الثقافة الأخرى ثقافة ما وراء المحيط ، فأنطلق المثقف المغربي نحو تمجيد هته الثقافة واتباعها وشرحها ، فلم يكن بذلك يلعب دور الناقد الواقعي لشروط الحياة داخل مجتمعه ، بل دور المنظر للمستقبل وفق رؤية أورومغربية ، تحاول استقصاء عناصر الجذب وتنغمس في تذليل الصعاب الممكنة قصد التسويق لهته الثقافة الوافدة ، وبالمثل أضحى المثقف المغربي ينظر الى واقعه نظرة يؤطرها الإنهزام ، إنهزام أمام ثقافة أقوى وأكثر جذبا ، فكان الإعتقاد السائد ولا يزال متلخصا في النظر الى أن كل ما هو أوربي هو مكمن الجذب الجمال والإبتكار وبالنقيض من ذلك كل ما هو محلي هو رديئ و منحط ، فحلت بنية جديدة كاملة ومسيطرة محل بنية سابقة عدت من الماضي ، ماضي إتضح أنه من العبث التشبث به في ظل القائم الجديد ، فما كان للمثقف المغربي سوى أن يناصر هذا القادم الجديد وبالمقابل ينفض اليد من الموروث المهزوم . وكانت الموضة لدى الكثير من المثقفين هي الإقتداء بالفكر الماركسي ، الفكر الذي توعد بتحرير الإنسان من بطش أخيه الإنسان ، الفكر الذي حمل في طياته شعار المساواة والرفاه للجميع ، فما كان من المثقف المغربي سوى أن يناصر هذا الفكر ويقتدي برموزه ، وهو في ذلك لا يصدر عن موقف المثقف الذي يفهم شروط واقعه ، بل عن موقف المثقف الحالم ، وأي حلم هو ؟ . قد لا يكون من الجائز حصر الثقافة في قالب واحد معلن أو مسيطر ، لكن بالمثل ليس من الجائز قتل كل ثقافة أصيلة وتعويضها بأخرى مهزوزة ، والمثقف الذي لا يتألم من بؤس الواقع حينما يخيم البؤس، ولا يفرح ببهجة هذا الواقع حينما تسري فيه البهجة ، هو مثقف متعالي عن واقعه لا تستقيم ثقافته ، فهو في ذلك مثقف يخون واقعه ، مثقف يجعل من الثقافة الغاية والوسيلة في ذات الوقت .
الإعلام المغربي الرسمي كآلية إستلابية : --------------------------------------- معلوم جدا لدى الجميع مدى أهمية الإعلام في حقبتنا الحالية ، ومعلوم كذلك مدى حجم الصراع القائم حول المعلومة ، هته المعلومة التي أضحت الآن آلية للسيطرة والتحكم ، بحيث يتم ترويجها عبر الوسائط الإعلامية تتجاوز في أحايين كثيرة الحدود الجغرافية والزمانية ، فتنحو بذلك نحو أفق كوني ، والكونية الإعلامية في زماننا جلية تماما ، فالحدث أينما وقع يمكن أن يصل الى الأقاصي البعيدة عن مكان حدوثه . إن الإعلام المغربي ليس حالة شاذة وسط باقي الأطياف الإعلامية العالمية ، فهو أيضا يشارك الإعلام العالمي في نقاط عديدة ، بل ربما أنه يحاكي بعض المنابر الإعلامية العالمية ، هته المحاكات دفعته الى إستيراد قوالب جاهزة في بعض الأحيان ، قوالب لا تنظر البتة الى خصوصية المجتمع والا إلى تطلعاته ، نذكر على سبيل المثال المسلسلات الأجنبية ، فهته المسلسلات التي تتم دبلجتها الى اللهجة المحلية أو اللغة العربية ، هي في الواقع تعبير عن أزمة الإعلام المغربي وخاصة التليفزيوني ، هذا الإعلام الذي انخرط بكل قواه في مشروع كبير قائم أساسا على الرغبة الجامحة في كسب جماهير المشاهدين ، وهو في ذلك لا يكرث الى مدى مصداقية وأخلاقية رسالته، بل إن هاجسه الوحيد هو فرض وجوده كمنبر إعلامي ريادي ، وقد يذهب البعض الى القول بأن هته الثقافة لا تعبر في واقعها عن أزمة إستلابية، بل عن إنفتاح حضاري على الآخر ، لكن هذا الإعتراض سيكونا لاغيا فور إدراكنا لحقيقة ما تقدمه هته الثقافة الوافدة ، إذ أنها تعمل على إبادة كل ثقافة أصيلة فتعوضها بثقافة أخرى مهزوزة الأركان ، فيغدو المستقبل لهته الثقافة غريبا في عقر داره ، لا هو متشبث بثقافته الأصيلة ولا هو قادر على التعايش مع هته الثقافة الوافدة . إن حجم التناقض الذي يعيشه المجتمع المغربي حاليا بلغ حدا لم يعد معه بالإمكان رصد الثابث وراء المتغير ، ولا الصائب وراء المضلل ، ولا الأصيل وراء الدخيل ، فهل فقد هذا المجتمع بوصلة التوجيه ؟ هل أصبح هذا المجتمع أشبه ما يكون بجزر مفككة معزولة ، تنتظر ما يفد عليها من عوالم أخرى ؟
#محمد_جلال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأخلاق أم الدين
-
الكُرد والكورد
-
السبيل الى الخروج من فم الثعبان
-
المجتمعات العربية المعاصرة بين إشكالية الإستلاب وأزمة الإغتر
...
-
انا وانت والمساء
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|