|
وصول غودو القسم الأول نسخة مزيدة ومنقحة
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4373 - 2014 / 2 / 22 - 12:34
المحور:
الادب والفن
تحاول هذه الرواية أن تعيد ابتكار ما اختطه صموئيل بيكيت عبر مسرحيته "بانتظار غودو" تبعًا لتأويلين طبيعي وما وراء طبيعي، لكنها تحاول أيضًا توسيع حقول الصراع الإنساني، مع النفس، مع الغير، مع الواقعي، مع اللاواقعي، مع الخارقي، مع الرقمي، مع الذاكرة، مع فكرة الانتظار، الانتظار تحت كافة وجوهه، انتظار مُعِينٍ أكثرَ منه منقذًا أو متفرجًا، لكن أفعال هذا الشخص "المنتظر" عندما تحل محل ما على البشر أن يفعلوا هم أنفسهم لم تكن في صالحهم، لتأخذ مجانية الوصول قوتها، فيعيد العبث إنتاج نفسه على مسرح الحياة، ويعطي للحياة قيمتها.
أهم ما في هذه الرواية-الحدث المكان الذي تدور فيه وقائعها: محطة الشمال في قلب باريس، محطة هي بالأحرى "مغارة علي بابا"، كل شيء فيها، وكل شيء ليس فيها محتمل، حتى الأشياء الأكثر هذيانًا والمشاهد الأكثر استلابًا.
ماذا كان صموئيل بيكيت سيقول عن رواية أفنان القاسم "وصول غودو" بعد انتظار دام أكثر من ستين عامًا؟
أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...
القسم الأول
في محطة الشمال، لم يكن هناك مكان واحد لقدم، القطارات تَقْدَمُ أو تُقْلِعُ، والركاب ينزلون أو يصعدون، وهم دائمًا في منتهى العجل، وهم دائمًا يسحبون حقائبهم أو يحملونها، وهم دائمًا لا ينظرون إلى بعضهم، ويبحثون عمن ينتظرهم. كنت الوحيدَ بينهم مَنْ ينظرُ إلى الجميع، بِدونِ حقيبةٍ أحملها أو أسحبها، ودونِ أحدٍ بانتظاري. أفحش من فاسية، فجّ الطبع، لا يُغْني عني فتيلا. ابتسم إبليس بثغري على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمرها في نقلها. بدا عليها أنها تنتظر عون أحد يسقط عليها من السماء، لكني لم أقدم لها أقل عون، لا أنا، ولا عازف الغيتار الجالس هناك، ذلك الشُّحْرور الناريّ، ولا أيُّ القادمين من كل أوب، وداومت على الابتسام الشيطانيّ، وأنا أنظر إليها بفجاجة. ابتسمت المرأة على وضعها، لا مجال للتراجع، كما لو كانت تقول لنفسها، دون أن تدري كيف. لا سيما لا حيلة فاضحة. جهنم هي محطة الشمال، الناس فيها كلهم شياطين على قرونهم يحملون العالم، وبمخالبهم يخنقون النار. كان عليها أن تتخذ خطوة حاسمة ككل مرة تجد فيها نفسها في مأزق، ولا شيء هذا من باقي مآزقها، أمورها الخطيرة، مأمورياتها الخطيرة، حياتها، دون أي ميل إلى المخاطرة. تركتها من ورائي حائرة، ووجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، بسبب عدم تحملها السفر في القطار، كما كان افتراضي، لا لفساد الهواء أو الأخلاق، فإفساد الأخلاق يبدأ بإفساد العقل، وإفساد العقل بإفساد الطفولة. لهذا علاقة بي أنا الشبيه بالفصامي، ولماذا لا أقولها بِدونِ مواربة؟ أنا المفصوم. فجأة، أخذت الأم تهرول صوب مقهى من مقاهي المحطة لأجل قطعة سكر تعيد إلى الصغيرة حيويتها. على الرغم من قلق المرأة على ابنتها داومت على الابتسام، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام بصفاقة، خاصة عندما نعرف أن في جيبي قطعة سكر مغلفة بورقها. في الواقع، كنت قد احتسيت قهوتي في مطعم القطار دون سكر، كما هي عادتي دومًا، وكما هي عادتي دومًا وضعت قطعة السكر المغلفة بورقها في جيبي. أخرجتها دون أن تنقطع ابتسامتي الوقحة، كما لو كنت أزف خبرًا سعيدًا للفظّ الذي كنته بإزاء الضعفاء، المزدري، المتزعزع، الزعّاق. فليكن كل البشر فريسة لضيقها، فلتنطبق السماء على رؤوسهم ما بقوا أحرارًا، فلتبتلعهم حيتان البحار! استرعى رجل وامرأة شديدا التجهم انتباهي إليهما، ودفعاني إلى السير من ورائهما كداء الذئب، فأنا القدر اللئيم، اليد الخفية، الأصابع الغائصة في حيض النساء وغائط الرجال على حد سواء. لا الفكر الشارد أنا ولا الكلب الشارد، فلا تفوتني شاردة ولا واردة. كان كل منهما يسحب حقيبتين، ومن وقت إلى آخر كان الواحد يلقي على الآخر نظرة كوبيدون إله الحب للبشر، قرأت فيها آياتٍ مدنسةً من الأسى والعذاب، نظرة عاجزة تزيد من عجزها رقة القسمات الغالبة على محياهما، عجز الرقة في عالم لا ينقصه شيء، لا الفساتين الحريرية ولا بدلات السموكنغ. لماذا أنا؟ السؤال الدائم على شفة الترف. لماذا أنا، يا دين الرب؟ لماذا الحب خراء البشرية؟ لماذا العناق فلسفة القضيب؟ فلسفة القضيب أقول لا فلسفة المَهْبِل المتباهي؟ لماذا الجسد شهوة تخنقنا؟ تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أعرض ابتسامة القواد، وفي خيالي يخترق جسد الواحد الآخر على حافة جهنم، وهما يزعقان زعيق الملعونين. إذا بالمرأة تُفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بعناق الرجل عناقًا ملتهبًا، وهي تنفجر باكية، بينما الرجل يحاول أن يتدارك البكاء، وهو لا يفوه بكلمة واحدة. على حافة جهنم، وهما يمزقان النار بأظافرهما، وهما يلتهمان النار بفمهما، وهما يقذفان النار على البشر شرائع سماوية. لهذا كان الناس ينظرون إليهما، دون أن تبدو على وجوههم أمارات الاستغراب أو التأثر، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، كانوا فقط ينظرون، كان بعضهم ينظر، وهو يتابع طريقه، وبعضهم كما لو كان ينظر إلى ما لا يستحق النظر إليه، كانت أخلاقهم الشريفة، أو كانوا لا ينظرون بتاتًا كشابين، أسود وأبيض، كانا يجلسان بين أيدي ملوك الشطرنج هناك غير بعيد، كغائطين مهملين، فهما أقرب في وضعهما إلى شطط المخيلة من شطط السلوك. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بيأس لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، ونفسها تطير شَعاعًا. كان رجلها، حبيبها، الأصابع التي تركتها تعبث لأول مرة بثدييها، القصص الخلاعية البذيئة، وحديث ما بعد الطعام. اعترضت سبيل الرجل مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها، وتمنعه من اللحاق بالمرأة، والرجل كل تعاسات الدنيا تزحف من وجهه لتغطي كل كيانه حجابًا أبيض من الليل وأسود من الثلج، فلا يستشف نواياه، ولا يتشاغل عن الضجر. جرفته مجموعة العفاريت الصغار في الاتجاه المضاد، وهو، بعد أن التفت بحثًا عن المرأة عدة مرات، ومد يده في الاتجاه الذي ذهبت منه عدة مرات، استسلم للموج، وترك نفسه طوع إرادة أخرى كمدينة شاغرة، كقصيدة خمرية، كحروف شفهية. لم يكن هذا حال الكل من القادمين، كانت الراهبة التي تتقدم، وهي حبلى، شيئًا آخر، شيئًا من إرادة نفسها الشيطانية، الإرادة عندما تغدو القدرة على تحقيق كل شيء، حتى أقصى الأشياء، وفي وضع الراهبة أغربها، أجنّها، أكثرها لامعقولية، تحقيق ما لا يتحقق، ما لا يخطر ببال، ليس للتحدي أو الوِساطة في شئون البِغاء، ولكن لأني أريد هذا، يكفي أن أريد هذا، وأن أتجاوز الذات، ليس بدافع أية بطولة، ولا لأني أرمي إلى تحدي نظام الأشياء، بل لأني أريد هذا، وبكل بساطة، لا حاجة بي إلى إفهام الآخرين، لأني أريد هذا، وليس عليّ أن أقدم أي تبرير. اغتصابها وهي في الثالثة عشرة كان بداية الطريق، بعض السوقيين اغتصبوها في عتمة الورد الأحمر، تحت قنطرة من الآهات ساقوها إليها. وهم يشقون عباب البحر وعصا الطاعة في نفس الوقت، أطل عليها وجه الله، كان حديقة من النرجس، لهذا قررت أن تهب جسدها للماء. تكرر اغتصابها وهي في السابعة عشرة، وهي في التاسعة عشرة، وهي في العشرين، وفي كل مرة كان يطل عليها وجه الله حديقةً من النرجس. انتهى لديها كل شك منهجي، وشككت نفسها في نفسها. في الدير، استقبلت خنازير الغبطة واحدًا تلو واحد، ووجه الله يطل عليها حديقةً من النرجس. وعلى العكس، كانت إحدى نجيمات السينما تبحث عن تبرير لكل شيء، تسريحتها، ماكياجها، مشيتها، فستانها، زنارها، حذاؤها، حقيبتها، كل شيء، كل شيء، للناس، للكاميرا، للمجد، للوهم، كان الوهم جميلاً، كان الوهم أجمل منها، ومن موهبتها، لهذا كانت تبحث عن تبرير لكل شيء، ولم تكن تنجح في كل شيء، الأضواء عالمها، ولم تكن الأضواء لتهتم بها. ربما اليوم، الأضواء لا تهتم بها، أما غدًا، الأضواء ستهتم بها. اغتصابها هي الأخرى كان بداية الطريق، نسيت في أية سن كانت لما اغتصبت لأول مرة، لكنها تتذكر قبلات النار التي أحرقتها ومخالب النمور التي مزقتها. المرأة هي هذا، أن تُغتصب، فاللذة عليها أن تكون غابية، حيوانية، جنونية، أن تُشتق من أنفاس الشياطين، أن تتفجر البراكين معها، أن تتهدم الجبال، أن تتلوى الثعابين، أن تنتثر الرمال على أكف العواصف، وتنتشر الأمواج على أكف الزوابع، أن تغلي الشوكولاطة في صهاريج الهلاك. احتارت، وهي ترى من بعيد مجموعة من الصحفيين والمصورين تنقض عليها، فظنت أن اليومَ غدٌ، ونسيت إخفاقها الذريع في دورها الأخير، في الفيلم الذي أصرت على عدم تذكر اسمه، والمنتج الذي أصرت على عدم النوم معه، والأستوديو الذي أصرت على عدم وضع القدم فيه، الكاميرات أخذت فلاشاتها تعميها، كاميرات، وفلاشات، وصحفيون، وصحفيات، وقنوات، وأيضًا كاميرات، وأيضًا فلاشات، وأيضًا صحفيون، وصحفيات وقنوات، ولم تكتشف إلا بعد أن وجدت نفسها وحيدة على الرصيف أن كل هذا لم يكن لها، كل هذا كان لثلاثة كلاب تشي تسو، تحيط برقابها قلادات الماس، بينما يسحبها ثلاثة حراس سود بكامل أناقتهم، فخاصة الإنسان ألا يخص نفسه بشيء. تعال هناك، يا حبيبي. لم أعرف إذا ما كان هذا الصبي السمين، السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، المرافق لأمه، من القادمين أم المغادرين. كان يبدو على أمه ما يبدو على المشمئز من الحياة، شكلها يوحي بشجرة زيتون اشمأزت نفسها. تعال هناك. هناك. أجلسته أمه على مقعد، ولفت صدره بمنديل. فتحت الحقيبة، كانت ملأى بالساندويتشات. خذ، كُلْ، يا حبيبي، قالت الأم. أنا جائع، يا ماما، قال الصبي. كُلْ، كُلُّ هذا لك، يا حبيبي، قالت الأم. لماذا نجوع، يا ماما؟ سأل الصبي. لنأكل، يا حبيبي، أجابت الأم. لنأكل، يا ماما؟ لنأكل، يا حبيبي. لنأكل حتى نشبع، يا ماما؟ لنأكل حتى نشبع، يا حبيبي. لنأكل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل كل هذا، كل هذا، لنأكل كل هذا، كُلْ، يا حبيبي، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ... حقًا لم يكن أحد بانتظاري، بينما كان المنتظرون لغيري كثيرين. صديق أو قريب أو حبيب أو عابر سبيل أو ناب لمريض أو نصل لسكين أو باقة شوك لقلب حزين أو وكيل لأحد الفنادق أو... كانوا يتعانقون بحرارة، الرجل والمرأة أو المرأة والمرأة أو الرجل والرجل، ولم يكن يبدو عليهم أنهم افترقوا. كانوا يتعاونون على نقل حقائبهم بشكل أقرب إلى المرح، ويشيرون بفرح إلى درج المترو أو إلى باب الخروج. لنغادر هذا الجحيم إلى ذاك الجحيم، كأنهم كانوا يقولون لبعضهم. يا للشناعة، الفردوس! أهله يستحقون الشنق! كل واحد اختط لنفسه سلوكًا. كانت الراهبة الحبلى تتقدم من بعيد، واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تتقدم، وهي لا تنظر إلى أحد، على عكسي، عندما اكتشفتُ راهبة أخرى بين المنتظرين، حبلى هي أيضًا، تلوح بيدها، وهي تنط، وتتكركر، وهي تنط، وتقول "هيه!" كي تراها القادمة، ورأتها القادمة، لكنها ظلت تتقدم واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تسير برزانة دير أرمنيّ، وجمال كنيسة غوطية، كانت تتهادى بوقار بيت مغلق، وطلاوة علبة ليل للمثليين. لم تكن تنتمي إلى الراهبات اللواتي نعرفهن، كانت مشروعها، شارة صليبها، إشارة تحيتها. بكل طيبة خاطر. رفع وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وهو يبتسم كالأبله سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الساخرة تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن الابتسام كالأبله، بلاهة؟ لنقل علة ذاتية، شائبة معدنية، تشويشية، بينما كان وكلاء آخرون يكتفون برفع اللوحة ليأتي بعضهم معرفًا بنفسه دون أقل تعقيد. وقفتُ أراقب وكيل الفندق ذاك مراقبة من شاءت الأقدار أن يقع بين يديّ الشريرتين، وقد غلبت على صوته نعومة الخاضع لمهنته ولمبولته وللعالم، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن الابتسام كالأبله إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل القادمين. أخذ يلوح بلوحته كطفل، ورأيته، وهو يخلل بأصابعه شعره، فيكبر قليلاً، ويبدو ودودًا على الرغم من بلاهته. عندما لاحظ أنني أنظر إليه جاءني، وعاد بابتسامته البلهاء يسألني إذا ما كنت السيد المنتظر، فقلت ما لم أكن مخطئًا أنا هو، تعال! وقفت وإياه عند أعلى الدرج المؤدي إلى المترو، ودفعته بقدمي كشيء لا يُذكر. زين لي الشيطان أن أفعل ما فعلت، فرأيت في محطة الشمال ما لم يره غيري: تشييع جنازة الوقت. ألقيت نظرة على الرصيف الخالي. هكذا كان الرصيف: خاليًا. منذ قليل كان مفعمًا بالديدان، والآن هكذا هو، خالٍ كَسُوار فقدت صاحبته ذراعها. الرصيف الخالي. في لحظة من اللحظات، كل شيء يخلو مما هو فيه، ويبدو للعين فارغًا كحبة رمان لا شيء فيها. الفراغ من جهة، ومن الجهة الأخرى الامتلاء، الإطلال على الآخر بالأذى، بالعِداء، ببذر الرعب قمحًا، مما جعلني أفطن لشخص كان هناك ببدلته السوداء المخططة وقبعته السوداء الحريرية. كان هناك بانتظار شخص آخر لم يصل، ربما ألغى رحلته، أو فوت قطاره، أو تعمد عدم أخذه. رأيت الرجل يقف دون حراك، وهو ينظر باتجاه الرصيف الخالي نظرة ثابتة، راسخة، عميقة، سحيقة، أبدية، سرمدية، لا نهائية، ما ورائية، إلهية، كان ينظر إلى أشياء لا تراها العين، وكان لا يتحرك، ينظر، وينظر، ولا يتحرك. كان ينظر إلى ما وراء الرصيف، والرصيف يمتد إلى ما لا نهاية، يذهب إلى كل المدن، كل الأوطان، يقطع كل الصحاري، كل البحار، يدور حول العالم، والرجل يداوم على النظر دون حراك. اِفْتَضَحَتْ مؤامرة الانتظار، ولم يُفْضِ الرجل بمكنونات فكره. تساقطت الآمال الغير المبررة، وتلاقى الأبرار والأشرار دون أن يطلبوا مني تبريراتٍ لذلك. في محطة الشمال، لم يكن هناك مجال للكلام كالعادة، لعدم توقف مكبر الصوت عن إعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، على الرغم من اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة التي لا تتوقف عن التحرك صعودًا وهبوطاً حسب حركة السير. رغم كل العقبات، لم تكن للمسافر حاجة إلى كل هذا الصخب، إضافة إلى ذلك نبرة المضيفة التي تعتذر بحدة إذا ما تأخر قطار عن الوصول أو تهلل بحدة إذا ما وصل قطار في الوقت المحدد، كان صوتها حادًا دومًا إلى درجة يثقب فيها الأذن، لهذا لا أحد يحادث أحدًا، وإلا عليك أن تصيح، وأولئك الذين يتصايحون فيما بينهم تظنهم يتهامسون بالمقارنة مع الصخب غير المنقطع لمكبر الصوت، لساكسفون يوم القيامة. والحال تلك، لم أميز إذا ما كان الفتى والفتاة الجالسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة إلى جانب طبيب أسنان وكاتب مع أكداس كتبه وحوض لقرشٍ ذكرٍ يتوادعان أم ينتظران أخذ القطار القادم. طلب الأبلق العَقوق بكثيرٍ أهون! كانا يقتربان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكا-كولا، ويشدان يديهما بيديهما، وأحدهما ينظر في عيني الآخر كمن بَرَدَ للواحدِ حقٌّ على الآخر. نظرت إلى شفتي كل منهما، كان العبث لا يتوقف عن الكلام، دون أن أسمع شيئًا مما يقول. كانا لا يتوقفان عن الكلام، ومعًا في آن واحد سال الدمع من عينيهما ينبوعًا من الأشواق، وراحا يمسحان جبهتيهما بجبهتيهما كما تفعل الضواري لما تريد الضواري تقليد العشاق من الناس، ويهزان رأسيهما هز الأعراف اللامصدقة لما سيقع مع عبور الرياح، فقلت لا بد أن أحدهما سيسافر تاركًا الآخر، وهما لهذا السبب يبكيان غير قادرين على احتمال الفِراق. على الرغم من دراماه، كان الوداع بردًا على قلبيهما، تباريح الهوى، تباريح الدهر، تباريح الحياة. فجأة، نهضا، وابتعد أحدهما عن الآخر سائرًا في الطريق المضاد إلى باب من أبواب المحطة. لم أبتسم هذه المرة، لأن الأمر محير بالفعل: عاشقان ينفصل أحدهما عن الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع المجهول، فأي قطار سنأخذ إلى الحياة، لنواصل موتنا، ومع من؟ أولاد المومس كثيرون، في كل مكان، كلهم ليسوا أشرارًا مع ذلك، هناك برتقال حلو وبرتقال مر، وكلاهما يبقى برتقالاً. برتقال ابن مومس يبقى! حجج باردة! أفكار أساسية في الوقت نفسه! يجب ألا أبرقش في الكلام. شرط مُعَطِّل. تَعَطُّل البشر والآلات. جاءت فتاتان كل واحدة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وتعانقتا بحرارة، وهما تقبلان بعضهما من الثغر، وكأنهما تقولان لبعضهما: الليلة الماضية ندف الثلج علينا من سماء الجحيم، غطت كل واحدة منا الأخرى بثديها، ونامت حتى ساعة ما قبل قيام القطار. لم تبق على قيام القطار سوى عدة دقائق، وأنا، لو طلبتُ قلبَهَا لأعطتنيهِ! أليس غريبًا أن يمضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يركض بكرته كالسهم؟ لم يكن يصطدم بأحد على الرغم من اكتظاظ المحطة بالناس، كانت محطة الشمال تمتلئ بالمسافرين القادمين بقدر المغادرين، وكأن لا أحد فيها يذهب أو يجيء، محطة معلقة بين عقارب الوقت وخطوط السكك الحديدية، محلقة ككوكب. وكان لاعب الرُّغبي يركض بكرته من طرف إلى طرف كما لو كان يركض في ملعب دون أن يصطدم بأحد، وأنا أتابعه بعينيّ إلى أن يحتجب عن ناظري، ثم لا يلبث أن ينبثق من بين الحقائب والأجساد، إلى أن يحتجب عن ناظري من جديد. لم يكن يتبرم من انتظار أحد، لم يكن يلهث، لم يكن يبدو عليه التعب، كان يلعب. كان كل واحد من الركاب يلعب على طريقته، ويتسلى. كانوا يتلهون بالنظر إلى ساعات المحطة، ساعات كثيرة، ساعات لا تعد ولا تحصى، ساعات، ساعات، ساعات بلا حساب، ساعات لقضم الوقت، لابتلاعه، لتعبيد الفضاء، كانوا يتلهون بالنظر إلى الساعات دون أن يلتفتوا من حولهم. كان انتظار إقلاع القطار بمثابة لعبة مع الوقت، فتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع أو أمر الوصول في الحالة المضادة. برهان على الشجاعة؟ برهان الحقيقة؟ برهان الخُلْف؟ جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن يدرك أحد السبب الذي أدركته، كانوا يحملون نقالة ذهبوا بها من طرف المحطة إلى طرفها الآخر. لم يسقط أحد تحت عجلات ناقلة الحقائب، كان المسافرون يفكرون، وكل واحد يقول لنفسه: مثلي لا تَخْفَى عليه أبازيرك. وما لبث المسافرون – من كل فئات الأقاقيا - أن هبوا إلى امتطاء أحد القطارات في اللحظة التي سُمح لهم فيها بذلك، ولم يعودوا يبالون بما يفعله رجال المطافئ. وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا مع حقيبته هناك على مقربة من العربة الأخيرة دون أن يصعد فيها، ترك القطار يغادر، وبقي على الرصيف ساكنًا سكون الخائف من السفر مع الموت، ناظرًا إلى القطار، وهو يبتعد، يبتعد، ابتعاد البرهان القاطع. قلت لنفسي ما فتئ يعيش في خياله، لهذا. سمعت أحدهم ينادي من ورائي، فظننت أنه يناديني. يا ماخور الخراء! عندما التفت، لم يكن المُقعد ينظر إليّ، لم يكن يراني، لم أكن أنا المقصود. كان ينادي "جان"، وينظر بعينيه المذعورتين إلى الناحية التي يبدو أن جان ذهب منها. كان ينادي "جان"، ويقول "جان أين ذهبت؟"، على ركبتيه جثة من كرتون مستطيلة، وينادي "جان". لم يكن أحد يأبه بالمُقعد، "جان" كان ينادي، وهو يمد رأسه بين المسافرين بحثًا عن جان في الناحية التي ذهب منها. "جان، يا ماخور الخراء!". "جان ذهب إلى الحانة كالعادة، أيها الجد! قلت مناكفًا مستعدًا لزعزعة الشخص العادل الساكن فيه، اخرأ عليه، أيها الجد!" "وعدني بألا يعود إلى الشرب، جاني الصغير!" "اخرأ عليه، قلت لك، لا تنتظره! إذا انتظرته، فوّتّ قطارك، أيها الجد!" " أفوّت قطاري لا شيء، فوّتّ الحياة!" شيء لا يدخل في المعقول! أخذ يبكي كطفل، فذهبت بي بعيدًا عنه أمام شباك بيع التذاكر هناك حيث كان اثنان يتبادلان الكلام بأدب جم لأن أحدهما قطاره على وشك الرحيل، وهو يريد أن يسبقه لشراء تذكرته. كان عليه أن يطلب الإذن من المنتظرين الباقين ليمضي أمامهم، وفي اللحظة التي شاء هذا لذاك أن يسبقه إلى شباك التذاكر، فتح شباك آخر، فشكر ذاك هذا. فهم الكل الرجل، والكل عليه ألا يفهمه، وتَرَكَهُ الكل ليكون أول المشترين لتذكرته، والكل عليه ألا لا تدب بينه وبين الكل العقارب. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، لكن روحهم المتحضرة فرضت عليهم هذا التصرف اللائق، ولم يبزُلوا القضية. لا نبتسر الأمور! قطارات تُؤخذ في مواعيدها، ومسافات تُقطع في مددها، وبطون تحبل تسعة شهور. حضارة الحبل تسعة شهور، والمسافات ذات المدد المحددة، والقطارات ذات المواعيد الثابتة. وإذا ما تخلى الوقت عن أشجار الكستناء فهل سيكون هناك شتاء؟ وهل سيشوي العرب والهنود الثمر البنيّ في الشانزلزيه؟ الحمد لله أني لا أحب الكستناء! لا أحب الإنفاق! أنا رجل لا يَبِضُّ حجرُهُ! أبطأُ من غراب نوح! على مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يحادث ماكينة تبديل النقود قائلاً إنها لم تعطه مقابل ما ابتلعته. نَعَتَ الماكينة بالسارقة، وتوجه إلى شرطيين كانا يمضيان من هناك، فظن الشرطيان أن في الأمر نكتة راحا يضحكان عليها، والشاب يقف حائرًا لا يدري ما يفعل خاصة عندما قال إن قطاره على وشك الرحيل. كان ابنًا لجهنم هذا الشاب، فأردت مساعدته في اللحظة التي اقترب فيها أحد المتسولين الشرفاء من الشاب، شرفاء كقفاي، وسأله عما هو فيه، عندما عرف مشكلة الشاب مع الماكينة، ابتسم كقضيب. كان يعرف سرها، ضربها بطريقة جعلتها تصرف النقود لصاحبها، ومقابل ذلك أعطاه الشاب ورقة نقدية تعادل تسول نهار كامل في محطة الشمال، نشلتُهَا منه نشل عشرات النشالين، أقاقيا الأيادي الحرة المتحررة من كل جنائنيّ. "جان أين ذهبت، يا ماخور الخراء؟" دفع أحدهم المُقعد بهدوء، وهو يسأل أي القطارات قطاره. "ولكنك لست جان"، قال المُقعد بشيء من الحيرة. "لست جان، أجاب الرجل، أما إذا كنت تريد أن تفوّت قطارك، فهذا أمرك". "شكرًا لك، تمتم المُقعد، وهو لا ينفك عن البحث بعينيه عن جان. ألم يزل في الحانة؟" "ماذا؟" "جان، ألم يزل يثمل؟" " أنا لا أعرف، أنا لا أعرف جان!" "لم يزل يثمل، هذا الوغد!" "فليذهب إلى الجحيم!" "ماذا تقول؟" "أقول فليذهب جان إلى الجحيم!" "أحسن له، الجحيم أحسن له!" انفجر المُقعد ضاحكًا، فاستغرب الرجل تصرفه. سمعه يهمهم: "كل هذا يبعث على الضحك!" قال الرجل بلا مبالاة: "اضحك ما شاء لك!" انفجر المُقعد باكيًا، فاستغرب الرجل مرة أخرى تصرفه. سمعه يهمهم: "يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء!" شيطانيًا، بَعَثَتْ دموعُ المُقعد في نفسي ارتياحًا. وعقلانيًا. رفعت رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق عليه فتاة يطير شعرها وفستانها، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، فلم أفهم علاقة الفتاة بذلك، ربما لأسر الانتباه. كانت الفتاة مثيرة بالفعل، ليست جميلة فقط بل ومثيرة، جميلة بالفعل، مثيرة بالفعل، تثير الانتباه والغلمة والرغبة في القتل. ومع ذلك، كانت بعض الرؤوس لا ترتفع صوبها، بل صوب لوحة القطارات، وأحيانًا صوبها وصوب لوحة القطارات، كرؤوس السمك المقطوعة، فالإعلان كان على مستوى واحد مع لوحة القطارات، لاستبطان الأشياء واختراق عزائم الناس. كانوا كالدجاجة التي تلقي بطنها، ظهرًا لبطن. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات دون أن تبالي بامرأة الإعلان ولا بالقطارات. إنجليزيات. وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات. ليس بجمال فتاة الإعلان هذا صحيح، لكنهن يبقين جميلات، مدمرات، قوادات. شيء عذري خائن يفلت من وجوههن، يهاجمك، يحتلك، يشبعك رَجسًا ورذيلة. كن ينتظرن. ينتظرن القطار القادم. ينتظرنه وهن واثقات من أخذه. كباص الطابقين. كالمترو الذاهب إلى أكسفورد. كقوارب التيمز. كتاكسيات الميفير، كدجاجات حبش السفارة الأمريكية. في يوم الثانكسغفنغ. كدراجات الهايد بارك. كأقداح البيرة والسكوتش والعرق. في فصل الشتاء. كن يبتسمن لبعضهن من وقت إلى آخر. لم يكنّ ينظرن إلى المارة. كنّ ينتظرن. كان يبدو عليهن الاطمئنان من أخذ القطار والوصول إلى لندن في الوقت المحدد. بعديًا. مررت من أمامهن، ولم يلتفتن إليّ. لم أذكّرهن بأحد. لا العشيق ولا الأب ولا الأمير شارل. كنت بالنسبة لهن امرأ لا شأن له، امرأ يمضي. كيف لم يلفت انتباهي إليه ذلك الهرم المقلوب على رأسه والذي لم يتم بناؤه بعد؟ ذهبت لأنظر، فرأيت رجلاً في الأربعين من عمره يعمل على بناء الهرم، ووسطه الأعلى عارٍ، كان يعمل بجد، ولم ألاحظ في الحال العقرب السوداء التي تحيط بأقدامها المشعرة صدره. كان يعمل بجد، يرفع بفضل عضلاته المفتولة الحجارة الضخمة، ويعمل بجد، يصفر أحيانًا، ويعمل بجد، يتأمل من وقت إلى آخر جدران هرمه، ثم يعود، ويعمل بجد. كان يبدو عليه الجد، وكان يعمل بجد، وكأنه بجده يريد أن يقاوم سرطان رئته. تجربة البقاء. تجربة الفناء. جهنم الأرض لمن بغيت عليه الحياة بغيًا. أكثر مما ينبغي. اختار الإنسانية التي أريد: اللا إنسانية. لهذا كنت أعطف عليه. رأيته، وهو يحك صدره، وكأن سرطانه يُخرج رأسه من صدره ليحكه له، يحك صدره بتلذذ، ويتأمل جدران هرمه، ويبدو في عينيه بريق الأمل: اللا أمل. "ربما أنجزته الليلة، قال الرجل دون أن يلتفت إليّ، إنه قبري". "إنه قبرك"، قلت مؤكدًا. "إنه قبري"، أعاد الرجل بصوت حيادي لا أقل قلق فيه، كان جادًا. "تلك الأشياء، هل تراها؟ تابع الرجل، ودومًا دون أن ينظر إليّ، طعام وشراب وقليل من الذكريات، صور ابنتي وزوجتي ورسائلي ومخدتي التي نمت عليها طوال أربعين عامًا، سآخذها معي تمامًا كما كان يفعل الفراعنة. لكني لا أعرف متى، قبري على وشك الإنجاز، وأنا لا أشعر بأي ألم". حمل حجرًا ضخمًا، وذهب به إلى الناحية الأخرى. هل يعقل أن يموت المرء في اللحظة التي ينجز فيها بناء قبره؟ يعقل. في عالم غير معقول يعقل. أقول يعقل، أنا المبغض للبشر. المبغض لكل شيء ما عدا سيقان النساء. بنات نعش الكبرى والصغرى لِمَ أحبها؟ لأنها بالنسبة لي سيقان النساء. وأحب بنات آوى، وبنات عِرس، وبنات مُقْرِض، وبنات الماء. سمعت شابًا أسود البشرة سواد الماس في أرض الجحيم يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وقبل أن يذهب الشاب، قال له إنه ليس متأكدًا. وقف الشاب بانتظار الإعلان عن قطاره، وهو يرفع رأسه من فترة إلى أخرى صوب الساعة. كان قطاره سيقوم بعد عشر دقائق، بعد خمس دقائق، بعد دقيقة، بعد ثلاثين ثانية، وها هي الساعة تتجاوز موعد قيام القطار، بثلاثين ثانية، بدقيقة، بخمس دقائق، بعشر دقائق، ولم يتم الإعلان عن إقلاع القطار. وقف الشاب الأسود كالضائع، كمن فوّت أعظم فرصة في حياته، كمن بنى على الرمل، كمن باء بالفشل، ولم يفكر في الذهاب إلى مكتب الاستعلامات. كان على ثقةِ أصحابِ البابِ الخادع، وبشكل غامض، بقدوم قطاره الذي سيستقله بين لحظة وأخرى. لم أشأ التدخل، لأن هذا ما كنت أريد، ألا يأتي البيوت من أبوابها، وقطاره يكون قد غادر على أية حال. لم يكن ينتظر مني التدخل، إذن لم أتدخل، حتى ولو طلب مني التدخل، فلن أفعل، لأني لست هنا لأتدخل، وإذا كان الخطأ خطأه، فليتحمل وحده تبعة خطئه، ولتبل بينهم الثعالب. تفاجأتُ بإحدى الفتيات السوداوات، سوداء كالنار، غيداء كالهلاك، عذباء كالليل في علب النهار، وهي تسحب الشاب الأسود من ذراعه سحبها لأعياد الملعونين بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وتعدو به إلى الرصيف الصحيح. "من حظك أن القطار قد تأخر عن الرحيل"، قالت الفتاة السوداء. شكرها الشاب الأسود، والدمع يكاد ينبجس من عينيه. عادت الفتاة السوداء، وهي تبتسم لي ابتسامة خيالية، فابتسمت لها ابتسامة شيطانية. قبلتني من خدي، فقلت إنها تخطئ الهدف، لأني غريب عن كل شيء هنا، عن كل من هم في البلد، عن أحلام البشر، عن اللا منتحرين في السين ومن قمم نوتردام وبرج إيفل، عن هواة الرقص في كباريهات الفردوس، وما أنا هنا سوى بالصدفة. ازداد تعلق الفتاة السوداء بي، وقالت إنها غريبة عن كل شيء هنا، أو بالأحرى كانت غريبة، ثم ما لبثت أن اعتادت على كل شيء بعد أن عرفت كل شيء، أسرار الأجساد والمحاكم. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرفَ كل شيء عن محطة الشمال كما عَرَفَتْ، فترددت، لأني كنت هناك لا لأعرف بل لأتعرف، ولكن يبدو أن كل القادمين والذاهبين لا يهمهم أن أتعرف عليهم. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة السوداء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي إلى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات بدا منعزلاً كأرض جهنم. كان هناك مركز للشرطة، وبعض المكاتب المغلقة، ولم تكن هناك قدم واحدة، العزلة تفوق الخيال. كانت الفتاة السوداء لا تنظر إليّ، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها، فلا أُعدى بمرض، ولا أحملُ العدوى إليها، إلى أن دخلنا منطقة كلها سكك حديدية، خطوط ميتافيزيقية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، قالت الفتاة السوداء عنها إنها مقبرة القطارات. ونحن في وسطها، حررتني الفتاة السوداء من قبضتها، وابتسمت لي، فلم أبتسم لها، بل بقيت عابسًا، فماذا أنا بفاعل في مقبرة للقطارات؟ كنت أفكر مكان لا خير فيه. "ستعرف كل شيء بعد قليل"، قالت الفتاة السوداء. لم تبتسم هذه المرة، وبدا على وجهها القلق. لم يكن الخوف، كان القلق. لم أقرأ الخوف بين سطور وجهها، بل القلق. قلق لا يدركه العقل. أخذت تصلنا ضربات سوط، وصرخات، مزيج من لعنات وقهقهات، وما لبث شخص مربوط بحبل من عنقه أن قفز من إحدى العربات المحطمة، وهو يحمل أربع حقائب، ويلف وسطه بوزرة بيضاء، تبعه آخر في ثياب القرصان، على عينه عُصابة سوداء، وهو يواصل ضرب الأول بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، وهذا يقهقه قهقهة بلهاء، وهو في منتهى السعادة، ويواصل حمل الحقائب الأربع. قلت لنفسي دعوة بالشر، وادعاء بالمعرفة. سأل القرصان إذا كانا قد وصلا الميناء، فأخبرته الفتاة السوداء بشيء من عدم الرضى بالظروف الراهنة أن هذه محطة الشمال، وأن لا ميناء هنا. عاد يجذب حامل الحقائب بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، وحامل الحقائب لا يحاول الرد، بل يكتفي بالقهقهة البلهاء، وهو في منتهى السعادة. قال القرصان إن خادمه بطبيعته كاذب ومخادع، فالإنسانية كاذبة ومخادعة، وهو لا يفعل سوى أن يضلله لئلا يركب البحر، البحر عدوه اللدود، لأنه يصاب بالدوار، بسبب الدوار جاء به إلى محطة الشمال ليسافر في البر، لكن جزيرته لا طريقٌ بريٌّ يوصل إليها، ولا اندفاعُ الحياة. همهمتُ "بل اندفاع النهاية"، والأمواج تتصارع في مخيلتي. عاد القرصان يضرب خادمه، وخادمه يكتفي بالقهقهة البلهاء، ويبدو أنه لا يطلب من سيده سوى المزيد من الضرب، المزيد من الإهانة، المزيد من الأقاقيا. كقطيع من الدواب، كحقل من الزؤان، كرهط من الكلاب. "أن يعذب المرء قطًا، قلتُ، نوقفه في الحال، أن يعذب إنسانًا، لا نفعل له شيئًا". "هذا ليس إنسانًا، قال القرصان، هذه الإنسانية". سألني إن كنت أعرف أقرب طريق إلى البحر، فقلت "جهنم". "أيها؟" "وهل هناك غيرها؟" "هناك. هناك جهنم الفوق، وهناك جهنم التحت". "جهنم، جهنم!" صحت، وعلى صياحي ترتعد ابنة أفريقيا. "أقرب طريق إلى البحر الركوب بالقطار حتى بحر الشمال أو الذهاب إلى مارسيليا، قالت الفتاة السوداء قوادة كما أريد، منشغلة البال كما تريد، لكن الذهاب إلى مارسيليا من محطة ليون، وليس من محطة الشمال، أضافت الفتاة السوداء قوادة دومًا منشغلة البال دومًا، أقرب طريق إلى البحر تبعد حوالي ألف كيلومتر من محطة ليون". ثارت ثائرة القرصان، ومن جديد أخذ يضرب خادمه بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، يتدفق بسيل من الشتائم، لأنه لم يخدعه بالطريق إلى البحر فقط ولكن أيضًا بالمحطة التي سيركب فيها القطار إلى البحر، فالبحر لديه ليس بحر الشمال بل مارسيليا، جهنم كل بَحّار يحلم بالاحتراق فيها. "مارسيليا ما دقّ من الحوادث وجلّ، قلتُ، ما صغر من الذنوب وكبر، فيها البحّار، وفيها القواد، وفيها قاطع الطريق، فأيهم أنت؟" " كل هذا، طن القرصان متفاخرًا، البحار والقواد وقاطع الطريق!" وبعد قليل من التفكير، قال إن لديه شعورًا بأننا نخدعه نحن أيضًا كخادمه، وإنه يسمع صوت البحر. أرهف السمع، ورفع عن عينه السليمة العُصابة السوداء فاحصًا مقبرة القطارات من كل ناحية، فلم يقع إلا على جثث القطارات المحطمة أو المهجورة وبعض الطيور الغريبة الشكل، والتي أخذت تنعق، فتسبب الانزعاج لسوداء أفريقيا والقلق والدمامة، تضاعف من انشغال بالها ومن قوددتها. "هذه الطيور ليست النوارس، قال القرصان للفتاة السوداء، وهذه بالفعل محطة الشمال، والبحر ليس قريبًا، يا قحبة البحر!" وعاد يجذب بالحبل خادمه، ويضربه بالسوط، وخادمه يطلق قهقهته البلهاء، ولا يلقي بالحقائب الأربع، بل يتشبث بها، يتشبث بها، يتشبث بها إلى ما لا نهاية: دليله الوجودي. تركناهما، أنا والفتاة السوداء، وذهبنا إلى قطار آخر محطم قرب شجرة عارية، ما لبث أن خرج من تحت قاطرته أخوان سياميان برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، اضطربت الفتاة السوداء على مرآهما اضطراب القرية الإفريقية النائية المحاصرة بالنار، يعذبها وخز ضميرها، وتتحمل العذابات الأبدية. كانا يعرفانها، فسألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل ليعلقا جسدهما. أجابت بالنفي، وأنا أنظر إليهما، فأراهما كالطاعون الدُّملي، وأبتسم للإنسانية المعذبة، فقالا إنهما كانا يعرفان أنها لن تحضر لهما الحبل ليعلقا جسدهما، لكنهما سيقضيان ذات يوم. كيف؟ هما لا يعلمان كيف. دون الحبل لن يتمكنا من الموت شنقًا. لكنهما يتدربان على ذلك كل يوم بالتعلق على أغصان الشجرة، واختيار أقواها. أشارا إلى بعض الأغصان المكسرة: "هذه الأغصان لم تكن لتحتمل جثتنا المزدوجة، ونحن لهذا سعيدان." غدا التوأمان السياميان طوْرَهما وقدْرَهما. ليس لأنهما ما كانا ليموتا لو تعلقا على هذه الأغصان الطرية بل لأنهما عرفا ذلك، وسيعرفان بالتالي أية أغصان ستقوى على حملهما، فيكون موتهما أكيدًا. كانا كمن يحلمان، وكانا يبتسمان لي بوجهيهما المزدوجين دون أن يرياني. كانا لا يحسان بوجودي، ولولا الحبل الذي كانا يريدانه من الفتاة السوداء لما أحسا بوجودها هي الأخرى. كانت جميلة الطوغو تستمع إليهما على كره منها، تعرب عن مخاوفها بالقلق، فأشم رائحةَ قَهْدِ الوجود. قالا إن عليهما العودة إلى ما تحت القاطرة، وأوصيا الفتاة السوداء على عدم نسيان الحبل في المرة القادمة، على أن يكون طويلاً ومتينًا. أراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك. قطعنا، أنا والفتاة السوداء، خطوط السكك الحديدية إلى عربة معلقة، عربة وردية اللون، وكأنها معلقة في لوحة. لم يكن للعربة سلم للصعود، ولم يكن بالإمكان الدخول فيها من الأعلى. من الأعلى كيف؟ لم أطرح السؤال على الفتاة السوداء، كانت تنظر إلى العربة المعلقة، ويبدو عليها التردد. سمعتها تهمس: المنية ولا الدنية! وبينما أنا حائر أفكر في كيفية الدخول إلى العربة، فتح أحدهم نافذة، وأطل برأس أرمد الشعر ووجه تملأه الغضون، وراح يحدثنا، دون أن يحدثنا، وكأنه على خشبة مسرح. قال إنه لا يعرف عن المسرح شيئًا، لكنه معلق في مسرح، مسرح بدوره معلق في الفراغ. وضع يده فوق عينيه، وهو ينظر في كل اتجاه من مقبرة القطارات، وسأل الفتاة السوداء إذا ما صادفت بعض الممثلين، وهي في طريقها إليه، فنفت الفتاة السوداء، "لم أصادف في طريقي سوى قرصان يربط خادمه بحبل، قالت الفتاة السوداء، ويضربه بسوط ظنًا منه أنه خدعه، فهذه ليست الطريق إلى البحر". قهقه الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، وقال "بل هي الطريق إلى البحر، أيها المجداف! الطريق إلى البحر لا بد أن تمضي بمحطة الشمال". "إن البحر للقرصان هو بحر مارسيليا وليس بحر المانش"، أوضحت الفتاة السوداء بصوت مضطرب، فقهقه الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه ثانية، وقال "هذا المجداف لا يعرف أن الطريق إلى المانش الطريق إلى الموت، الطريق إلى العبث، الطريق إلى اللامعقول وسخرية الوجود والفاجعة الإنسانية، الطريق إلى الحرية. وهل صادفتِ غير هذين من الممثلين الهاذيين؟" سأل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه الفتاة السوداء. "إنهما الأخوان السياميان اللذان تعرفهما، واللذان يسعيان إلى الانتحار شنقًا دون أن يصلا إلى ذلك أبدًا"، أجابت الفتاة السوداء بصوت مضطرب دومًا. غضب الرجل الأرمد الشعر ذو الوجه المليء بالغضون، "هذان ليسا ممثلين، قال، هذان شخصان في جسد واحد من رواد مقهى التجارة". انتبه فجأة إلى وجودي، فأشار إليّ، "وهذا الذي معك، من هو؟ لا يبدو عليه أنه ممثل". ترددت الفتاة السوداء قبل أن تقول "لا أعرف". لم يبن على الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه الانزعاج، وبشيء من الرضى قال إنه من غير المهم أن نعرف من هو الذي معنا، وأراد الذهاب، فعجلتُ القول: "أنا شخص غير موجود في الحياة الدنيا". "هناك حياة دنيا الآن وهناك حياة آخرة!" تهكم رجل الحفر والرماد. "هذا يتوقف على المكان الذي تضع فيه قدمك، أوضحتُ قبل أن أضيف، قدم في القبر وقدم في البحر". فحصني بعينيه الجاحظتين مليًا، وابتسم ابتسامة شيطانية لذيذة، ثم غادر نافذة العربة المعلقة. ابتسمت بدوري ابتسام الشياطين، كان كل منا، أنا والرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، يفهم الآخر دونما حاجة لنا إلى معرفة كيف كان كل منا يفهم الآخر. لم يكن مهمًا، حتى فهم الواحد منا للآخر لم يكن مهمًا، حتى هذا المكان المعلق بجثث قطاراته وخطوط سكته الحديدية في الفراغ لم يكن مهمًا، هذا المكان المقبرة الذي يتنفس بأمواته، كان هذا المكان محيرًا، ولم يكن مهمًا. كنا شرارةً للنار، هذا ما يهم، أن تكون شيئًا يحرق. أفقت على سوداء أفريقيا، وهي تمد إصبعًا خَضِلَة إلى اللامكان، وتقول هناك أسكن. لم أقف على ما تقول، نظرت إلى حيث أشارت ثم نظرت إليها، لم يكن القبر، ولم يكن البحر، فأوضحت أنها تسكن بعد نهاية خطوط السكك الحديدية، بعد ذلك الضوء الأحمر المعلق بين السماء والأرض. لم تكن لخطوط السكك الحديدية نهاية، لكني قلت لنفسي، هذا المكان سيظل مقبرة قطارات بعد كل شيء، وللمقبرة نهاية. لم يكن لمقبرة القطارات جدار يحيط بها، فهي مقبرة قطارات. انتظرت أن يظهر بيتها بعد الضوء الأحمر المعلق بين السماء والأرض، فلم يظهر شيء. وعلى العكس، بدأت أسمع نحيب رضيع، فقفزت الفتاة السوداء إليه، وحملت ما لم أره بين ذراعيها، وألقمته ثديها، ثم ذهبت به مدللة، وقد ذهب عنها قلقها، ولذة لا تدانيها لذة لذتها. قدمت الفتاة السوداء الرضيع لي دون أن أراه، وهي تقول إنه ابنها، وهي تتركه كل يوم هنا في اللامكان، وتذهب طلبًا للرزق. هذه الفتاة لا بد أنها مختلة العقل، قلت لنفسي. لم أفهم أنها عاهرة محطة الشمال إلا عندما تفاجأتُ بها، بعد أن وضعت الرضيع في سرير وهمي، وهي تعانقني، وتقول إنها على استعداد لفعل أي شيء في سبيل إطعام ولدها. احمرت الدنيا في وجهي، فالوقت ليس للمضاجعة. أردت العودة من حيث جئت، إلى محطة الشمال، حيث العالم جهنم الدنيا والناس كمثرى اللهب. اعترضت ساحرة الطوغو طريقي، فشممت رائحة ليست زكية، رائحة المستنقعات، رائحة مزيجة من بول الفيلة ومني التماسيح كنت أعشقها، وهي تقول إننا لم ننه بعد الاطلاع على كل خبابا محطة الشمال. ستنيم ابنها، وبعد ذلك سترافقني إلى عالم المحطة السفلي، فلمحطة الشمال عالم سفلي مليء بالغرائب. لم أصمد للإغراء، فرائحتها، رائحة النتانة والفسق، دوختني تدويخًا جعلني أقبض عليها بمخالبي، وأمزقها، وفي رأسي دوائر في الماء. عدنا أدراجنا، أنا وابنة لومي، دون أن نقع على العربة المعلقة ولا على الشجرة العارية ولا على الخادم ولا على القرصان، لم تكن هناك سوى تلك الطيور الغريبة التي تنعق من ورائنا، وتتبعنا، وتحفر القلق ببراثنها في جبين مرافقتي مصيبةً إياها في صميم قلبها. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى عالم محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات الذاهبة والآيبة، وكأنه يوم الدين. الأجراس تدق، والطبول تقرع، والساكسفونات تدوي دوي الرعود. لم تكن الظواهر الغَرّارة، كانت مظاهر الحياة. دفعتني الفتاة السوداء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت عند نهايته على اليمين المستودع، وهناك صف من المسافرين الحاملين لأقفاص فيها شتى أنواع الطيور الإفريقية الملونة: شَقِرّاء، مِكْتير، لَقْلَق، ببغاء، حُبارى، أبو قُرَيْن، بومة صمعاء، تَنْتَل، دجاج سِندي... يودعونها، ويعطيهم المسئول وصلاً بها. "هنا مملكة الخيال، شرحت الفتاة السوداء، كل شيء يبدأ من فكرة، مهما كانت غريبة، وكلما كانت غريبة أعجزت، ولولا التحدي لما كان الإعجاز". لاحظت أن هناك شخصًا يريد أن يودع صندوقًا حديديًا ضخمًا، وهناك فتاة يبدو عليها الحياء تريد أن تودع مكنسة كهربائية. قلت لساحرة الطوغو "ليس في كل هذا ما هو غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل هذه الأقفاص ذات الطيور الإفريقية بينما ليس واحد هناك من أصحابها إفريقيًا". "كما لو كانوا يرسلون الجنود إلى المذبحة"، أظهرت الفتاة السوداء الفرق. "لكنها لا تؤكل"، رميتُ، وأنا أضحك في عُبي. "الذبيحة الإلهية، هل تعرف ما هي؟" "لم أكن أعرف"، ألقيت، وضحكي يزداد أكثر فأكثر. على اليسار، كانت هناك عدة شبابيك للصرف، لم يكن عليها الإقبال على المستودع نفسه، لكن فضة الأضواء الوهاجة شدت انتباهي إليها، فضة أشبه بأجواء عالم الملعونين، وشد انتباهي أيضًا الصرافون إليهم، كانوا يرتدون ثيابًا براقة كثياب الأبالسة، ولم تكن بينهم امرأة واحدة. "لمملكة الخيال مصاريع تتنوع تنوع المراحل أبطالها ذوو سجايا مُخْتَلَقَة"، عادت الفتاة السوداء تشرح. واصلنا السير، أنا والفتاة السوداء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جياد سوداء أخذت أشكال الأرقام. "ما هذا سوى رمز جبري في مملكة الخيال للرمز الرقمي في الإمبراطورية الإلكترونية"، قالت مرافقتي، وهي تشير إلى جياد الساعة. "هل هذا هو كل العالم السفلي لمحطة الشمال؟ أبديت للفتاة السوداء عدم دهشتي، مستودع للأمانات ومكتب للصرافة وجياد على شكل الأرقام؟" ابتسمت الفتاة السوداء: "أعطِ العبدَ كُراعًا يطلبُ ذِراعًا". كانت تبتسم لعدم صبري، كانت راضية تمام الرضى عن رد فعلي، هذا يعني أنني أريد معرفة العالم السفلي لمحطة الشمال، وأنني وقعت أسير فكرتي عنه. تقدمت الفتاة السوداء من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح بدا لي أنها كانت تمسكه طوال الوقت بيدها، وإذا بباب في داخلها اجتزناه إلى عالم هو خرائي بالفعل، عالم من الأضواء والأشياء لا ذاكرة للأسماء فيه ولا للوجوه: الجياد الرقمية والسيارات الرقمية والأراجيح الرقمية والمهرجون الرقميون والموسيقيون الرقميون والراقصون الرقميون وكافة الألعاب الرقمية، لم يكن هناك من الناس العاديين سوى بعضهم. "هنا إمبراطورية الأرقام، عادت الفتاة السوداء إلى الإيضاح، كل شيء ينتهي من فكرة، وبكلام آخر، الفكرة الأخيرة هي هذه، بعد ترميزِ الرسائل ترميزَ الكائنات والأشياء." أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال القذر من الأقدام، ونحن أتعس أناس في دنيا الدكتاتورية الرقمية، وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي لمحطة الشمال. "مستوى إنساني، وصفت الفتاة السوداء، يتعلم فيه الإنسان كيف يكون شيئًا آخر غير ما هو عليه، غير مقولب، كرد فعل على القولبة الرقمية، لا حربًا عليها وإنما تحايلاً عليها، وذلك من أجل التعايش وإياها." ثلاثة أماكن شدت انتباهي إليها، المكان الأول للمافيا، حيث كان يدخل رجال أنيقون جدًا، يبتسمون كثيرًا، ظلالهم تبتسم لكثرة ما كانوا يبتسمون، لم يكونوا مسلحين، وكانوا يتحادثون بأدب واحترام كبيرين، يبادلون أكداس النقود في المحفظات بأكعاب المخدرات أو أنواع المجوهرات بعد أن يقوم خبير بفحصها. تذمرتُ من حال هي غيرها، فبررت رفيقتي: "استر ذهبك وذهابك ومذهبك!" المكان الثاني للتجميل، حيث كانت تدخل نساء بوجوه تختلف عنها عندما تخرج، وكأن الوجوه أقنعة تخلعها النساء بكل بساطة. رأيت السوداء تدخل بوجه أسود وتخرج بوجه أبيض، الوجه أبيض والجسد أسود، والبيضاء تدخل بوجه أبيض وتخرج بوجه أصفر، الوجه أصفر والجسد أبيض، والحمراء تدخل بوجه أحمر وتخرج بوجه أسمر، الوجه أسمر والجسد أحمر... وهكذا. قلت: "حتى الشياطين لا يقدرون على فعل هذا، وهم لو قدروا لما فعلوا!" فبررت رفيقتي: "مِنَ الذَّوْدِ إلى الذَّوْدِ إبل!" ترددت بين الدخول وعدم الدخول. "أنا أحلم بوجه أنمش وشعر أحمر"، قالت الفتاة السوداء عما في نفسها، واعتبارًا للوضع، أجلت ذلك إلى يوم آخر، فلم أر بعدُ كلَّ شيء من العالم السفلي لمحطة الشمال. المكان الثالث كان للعبادة، للعبادة؟ "كيف هذا للعبادة، وهذا المكان الغوليّ الذي لا يعرف أحد فيه الله؟" سألت متهكمًا. "للعبادة"، أكدت الفتاة السوداء. حاولت دفعي إلى الدخول، فرفضت، قلت أمكنة العبادة ليست أمكنتي، لكنني تفاجأت بالراهبة الحبلى، وهي ترفع ثوبها لزبون، وتكشف عن ساقيها المزينتين بمطاط الجوارب. راح الزبون يجسها من بطنها الضخم، ثم ذهب معها. عندئذ وافقت على الدخول لأرى، وفي قاعة شبه معتمة، رأيت عشرات الراهبات في أوضاع مختلفة، كن يضاجعن، ويرتلن. لم يثرني المشهد جنسيًا بينما الفتاة السوداء نعم لما التصقت بي، ووضعت أصابعي على ثديها، في فمها، تحت لسانها. "خذني كراهبة"، توسلت. "ولكنهن لسن راهبات"، قلت بعين الخبير التي لي. "خذني ككلبة!" "كل هذا استيهام!" "خذني! خذني!" اعتذرتُ، وأنا أقول لم أر بعد كل شيء. دفعتها، أنا هذه المرة، من أمامي، وخرجنا. أشارت مرافقتي إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، "لا أحد يتصرف بورع مثلك"، قالت الفتاة السوداء غاضبة، وأرادت تركي، فرجوتها البقاء، فأنا لا أحمل هاتفًا خلويًا أسترشد بواسطته بنظام التوضيع العالمي في عالم أجهله ولا أعرف مجاهله. قالت إنني الوحيد بين بني البشر دون أن أنتظر شيئًا، دون أن أنتظر أحدًا، دون أن يقلقني شيء، دون أن يعجبني شيء، فابتسمتُ مرتبكًا كمن يسترأف الشيطان. لم أر نفسي مضطرًا للإجابة، كنا قد دخلنا في ميدان سباق للجياد الرقمية، امتطيت واحدًا، وامتطت الفتاة السوداء واحدًا، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك، وبالطبع لم نكن لا أنا ولا الفتاة السوداء من الفائزين. "جياد خراء، وفوق هذا لم نربح!" ربأت بنفسي عن ذلك. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات الرقمية، فجاءت الفتاة السوداء التاسعة وأنا العاشر. "لا حظ لي في هذا الماخور، قلت لها، مثلك، رغم أنني لست مثلك"، فنظرت الفتاة السوداء في عينيّ، وسألتني فجأة من أكون. لا أحد، أنا الفسق، أجبتها، أنا الحرام، وأنا أرسم ابتسامة إبليس على ثغري. أغضبها مرة أخرى جوابي، لكنها حافظت على جأشها، وبعد لمسة بيدي على خدها، ابتسمتْ لكؤوس الزهرة. ابتسامة مُحْزَنة، ابتسامة إفريقية. "لم يعد الأمر يزعجني كثيرًا"، سلمتْ بالأمر، وأبدت ارتياحها لصحبة واحد غريب الأطوار مثلي، لا يُخبر مرآه عن مجهوله. سألتُ إذا ما كان هذا كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، "ليس هذا كل شيء"، قالت الفتاة السوداء، وسحبتني من يدي كما تسحب كلبها، فعويت، وهي تضحك مني. لم تعد قلقة، كانت تضحك. أحقًا تضحك لأنها لم تعد قلقة؟ لأنها لم تعد؟ تبخرت مع القلق؟ قلقها الوجودي كان الضحك، الضحك مني، الضحك من الأشياء، الضحك من الحياة، أكثر ما يفهم هذا الشياطين الذين هم مثلي. كان هناك مصعد، نزل بنا أنا والنار السوداء طابقين آخرين تحت الأرض، وهي تشرح: "هنا لا مملكة الخيال ولا إمبراطورية الأرقام، لا شيء يبدأ من فكرة أو ينتهي، لا شيء يكون، لا شيء لا يكون، هنا الكون قبل البغ بانغ، العدم الكائن." عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف وجوه الغرباء الغريبة، كانوا كلهم ممن لا إقامة لهم، لا أوراق رسمية، لا علاقة بالشمس، بالعالم، حتى ولا بالموت، بمقابر القطارات أو بمقابر البشر، لا علاقة لهم إلا بعمل عابر يساعدهم على العيش تحت أقدام المسافرين وعجلات الحياة وخطوط السكك الحديدية. تربصتُ بهم، لكني كنت الشر، وما عرفوا. ابتسمتُ لهم، فظلت وجوههم عابسة. حاولت التحدث مع بعضهم، فلم يجيبوا. تجنبوني، واختفوا في جحورهم، جحور قذرة للجرذان. وعلى الرغم من ذلك، كانت القناعة تزيد وجوههم عبوسًا، قناعة نهلستية ليست مفسرة، ليست منطقية، لا تدرك بالعقل، وتدرك بثغور الأخطبوط. رأيت بعضهم يأكل الخراء، وبعضهم يشرب الشخاخ، وبعضهم يمارس العناق، وبعضهم يرى التلفزيون، وبعضهم يستمع إلى الموسيقى، وبعضهم يدخن أو يحشش، وبعضهم يرقد، وبعضهم يقامر، وبعضهم يراهن، وبعضهم يداعب قطًا أو كلبًا أو قردًا أو ثعبانًا أو أخطبوطًا أو تمساحًا أو قرشًا... لم تكن هذه الحيوانات رقمية. كان عالمهم التحت الأرضي هذا البعيد عن براثن الشرطة عالم حرية لهم بشكل من الأشكال. حرية من يزرع الملح في محيطات المجهول، ويحصد السمك الوهميّ! "هؤلاء على عكسك يُخبر مرآهم عن مجهولهم"، همست الفتاة السوداء في أذني، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها المليئة بجسدي الرقمي إلى المصعد، "لنصعد إلى الطابق الوسط"، طابق لم يكن الجحيم، ولم يكن الجنة، طابق بين وبين. رأيت أغرب ما حلق من طير، الرأس قدم والقدم جناح، وأعزز ما اتقد من جمر، اللهب ثدي والثدي ثلج، وكأنني، وأنا أطل على حديقة في النعيم، أطل على بركان في الجحيم. لم يسعدني التناقض، من طبيعتي أن يسرني التناقض بين الأشياء والألوان والحالات، التناحر، التذابح، التناكح، لكنني هنا، في هذا المكان الغائطي في غرابته، لم أكن مبتهجًا، والحق أنني لم أكن مغتمًا، فمن طبيعتي أيضًا حيادية سفينة مربوطة على الرصيف. لم تكن حال مرافقتي السوداء التي اسودت الدنيا في عينيها، على تهديدٍ فَجّرَ الرعبَ فيهما، فزَلّت بها القدم، وكادت تسقط في جمر جهنم. انتظرت عوني، وأنا أقف مشدوهًا، وأحدق في وضعها الصعب الطارئ، وضعها غير المتوقع، وضع الملعونين، ولم أتقدم لعونها، كان عليها أن تعين نفسها بنفسها، وتثبت جدارتها بالعيش. تركتها، وذهبت كالكلب اللاوفيّ، وهي من ورائي تستنجدني، ترجو، وترجو.
* يتبع القسم الثاني
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هاملت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
-
هاملت القسم الرابع والأخير الرواية الجديدة لأفنان القاسم
-
هاملت القسم الثالث الرواية الجديدة لأفنان القاسم
-
هاملت القسم الثاني الرواية الجديدة لأفنان القاسم
-
علي الخليلي ابن صفي ابن بلدياتي
-
هاملت القسم الأول الرواية الجديدة لأفنان القاسم
-
قرصنوا إيميلي واغتصبوا اسمي
-
كوابيس المجموعة القصصية
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس العاشر: الأحمر
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس التاسع: الأصفر
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثامن: الأسود
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السابع: الدولة
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس السادس: النفق
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الخامس: القَرض
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الرابع: المسجد
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثالث: القطب
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الثاني: الطوابق
-
القصص الأخيرة لأفنان القاسم الكابوس الأول: الرصيف
-
أفنان القاسم - اديب ومفكر - في حوار مفتوح مع القارئات والقرا
...
-
موسم الهجرة إلى الشمال أو وهم العلاقة شرق-غرب
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|