محمود الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 4373 - 2014 / 2 / 22 - 09:04
المحور:
الادب والفن
الهروب من .. "أتكيء إلي لاشيء " * ..
يبدأ النص بالوحدة في الفراغ بما يحتوي الفراغ من صنائع مع الوحدة والعزلة الشعورية عن عالم مليء بتناقضاته القاتلة , بجملة القيم والأخلاق والمثل , التي تناثرت وتوالدت كشظايا قاتلة , من خناجر وسيوف وسكاكين العادات والأعراف والتقاليد المتوارثة والموروثة ,جيلاً بعد جيل , وكأنها تركة فُرض عليها أن تئول إليها , ولا يجوز لها أن تتنازل عنها ,أو تهبها لمن يرتضيها له هبة , أو كأنها يحرم عليها أن تتصرف فيها بالبيع بأبخث الأثمان , أو تحرر بها عقد بدل مع آخرين ..
ولكن هيهات هيهات أن يرتضي إنسان أو إنسانة أن يتقبل تلك الموروثات سواء بالبيع أو الشراء أو الرهن أو الهبة , لأنه يستحيل علي الإنسان أن يتقبلها بعقد بدل ..
إنها الموروثات القاتلة لكل المعاني والقيم الإنسانية الساكنة في رحاب عبودية الإنسان للموروث , والتي بغيرها لايساوي الطعام الذي يطعمه أو الماء الذي يروي ظمأه , لدرجة أن الحيوانات الداجنة قد تكون أوفر حظاً من الإنسان حينما تنعدم حريته وتقتل إرادته علي مذبح العادات والأعراف والتقاليد ..
تبدأ رحلة النص بعنوان الإتكاء علي لاشيء , والإتكاء الكامن في غور النص هو علي تهاويم وصمت ووسوسةوعتمة ولعنة مرصودةوأفكار مذعورة والإختباء بالضباب , ويسبق هذه المرادفات الحزينة المكلومة الغرق في الأحبار والأطياف المعتادة حيث الوسوسة والفضاء بتهاويمه, وكأن الفضاء الرحيب صار عدماً سرمدياً , لينتهي إلي محطة الإتكاء علي الموروث والتوحد مع الحقيبة السوداء في إنتظار الهروب والسفر حيث الذهاب إلي محطة قطار الحزن والألم والوجع , وكأنه قطار وجودي عدمي منفصل عن قضبانه التي تتأوه للرحيل عن وطن غربة المشاعر والأحاسيس والوجدان المحطم علي تلك المحطة القديمة المتهالكة التي لاتصلح لمجرد الإنتظار ..
وحدة المكان وغربة الزمان واقتراع الصوت وافتعال الضجيج والنواح والبكاء علي ماضٍ يعاند في بقائه ورفضه للرحيل بعناده الوبيل , داقاً ناقوس الأحزان والمراثي رافضاً الإعلان عن موعد الفراق , جالباً ببسالة نزف الصمت وجراح الأنين ..
مازالت هي كما هي , تعاند وتكابد مشاق الوحدة , وتصطنع الضجيج لتكسر صمت الوحدة , وأحياناً تنشج وتميل للنواح , حين تتذكر أيامها الخوالي , فتنظر لوجهها في وهج الصمت البادي بحسرته , وتتحسس تضاريس الوجه وتقارن بين ماضي بائس , وحاضر هارب إلي بؤس الماضي , تتذكر أيام الطفولة , وتلح عليها تلك الخواطر البريئة الشفافة , فمازالت عروستها المصنوعة من طمي النيل , والنخيلات المائلة علي ضفافه واشجار الصفاصاف , وشجرة شعر البنت تكاد أن تلامس وجهه النضر , وتقارن بين وجهها الذي كاد يتماس مع وجهه في الماء بتموجاته العذبة العفية , واشراقة وجهها علي وجهه , وتتذكر منادة أمها خيفة عليها من النداهة , أو الجنية , أو خشية السقوط في ماء النهر الجاري والحامل علي صفحته مراكب ذات شراع تمخر للسفر إلي بلاد أخري مجهولة برغبة التخيل والتصور لهذا المجهول عبر سفر تلك المراكب الشراعية أو الفلوكة ..
وكل هذه الذكريات المشحونة بشفافية الماضي الطفولي , وأيام الصبا , تجعلها تستشعر أنها قد اقتربت من محطة تضاريس الوجه الذي شارفت نضارته علي الرحيل من غير أن يجد وجهاً يماثله في النضارة , ويشابهه في السعادة والفرح والسرور , أو يشارك هذا الوجه الحائر بحثاً عن الشريك المحب الصادق الذي يبدد الحيرة , ويملء سكون الحياة ورتابتها ومللها الفارض ذاته زهواً وافتخاراً بالوحدة والفراغ ..
فما زالت أنفاسها مخنوقة , تكاد تتنفس وكأنها في ضيق وحرج , فصوتها المخنوق يرتعب من الإنفلات إلي لاشيء , سوي الصمت المهيب بجلالة حضرته المنكرة , وضيافته المرفوضة , لدرجة أنها تظل وحيدة , ولا أحد سواها مع هذا الصمت والوحدة والفراغ .
فهي .. تعلن لنفسها , و تقرر لذاتها,عبر صراخاً مكبوتاً , أنها مازالت :
وحيدة في الفراغ
أقترع صوتي
أفتعل الضجيج والنواح
أمسك بتضاريس وجهي
أنفاسي
قبل أن تنفلت إلي لاشيء
سوي الصمت
لا أحد سواي هنا
... ... ...
مازالت تنتظر وتتململ من الإنتظار , وقد طالت أيام الإنتظار وطالت ألف يوم , ولم يطرق بابها أحد , وتستشعر اليأس الذي يأتي حفيفاً , هامساً معلناً لها في صمته الرهيب المسكون بالرهبة أنه لاجدوي من الإنتظار حتي وإن مر ألف عام بصيغة تحدٍ ملعونة , وليس ألف يوم , وهذا التحدي الذي فوق الطاقة , وأعلي من القدرة , يجعلها تستشرف وساوسها , وتناجي فضاءاتها , وتغرق في أطياف روحها المتسربة منها , بإعتياد وملل محيط بفضاءاتها وسكونها ووحدتها , لتهرع إلي القراطيس والأقلام لتدون ديمومة مآسيها , وصيرورة أحزانها وأتراحها , وتجوب في في بحار اللوعة والأسي تارة , وتارة أخري مع الخيالات الجميلة الراغبة في الحياة والإنتعاش مع مباهجها وأفراحها , متخيلة صورة من تحب وتهوي وتعشق , وكأنه معها في تلك الهنيهات البسيطة , وكأنها عمر تريد له أن يطول ويدوم في رحلتها عبر الخيال برؤي الصبا والوجد والهيام والغرام والحب والعشق ومفردات حرمت منها في الطفولة وزاملتها في الصبا والشباب , فتتوه مع هيامات الظل الملقي علي شفاه تريدها واقعاً وحقيقة , لترتد لها خيالات علي شفاه العتمة المرصودة , وكأن هذه العتمة تتحداها برفضها مباهج الحياة والفرح والحب والسعادة , وتتمسك بإطار الصورة المرسومة بملامحها باحثة في الثنايا والحنايا والأطراف عن تأريخ لمعني الحب فتعاودها لعنة العتمة وتتحداها بوجدان مكسور , واحاسيس مهزومة , ومشاعر تائهة وكأنها ضلت طريقها إلي قلب من تحب وتهوي وتعشق , لتنزوي بجسدها البض العفي وتخفي ملامحه البهية بإرادة تنزوي خلف عباءة من الضباب لتتواري بذلك الجسدفي حالة كبت إرادي لرغباته ونزواته وحتي خطاياه التي لم تمارسها خوفاً من عقاب السماء , ورعباً من عقوبة القائمين حراساً علي الجسد , وحماة العادات والأعراف والتقاليد , وكأنها محرمٌ عليها مجرد التفكير أو التخيل والتصور ..
إنهامازالت تستشعر بعقل وقلب وإرادة شارفوا بالإقتراب من محطة الرحيل من غربة المكان , وغربة الزمان, لتصنع غربة جديدة , وتهاويم جديدة , وفراغ جديد , وكأن محطتها الجديدة هي حالة يأس جديدة , يستحيل معها أن تهرب من أسر العادات والأعراف والتقاليد التي يتعبد بها صُناعها , وكأنها أوثان تُعبد , لتظل في الأسر , ويصعب عليها إبتداع مصطلحات جديدة تهدم بها تلك الموروثات القاتلة بسيوفها وخناجرها , حيث تظل الأفكار في مواجهتها حائرة مزعورة مرتعبة , ولأنها في تلك الحالة ترتعب من الخروج من هذا الأسر , لأنها إن فكرت ستكون أفكارها مذعورة طائشة , ويتم اتهامها بلائحة اتهامات جاهزة في قانون العرف والعادة والتقليد , لتظل وحيدة في الفراغ والوحدة والسكون القاتل , لتعاود الإتكاء بحسرتها وخياباتها وانكساراتها علي حائطها القديم , وكأنها تعلن بشفافة الألم , وصدق الحزن , وجنون الوحدة الصادق وتتذكر بحسرة الماضي والزمان المتوحد مع ألم المكان وتعلن :
ألف عام يطرق بابي
لاجدوي
سوي
أن أغرق في أحباري
أطيافي المعتادة
الوسوسة و الفضاء
سوي
أن ألقي بظلي علي شفاه العتمة
ثنايا اللوحة
أبقي مرصودة للعنة
ملفوفة بعباءة ضبابية
لا أخرج إلي مصطلح جديد
لافكرة مذعورة
لاسند في الحياة
سأتكيء علي قديمي
... ... ...
فهل ستواتيها الشجاعة , لتعلن كفرها بالخوف ورفضها للخجل , اللذان ينتقصان من حريتها , وينتقصان بالتالي من إنسانيتها , وتعلن بإرادة صادرة من عقل إنسانة راغبة في التحرر من الأسر المفروض عليها من داخلها , وليس من محيطها الخارجي لتتحدي طلاسمه وعجزه وقصوره , وتبحث عن حقيبها السوداء , لتطيح بها بعيداً عن مرمي النظر , وتبحث عن حقيبة سفرها, وتعلن بشجاعة باسلة هجرتها للموروثات القاتلة للإنسان وحريته وكرامته وعزة نفسه وذاته .. وماذا يضيرها إن فعلت ؟!, وكفرت بالخوف , وآمنت بحريتها , وتوحدت مع حقيبة سفرها الجديدة , باحثة عن حياة جديدة , ومصطلحات جديدة , وتوائمت مع إنسان , يكون سندها في الحياة , وتكون سنداً له , بمعاني الحب والعشق والغرام , وتعلن رفضها لمخزون الألم والوحدة والفراغ , وتعلن بإرادة الرفض , ولا تقول مجدداً أبداً:
أتوحد
وحقيبتي السوداء
.
*
أتكيء إلي لاشيء , نص نثري من ديوان " حرير الحزن " للكاتبة والشاعرة والأديبة " هويدا عطا " ص_97 , 98 , 99 _ الطبعة الأولي _ دار رمانة للطباعة والنشر _ الإمارات _ مصر 2011 _ طباعة مطابع الغرير
#محمود_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟