|
الثورات غضب جماهيري أم اكتشاف واقع جديد
دريد خضير الموسوي
الحوار المتمدن-العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 - 23:22
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
ما هي الثورة؟ و ما هي الثورة الاجتماعية؟
كلمة الثورة استخدمت و ما زالت و في مختلف اللغات و من خلال ادبيات تيارات سياسية و اجتماعية كثيرة. و برغم هذا الاستخدام الواسع للكلمة فأننا نكاد لا نجد تعريف واضح و علمي و محدد للكلمة. الثورة الصناعية و الثورة الزراعية, و الثورة في العلوم تستخدم في العادة للدلالة على الاكتشافات التي غيرت حياتنا و فتحت الابواب امام انطلاق طاقات هائلة جديدة ساهمت في تحسين حياتنا و رفع مستوى معيشة البشر و ازدهار حياتنا بهذا الشكل او ذاك. ولكن يبدو ان استخدام كلمة الثورة في عالم السياسة يحمل تشويشا و ارتباكا كبيرا و لا يتمتع بنفس الوضوح الذي نراه في الاستخدام العلمي للمصطلح. الفكرة الشائعة حول كلمة الثورة في عالم السياسة بانها جموع بشرية غاضبة تخرج الى الشوارع للمطالبة بتغيير الواقع الموجود و اقامة واقع جديد. و هنا تكون لدينا مشكلة في الاتفاق على مفهوم التغيير الذي هو تعبير مطاطي في عالم السياسة المبني على الآراء الشخصية. و لان السياسة ممارسة انسانية مبنية على مصالح طبقات و جماعات و تنطلق من الآراء حول كيفية تنظيم مجتمع بدائي قائم على الندرة و طريقة ادارة و توزيع الثروات في مجتمع يتصارع افراده للحصول على اشياء لا تكفي الجميع, فان هنالك الاف التعريفات و التفسيرات لكل حدث جماهيري عنيف فيما اذا كانت ثورة ام لا.
فما هي الثورة؟ عندما نقول ثورة فان اول ما يتبادر الى اذهاننا هو ان هنالك جموع غاضبة كبيرة في الشوارع و هذه الجموع ربما تطالب بإسقاط حكومة او تشريع دستور جديد او اي تغيير جذري اخر في المؤسسات و النظم القانونية السائدة. هذا التعريف السائد يروج له رجال السياسة و يحبونه كثيرا من اليسار الى اليمين. فتجد ان جميع القوى السياسية تدعو للثورة, و لدينا مصطلحات كثيرة على غرار الثورة الاسلامية و الثورة العمالية و الثورة الوطنية و التحررية و الثورة الاشتراكية و غيرها. جميع هذه القوى تدعو الجماهير الى الثورة التي تراها صائبة استنادا الى اراءها و فلسفتها الخاصة حول الثورة. الدعوة الى الثورة الغاضبة و استخدام عبارات مثل جمعة الغضب و يوم الغضب و يوم القصاص و غيرها توحد الاشتراكي و الاسلامي و الفاشي و القومي. و برغم انهم خصوم الداء و لكنهم يدعون جميعا الى ان تخرج جماهير غاضبة في نفس اليوم. لماذا ستخرج هذه الجماهير و لأجل تحقيق ماذا؟ هذا ليس مهما, المهم ان تثور الجماهير ضد الاوضاع القائمة. ففي 25 يناير عم 2011 خرجت الجماهير المصرية في ثورة غاضبة دعى لها العلماني قبل الاسلامي انتهت الثورة بتنحي الرئيس مبارك عن السلطة وهيمنة الاخوان المسلمون على السلطة فكانت الثورة بالنسبة للإخوان المسلمون قد انتصرت وبالنسبة للعلمانيين وحشود الشباب قد سرقت وفي ايران خرجت الجماهير في 1979 في ثورة غاضبة دعى اليه الماركسي قبل الاسلامي. انتهت الثورة بإقامة الجمهورية الاسلامية. فكانت الثورة بالنسبة للإسلامي قد انتصرت و بالنسبة للماركسي و الليبرالي قد سرقت. و منذ اليوم الثاني بدأت فصائل المعارضة الايرانية بالدعوة الى الثورة من جديد. هذا الشيء يجري الان في مصر و في سوريا و تونس وليبيا و الكثير من الدول الاخرى. الان دعونا نجد تعريفا علميا للثورة تستطيع ان تقيم تصورا اكثر عقلانية. اي ان لا يكون قائما على الآراء بل على العلم و المنطق. فالثورة كمصطلح علمي هي اي عملية تؤدي الى نقلة نوعية في تحسين حياة البشر. فاختراع القنبلة الذرية ليست ثورة و لكن اكتشاف البنسلين و المضادات الحيوية كانت ثورة في الطب. و اذا طبقنا ذلك على علم الاجتماع فان اي عمل يؤدي الى تحسين حياة المجتمع بشكل عام وجذري و يجعله اكثر انسجاما و تطورا و يرفع مستوى الصحة العامة و الرفاهية و السعادة لكل افراد المجتمع هو ثورة. ان هذا يدعونا الى طرح سؤال اخر الان وهو: ما هو العمل الذي يؤدي الى تحسين حياة المجتمع بشكل عام و يجعله اكثر انسجاما و تطورا و يرفع مستوى الصحة و الرفاهية و السعادة لكل افراد المجتمع؟ استنادا الى ذلك فأننا لكي تكون لدينا ثورة علينا ان نبدأ من النهاية. اي من الاشياء التي نريد الوصول اليها و ان يكون لدينا تصور عن شكل حياتنا بعد الثورة و طريقة تنظيم و ادارة المجتمع بما يحقق هذه الاهداف التي نضعها صوب اعيننا. العلماء الذين اكتشفوا البنسلين و اخترعوا المحراث او الالة البخارية كانت امامهم اهداف واضحة عملوا لأجلها و لذلك حققوا نجاحات ثورية. و المهندس الذي يريد بناء منزل يضع خطة مسبقة و لديه تصور واضح عن النتائج و اي خلل في الحسابات يؤدي الى انهيار المبنى. الامر نفسه ينطبق على الثورة و حيث ان الثورة بدأت منذ اكتشاف العجلة لدى الانسان القديم والتي قادت المجتمع آنذاك الى تحسين وتسهيل وتطور الحياة البشرية واكتشاف العقار الاول للبنسلين و المحراث الاول و الالة البخارية الاولى فان الثورة الاجتماعية لا تبدأ في الشارع بل تبدأ منذ اللحظة التي تكون لديك فكرة كاملة عن كيفية اقامة مجتمع افضل. و يكون عملك اليومي لإحلال ذلك و جعله واقعا و كل الوسائل التي تستخدمها للقيام بهذا التحول عبارة عن فصول مختلفة للثورة. ان نشر الوعي و المعرفة حول المستقبل هو ثورة في الوعي و الخروج الى الميادين في جموع صغيرة او كبيرة لدفع التغيير عبر الاعتصام السلمي و النضال المدني هو ايضا ثورة. الثورة الاجتماعية عبارة عن كل ما تقوم به من اعمال يصب في مسار التغيير منذ اليوم الاول حتى اليوم الاخير. انها عملية اجتماعية شاملة للتغيير على جميع الاصعدة اهم فصولها اعداد الجماهير لإقامة هذه التحولات الاجتماعية. و هي قطعا لا علاقة لها بالترويج للغضب و القصاص عبر جموع غاضبة تعرف اسماء اعدائها و كل شيء عن صناعة المولوتوف – والمولوتوف هي الزجاجات الحارقة التي يوضع فيها البنزين والفتيل - و لا تعرف اي شيء عن الزراعة و الصناعة و كيفية اقامة و ادارة مجتمع انساني مزدهر خالي من الاستبداد و الظلم. ان قوى الامر الواقع هي في الحقيقة القوى التي تدعو الى ثورات عمياء و تدفع بالمجتمعات الى الشوارع باي ثمن لإشعال دوامات العنف و هذه القوى لا تستطيع سوى تدمير ما هو قائم في افضل الاحوال و ادخال المجتمعات في فوضى. ان الانتفاضات الجماهيرية و هبات الغضب لا تنتظر قرارات من احد و هي تحصل في العادة جراء تراكم الظلم و اشتداد الازمات و القوى السياسية تركب هذه الموجات و تحاول توسيع نفوذها من خلال ذلك. الانتفاضات تنفجر بطريقة تشبه انهيار جليدي يحصل جراء تراكم الثلج و لكن مثل هذه الانتفاضات و كما تبرهن عليها جميع تجارب الماضي لا تؤدي سوى الى دوامات عنف تنتهي بقيام انظمة استبدادية, و لكي نرجو من مثل هذه الاحداث ان تؤدي الى تغيير في صالح البشر علينا ان نعمل بشكل يومي لنشر تصور عن الطريقة التي يمكننا بها جعل حياتنا افضل لكي تكون هذه هي الفكرة السائدة في اي تحرك جماهيري في المستقبل. دون ذلك لن تؤدي اعمال الغضب سوى الى تدهور الاوضاع نحو الاسوأ. هل الثورة غضب ام اكتشاف لواقع جديد؟ نحن البشر بشكل عام و في الشرق خصوصا ولسبب ما نعشق هذه الكلمات التي تربط الثورة بالغضب وباللهبة الشعبية والانتفاضة والانفجار وغيرها من الكلمات. حتى صارت كلمة الثورة مدوية مثل المفرقعات ومرتبطة بعمل عنفي وربما انتقامي دموي. تهدف الى سحق الاعداء المجرمين وابادتهم والانتقام منهم ومعاقبتهم بأقصى العقوبات الثورية. اصبحنا نتغنى على الغضب ونغني للانتقام ونعبر عن احلامنا في التغيير بقساوة النقمة والرغبة في تحطيم الخصوم. فمن اين جاءتنا هذه الافكار العنيفة وهل هي مشاعر ضرورية لأجل التغيير يتوجب بقائها ام انها ظاهرة اجتماعية مرضية سيئة؟ يعد ظاهرة استخدام البشر للعنف عند العلماء والباحثين الاجتماعيين موضوعا مهما للبحث ولكنه متعدد الجوانب. فالعنف الفردي الذي يستخدمه البشر في حق بعضهم البعض هو سلوك انحرافي يكاد يرفضه الجميع وبدون استثناء تقريبا. ولكن الظاهرة الاكثر اثارة للتساؤل هو العنف الجماعي الذي تستخدمه مجموعات كبيرة من البشر ضد بعضها البعض, وكذلك الظاهرة السياسية التي يحبها الكثيرون في الاوساط السياسية ويضفون عليها تعابير تجعلها تبدو مقبولة على غرار العنف الثوري والعنف الطبقي والغضب الثوري غيرها من التسميات التي ضلت تستخدم لعقود من الزمن. ان الثورة التي تنجم عن انفجار جماهيري جراء تراكم عقود من القهر والظلم والاستبداد تعبر عن نفسها في العادة وبمباركة من السياسيين بأشكال عنيفة. من هنا تبدا الاشكالية في الثورة العنيفة. حيث اننا لا نتحدث عن فعل جماهيري وانما عن ردة فعل. فالثورة ليست عمليه واعيه تجري جراء تراكم المعرفة لدى الجماهير بقدرتهم على تغيير طريقة حياتهم وانما ردة فعل تأتي جراء فعل سابق و جراء تراكم الظلم على الجماهير. وعندما تنتهي عمليات الانتقام ويسحق الاعداء المزعومين فان الجماهير تقف في العادة مذهولة امام عدم تغير الامور. ويصابون باليأس احيانا او يعودون الى الشوارع من جديد ضد الزعيم الجديد ويستمر الحال .
ان السياسيين الذين لا يحملون في جعبتهم اي مشاريع عقلانية لتغيير اجتماعي حقيقي, يجمعون الجماهير من حولهم في العادة من خلال انتقاد خصومهم واظهار عيوبهم ويستخدمون السخط الجماهيري لتغذيتها لتصب في صالح سياساتهم وهم لذلك يروجون الى الرومانسية الثورية والفروسية والشجاعة في قهر وتحطيم الاعداء والفتك بهم بالثورة العنيفة التي يسمونها بالعنف الثوري والغضب الشعبي. ان مثل هذه التوجهات التي تروج لها القوى السياسية الخالية الوفاض والتي تعيش على جهل الجماهير وغضب الجماهير لا تؤدي في العادة سوى الى اغراق الامم في دوامة العنف والدماء.
ان الاشكالية التي تتعلق باستخدام البشر للعنف الثوري ينطلق من ان الثورة كانت تعبير عن استياء جماعي على ما هو موجود وليس تعبير عن اكتشاف جماعي لطريقة افضل للحياة. لذلك علينا ان نرى ان الثورة الجديدة في الوعي البشري التي تؤدي الى تغيير رؤية الانسان لنفسه كنوع وكائن عضوي و للثورة كعملية عقلانية للتغيير نحو اقامة حضارة انسانية جديدة ان هذه الثورة في الوعي البشري ستؤدي الى اقامة ثورة اجتماعية تستند الى الاصرار بدلا من العنف والى نشر الوعي والمحبة والاخاء وقيم الخير بين البشر. وستتغنى بالمعرفة والعلم و تؤكد على الحياة والسلم والتفاهم بدلا من الحديث عن العنف والسحق وابادة الاعداء وما الى ذلك من كلمات طنانة. يقول مهاتما غاندي ان العنف هو سلاح الضعيف. لذا فان الجماهير المسلحة بالوعي في التغيير الذي ينشدونه والعالم الجديد الذي يريدون بناءه سوف لا يلجؤون الى العنف. لان العنف يظهرك في نفس مظهر مهاجمك ولان الرد بالعنف على العنف لا يؤدي الى تغيير ايجابي بل الى زيادة عنف وكراهية خصومك. ان خصمك هو انت وقد تربيت في بيئة اخرى وليس عدوا خارجيا وعليك ان تكسبه الى جانبك بقوة المثال وبزرع الاحساس الاخوي فيه بانه ينتمي اليك وليس الى اي اعداء وبان التغيير سيكون في صالحه هو ايضا. ان عدم الانجرار الى دوامة العنف وامتصاص ضربات خصومك يدل على قوة ارادتك ووعيك ويوهن خصمك ويجعله يرى وحشيته وجبنه و قساوته. وقد تحتاج المقاومة السلبية وقت اطول ومقدارا اكبر من الثبات والصبر والشجاعة ولكنه يعطي ثمار عظيمة وينزع الكراهية لدى الخصم ويزيده احتراما لك ويناشد ضميره ويؤدي الى تغيير اجتماعي ايجابي. و بينما تنشر اعمال العنف المرارة والكراهية تؤدي المقاومة السلبية الى خلق جو من المحبة وتقاسم العالم ويؤسس اللبنة الاولى للمجتمع الذي انت في صدد بنائه. عندما تتعلم الجماهير بانها في صدد بناء مجتمع جديد لا ينتمي الى الماضي في اي شيء وبان الثورة ليست موجهة ضد احد وانما ضد النظام الاجتماعي وتريد تغيير طريقة الحياة السائدة فأنها لا ترى خصومها كأعداء لها وانما كضحايا للنظام الاجتماعي و كبشر ضلوا الطريق وبحاجة الى ارشادهم وكسبهم وتعليمهم مزايا التغيير لهم ايضا يجب ان تكون الفكرة السائدة في الثورة بان مجتمع جديد مسالم و خالي من العنف لا يمكن بناءه باستخدام العنف , وان الثورة الحقيقية هي الثورة الاجتماعية التي ترفض الواقع بالبديل الذي تطرحه و هي تبدأ عندما يكون لديك تصورا كاملا و شاملا للمستقبل المزدهر و تعمل لأجل تحقيقه.
#دريد_خضير_الموسوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ولدت على قمة الجبل
-
( الرق والنخاس ) بمفهوم حديث
-
لغة الأستعارة بين الأدب والفن البصري
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|